الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سليم الثالث
السلطان الثامن والعشرون من سلاطين آل عثمان، وقد حكم من سنة 1203 هـ (1789 م) إلى سنة 1222 هـ (1807 م)؛ ولد فى السادس والعشرين من جمادى الأولى سنة 1175 هـ (24 ديسمبر سنة (1761 م)، وهو من أولاد السلطان مصطفى الثالث من "والده سلطان مهر شاه"(المتوفاة سنة 1805؛ انظر سجل عثمانى جـ 1 ص 38)، وارتقى سليم الثالث العرش فى الحادى عشر من رجب سنة 1203 هـ (7 أبريل سنة 1789 م)، خلفًا لعمه عبد الحميد الأول الذى توفى فى ذلك اليوم؛ وقد امتاز عهد سليم بالحروب التى شنت على الدول الأوربية ولكن من جانب آخر بالفتن التى قامت فى داخل البلاد مما دل على ضعف الدولة العثمانية، وعرف أيضًا بالجهود المتصلة التى بذلها السلطان هو وعصبة من المستنيرين فى إعادة تنظيم السنن القديمة التى تأخذ بها الدولة مما أدى آخر الأمر إلى خلعه. وما إن اعتلى سليم الثالث العرش حتى واصل بهمة الحرب التى كانت ناشبة بين الترك وبين الروسيا والنمسا، إلا أن الترك منوا بالهزيمة فى البغدان (مولدافيا) عند فوكسانى على يد النمساويين أول أغسطس سنة 1789) وخاصة عند مارتنسكى على نهر بوزه من أعمال "الأفلاق" على يد النمساويين والروس (22 سبتمبر)، وهنا مات الصدر الأعظم جنازه حسن باشا (وكان قد حل محل قوجه يوسف باشا) وخلفه القبودان باشا جزائرلى حسن المشهور، واحتل النمساويون بوخارست فى 10 نوفمبر، على حين كانت بلغراد قد سقطت فى يدهم فى 7 أكتوبر، وواصل الروس فى الوقت نفسه تحت إمرة بوتمكين فتوحاتهم فى بسّارابيا (وكانت مدينتا ختن وإكزاكوف قد سقطتا فعلًا)، واستولوا على "بندر"(15 نوفمبر)؛ وكانت المعاهدة التى عقدت مع السويد (11 يولية) لمعاونة تركية ماديًا فى حربها مع روسيا قليلة الجدوى، ثم إن التقاليد كانت تحول بين سليم وبين الانضمام إلى صفوف الجيش، ومن ثم أصدر "خط شريف" دعا فيه المسلمين قاطبة إلى الجهاد،
وفى السنة التالية خف الخطر النمساوى وخاصة بعد عقد معاهدة التحالف مع بروسيا (31 يناير سنة 1790) وبعد وفاة جوزيف الثانى، بل إن الترك أصابوا بعض النجاح عليهم فى يونية؛ ثم عقدت بروسيا معاهدة ريشتنباخ مع النمسا فى 27 يولية وقد وعدت النمسا بمقتضاها أن تبرم الصلح مع تركية وتعهدت الدولتان بأن تكفلا استقلال تلك الدولة، ومن ثم عقدت الهدنة فى جورجفو (17 سبتمبر)، وتلاها بعد مفاوضات طويلة جدًا صلح زستوفا (إلى الغرب من روسجق على نهر الدانوب) فى 4 أغسطس سنة 1791؛ وقد استرد الباب العالى إمارة الدانوب بفضل هذه المعاهدة التى عقدت بوساطة بروسيا وإنجلترا وهولندة، فيما عدا أرسوفا القديمة التى أكره الباب العالى على التنازل عنها للنمسا. وكانت الحرب مع الروسيا التى وقعت سنة 1790 حربًا مشئومة، فقد توفى الصدر الأعظم الجديد فى مارس، وخلفه حسن باشا شريف فلم يستطع وقف تقدم الروس فى بسّارابيا، واستولى الروس على كيليا فى أكتوبر، ثم استولوا على إسماعيل بعد قتال مرير فى 22 ديسمبر، وكتب لهم النصر أيضًا فى البحر الأسود وفيما وراء نهر كوبان، وإن كانوا لم يفلحوا فى الاستيلاء على أنابا. أضف إلى هذا أن السويد كانت قد عقدت الصلح مع روسيا فى 14 أغسطس، على أن الترك دمروا فى بحر إيجة الأسطول اليونانى الذى كان قد عقد لواؤه للامبرو سكانزبانى وجهِّز فى تريستا بمعاونة الروس، ثم قتل الصدر الأعظم بأمر من السلطان فى فبراير سنة 1791 فى معسكره بشمله، وحل محله يوسف باشا، فنشط إلى الاستعداد لمواصلة القتال، إلَّا أن الروس تحت إمرة ربنين عبروا نهر الدانوب عند جالاتز وهزموا الترك هزيمة ساحقة فى ماتجين (9 أبريل)، وضعفت الروح المعنوية فى الآستانة ضعفًا شديدًا، وشب حريق مروع فأمر الباب العالى الصدر الأعظم بأن يقترح عقد هدنة، وعقدت الهدنة فى جالاتز فى 11 أغسطس، وتبعتها معاهدة الصلح التى أبرمت فى ياسى فى 9 يناير سنة 1792، وكانت بنود هذه المعاهدة الثلاثة عشر تجديدًا
لمعاهدة كوجك قينارجه. أما فى الغرب فقد أصبح نهر الدنيستر الحد بين الدولتين، على حين تعهد الباب العالى فى الشرق بأن يكبح جماح قبائل التتر التى كانت تنزل الضفة الشمالية لنهر كوبان، وفقدت الدولة التركية القريم إلى غير رجعة.
وما إن انتهت الحرب حتى اهتم السلطان بالإصلاحات الضرورية التى رأى أن لابد منها كى تسترد الدولة قوتها، وكان قد بذل فى مستهل حكمه محاولة فى هذا السبيل بالإصرار على تطبيق القوانين الخاصة بالنفقات (انظر فيما يتصل بهذه القوانين مثلًا محمد غالب: سليم ثالثن بعض أوامر مهمه سى، فى تاريخ عثمانى أنجمنى مجموعة سى = T.O.E.M رقم 8، ص 500 - 504)، وقد دعا بعد ذلك بقليل عددًا من ذوى المكانة والمثقفين من صفوف الجيش ومن رجال الإدارة والعلماء إلى تقديم بعض مشروعات الإصلاح، وحملت المشروعات كلها إلى القصر، والظاهر أن هذه المشروعات قد عولجت على نحو هيأ الفرصة للحزب المناهض للإصلاح بأن يجعل منها مادة للسخرية وأن يبدأ دعوته فى مناهضتها، تلك الدعوة التى لم يكف عنها أبدًا (جودت: تاريخ، جـ 6، ص 7؛ وقد ذكر فى هذا المصدر كل من قدم لوائح فى هذا الصدد) على أن السلطان بدأ عمله بنشاط، فوسّع الديوان بأن جعله هيئة تضم أربعين عضوًا يرأسهم الصدر الأعظم أو المفتى بحسب الموضوعات التى تطرح على بساط البحث، أما اللوائح الجديدة التى بسطت تباعًا فقد أطلق عليها اسم "قانون نامه" أو "نظامات" وعرفت إصلاحات السلطان سليم كلها باسم "نظام جديد". على أن هذه العبارة تطلق بوجه خاص أيضًا على الجنود النظاميين الجدد. وكان من أول الإجراءات التى اتخذها سليم إنشاء خزانة جديدة (إيراد جديد) لسد نفقات النظم الجديدة، وكان عماد تلك الخزينة كل ما يتوفر من الدخل وخاصة ما يتجمع من مصادرة عدد كبير من الإقطاعات التى لم يقم أصحاب الحق فيها بالوفاء بالتزاماتهم العسكرية (محلول أولن زعامت وتيمار)، وقد سنت لائحة خاصة لبحث أمر هذه الإقطاعات، وازدادت
الاعتمادات المالية المعدة لهذه التجديدات ازديادًا مطردًا بفضل هذه الدخول وغيرها، وألفت الكتيبة الأولى من الجيش النظامى الجديد من البستانجية سنة 1792، وكان الغرض من إنشائها حماية منشآت المياه الكبرى الخاصة بقصبة البلاد قرب البحر الأسود فى قرية بلغراد كوى، حيث كان القوم يخشون من وقوع غزو روسى فى ذلك الوقت، وشيدت الثكنات الكبيرة لهذه الكتيبة فى لوند جفتلك، وكان جنودها يتدربون فيها، ولو أنه قد ثبت أن الحصول على متطوعين أمر شاق عسير. وتلا تشييد هذه الثكنات التى كانت تعد المحاولة الأولى فى هذا الشأن بناء عمارة أكبر فى إسكودارة حيث قام حول ثكنات سليمية العظيمة ما يشبه أن يكون مدينة جديدة اشتملت على المساجد والحمامات لأجل الجيش الجديد؛ وكانت اللوائح الأخرى تتضمن تموين الجيش، وإلزام الإنكشارية بالطاعة والنظام، وإعادة تنظيم كتيبة الجبجى والمدفعية. وقد ساهم الفرنسيون مساهمة كبيرة فى إعادة تنظيم هذا الجيش، وقيل إن بونابرت كان قد فكر سنة 1794 فى وضع نفسه على رأس المدفعية التركية، بل إن السفير الفرنسى دوباييه Dubayet جاء إلى الآستانة سنة 1796 على رأس فرقة فرسان من رجال المدفعية. وامتد الإصلاح أيضًا فشمل تحسين حصون البوسفور وبناء سفن حربية جديدة بفضل إرشاد القبودان باشا كوجك حسين أخى سليم غير الشقيق وما أبداه من همة، كما شمل صنع البارود وتدريب الضباط؛ وكذلك أعيد تنظيم مدرسة الهندسة فى سودلجه بميناء الآستانة التى أنشئت فى عهد عبد الحميد الأول، بالاستعانة بالفرنسيين والإنجليز وافتتحت مدرسة جديدة للملاحة؛ وقد حملت التجارب المريرة، التى تمخضت عنها الحروب الأخيرة، الناس على أن يستجيبوا لكل تلك الإصلاحات، إلا أن حزبًا قويًا من الترك يتألف من الإنكشارية والعلماء كان يعارضها بطبيعة الحال، ومع ذلك فقد كان يؤيدها من العلماء من أوتوا حظا كبيرًا من الثقافة. وقد لزم أولو الأمر جانب الحيطة فلم يحشدوا عددا عظيمًا من الجنود الجدد على الضفة الأوربية
للبوسفور؛ ومما يلفت النظر أن مقاومة الإصلاحات كانت تقل فى آسية عنها فى أوربا كلما درجت هذه الإصلاحات فى سبيل التقدم، ذلك أن زعماء المتمردين فى أوربا كانوا يتخذونها ذريعة لامتشاق الحسام فى وجه الحكومة.
وقد يسرت فترة السلام التى شملت البلاد من سنة 1792 إلى سنة 1798 السبيل للقيام بهذه التدابير حتى أن زعيمى التمرد الكبيرين فى أوربا قد لزما الهدوء إلى حد ما وهما: بزاوان أوغلى، الذى كان قد تحصّن فى ودّين سنة 1792، وعلى باشا تبدلنلى، الذى كان قد أصبح وإلى يانينا سنة 1788 وجاء بالخذلان سنة 1792 فى حملته الأولى على أهل جبال سولى. ونعمت الصرب بالإدارة السمحة فى عهد أبى بكر وحاجى مصطفى اللذين ولاهما الباشا عليها؛ وكان الباب العالى يعنى عناية كبيرة بعلاقاته بالدول الأجنبية فى هذه الفترة، ذلك أنه أرسل السفراء الجدد إلى بلاط الدول الأوربية، وأظهر الرئيس أفندى راشد المتوفى سنة 1798 نشاطًا دبلوماسيًا عظيمًا فى الآستانة؛ وأثرت الثورة الفرنسية فى الموقف الدولى تأثيرًا متزايدًا، وكان لإعدام لويس السادس عشر وقع سئ وخاصة على سليم، فقد كان سليم يراسله حتى قبل ارتقائه العرش، ومع ذلك فإن رسل حكومة الثورة (Descorches) قد أفلحوا فى إثارة العطف عليهم حتى فى الديوان، مثال ذلك أنهم قالوا إنهم عادوا لا يعارضون المسلمين فى أمور الدين بعد أن أخذت فرنسا بمذهب العقل وكان لهم معاونون من ذوى النفوذ فى الآستانة، مثل دوسون المشهور Mouradgea d'Ohsson وكان وقتئذ مترجمًا سويديًا ثم سفيرًا للسويد من سنة 1796 إلى سنة 1799، وكاد هذا الرجل يفلح فى حمل تركية على إعلان الحرب على روسيا.
وتغير الموقف تغيرًا تامًا نتيجة الحملة الفرنسية على مصر، وحاول روفن Roffin ممثل فرنسا فى الآستانة عبثًا أن يطمئن الباب العالى من ناحية نيات حكومته السلمية، ولكن تركية أعلنت الحرب على فرنسا فى 4 سبتمبر
سنة 1798، وألقى روفن فى السجن، كما سجن القناصل والتجار الفرنسيون وكانت التدابير التى اتخذتها تركية فى هذا الشأن أقل شأنًا وأبطأ سرعة من التدابير التى اتخذتها إنجلترا بكثير، وعقد الباب العالى فى 5 يناير سنة 1799 تحالفًا مع انجلترا، ونزلت الجنود التركية الأولى فى أبى قير فى 25 يولية، إلا أن بونابرت أكرههم على إلارتداد إلى أسطولهم بعد عودة الجيش الفرنسى مباشرة من حصار عكا، حيث أظهر الجزار باشا فى ذلك الوقت بدفاعه عن المدينة أنه تابع مخلص من أتباع السلطان. وبلغ الشام فى النصف الأخير من ذلك العام جيش تركى قوامه 80000 رجل تحت إمرة ضيا يوسف باشا، الصدر الأعظم منذ سنة 1798 (وكان ملك محمد باشا قد حل محل قوجه يوسف باشا فى يونيه سنة 1792، وخلف عزت محمد باشا ملك باشا محمد بعد سنتين ونصف سنة من توليه الصدارة العظمى)، وقد اشتمل هذا الجيش على 4000 رجل تقريبًا من الجنود النظاميين الجدد، ولحق به جيش الجزار؛ واستولى الترك على حصن العريش الصغير، وعقد الصدر الأعظم فى هذا الموضع نفسه هدنة مع الجنرال كليبر فى 28 يناير سنة 1800 وعد فيها الفرنسيون بالجلاء عن مصر، إلَّا أن الإنجليز نقضوا المعاهدة فهاجم كليبر الصدر الأعظم وكان يتقدم صوب القاهرة، وهزم الجيش التركى قرب أطلال عين شمس (20 مارس)، وتراجع الترك بعد هذا إلى الصحراء، وفى مارس سنة 1801 ، أى بعد عام واحد، اشترك الترك مرة أخرى فى الحملة المصرية تحت إمرة القبودان باشا كوجك حسين؛ وقد أسفرت هذه الحملة عن إخلاء الفرنسيين للبلاد إخلاء تامًا واحتلال الجيش البريطانى مصر، وكان الحليف الآخر لتركية فى هذه الحرب هو روسيا، وكان أسطول روسى قد ظهر بالفعل فى البوسفور فى سبتمبر سنة 1798 فعقدت معاهدة تحالف بين الطرفين فى 23 ديسمبر، ثم يمم الأسطولان التركى والروسى المتحالفان شطر الساحل الغربى لبلاد اليونان
وطردا الفرنسيين من الجزائر الأيونية فى مارس سنة 1799، وكانت هذه الجزائر من قبل فى حوزة البندقية ثم تركتها النمسا لفرنسا بمقتضى معاهدة الصلح التى عقدت فى كاميو فورميو (17 أكتوبر سنة 1797)، وقد جعلت تركية هذه الجزائر جمهورية تحت حمايتها هى وروسيا، وأفلح على باشا وإلى يانينا فى الوقت نفسه فى احتلال بعض موانى ألبانيا إلى حين، وظلت العلاقات مع روسيا متوترة بالرغم من التحالف الروسى، وقد عقد، بوساطة بروسيا، صلح ابتدائى مع فرنسا فى 9 أكتوبر سنة 1801 اعترفت فيه فرنسا بسيادة الباب العالى على جمهورية الجزائر الأيونية السبع الجديدة، وأنفذ سبستيانى المشهور للمرة الأولى إلى الآستانة فى مهمة فوق العادة للتصديق على هذا الصلح الابتدائى. ولم يكن الباب العالى طرفًا فى معاهدة الصلح التى تمت فى أميانز وتأيدت بها النصوص نفسها (27 مارس سنة 1802)، ذلك أنه عقد فى يونيه صلحًا منفردًا مع فرنسا، وحاول الصدر الأعظم والقبودان باشا أن يعيدا النظام إلى نصابه فى مصر باستئصال شأفة زعماء البكوات المماليك، على أنهما لم يفلحا فى ذلك، فقد كان المماليك ينعمون بحماية البريطانيين، وعادا فى ديسمبر إلى الآستانة تاركين خسرو باشا واليًا على مصر متخذًا مقره القاهرة. وإنما جلا الجيش الإنجليزى عن مصر فى سنة 1803 بعد أن عقد اتفاق فى التاسع من يناير من ذلك العام فى الآستانة بين السفير اللورد إلجين Elgin والرئيس أفندى تعهد فيه الباب العالى بالعفو عن المماليك.
وكذلك كان الموقف مضطربًا فى الداخل فى هذه السنوات التى زخرت بالأحداث، فمنذ صلح باسى أخذ زعماء قطاع الطرق (عثمان باشا) يلقون الرعب فى الرومللى، وكان يناصرهم بعض ذوى النفوذ فى الآستانة من مناهضى الإصلاحات وخاصة يوسف أغا رئيس ركائب "والده السلطان"؛ وكان بزوان أوغلى قد استولى فى سنة 1797 على قسم كبير من بلاد البلغار، وباءت الحملة التى أنفذت لقتاله تحت إمرة القبودان باشا حسين بالخيبة، فلم
يجد الباب العالى بدا من الإذعان لمطالبه، واعترف به باشا من حملة الـ "توغات" الثلاثة، ولكن حدث بعد ذلك بقليل أن غزوا بزوان أوغلى الأفلاق (1801)، وكانت تحميه النمسا، ثم حاول الباب العالى أن يعيد النظام إلى نصابه بتولية على باشا وإلى يانينا بكلر بك على الرومللى (1803) ولكن جهوده ذهبت بددا، واتهم على باشا بأنه على اتفاق مع بزوان أوغلى فعزل من منصبه، ثم عمد فى ديسمبر سنة 1803 إلى استئصال شأفة أهل جبل سولى القليلى العدد، وانتفع الباب العالى انتفاعًا كبيرًا فى محاربته المتمردين الرومليين فى ذلك العام بالجنود النظاميين الجدد؛ وأتاح غزو بزوان أوغلى الأفلاق الفرصة لروسيا فتدخلت فى إمارات الدانوب؛ وقبل الباب العالى تحت الضغط الروسى أن يعيد النظر فى المستعمرات السابقة مما كان من شأنه زيادة الحكم الذاتى الذى تنعم به تلك الإمارات؛ ونصّب ابسسيلانتى Ypsilanti هسبودرا على الأفلاق كما عين موروزى Muruzi هسبودارا على البغدان، على أن يبقيا فى ولايتهما سبع سنوات (1803).
وثارت المتاعب فى سنة 1830 فى الصرب، وكان السبب فيها غزوات بزوان أوغلى وعودة زعماء الإنكشارية أو الدايات إلى مناصبهم، وكانوا قد طردوا من البلاد بعد الحرب التى نشبت مع النمسا. وقد تمخضت هذه الاضطرابات عن فتنة قام بها أمراء الصرب بقيادة قره جورج المشهور سنة 1804، ولم يفلح الجيش التركى ولا سياسة الباب العالى فى إخضاع أهل الصرب فى السنوات التالية، فقد كان لهم منذ سنة 1805 دستورهم الخاص بهم وأصبحوا سادة حصن بلغراد منذ 12 ديسمبر سنة 1806؛ وفى عام 1803 سقطت مكة فى يد الوهابيين (30 أبريل)، بعد أن اعترفت شبه جزيرة العرب كلها تقريبًا بسلطان زعيمها عبد العزيز (انظر R. Hartmann فى Z.D.M 1924 ص 195)؛ وحدث فى العام نفسه أيضًا أن تقدم محمد على الصفوف للمرة الأولى، ذلك أنه نصب واليًا على مصر سنة 1804 بعد
أن تغلب على مقاومة البرديسى من بكوات المماليك.
وكان الباب العالى، بعد أن نشبت الحرب مرة أخرى بين فرنسا وإنجلترا فى مايو سنة 1803، قد قرر أن يلتزم سياسة الحياد الدقيق، ولكن فرنسا أوقفته موقفًا عسيرًا بأن طلبت منه الاعتراف بنابليون إمبراطورًا، على أن تهديدات روسيا حالت بينه وبين هذا الاعتراف، ولم يفلح الخطاب الخاص الذى أرسله نابليون إلى سليم فى تحويله عن ذلك، ولم يتم الاعتراف إلا فى سنة 1806 بعد أن جدد التحالف مع روسيا سنة 1805؛ وكان الجنرال سبستيانى قد قدم إلى الآستانة سنة 1805 سفيرًا لنابليون فساد النفوذ الفرنسى تركية آخر الأمر، وبالغ الباب العالى فى ذلك حتى لقد عزل هسبودارى (أميرى) الأفلاق والبغدان الموالين للروس مما جعل القيصر يأمر القائد ميشيلسون Michelson باحتلال الإمارتين؛ وتم تنفيذ هذا الأمر تنفيذًا تامًا فى ديسمبر سنة 1806 بالرغم من مقاومة بزوان أوغلى ومصطفى بيرقدار باشا روسجق، وأعلنت الحرب على الروسيا (27 ديسمبر) بتأثير المظاهرات المناهضة للروس التى قامت فى الآستانة بضغط سبستيانى؛ وجاءت إنجلترا فى الشهر التالى بمطالب بالغت فيها، مثال ذلك مطالبتها برحيل سبستيانى، ورسا الأسطول البريطانى فى تينيدوس لأرغام تركية على تنفيذ هذه المطالب؛ ورفض الباب العالى الأذعان فدخل أمير البحر دكورث Duckworth الدردنيل فلم يكد يلقى مقاومة، وظهر فى 10 فبرابر 1807 أمام قصبة البلاد، وساد الهلع لحظة، قتل خلالها القبودان باشا، ثم نظم الدفاع عن الآستانة بإرشاد سبستيانى وبعض الضباط الفرنسيين (Juchereau de St. Denis) وأبى الإنجليز تحمل مسئولية قذف المدينة بالقنابل فانسحبوا مرة أخرى بعد إجراء مفاوضات فى أول مارس لم تسفر عن نتيجة، وبلغوا تينيدوس بعد أن حلت بهم خسائر فادحة، وأعلنت تركية الحرب على إنجلترا بعد ذلك مباشرة؛ ولم يكن الإنجليز أكثر نجاحًا فى مصر، فبالرغم من أن أسطولًا إنجليزيًا احتل
الإسكندرية فى 17 مارس فقد هزم الإنجليز فى كل مكان على يد محمد على وأكرهوا على الجلاء عن البلاد فى سبتمبر.
وكان الموقف السياسى فى الداخل قد مر بأزمة خطيرة، ذلك أن الإصلاحات قد استؤنفت مرة أخرى بعد سنة 1802، وصدر فى مارس سنة 1805 "خط شريف" يقضى بفرض ضريبة عامة على أهل البلاد من أجل الجنود النظاميين، وانتهى ذلك بتمرد الإنكشارية جهرة واعتصموا فى أدرنة وقيرق كليسه؛ وأنفذت الحكومة لقتالهم الجيش النظامى فهزمهم هزيمة ساحقة فى أغسطس سنة 1806، وكان من نتيجة ذلك أن أجلت الإصلاحات إلى حين؛ ولم يستفحل الأمر بفضل نفوذ المفتى صالح زاده أسعد أفندى، وقد حل إبراهيم حلمى باشا أغا الإنكشارية محل الصدر الأعظم حافظ إسماعيل باشا (وكان حافظ باشا قد خلف ضيا يوسف باشا سنة 1805)، ولم يجرؤ الباب العالى حتى على إرسال الجيش النظامى لقتال الروس فى رومانيا.
ولم تؤد الوقائع التى فازت فيها تركية على إنجلترا إلى عودة نفوذ السلطان، بل كان الأمر على الضد من ذلك، إذ ازداد جزع المعارضة زيادة مطردة لما لمسته من نفوذ الفرنسيين خلال تحصين الآستانة، وواصل حزب الإصلاح عمله فى غير ما تظاهر أو تفاخر، إلا أنه دبرت مكيدة القصد منها خلع سليم عن العرش، وكان زعيماها موسى باشا (وهذا هو الاسم الذى ذكره جودت؛ أما Zinkeisen وغيره من الكتاب فيذكرون الاسم مسته باشا) قائم مقام الصدر الأعظم (وكان الصدر الأعظم نفسه قد خرج لقتال الروس)، والمفتى عطا اللَّه أفندى، فقد أثار الفتنة بين جنود الاحتياط الجفاة الغلاظ (ويقال لهم اليماق) الذين كانوا يعسكرون على البوسفور، ونشبت الفتنة فى 15 مايو سنة 1807، ذلك أن هؤلاء الجنود رفضوا ارتداء الزى النظامى، وأقام قبقجى أوغلى قائد الثوار معسكره فى بويوك دره، وحدث فى الأيام التالية -وبينما كان موسى باشا والمفتى يهدئان من روع السلطان- أن أخذت الدعوة المناهضة له تنتشر
بسرعة، وذهب قبقجى بعد ذلك بأسبوعين إلى الآستانة ومعه أتباعه وقد حمل قائمة حوت أسماء كل أنصار الإصلاح المشهورين، وسيق جل هؤلاء إلى "آت ميدان" وقتلوا، وكان السلطان يرجو فى هذه اللحظة الأخيرة أن ينقذ عرشه بخطِّ شريف يلغى به النظام الجديد، ولكن عزله عن العرش كان قد تقرر فعلًا، ففى اليوم التالى، أى اليوم الثانى والعشرين من ربيع الأول سنة 1223 هـ (29 مايو سنة 1808 م)، أعلن المفتى لوفد من اليماق فى تهيب مصطنع أن خلع سليم عن عرشه أمر يتفق مع الشرع، ثم ذهب بعد هذه المهزلة إلى سليم ليبلغه قرار الشعب، وأذعن سليم فى الحال واعتزل الحكم، ولم يكن له ولد، فوضع على العرش مصطفى أكبر ولدى السلطان عبد الحميد، ولقّب بمصطفى الرابع.
ولقى سليم بعد ذلك بعام مصرعه عندما سار مصطفى بيرقدار إلى الآستانة بجنوده وجنود الصدر الأعظم جلبى مصطفى باشا ليمكن للإصطلاحات ويعيد سليمًا إلى عرشه، ودخل بيرقدار فى الرابع من جمادى الآخرة سنة 1223 هـ (28 يولية سنة 1808 م) بجنوده الفناء الأول من أفنية السراى مطالبًا بالسلطان سليم، فأحل مصطفى عندئذ قتل سليم، الذى كان قد أرجئ إلى هذا العين، وأحل أيضًا قتل محمود أخيه هو الأصغر، ووصل بيرقدار متأخرًا لحظة فلم يستطع إنقاذ حياة السلطان السيئ الطالع، ذلك أنه كان قد قتل فعلًا عندما اقتحمت أبواب السراى، ثم جئ بمحمود أخى مصطفى من مخبئه ووضع على العرش.
وقد وصف سليم الثالث بأنه سلطان عظيم المواهب (انظر بوجه خاص ما رثاه به جودت، جـ 8، ص 262 وما بعدها)؛ ونظم قصائد وقعها باسم إلهامى (تخلص) ويقال إنه كان من أصحاب البراعة فى الموسيقى، وتثبت غيرته على الإصلاح أنه كان لمّاح الذكاء، إلا أن هذه الغيرة كان يحد منها ميله إلى الاهتمام بأدق التفصيلات، والظاهر أيضًا أنه لم يكن يطيق وجود أشخاص أقوياء بين خاصة بطانته، فقد