الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعليق على مادة السبعية
أن تاريخ الشيعة السبعية، شأنه شأن تاريخ الشيعة فى الجملة، غامض حقيقة، كما يقول كاتب المقال. ولكن هذا الغموض لم يأت من جهل المؤرخين من الشيعة أو من غيرهم بمنشأ الشيعة وبفرقهم وآرائهم، بل هو قد جاء من أن الشيعة فى الغالب كانوا يسعون للحصول على حق سياسى اعتبروه حقا شرعيا إزاء دولة قائمة بالفعل، فكان لابد أن يتسم سعيهم ودعوتهم وكل نشاطهم إما بالفتنة بعد إعدادها سرا، كالذى حدث من الذين خرجوا من آل البيت على الدولة الأموية وعلى الدولة العباسية إلى حوالى القرن الثالث الهجرى، فحاربوا واستشهدوا فى بطولة نادرة (1)، وإما بالدعوة السرية التى تنحرف عن المبادئ الشيعية من الناحيتين النظرية والعملية، وإن كانت قد تنتهى بالفتنة السياسية كما حدث من الباطنية وأمثالهم.
والمعروف الذى لا شك فيه أن الشيعة كانوا يريدون من أول الأمر، بعد وفاة النبى عليه الصلاة والسلام مباشرة، أن تكون الخلافة فى أهل بيت النبى عليه الصلاة والسلام. ولهم فى ذلك أسانيد من النصوص يخالفهم خصومهم فى صحتها أو فى فهمها، ومن اعتبارات أخرى لا يعدها خصومهم اعتبارات جوهرية ولا حاسمة. ومن الطبيعى أنه إزاء الفكرة النظرية والأصول العملية التى تحققت بالفعل فى الجماعة الإسلامية كان لابد أن تبدو آراء الشيعة وأساليبهم أشياء شاذة. وليست محبة آل البيت ولا تأكيد حقهم فى الخلافة من جانب من يسلم لهم بهذا الحق بالأمر المستنكر لا عقلا ولا شرعا، خصوصًا بعد مقتل على رضى اللَّه عنه. ولكن كان يمكن الإعراب عن ذلك والعمل من أجله بالوسائل الملائمة والمتفقة مع المعقول. غير أن آل البيت تعرضوا للمحنة من أول الأمر. ولا شك أنه من أول الأمر، أى منذ أيام على
(1) ذكر المؤرخون كل ثوراتهم وظروفها ونهايتها، وأحصى الأشعرى فى "مقالات الإسلاميين" طبعة استانبول 1929، ص 75 - 85، من خرج منهم حتى أيامه.
رضى اللَّه عنه، قد اندس بين الشيعة قوم هم المسمون غلاة الشيعة"، تدل أفكارهم وأفعالهم على أنهم بعيدون عن الإسلام من حيث هو عقيدة وشريعة، وعلى أن منهم من أراد الكيد للإسلام ودولته، لأسباب يسهل فهمها، وهى ترجع إما إلى أنهم لم يؤمنوا بالإسلام إيمانا حقيقيا فأرادوا إفساده، أو إلى أنهم كانوا يريدون إسقاط الدولة العربية من طريق هدم أساسها وهو الإسلام، أو أن يكونوا مسلمين لجأوا إلى هذه الآراء العجيبة لكى يلتف حولهم أنصار يتخذونهم وسيلة لمآربهم المتنوعة.
ولا يستطيع المؤرخ المحايد أن يعتمد كل الاعتماد على ما يقوله علماء الشيعة عن الشيعة، كما لايستطيع من جهة أخرى أن يثق ثقة عمياء بما يقوله عنهم خصومهم من علماء أهل السنة، لأنهم خصوم. ولكن الأمر واضح إلى حد كاف أمام المؤرخ الناقد. ولا يمكن أن يكون كل ما يحكيه مؤرخو أهل السنة من مذاهب فرق الشيعة افتراء، لأنه لا يوجد ما يدعوهم إلى ذلك؛ وهؤلاء المؤرخون فى العادة أمناء فى حكايتهم لآراء مخالفيهم من الإسلاميين وغير الإسلاميين وإن كانوا قساة فى النقد لما يخالف مذهبهم. والثابت مما كتبه مؤرخو الفرق أن منشأ غلو الشيعة ليس إسلاميا؛ فهو يرجع إلى عبد اللَّه بن سبأ، الذى كان يهوديا فأسلم، وأحدث فى الإسلام أيام الفتنة التى أحاطت بمقتل عثمان رضى اللَّه عنه فكرة الوصاية" للنبى [صلى الله عليه وسلم]، وأن الوصى هو على رضى اللَّه عنه، ثم غلا فى علىّ حتى ألهه، فكان نصيبه أن عليا أمر بإحراقه. ثم استقرت بين غلاة الشيعة فكرة "الوصاية" وعدم موت الأئمة، حتى لو قتلوا، وحلول روح اللَّه فيهم بل وتأليههم. ومن زعماء فرق الشيعة من ادعى النبوة، بل منهم من ألّه نفسه. هذا إذا صرفنا النظر عن فكرة الرجعة، رجعة الأئمة أو غيرهم، وفكرة التناسخ والتجسيد إلى غير ذلك وكل هذا اقترن من أول الأمر عند زعماء من أهل الفساد، بطرح أحكام الشريعة والميل إلى الإباحة.
وأول ما يستحق أن يلاحظ المؤرخ المنصف أن الذين خرجوا من آل البيت فى ثورة على الدولة طوال القرون
الثلاثة الأولى إنما كانوا ثوارًا سياسيين مقتنعين بحقهم فى الخلافة، ولم تعرف عنهم آراء ولا نظريات ولا أعمال كالمعروف عند غلاة الشيعة، وإلا لوصلت إلينا، أو لنسبها غلاة الشيعة إليهم. ومما يدل على مقدار حرصهم على احترام الصحابة ما يحكى من أن زيد بن علىّ بن الحسين، مع اقتناعه بأفضلية علىّ رضى اللَّه عنه وبحقه فى الخلافة من أول الأمر، أنكر على بعض أنصاره طعنهم فى أبى بكر وعمر رضى اللَّه عنهما فتفرقوا عنه (مقالات الإسلاميين ص 65) وأن جعفرًا الصادق تبرأ ممن غلا فيه من أتباعه (1) أما الآراء المخالفة للإسلام فلم تظهر إلا على يد زعماء من زعماء فرق الشيعة، وهم ليسوا من أهل البيت.
وربما كان الزيدية الأولون -والزيدية بوجه عام، وهم أتباع زيد بن على بن الحسين- أقل فرق الشيعة الكبرى (الزيدية والرافضة والغلاة) خروجًا على مبادئ الإسلام. وكل خلاف الزيدية، يدور حول أشخاص الأئمة، ومنهم من دخل فى مسائل علم الكلام، فلم تخرج خلافاتهم عن خلافات الفرق خصوصًا المعتزلة. أما الرافضة القائلون بأن النبى عليه الصلاة والسلام نص على خلافة على رضى اللَّه عنه، وأن الخلافة لا تكون إلا نصا على الأفضل، فكل خلافاتهم فيما بينهم تدور حول أشخاص الأئمة، ومنهم من أنكر موت الأئمة أو قال بالرجعة، أو بحلول روح الأئمة فى بعض زعمائهم، أو تأثر فى مسألة الإمامة بفكرة يهودية (المقالات ص 24 - 25)، وهم أيضًا دخلوا فى مسائل الكلام، ومنهم مشبهة مجسمة (مثل هشام بن الحكم) فى أول الأمر، ثم تأثروا بالمعتزلة، وقليل منهم من اعتبر الأئمة أفضل من الأنبياء، أو أن المعجزات تظهر على أيديهم.
وأما غلاة الشيعة فعندهم أغرب الآراء وأبعدها عن الإسلام، وكل آراء الأولين منهم عظائم، ولو جمعناها للاحظنا ما يأتى (2): القول بالرجعة
(1) الشهرستانى، طبعة كورتن، ص 136 - 137 (فرقة الخطابية).
(2)
راجع مثلا مقالات الإسلاميين، ص 5 والصفحات التالية.
والتناسخ - استحلال المحرمات والميل إلى اطّراح أحكام الشريعة وإلى الإباحة - القول بنبوة الأئمة وألوهيتهم، وبنبوة رؤسائهم وألوهيتهم - التشبيه (تشبيه اللَّه بالإنسان) ودعوى حلول روح اللَّه فى آدم وتناسخها إلى أن دخلت فى الأئمة واحدا بعد واحد، ثم حلت فى بعض رؤسائهم - تأويل القرآن على غير وجهه - التأثر بأفكار نصرانية (عند أصحاب أبى منصور العجلى) - مبادئ تفسير أسطورى لنشأة العالم (عند المغيرة بن سعيد) - كل رؤسائهم ليسوا من أهل البيت، وبعضهم موالٍ (المغيرة بن سعيد، وأبو الخطاب).
ومن الواضح أن كل هذا لا يمت إلى الإسلام بصلة، ومؤرخو أهل السنة على حق إذ رأوا أن مثل هذه الآراء يكن يقصد منها فى الحقيقة من أول الأمر سوى محاربة الإسلام والدولة الإسلامية. ولاشك أنها على كل حال لا تؤدى إلى نصرة آل البيت، بل هى موضع استنكارهم.
وفى أثناء المراحل الأخيرة للدعوة العباسية ظهرت الإباحة على يد أحد دعاة العباسيين وسيلة لكسب الأنصار، وربما كانت تحركا للإباحية القديمة المعروفة منذ أيام مزدك والتى قضى عليها ملوك الفرس. وهذا الداعية العباسى هو عمار بن يزيد المسمى خداشًا. وهو قد انحرف عن الدعوة العباسية بإظهار الإباحة، فأنكر محمد ابن على بن عبد اللَّه بن عباس هذا الانحراف، ثم جاءت ثورة الراوندية أيام أبى جعفر المنصور وكانوا من أتباع أبى مسلم. ويحكى عنهم القول بالحلول والتناسخ والإباحة، وقد ألهوا أبا جعفر المنصور وأحدثوا فتنة كادت تفسد الجند، لولا أنه قضى عليها بشدة؛ ثم ظهرت حركة الخرمية فى أذربيجان أيام الرشيد مصطبغة بصبغة حربية؛ وأخيرًا ظهر بابك الخرمى فى أذربيجان منذ سنة 201، وشملت حركته بلادًا كثيرة فى فارس، واعتدت بجيوش جرارة منظمة كان لابد فى هزيمتها من حشد جيوش كبرى من جيوش الدولة ومن حروب استمرت عشرين عامًا. ولما كانت هذه الحركات ذات الطابع الحربى السياسى قد انتهت
بالفشل، فإننا نستطيع أن نفهم بسهولة ما ذهب اليه مؤرخو أهل السنة من أن أمثال هذه المذاهب والحركات المتصلة بها كان يقصد بها محاربة الإسلام ودولته ومؤرخو أهل السنة يردون ذلك إلى المجوس، ويرون أن الدعوة الباطنية هى التى كانت الوسيلة إلى ذلك. فيحكى البغدادى المتوفى سنة 429 (1) أن المجوس فى أيام المأمون تشاوروا فى الكيفية التى يستطيعون بها استرجاع ملكهم، فلما وجدوا أنهم عاجزون عن قهر المسلمين دبروا حيلة هى تأويل أركان الشريعة على وجوه تؤدى إلى إبطالها، وانتدبوا لذلك حمدان قرمط وعبد اللَّه بن ميمون القداح. ويذكر البغدادى مذهبهم فى التوحيد، وهو مذهب ثنوى فى صورة إسلامية، ومذهبهم فى النبوات وبعض آرائهم فى تأويل أركان الشريعة وكثيرا من آرائهم الفلسفية (2) وابن حزم يذكر آراء الغلاة من مختلفى الفرق بمن فيهم غلاة الشيعة، ويذكر آراءهم المخالفة للإسلام، ثم يقول (3): أن أكثر ذلك يرجع إلى أن الفرس كانوا من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم ومن إعتزازهم بأنفسهم حتى كانوا يسمون أنفسهم حرار، ويعتبرون سائر الناس عبيدًا لهم، وكانوا يعتبرون العرب أقل الأمم شأنا، فلما أزال العرب دولة الفرس رام هؤلاء الكيد للإسلام بالمحاربة فى أوقات شتى. ويذكر ابن حزم بعض زعماء هذه النزعة ومنهم خداش الذى تقدم ذكره، ويقول إن قومًا من الفرس أظهروا الإسلام واستمالوا الشيعة بإظهار محبة أهل البيت واستشناع ظلم علىّ رضى اللَّه عنه ثم سلكوا بهم مسالك شتى حتى أخرجوهم عن الإسلام من طريق القول بالمهدى المستأثر بمعرفة حقيقة الدين، ومن طريق القول بالحلول وتأويل أركان الشريعة، ومن هذا له ظهر الإسماعلية والقرامطة.
(1) راجع كتابه "أصول الدين" طبعة استانبول 1928، ص 329 - 330، وكتاب "الفرق بين الفرق"، طبعة القاهرة ، 1328 هـ، ص 269 وما بعدها و 277.
(2)
الفرق بين الفرق ص 269 - 270، 277 - 279، 294 وما بعدها.
(3)
الفصل، طبعة القاهرة، 1320 هـ، جـ 2، ص 115.
وعلى هذا يجب أن ننظر إلى زعماء غلاة الشيعة نظرة لا تقوم على أنهم مجرد رؤساء فرق إسلامية، لأن الإسلام لا يوجد عندهم لا من حيث هو عقيدة ولا من حيث هو شريعة. وإذا كان مؤرخو أهل السنة قد أطلقوا عليهم جميعا اسم "الغلاة" فلا شك أن فى ذلك كثيرًا من التسامح.
وقد سلك الباطنية فى دعوتهم تلك الطريقة التى ذكرها المؤلف وألم بجوهرها، وهى توجد أكثر تفصيلا عند البغدادى فى الفرق بين الفرق، وعند الغزالى فى الرد على الباطنية (ص 5 - 7 من طبعة ليدن سنة 1916) وعند الإيجى فى المواقف (ص 627 - 628 من طبعة استانبول 1286 هـ) وعند صاحب كشاف اصطلاحات الفنون (تحت مادة سبعية) وعند الديلمى فى "قواعد عقائد آل محمد"(الباطنية)، طبعة القاهرة، 1950، ص 23 - 33، 38 - 43، وعند كثيرين غيرهم.
ولكن مجرد الحيلة فى كسب الأنصار على هذا النحو لا تكفى، ومجرد تاكيد حق آل البيت فى الإمامة، بل دعوى ألوهيتهم، لا يكفى أيضًا، بل لابد فى محاولة كسب الأنصار على نطاق واسع من وضع فكرة عن الكون والخلق تستهوى الناس من أهل الغفلة ومن قليلى الحظ من المعرفة. لذلك نجد رئيسا ممخرقا من رؤساء فرق الشيعة الغلاة هو المغيرة بن سعيد الذى قتل سنة 119 هـ يقدم لأتباعه صورة أسطورية عن اللَّه وعن خلق العالم فيقول: إن اللَّه على صورة إنسان على رأسه تاج، وهو لما أراد أن يخلق الخلق تكلم باسمه الأعظم فوقع الاسم على تاجه، ثم كتب بأصبعه على كفه أعمال العباد من المعاصى والطاعات، فلما رأى المعاصى أرفض جبينه عرقًا، فاجتمع من عرقه بحران أحدهما ملح مظلم والثانى نير عذب. ثم نظر فى البحر فرأى ظله، فأراد أن يأخذه فطار، فأخذه وقلع عينه وخلق منها الشمس، وخلق الكفار من البحر المالح المظلم، والمؤمنين من البحر العذب النير، وخلق ظلال الناس، فكان أولها محمدًا عليه الصلاة والسلام. وهذا عند المغيرة هو معنى آية:(*){قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} .
(*) الآية 81 سورة الأحزاب. المحرر
ثم أرسل اللَّه محمدًا عليه الصلاة والسلام إلى الناس كافة، وعرض على السموات والأرض والجبال أن يمنعن على بن أبى طالب، فأبين، ثم على الناس كلهم، فقام عمر بن الخطاب إلى أبى بكر فأمره أن يتحمل ذلك وأن يغدر بعلىّ، ففعل، وهذا هو عند المغيرة معنى آية (*):{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} . وزعم المغيرة أن عمر قال لأبى بكر أنا أعينك على علىّ لتجعل لى الخلافة بعدك. وهذا عند المغيرة هو معنى آية (* *): {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ. . .} .
بعد ذلك نجد صورة ثانية عند زعيم شيعى مثل أحمد الكيالى الذى كان يدعو لواحد من أهل البيت بعد جعفر الصادق. وكان هذا الزعيم قد قبس شيئا من المعرفة خلطه بنزعته الشيعية، وادعى أن كل من قدر الآفاق على الأنفس وأمكنه أن يبين مناهج العالمين: أعنى عالم الآفاق، وهو العالم العلوى، وعالم الأنفس، وهو العالم السفلى، كان هو الإمام؛ وأن من قرر الكل فى ذاته وأمكنه أن يبين كلّ كلّى فى شخصه المعين الجزئى كان هو القائم. وقد ألف كتبًا بالعربية والفارسية، والعوالم عنده ثلاثة: العالم الأعلى، وفيه خمسة أماكن؟ أولها خال لا يسكنه موجود ولا يدبره روحانى، وهو مكان الأماكن المحيط بالعالم، وهو فى رأيه العرش الوارد فى الشرع. ودون ذلك مكان النفس العليا، ثم مكان النفس الناطقة، ثم مكان النفس الحيوانية، ثم مكان النفس الإنسانية. أما كيف حدث هذا العالم فإن الكيالى يزعم أن النفس الإنسانية أرادت الصعود إلى عالم النفس العليا؛ فبعد أن اخترقت مكان النفس الحيوانية والناطقة كلّت وانحسرت وتحيرت وتعفنت واستحالت أجزاؤها، فهبطت إلى العالم السفلى، ومضت عليها أكوار وأدوار، إلى أن ساحت عليها النفس العليا وأفاضت عليها من أنوارها جزءًا، فحدثت التراكيب فى هذا العالم، وحدثت السموات والأرض والمركبات من المعادن
(*) الآية 72 سورة الأحزاب.
(* *) من الآية 16 سورة الحشر. المحرر
والنبات والحيوان والإنسان، ووقعت فى بلايا هذا التركيب تارة سرورًا وسلامة وعافية؛ وتارة غمًا وبلية ومحنة، إلى أن يظهر "القائم" ويردها إلى حال الكمال. وعند ذلك تنحل التراكيب وتبطل المتضادات، ويظهر الروحانى على الجسمانى، وذلك هو القائم الذى هو أحمد الكيالى نفسه بحسب ما يزعم.
وزعم الكيالى فى تأييد حقه أن اسمه أحمد، وأن الألف من اسمه تقابل النفس العليا، والحاء تقابل النفس الناطقة، والميم تقابل النفس الحيوانية، والدال تقابل النفس الإنسانية. وهو يبين التقابل بين العوامل العلوية والعالم السفلى: فالسماء تقابل مكان الأماكن، ودونها النار، ثم الهواء، ثم الأرض، ثم الماء، وهى أربعة تقابل العوالم الأربعة. والإنسان عنده فى مقابلة النار، والطائر فى مقابلة الهواء والحيوان فى مقابلة الأرض والحوت فى مقابلة الماء. ثم يبين التقابل بين عالم الإنسان وبين آفاق العالمين الأولين: الروحانى والجسمانى، ويمضى فى هذا الخلط، وينتهى بأن يزعم أن الأنبياء هم قادة أهل التقليد، وهم عميان؛ أما "القائم" فهو قائد أهل البصيرة أولى الألباب، وهؤلاء يحصلون على البصيرة بمعرفة التقابل بين العوالم. ثم يؤوّل الشريعة فيعتبر أن الميزان يدل على العالمين، وأن الصراط يدل عليه هو نفسه، والجنة على الوصول إلى علمه والنار على الوصول إلى ما يضادّ ذلك (1).
بعد هذا نجد الصورة الثانية للكون عند الباطنية؛ وهؤلاء، منذ وقت مبكر، قد خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة وألفوا فى ذلك كتبًا. ولنصرف النظر عن أنهم، كما يحكى الشهرستانى، يمتنعون عن إطلاق الصفات على اللَّه نفيًا وإثباتا، زعمًا منهم أن ذلك يقتضى التشبيه والمشاركة بين اللَّه وبين سائر الموجودات -وهم ينسبون إلى محمد ابن على الباقر أنه كان يقول: إن اللَّه إنما سمى عالمًا وقادرًا بعد أن وهب العلم والقدرة، وبمعنى أنه فعل ذلك لا بمعنى
(1) راجع مثلا الملل والنحل للشهرستانى، طبعة كيورتن، ص 138 والصفحات التالية.
أن له العلم والقدرة صفتين قائمتين به -وهم يزعمون أن اللَّه بأمره القديم أبدع العقل الأول التام وبتوسطه أبدع النفس، وهى غير تامة، فاشتاقت النفس إلى كمال العقل، وكان لابد أن تتحرك، وكان لابد فى الحركة من آلة. ولذلك حدثت الأفلاك السماوية وتحركت حركة دورية بتدبير النفس، فحدثت الطبائع البسيطة، ثم تحركت حركة استقامة بتدبير النفس أيضا، فظهرت المركبات من المعادن والنبات والحيوان والإنسان واتصلت النفوس الجزئية بالأبدان. ونوع الإنسان يمتاز باستعداد خاص لفيض الأنوار العلوية. وكما أن فى العالم العلوى عقلا ونفسا كلية فلابد أن يكون فى العالم السفلى عقل مشخص هو كلى، وحكمه هو حكم الشخص الكامل، وهذا هو "الناطق" أو النبى فى زعمهم، كما لابد أن يكون فى العالم السفلى أيضًا نفس مشخصة كلية؛ وهذا هو "الأساس" أو "الوصى". وكما أن الأفلاك تتحرك بتحريك النفس والعقل، فكذلك تتحرك النفوس والأشخاص بالشرائع، بتحريك النبى [صلى الله عليه وسلم] والوصى فى كل زمان، دائرًا على سبعة سبعة، حتى يأتى الدور الأخير، ويدخل زمان القيامة، وترتفع التكاليف وتضمحل السنن والشرائع: والغرض من الحركات الفلكية والسنن الشرعية هو بلوغ النفس إلى حال كمالها، وهو بلوغها درجة العقل واتحادها به، وهذه هى القيامة الكبرى؛ وعندها، تنحلّ تراكيب الأفلاك والعناصر والمركبات وتنشق السماء، وتتناثر الكواكب، ويحاسب الخلق، ويتميز الخير عن الشر، والمطيع عن العاصى، وتتصل جزئيات الحق بالنفس الكلية وجزئيات الباطل بالشيطان. والباطنية يرون أن الشرائع عوالم روحانية وأن العوالم شرائع جسمانية، ويزعمون أن العلوم المستفادة من الكلمات التعليمية غذاء للنفوس، كما الأغذية المستفادة من الطبائع المادية غذاء للأبدان. . . وهكذا من الآراء التى أرادوا بها أن يكوّنوا وجهة نظر يلتف حولها الأنصار، ويظهر أن ذلك لم ينل ما كان ينتظر من ورائه من
اجتذاب الناس، ولذلك نجد أن أصحاب الدعوة الباطنية الجديدة، منذ ظهور الحسن الصباح فى النصف الثانى من القرن الخامس الهجرى. يمنعون الناس من الخوض فى العلوم ومن قراءة الكتب القديمة. وأراد الحسن الصباح أن يقيم دعوته على أساس نكت كلها اعتراضات على المخالفين؛ وكل همه إثبات أن النظر العقلى لا يؤدى إلى العلم اليقين بدليل الخلاف الموجود بين أهل الرأى والنظر، وأنه لابد من معلم معصوم، نظرا لكثرة المعلمين واختلافهم (1).
ولو نظرنا فى هذه الآراء التى تقدم ذكرها، وكان المقصود منها أن تكون وجهة نظر فى الكون، للاحظنا تطورًا من التطور الأسطورى إلى تصور مختلط بالمعرفة الفلسفية، وكلها تنتهى بالغرض الحقيقى المقصود منها، وهو تأكيد حق علىّ رضى اللَّه عنه فى الخلافة (وهذا عند المغيرة بن سعيد) أو تأكيد إمامة رئيس الفرقة (وهذا عند أحمد الكيالى) أو بيان شأن النبى [صلى الله عليه وسلم] ووصية فى هذا العالم (وهذا هو مذهب الباطنية). فليس هناك غموض فى أمر الشيعة فى الحقيقة، وإنما جاء الغموض من أن الدعوة كانت فى الغالب سرية. ولما كان اجتذاب الأنصار والأتباع المثقفين غير متيسر بوجهة نظر كالتى تقدم ذكرها -لأنها أولا ليست أصيلة وإنما هى خلط زائف من آراء لقوم سابقين، ولأنها ثانيًا لا تكفى لمقاومة الفكرة الإسلامية عن الكون والحياة- فقد كان لابد للدعاة الفاسدين من أن يعمدوا إلى أساليب تناسب الطبائع المنحطة، ومن هنا دخلت الآراء والأساليب الإباحية فى دعوة الشيعة، فوصمتها وصمة شائنة استمرت مع التاريخ، ولاشك فى أن الإباحة ليست عربية، ولا هى شيعية إذا فهمنا من كلمة "الشيعة" مجرد مشايعة آل البيت، بل هى ترجع إلى مذاهب قديمة فارسية قضى عليها ملوك الفرس قبل الإسلام ثم ظهرت بعده لأغراض سياسية تؤيدها القوة الحربية. فلما فشلت الحركات السياسية اندس الإباحية بين
(1) راجع فى مذهب الباطنية الملل والنحل مثلا، ص 145 - 152.
الشيعة تارة وبين الصوفية تارة أخرى. والمذاهب تأبى أن تموت، فتتشكل مع الزمان وتغير الظروف بأشكال جديدة. وكما حدث أن أصحاب المذاهب الدينية القديمة دخلوا فى النصرانية وأرادوا إفسادها من الداخل، فإنهم أيضًا دخلوا فى الإسلام للغاية نفسها، وإلا فما شأن آل البيت بتأليه الأئمة وبالقول بالحلول ونحو ذلك؛ وما شأن الصوفية، وهم أهل زهد وعلم، بتلك الإباحة التى توجد عند الأدعياء الذين اندسوا بينهم!
وإذا كان الأستاذ كاتب المقال يبدى شيئا من العطف على الشيعة السبعية ويحاول أن يفهم وجهة نظرهم، ويشير إلى أن المزيد من البحث النزيه كفيل بأن يؤدى إلى إدراك حقيقة أمرهم، فإن حقيقة أمرهم لا يمكن أن تنجلى عن أكثر مما تقدم. أما ما يقوله من أن الإباحية ربما كانت محاولة لمواجهة جملة أحكام الشريعة بمذهب فى الأخلاق كالذى يوجد فى أبيات من ديوان ناصر خسرو الشاعر، فكيف يمكن أن يعقل إنسان أن تكون الإباحية مذهبًا خلقيًا، وهى مضادّة للطبيعة البشرية ولكل شئ كريم ونبيل فى الروح الإنسانية؟ وإذا كان كاتب المقال يعتبر أن ذكر ناصر خسرو لسبعة فضائل -منها التواضع والكرم والحلم والقناعة والحكمة؛ وسبع رذائل- منها البخل والغضب والشهوة والكبر والحسد- فأين هذه الفضائل التى لا تحصى والتى نجدها فى القرآن والحديث، ونجد تفصيلها وتحليلها عند كبار علماء الإسلام من الصوفية وغيرهم من الأخلاقيين؟ وأين هذه الرذائل من تحليل علماء الإسلام للأخلاق الذميمة وبيانهم لعلاجها على أساس علمى نفسى منقطع النظير؟ .
الحق أن آراء غلاة الشيعة ومذاهبهم من أول الأمر إلى آخره لها روح وغاية واحدة، وهى غير إسلامية، ولا يقصد منها نصرة آل البيت بل خدمة أغراض خاصة من طريقها، ولذلك اندثرت هذه الآراء مع الزمان، كما اندثرت فرق الغلاة أيضًا، ولم يبق منها إلا وصمة
تاريخية. وبعد زوال الفرق الأولى، ظهر اشتغال علماء الشيعة الحقيقيين بالعلم والفلسفة كالذى نجده عند علماء الإسماعيلية وعلماء الزيدية، وإن لم يكن عندهم من العبقرية أكثر مما عند غيرهم. ومن أسف أن علماء أهل السنة، حتى المتأخرين منهم، كأنما تجاهلوا هذه الجهود؛ ويجوز أنهم لم يتعرضوا لها، لأنهم لم يجدوا فيها شيئا تتميز به. وهم على كل حال قد حشروا كل غلاة الشيعة ومفسديهم تحت اسم واحد هو اسم السبعية (1)، واعتبروا هذا الاسم شاملا لكل أهل الفساد من الباطنية والقرامطة والإسماعيلية والإباحية والمزدكية والخرَّمية أو الخرمدينية (2) والملاحدة أو الزنادقة وغيرهم. وأهل البيت الحقيقيون هم ومن يميل إليهم برآء من آراء غالية الشيعة وقد كانت هذه الآراء فى الحقيقة محنة تعرض لها أهل البيت، كما رأى ذلك علماء أهل السنة ونحن نعتقد أنا قد وقفنا موقف الأنصاف بين الشيعة الحقيقيين وبين خصومهم والدخلاء عليهم. والإسلام واضح فى عقيدته وشريعته، ولذلك فإن من يخرج على أصوله فهو كمن يضع نفسه فى ضوء باهر ينكشف فيه أمره تمام الانكشاف. وكل محاولة لتقرير مذهب أو لوضع وجهة نظر لا تتفق مع العقل أو مع الشعور الخلقى الكامل فهى محاولة فاشلة لأن الإسلام دين عقلى وخلق معا.
وأشير على القارئ بأن يرجع إلى آراء مختلف فرق الشيعة عند الأشعرى فى كتاب "مقالات الإسلاميين"، طبعة استانبول، جـ 1 ص 5 - 85؛ وفى كتاب الملل والنحل للشهرستانى، طبعة كيورتن، ص 108 - 152؛ وفى "الفصل" لابن حزم، طبعة القاهرة، 1320 - 1320 هـ، جـ 3، ص 114 - 116؛ جـ 4، ص 179 - 188، 227؛ وفى كتاب "الفرق بين الفرق" ص 214 - 217، 223 - 226، 229 - 229.
[محمد عبد الهادى أبو ريدة]
(1) هذا ما فعله كشاف اصطلاحات الفنون.
(2)
كلمة خرمى بالفارسية معناها الفرح والسرور، ومظهره الإباحة وعدم التقيد بأحكام الأخلاق ولا بأحكام الشريعة فيما نهت عنه.