المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌محمد [صلى الله عليه وسلم] نبى الإسلام - موجز دائرة المعارف الإسلامية - جـ ٢٩

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌الماتريدى

- ‌المصادر:

- ‌الماتريدية

- ‌الماذرائى

- ‌المصادر:

- ‌الـ ماردينى

- ‌‌‌المصادر:

- ‌المصادر:

- ‌مارية القبطية

- ‌المازنى

- ‌المصادر:

- ‌مالك بن أنس

- ‌المصادر:

- ‌مالك بن عوف

- ‌المصادر:

- ‌مالك بن نويرة

- ‌المصادر:

- ‌المالكية

- ‌1 - المذهب:

- ‌المصادر:

- ‌انتشار المذهب

- ‌السند القيروانى:

- ‌السند الأندلسى:

- ‌السند العراقى:

- ‌ السند المصرى

- ‌المبادئ والنظرية الفقهية:

- ‌المالكية والمخالفين

- ‌المالكية والتصوف

- ‌الطبقات والمصادر الأخرى للمالكية وأتباعها

- ‌2 - انتشار المذهب:

- ‌الغرب الإسلامى:

- ‌الأندلس:

- ‌أفريقيا وبلاد السودان:

- ‌المصادر:

- ‌مالى

- ‌المصادر:

- ‌المبرد

- ‌ومن أشهر أعمال المبرد:

- ‌المصادر:

- ‌المبرز

- ‌المصادر:

- ‌المبرقع

- ‌المنتقى الهندى

- ‌المصادر:

- ‌متى بن يونس

- ‌المصادر:

- ‌المثل

- ‌أولا: تعريفه

- ‌ثانيًا: الأمثال العربية

- ‌ثالثا: المجموعات العربية

- ‌رابعًا: مجموعات حديثة

- ‌ المصادر

- ‌مجاهد بن جبر

- ‌المصادر:

- ‌مجاهد الموفق

- ‌المصادر:

- ‌مجاور

- ‌المصادر:

- ‌المجتهد

- ‌أولًا: - بالنسبة للسنة:

- ‌ثانيًا: - الشيعة الأمامية الاثنا عشرية:

- ‌المصادر:

- ‌المجرة

- ‌المصادر:

- ‌مجنون ليلى

- ‌1 - زودت المراجع العربية القديمة هذه الشخصية بسلسلة كاملة من الأنساب

- ‌2 - فى الأدب الفارسى والكردى والباشتو

- ‌المصادر:

- ‌3 - فى الأدب التركى:

- ‌المصادر:

- ‌المحاسن والمساوئ

- ‌1 - المجادلات العقيدية (المناظرات):

- ‌2 - المجادلات الدنيوية (مفاخرات، مناظرات):

- ‌كتابات الجاحظ:

- ‌وتبلور فن المحاسن والمساوئ

- ‌الثعالبى وفن المحاسن والأضداد

- ‌المحاسن والأضداد بعد الثعالبى:

- ‌المصادر:

- ‌محكمة

- ‌1 - مدخل عام:

- ‌المصادر:

- ‌2 - الدولة العثمانية:

- ‌(أ) ما قبل إصلاح النظام القضائى

- ‌أثر تدهور الإمبراطورية على المحاكم الشرعية

- ‌(ب) عصر الإصلاح:

- ‌المصادر:

- ‌3 - إيران

- ‌المصادر:

- ‌4 - فى بعض البلدان العربية فى العصر الحديث

- ‌1 - مصر

- ‌المصادر:

- ‌2 - سوريا

- ‌المصادر:

- ‌3 - لبنان

- ‌المصادر:

- ‌4 - العراق

- ‌المصادر:

- ‌5 - فلسطين

- ‌المصادر:

- ‌6 - الأردن

- ‌المصادر:

- ‌7 - المملكة العربية السعودية

- ‌المصادر:

- ‌8 - اليمن

- ‌المصادر:

- ‌9 - دول الخليج

- ‌المصادر:

- ‌10 - مراكش

- ‌المصادر:

- ‌تعديلات القوانين المطبقة فى المحاكم الشرعية

- ‌11 - إندونيسيا

- ‌المصادر:

- ‌محمد [صلى الله عليه وسلم] نبى الإسلام

- ‌المصادر:

- ‌محمد بن إبراهيم بن طهماسب

- ‌محمد بن حازم

- ‌ المصادر

- ‌محمد بن الحسن بن دينار

- ‌محمد بن الحنفية

- ‌محمد بن خلف

- ‌المصادر:

- ‌محمد بن طاهر الحارثى

- ‌المصادر:

- ‌محمد عبده

- ‌المصادر:

- ‌محمد على باشا

- ‌محمد على حاكما لامبراطورية اقليمية (1828 - 1841 م):

- ‌المصادر:

- ‌محمد بن القاسم

- ‌محمد بن محمود أبو شجاع

- ‌المصادر:

- ‌محمد بن مروان

- ‌محمد بن وصيف

- ‌المصادر:

- ‌المحمل

- ‌المصادر:

- ‌مخا

- ‌مخزوم، بنو

- ‌المصادر:

- ‌المخزومى

- ‌المصادر:

- ‌المدائنى

- ‌المصادر:

- ‌مدراس

- ‌1 - التسمية:

- ‌2 - التاريخ:

- ‌المصادر:

- ‌مدين شعيب

- ‌المصادر:

- ‌المدينة الزاهرة

- ‌المدينة المنورة

- ‌تاريخ المدينة حتى سنة 1926 م:

- ‌المدينة من 661 م إلى 1929 م:

- ‌المصادر:

- ‌المرابطون

- ‌1 - أصلهم وتاريخهم فى الشمال الإفريقى:

- ‌2 - سقوط المرابطين:

- ‌مراد، بنو

- ‌المصادر:

- ‌مراسم

- ‌مراسم الخلافة والفاطميين:

- ‌فى أسبانيا الإسلامية

- ‌فى إيران

- ‌فى الامبراطورية العثمانية:

- ‌فى بلاد الهند الإسلامية

- ‌المصادر:

- ‌مرثية

- ‌ فى الأدب العربى:

- ‌ فى الأدب الفارسى:

- ‌فى الأدب التركى:

- ‌فى الأدب الأردى:

- ‌فى الأدب السواحيلى:

- ‌مرج دابق

- ‌المصادر:

- ‌مرداس بن أدية

الفصل: ‌محمد [صلى الله عليه وسلم] نبى الإسلام

‌محمد [صلى الله عليه وسلم] نبى الإسلام

من الصعب الإجابة بدقة قاطعة عن أول سؤال يفرض نفسه على كاتب السيرة، وهو: متى ولد محمد [صلى الله عليه وسلم]؟ لقد استغرق نشاط محمد [صلى الله عليه وسلم] فى المدينة نحو عشر سنوات (من وقت هجرته عام 622 م إلى عام وفاته وهو 632 م). غير أن معلوماتنا عن الفترة المكية من حياته غير أكيده. ومع ذلك فليس ثمة سبب وجيه يدعونا إلى الشك فيما ذهبت إليه قصيدة ينسبها البعض إلى أبى قيس بن أبى أنس، والبعض الآخر إلى حسان بن ثابت، من أن دعوة محمد [صلى الله عليه وسلم] إلى الإسلام فى مكة دامت "عشرًا وبضع سنين". ويذهب كتاب السيرة عادة إلى أنه كان عند بدء الدعوة فى الأربعين، بينما يذكر البعض أنه كان فى الثالثة والأربعين. فإن أخذنا هذا وغيره من التواريخ التى ذكرناها فى الحسبان، أمكن القول بأن محمدا [صلى الله عليه وسلم] ولد حوالى عام 570 م. ومع ذلك فإنه حين تذكر الروايات أنه ولد عام الفيل، فالواجب اعتبار هذا القول غير مقبول حيث إن هجوم أبرهة على مكة حدث قبل عام 570 م بمدة طويلة. والأفضل القول إنه ولد بعد عام 570 م خلال العقد الثامن من القرن السادس، وأن نترك موضوع تحديد عام مولده مفتوحا (1). أما عن الفترة التى سبقت ظهوره، فليس لدينا ما نهتدى به لتحديدها سوى تعبير غير قاطع ورد فى الآية 16 من سورة يونس {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} ، حيث إن كلمة "عُمرًا" قد تعنى خمسة وثلاثين أو أربعين أو ثلاثة وأربعين عاما.

(1) الخلاف فى تاريخ ميلاد الرسول [صلى الله عليه وسلم] ورد أيضًا فى المراجع العربية، وذكر د. محمد حسين هيكل فى كتابه المشهور:"حياة محمد" آراء مختلفة من بينها آراء لا تختلف عن رأى كاتب هذا المقال، واعتمادًا على ما أورده ابن هشام، حدد عبد السلام التردانينى، فى (أزمنة التاريخ الإسلامى) مولد [صلى الله عليه وسلم] فى 12 ربيع الأول من عام الفيل (= 20 أبريل سنة 571 م)، ولاشك أن الرسول [صلى الله عليه وسلم] إن لم يكن قد ولد فى عام الفيل، فإنه قد ولد فى عام قريب منه، بدليل أن العرب الذين لم يكونوا قد آمنوا بدعوته لم يعترضوا -رغم كثرة اعتراضاتهم- على السورة الكريمة "سورة الفيل"{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} . . . إلخ مما يؤكد أن كبار السن منهم على الأقل، قد شهدوا غزو أبرهة الحبشى لمكة المكرمة. [التحرير]

ص: 9112

أما عن اسم "محمد"[صلى الله عليه وسلم] فقد سُمِّى به عدد من العرب قبله (انظر ابن دريد وابن سعد)، ولذا فإنه لا حاجة إلى اعتباره لقبا لقب به النبى [صلى الله عليه وسلم] فيما بعد. وقد ورد اسم "محمدة" للإناث عدة مرات فى "كتاب الحميريين" السريانى.

وأما عن نسبه فإن عدة قصائد قديمة لشعراء مثل حسان بن ثابت والأعشى وكعب بن مالك، قيلت فى النبى [صلى الله عليه وسلم] أو فى جعفر أو حمزة أو أبى لهب تؤكد ما ذكرته الروايات من أنه من بنى هاشم، أى أنه من أنسب عشائر مكة. ومع ذلك فإن أعداء النبى [صلى الله عليه وسلم] من أهل مكة يقولون له كما توضح الآية 31 من سورة الزخرف:{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} ، أى أنهم كانوا أكثر استعدادا لقبول دعوته لو أنه كان من كبار رجال مكة أو الطائف. وعلى أى الأحوال فما كان يمكن مقارنة بنى هاشم بكبار العشائر مثل مخزوم وأمية. ويُوحى ما رُوى عن فقر محمد [صلى الله عليه وسلم] وبعض أقربائه أن بنى هاشم كانوا وقت شبابه فى ضائقة.

ومما يذكر أن أبا محمد [صلى الله عليه وسلم] مات قبل مولده. وهو شخصية تبدو فى المصادر غير واضحة المعالم. ويمكن أن يكون اسمه "عبد اللَّه" قد حلَّ فيما بعد محل اسم وثنى. وجدُّه شَيبة أو عبد المطلب، والعلاقة بين الاسمين غامضة غموض الصلة بين عبد المطلب وبنى المطلب. أما من ناحية أمه آمنة بنت وهب فكانت لها صلة غير واضحة بالمدينة. ولا نكاد نعلم شيئًا آخر مؤكدا عن نسب محمد [صلى الله عليه وسلم] غير دلك. وقد كان أعمامه هم أول الشخصيات التاريخية الواضحة من أقاربه: أبو طالب (واسمه عبد مناف)، والعباس، وحمزة، وعبد الغُزَّى (أو أبو لهب).

ويؤكد القرآن فى سورة الضُّحى أن محمدا [صلى الله عليه وسلم] نشأ يتيما، وهو الأمر الوحيد تقريبًا الذى نعرفه عن نشأته الأولى، فقصة تطهير قلبه من العلقة السوداء مثلا قد لا تكون غير تفسير للآية الأولى من سورة الشرح {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} . كذلك فإنه من الأوفق رفض تصديق ما قيل عن رحلاته للتجارة إلى الشام أثناء

ص: 9113

طفولته فى صحبة أبى طالب، ثم كتاجر فيما بعد لحساب خديجة (1). فالقالب الذى صيغت فيه هذه الروايات (كما فى قصة الراهب المسيحى بحيرا) يُوحى بأنها روايات هادفة. أما عن قصة دور محمد [صلى الله عليه وسلم] فى إعادة بناء الكعبة فهى أيضا غير جديرة بالتصديق (2).

وفى سورة الضحى أن اللَّه أغنى محمدا اليتيم. وقد تكون فى ذلك إشارة إلى زواجه من خديجة، الأرملة الثرية. وتذكر المصادر أن خديجة ولدت له أربع بنات لعبن دورا فيما بعد، وعدة أبناء مات جميعهم صغارًا رُضًعا. غير أن هذه المصادر لا تكاد تذكر شيئًا عن حياة محمد [صلى الله عليه وسلم] من وقت زواجه (وهو فى الخامسة والعشرين) حتى قبيل مبعثه فى الأربعين أو الثالثة والأربعين.

أما ما ينبغى أن يعطى أكبر قدر من الاهتمام فالمشاكل المتعلقة بظهور محمد [صلى الله عليه وسلم] كمصلح دينى، (قبل أن يبعثه اللَّه نبيا ورسولًا) وإن كانت هذه المشاكل تثير للباحث صعوبات بالغة بالنظر إلى طبيعة المصادر والتعقيدات المواكبة لتفسيرها. . . (3) ففى سورة

(1) فيما يتعلق بالتشكيك فى حكاية شق الصدر فإن هناك باحثين مسلمين تشككوا فيها أيضًا، أما ما يتعلق بالرحلة إلى الشام فهى روايات متواترة فى كتب السيرة ولا مجال لإنكارها، ورحلات الشتاء والصيف وردت فى القرآن الكريم {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} وتشير كتب التاريخ إلى العلاقات التجارية بين الحجاز والشام، وبين الحجاز واليمن، وبين الحجاز ومصر، لذلك نرى أن إنكار مؤلف المقال رحلة الرسول [صلى الله عليه وسلم] فى تجارة إلى الشام غير مبنى عل أساس علمى.

(2)

هذه القصة أيضا متواترة فى كتب السيرة وهى تشير إلى ثقة أهل مكة فى أمانة الرسول [صلى الله عليه وسلم]. ولم يقدم كاتب المقال أدلة علمية متعلقة بنقد النص أو سلسلة الرواة. . إلخ

(3)

جاء فى المتن "موضع النقط. . . " افتراض المستشرق أن سيدنا محمد [صلى الله عليه وسلم] كان فى مستهل حياته يشارك قومه معتقداتهم الدينية على ضوء مفهومه للآيتين الكريمتين، والثابت أنه [صلى الله عليه وسلم] لم يشارك فى المعتقدات الوثنية قط، ومفهوم الضلالة والهداية الوارد فى الآية الكريمة قد فسرتها قصة أبى الأنبياء إبراهيم عليه السلام سورة الأنعام الآية 74 وما بعدها، وهى تجربة يمر بها الأنبياء فى بداياتهم الأولى وفى الشروحات (ووجدك ضالًا) أى عما أنت عليه اليوم (فهدى) أى فهداك إلى توحيده ونبوته. (انظر: مختصر تفسير الخازن المسمى "لباب التأويل فى معانى التنزيل" ص 1230). {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} أى عن تفاصيل الشريعة: (انظر: "كلمات القرآن تفسير وبيان" للشيخ محمد حسنين مخلوف. {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} أى غافلًا عما يراد بك من أمر النبوة، فهداك: أى أرشدك والضلال هنا بمعنى الغفلة، وقال قوم: "ضالًا" لم تكن تدرى القرآن والشرائع فهداك اللَّه إلى القرآن، وشرائع الإسلام. (عن الضحاك وشهر بن حوشب وغيرهما). وقال قوم آخرون: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} : أى ناسيًا، فذكّرك، أو "ضالًا" بمعنى "متحيزا" لأن الضال متحير، وقيل:"ضالًا". بمعنى طالبا للهادية فهداك اللَّه بتوحيده ومعرفته. (انظر تفسير القرطبى "الجامع لأحكام القرآن" جـ 20 ص 97 الكتب المصرية). [التحرير]

ص: 9114

الضحى {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} ، وفى الآية 52 من سورة الشورى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ. . .} . وفى كتب السيرة أن ابنتين من بناته تزوجتا من ابنين لأبى لهب، وكان أبو لهب من أكثر المدافعين عن الوثنية حماسة. وكانت مكة بحرمها مكانا مقدسا عند النبى (صلى الله عليه وسلم) حتى ربطها بإبراهيم وإسماعيل، {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} سورة النمل آية 91. كذلك فقد سمح للمسلمين بالاشتراك فى الحج إلى مكة حتى قبل أن يصبح هذا الحج ركنا من أركان الإسلام.

ويمكن أن نضيف إلى هذه النتائج المستقاة من دراسة القرآن الكريم عن تطور دعوة محمد [صلى الله عليه وسلم]، ما نستقيه من دراسة الروايات عنه والتى تقول إنه لم يكن هو وحده الذى يبحث عن دين يقول بالتوحيد. فقد حُكى عن عدة أشخاص ذكرت أسماؤهم كانوا غير راضين عن الوثنية القديمة للعرب ويبحثون عن عقيدة أكثر عقلانية. وقد كان منهم ابن عم لخديجة هو ورقة بن نوفل وكان هناك الحنفاء الذين لم تحفظ الروايات عنهم غير صورة باهتة. وكذا أمية بن أبى الصلت الذى تتفق قصائده فى كثير من النقاط مع القرآن؛ وهى قصائد كان يمكن أن تكون ذات أهمية عظيمة لو أن -جزءًا منها على الأقل- ثبتت صحة نسبته إليه.

ومن الصعب أن نحدد مدى تأثر محمد [صلى الله عليه وسلم] بالأفكار والحركات المختلفة القائلة بالتوحيد والتى شهدتها شبه الجزيرة العربية فى أوائل القرن السابع الميلادى. أما المؤكد فهو أن أمرًا غيّر وعيه بأكمله وملأه بقوة روحية قررت مجرى حياته، وإعلان ما يوحى به إليه فبدأت بذلك مرحلة نبوته. وقد ذهب كايتانى إلى أن ظهور محمد [صلى الله عليه وسلم] كمصلح دينى [قبل أن يبعثه اللَّه نبيًا] إنما كان تدريجيا وعلى مدى فترات طويلة من التفكير والتأمل تصفها كتب السيرة بالتحنّث.

وتذهب بعض الروايات إلى أن السورة التى بدأت بها الدعوة هى سورة العلق، بينما تذهب أخرى إلى أنها سورة المدثر. غير أنه ينبغى أن

ص: 9115

نأخذ فى الاعتبار احتمال ألا تكون أوليات السور قد دونت أو حُفظت (1).

وتقول الروايات إن "فترة" مدتها ثلاث سنوات فصلت بين وقت نزول الوحى عليه بالسور الأولى وبين نهوضه بالدعوة.

ولا يلمح القرآن الكريم إلا قليلا إلى طريقة حدوث هذا الوحى. وربما كان الدثار الذى أشارت إليه سورة المزمل وسورة المدثر يشير إلى نوع من الاستعداد لتلقى ما يوحى به على نهج كهان العرب الأقدمين (2).

وثمة ضوء غير مباشر يلقيه على الموضوع اتهام أعدائه بأنه مجنون، أو كاهن، أو ساحر، حيث إن الاتهام يبين أن محمدًا [صلى الله عليه وسلم]-فى لحظات تلقيه الوحى- كان يترك لديهم انطباعا كذلك الذى يحدثه المجنون أو الكاهن أو الساحر (3)، وهى شخصيات كانت مألوفة فى شبه الجزيرة. وبالإضافة إلى ذلك نجد روايات عدة تصف حالته فى مثل تلك اللحظات وصفا أوفى، ويمكن اعتبارها صحيحة حيث إنه لا يمكن أن يكون المسلمون فى العهود المتأخرة قد اخترعوها، بينما كانت هذه النوبات الغريبة تمثل بالنسبة لمعارفه أصدق دليل على ألوهية مصدر الوحى.

وقد كانت الأفكار بسيطة فى تلك السور الأولى المتوهجة عاطفة، ولا تقوم هذه الأفكار على أساس المفهوم

(1) راجع مادة القرآن الكريم فى الدائرة (الطبعة الأصلية) وقد خلص كاتب هذه المادة إلى أن لجنة من كبار المستشرقين منهم بلاشير حاولوا إعداد نص قرآنى غير النص الذى بين أيدينا، مضيفين إليه ما سقط منه، ورجعوا لمختلف المصاحف كمصحف أبىّ وابن مسعود، كما رجعوا لمختلف الروايات، وانتهوا إلى أن النص القرآنى الذى بين أيدينا هو الوحيد الموثق والصادق، واستبعدوا تماما أى حذف أو إضافة من وجهة النظر العلمية.

(2)

لم تشر كتب السيرة المعروفة: سيرة ابن هشام الذى هذب فيها سيرة ابن إسحق (ت 152 هـ)، وسيرة ابن سيد الناس (ت 734 هـ/ 1334 م)، والسيرة الحلبية لنور الدين الحلبى (ت 1044 هـ/ 1642 م)، ولا كتب التراجم الأخرى أن الرسول [صلى الله عليه وسلم] كان يلبس لباسًا خاصا استعدادا لتلقى الوحى، وما أشير من تزمله وتدثره فى القرآن الكريم لا يعنى ذلك بالضرورة، وإنما كان ذلك فى معرض خوفه -بما مرضه- بعد نزول الوحى عليه لأول مرة. لدرجة جعلت زوجه خديجة تشفق عليه.

(3)

هذه الاتهامات نفاها القرآن الكريم عن سيدنا محمد فى أكثر من سورة.

[التحرير]

ص: 9116

التقليدى عن التوحيد، وإنما تقوم على انطباع دينى وخلقى قوى، لم يكن ثمة مفر. من أن يؤدى به إلى قطيعة بينه وبين الوثنية. وقد كان ذهنه ممتلئًا بالأخص بفكرة المسئولية الأخلاقية التى ألقاها اللَّه سبحانه وتعالى على الإنسان، وفكرة الحساب يوم القيامة. وقد أضاف القرآن الكريم إلى ذلك أوصافا حية لعذاب الكفرة فى نار جهنم وتنعم المؤمنين بنعيم الجنة.

وتمة موضوع رئيسى آخر فى تلك المرحلة الأولى السابقة على بدء المعارضة القوية له من جانب العائلات المكية واسعة النفوذ، ألا وهو آيات اللَّه فى الطبيعة مما ينبغى أن تقنع الناس متى فكروا فيها بأن هناك قوة أعظم من قوة الإنسان. وثمة تأكيد على عجائب الحياة اليومية خاصة ظاهرة الإنسان الرائعة.

أما الواجبات الدينية التى فرضها القرآن الكريم على محمد [صلى الله عليه وسلم] وأتباعه خلال الفترة المكية فكانت بسيطة قليلة العدد فعلى المرء أن يؤمن باللَّه، وأن يلتمس منه الصفح عن خطاياه، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} سورة المؤمنون الآيات 1، 11. وعليه المحافظة على الصلاة حتى بالليل {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ. . .} سورة هود آية 114. وعليه مساعدة الناس خاصة الفقراء منهم، وأن ينزه نفسه من حب الثراء الخادع، وعن كل أشكال الغش، وهو أمر له أهمية فى الحياة التجارية المكية {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} سورة الشعراء 182 - 183. وعليه الالتزام بالعفة وألا يئد البنات وفق العادة المتوحشة لذلك العصر التى عزاها القرآن الكريم إلى الفقر.

ص: 9117

لم يلق محمد [صلى الله عليه وسلم] فى البداية معارضة ذات شأن، بل وصادفت دعوته تربة خصبة فى حالات ليست بالقليلة. وقد نفهم من الآية 62 من سورة هود {قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} ، إنه أثار فى البداية توقعات كثيرة لدى المكيين. وقد كانت خديجة -باتفاق كافة الروايات- أول من آمن به، كما تذكر المصادر أن من أوائل أشياعه أبا بكر، والعبد المعتق زيد بن حارثة، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد اللَّه وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص، وابن عم محمد [صلى الله عليه وسلم] عليا بن أبى طالب. غير أن أكثر من اتبعه فى مكة كانوا أحداثا أو ممن لا يتمتعون بمركز اجتماعى مرموق، فى حين رفض اتباعه الأغنياء وذوو النفوذ، {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} سورة مريم آية 73. {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} سورة المزمل آية 11. {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} سورة هود آية 27. وقد زاد عزوف الأغنياء وذوى النفوذ عن رسالته حين أضحت العواقب الكاملة لأفكاره واضحة وهاجم صراحة وثنية أهل مكة. أما قبل ذلك فما كان أكثرهم يكترثون باجتماع المسلمين للعبادة أو بنشاط محمد [صلى الله عليه وسلم].

وقد جاءت مهاجمة آلهة مكة تدريجيا. فقد ذكر أن الحرم المكى هو للَّه ربه الذى يعترف المكيون أيضا بأنه ربهم الأعلى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} سورة الزمر آية 38. وسيحمى اللَّه بيته والحرم ويباركهما لو أذعنوا لإرادته، {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا. . .} سورة النمل آية 91، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ

ص: 9118

أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} سورة العنكبوت آية 67، {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} سورة قريش. حينئذ أدرك تجار مكة أن التحول للإسلام قد يُهدد أسواقهم وتجارتهم. وقد كان هذا فى الواقع النقطة الرئيسية فى معارضتهم لمحمد [صلى الله عليه وسلم]، ويثبت ذلك محاولات القرآن العديدة تهدئة مخاوف قريش فى هذا الصدد. وكان هناك بالإضافة إلى ذلك موقف التجار المحافظ فى مجال الدين، وعداؤهم للأفكار الجديدة الغريبة عليهم، خاصة فكرة البعث والنشور بعد الموت.

وتنبع قوة محمد [صلى الله عليه وسلم] من إحساسه بأنه يعيش فى عالم ذهنى أسمى لا يرقى إليه المشركون، وأن ما يوحى إليه من عند اللَّه {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} ، سورة الإسراء آية 88. وكثيرا ما يشير القرآن الكريم بحق إلى افتقار أعدائه إلى المنطق إذ يعترفون بأن "اللَّه" هو الإله الحق دون استنباط النتائج المنطقية من هذه الحقيقة. غير أن حتى أكثر حججه إفحامًا لم تفلح فى اختراق السدّ المنيع الذى أقامه تعصبهم على أساس من مصالحهم المادية. وحين كان خصومه يهزأون به إذ لم يتحقق ما أنذرهم له من عقاب اللَّه، {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} سورة ص آية 16، ذكر القرآن الكريم أن أقوام الأنبياء قبله كذبوهم فحق عليهم بتكذيبهم أشد عقاب. ولم تكن هذه التهديدات بعقوبة فى الحياة الدنيا جزءا من أوائل السور بدليل أن دعوته لم تثر فى البداية عداء قومه وترتبط فى القرآن الكريم الأفكار الدينية الجديدة التى دعا محمد [صلى الله عليه وسلم] إليها باهل الكتاب، وهو تعبير يشير إلى طائفتى اليهود والنصارى. وكان هناك وعى بهذا الارتباط بدليل ما تردد تأكيده فى القرآن الكريم من اتفاق تعاليم الإسلام والتعاليم اليهودية والمسيحية. وثمة آية مهمة فى سورة يونس 94 يتحدى القرآن الكريم فيها خصوم محمد [صلى الله عليه وسلم] أن يشاوروا أهل الكتاب بصدد صدق

ص: 9119

رسالته: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ. . .} .

ومن الواضح تماما أن محمدا [صلى الله عليه وسلم] لم يفكر خلال الفترة المكية فى تأسيس ديانة جديدة. (1) فمهمته؛ كانت مجرد الإنذار والتذكرة {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} سورة الذاريات آية 50؛ {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} سورة المدثر 1، 2، {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} سورة النازعات آية 45؛ {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} سورة الغاشية آية 21، 22. فهو ينذر بقرب يوم الحساب قومه الذين لم يرسل إليه رسول من قبل {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ. . .} سورة الأنعام آية 157 {. . . لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، سورة القصص آية 46، 47. {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}، سورة السجدة آية 3. وقد أنزل عليه الوحى ليبلغهم إياه فى صورة قرآن عربى مبين، وحتى يقيهم غضب اللَّه. وعلى اليهود والنصارى أيضا أن يشهدوا بصدق ما جاء به حيث إن نفس الوحى كان قد أرسل إليهم من قبل {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} سورة النحل آية 43. {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} سورة القصص آية 52.

وبإمكان هذا السياق أن يقودنا إلى فهم أفضل لكلمة كثيرا ما دار النقاش حَوْلها، وهى كلمة "أُمّى". فحين تشير الآية 157 من سورة الأعراف إلى محمد [صلى الله عليه وسلم] على أنه النبى الأمى، فالظاهر أنها تعنى "الشخص الذى لم يبلَّغ من قبل بكتاب اللَّه"، أى عكس أهل الكتاب الذين سبق أن تلقوا كتاب اللَّه

(1) بمعنى أنه كان مهتمًا بتصحيح الأخطاء التى دخلت على الديانات السابقة. [التحرير]

ص: 9120

بلسانهم. وقد كان محمد [صلى الله عليه وسلم] أميا قبل تلقيه الوحى لا بعده، ولايؤثر هذا التفسير فى نتيجة التساؤل عما إذا كان بمقدور محمد [صلى الله عليه وسلم] أن يقرأ وأن يكتب، اللهم إلا إن كانت كلمة "أمى" تحمل فى طياتها معنى عجزه عن قراءة الكتب المقدسة لليهود والنصارى. ولابد أن اشتغاله بالتجارة كان يستلزم قدرا من الإحاطة بقراءة العربية وكتابتها. وتشير الآيات 4 - 6 من سورة الفرقان إلى اتهام الكفار له بالافتراء {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} . ولم تكتسب كلمه "أمى" معناها الشائع الآن (وهو الجهل بالقراءة والكتابة) إلا فيما بعد (1)، وفى الدوائر الدينية، كتدليل على معجزة تلقى محمد [صلى الله عليه وسلم] الوحى من اللَّه عن طريق جبريل [عليه السلام].

وتقصّ الروايات بتفصيل وافٍ ما لقيه محمد [صلى الله عليه وسلم] وأتباعه من الاضطهاد والأذى على أيدى أهل مكة، وهو ما تصوَره كتب السيرة على أنه من الأحداث المهمة فى حياة محمد [صلى الله عليه وسلم] إبّان الفترة المكية. غير أنها للأسف روايات غير واضحة قابلة لتفسيرات هى الأخرى غامضة. وثمة اعتبار آخر يجعل من الصعب التحدث فى ثقة عن المراحل الرئيسية فى حياة محمد [صلى الله عليه وسلم] قبل الهجرة، وهو أن القرآن الكريم الذى كثيرا ما يشير إلى أحداث مهمة فى حياة محمد [صلى الله عليه وسلم] والأمة الإسلامية فى المدينة بعد الهجرة، وببعض التفصيل، لا يكاد يذكر شيئا عن الوقائع التى تقول كتب السيرة إنها حدثت فى الفترة المكية.

ومثال ذلك ما ذكرته روايات عديدة عن هجرة بعض أتباع محمد [صلى الله عليه وسلم] من مكة إلى الحبشة. ويتحدث ابن سعد عن هجرتين إلى الحبشة، قائلا إن معظم المهاجرين من الجماعة الأولى عادوا إلى مكة قبل الهجرة إلى المدينة، فى حين كان معظم مهاجرى الجماعة الثانية لا يزالون فى الحبشة وقت الهجرة، وحين

(1) معرفة الرسول [صلى الله عليه وسلم] للقراءة والكتابة اتجاه بدأ يأخذ به عدد كبير من الكتاب مسلمين أنفسهم، ولم يعد أمرًا غريبًا. [هيئة التحرير]

ص: 9121

تركوا الحبشة توجهوا مباشرة إلى المدينة. أما ابن هشام والطبرى فلا يتحدثان إلا عن هجرة واحدة للمسلمين من مكة إلى الحبشة. غير أن كافة هذه الروايات تتفق على أن اضطهاد المسلمين فى مكة كان إلى حدّ كبير وراء قرار محمد [صلى الله عليه وسلم] أجمع إرسال عدد من أتباعه يطلبون المأوى بين مسيحيى الحبشة، أما مونتجومرى وات فيذهب فى كتابه "محمد فى مكة" إلى أن الأمر أكثر تعقيدا مما توحى به الروايات الإسلامية، وأن ثمة ما يوحى بأن نوعا من الخلاف قد دب بين المسلمين ولعب دورًا فى هذه الهجرة، وأن بعض المهاجرين ربما توجه إلى الحبشة لممارسة التجارة، ربما لمنافسة العائلات التجارية الكبيرة فى مكة. ويقول عروة ابن الزبير إن معظم هؤلاء المهاجرين عادوا إلى مسقط رأسهم حين قوى الإسلام بدخول عدد من ذوى النفوذ فيه، مثل عمر بن الخطاب وحمزة.

غير أن ثمة قصة مختلفة عن عودتهم إلى مكة كانت محل جدل كبير. فالطبرى يذكر أنه أثناء تلاوة محمد [صلى الله عليه وسلم] لسورة النجم بحضور عدد من مشركى مكة. وحين وصل فى تلاوته إلى أسماء ثلاثة من آلهتهم المفضلة، وهى اللات والعزى ومناة نطق الشيطان على لسانه جملتين قصيرتين هما:"تلك الغرانيق العلا. وإن شفاعتهن لترتجى"(1) وقد فسر المشركون هاتين الجملتين على أن محمدا [صلى الله عليه وسلم] اعترف بآلهتهم وبجدوى شفاعتها عند اللَّه الذى يعتبرونه كبير الآلهة، فسجد الحاضرون منهم مع المسلمين بعد انتهاء تلاوة السورة بآية {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} وتقول الرواية إن ذلك أدى إلى مصالحة عامة بين محمد [صلى الله عليه وسلم] وأهل مكة وإن المسلمين الذين كانوا قد

(1) لم ترد قصة الغرانيق هذه فى كتب الحديث المعتمدة عند المسلمين السنة، كما لم ترد فى كتاب الكافى للكلينى وهو الكتاب المعتمد عند الشيعة، ولم ترد فى سيرة ابن إسحاق كما يقول مؤلف المقال نفسه، وقد هذبه ابن هشام، أما من أوردها فهو ابن سعد المتوفى 230 هـ/ والطبرى المتوفى 310 هـ. بينما توفى ابن إسحاق -الذى لم يورد هذه القصة- سنة 152 هـ، والواقع أن القصة فى مجملها، وفى تفاصيلها لا تصمد أمام النقد التاريخى.

وقد أورد الأستاذ هيكل فى كتابه حياة محمد ردا تفصيليا على قصة الغرانيق هذه. [التحرير]

ص: 9122

هاجروا إلى الحبشة شرعوا فى العود إلى بلادهم غير أنهم حين عادوا تبينوا أن جبريل [عليه السلام] كان قد أخطر محمدا [صلى الله عليه وسلم] أن جملتى الغرانيق ليستا جزءا من السورة وإنما هما من تلبيس الشيطان، فاضطر المسلمون العائدون إلى طلب حماية بعض العشائر قبل تمكنهم من دخول مكة من جديد.

هذه القصة الغريبة التى نجدها أيضا فى ابن سعد (دون سيرة ابن هشام) يرفضها معظم المسلمين ويرونها اختراعا لاحقا، وإن معظم كتاب السيرة من الأوروبيين يقبلونها على أساس أنه من غير المعقول أن تكون من اختراع المسلمين فى عصور تالية. غير أن هذا السبب غير كاف فى حد ذاته، ولا يمكن قبول القصة كما رواها الطبرى والواقدى وابن سعد كحقيقة تاريخية لأسباب عدة أوردها القرآن الكريم. وإن لم يكن من المستبعد تماما احتمال وجود أصل لها.

غير أن هناك قصة أخرى من الفترة المكية يصعب تفسيرها، وهى قصة مقاطعة بنى هاشم. فقد كانت مساندة عشيرة محمد [صلى الله عليه وسلم] له هى التى وفرت له الحماية أثناء صراعه مع أهل مكة. فمعظم أفراد عشيرته أدوا واجبهم فى شهامة تجاهه، وإن لم يؤمن برسالته إلا القليلون منهم. ويبدو أن عمه عبد العزى (أبا لهب) كان الوحيد ذا النفوذ فى العشيرة الذى عارضه وهى معارضة أضحت من القوة بحيث لعنه القرآن الكريم هو وزوجه فى سورة المسد.

ولذا فقد كان من الطبيعى أن يحاول أهل مكة فى النهاية أن يضعفوا بنى هاشم بأسرهم دون أن يجلبوا على أنفسهم عار إراقة الدماء فى هجوم صريح. غير أن القصة التى تروى كيف اضطروا الهاشميين إلى الانسحاب إلى شعبهم فى مكة، وكيف أقسموا ألا يتزاوجوا أو يتاجروا معهم تبدو مبالغا فيها. وقد اعترفت القصة نفسها بفشل محاولة أهل مكة. ومع ذلك فمن المحتمل أن تكون ثروة خديجة تأثرت تأثرًا شديدا نتيجة التزامات محمد [صلى الله عليه وسلم] تجاه المعوزين من أتباعه، ونتيجة عداء كبار القوم من التجار ذوى النفوذ. ونجد القرآن الكريم هنا أيضا خاليا من

ص: 9123

الإشارة إلى هذه الواقعة التى تعتبرها كتب السيرة حدثا مهما فى حياة محمد [صلى الله عليه وسلم].

وتتزايد الروايات فى المصادر عن أحداث السنوات الأخيرة التى قضاها محمد [صلى الله عليه وسلم] فى مكة وما حولها من القرى قبل هجرته إلى المدينة، وإن كانت الأغراض والمصالح اللاحقتين قد صبغتا الكثير من هذه الروايات. وقد ذكر عروة بن الزبير أن محمدا [صلى الله عليه وسلم] نجح فى استمالة بعض رجال مكة البارزين (ومن بينهم عمر بن الخطاب) إلى رسالته وذلك بعد هجرة عدد من أتباعه إلى الحبشة. ومع ذلك يمكن القول بوجه عام إن محاولته الإصلاح الدينى فى بلدته قد فشلت. وعندما ماتت زوجه خديجة وعمه أبو طالب فى فترة زمنية قصيرة، زاد وضعه حرجًا. وقد كان بإمكانه أن يعزى نفسه بأنه أدى مهمته كنذير، وأن إرادة اللَّه هى التى حالت دون خلاص قومه {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} سورة يونس آية 99، {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} ، سورة الزخرف آية 89. غير أن إحساسه بأنه هو الذى اختاره اللَّه لنشر الدعوة كان قد زاد تدريجيًا قوة إلى درجة أنه لم يستسلم [صلى الله عليه وسلم] ولم يقبل أن يعيش خامل الذكر دون أن يدرك هدفه.

وقد حاول نشر دعوته فى الطائف، غير أن الروايات تذكر أن هذه المحاولة فشلت وعرّض نفسه أثناءها للخطر. وبعد رحلته إلى الطائف شمله رجل من مكة، هو مطعم بن عدى بحمايته حتى يأمن عند عودته إلى بلده، وهى قصة تؤكدها قصيدة لحسان بن ثابت.

وتذهب بعض كتب السيرة إلى أن قصة الإسراء الشهيرة حدثت خلال هذه الفترة العصيبة من حياة محمد [صلى الله عليه وسلم]. ويقص ابن سعد قصة المعراج ثم قصة الإسراء على أنهما حادثتان مستقلتان وقعتا بعد زيارة محمد [صلى الله عليه وسلم] للطائف. بل إنه يذكر تاريخين محددين لهاتين الحادثتين، قائلا إن معراج النبى [صلى الله عليه وسلم] إلى السماء من موقع قرب الكعبة (بين مقام إبراهيم وزمزم) حدث

ص: 9124

فى ليلة السبت 27 من رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرًا، وإن الإسراء به ليلا من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس حدث فى "الليلة السابعة عشرة من شهر ربيع الأول السابق للهجرة. والمعروف أن الروايات المتأخرة تربط بين هاتين القصتين فى سياق واحد. وينبغى أن نذكر أيضا أن روايات أخرى فى كتب السيرة تنسب هذين الحدثين إلى تواريخ متباينة من حياة النبى [صلى الله عليه وسلم] بعد تكليفه بالرسالة.

فابن هشام يذكر الإسراء أولا ثم المعراج ويقول إنهما حدثا قبل وفاة خديجة وأبى طالب. أما الطبرى فلا يورد غير قصة المعراج من المسجد الحرام بمكة إلى السماء الدنيا ثم طواف جبريل به فى كل من السموات السبع، قبل أن يصحبه إلى الجنة. ويذهب الطبرى إلى أن المعراج حدث قبل نهوض محمد [صلى الله عليه وسلم] بدعوة قومه إلى الإسلام. وبربط القصتين إحداهما بالأخرى قيل إن نهاية رحلة الإسراء كانت عند جبل المعبد بالقدس حيث أمَّ محمد [صلى الله عليه وسلم] الأنبياء [عليه السلام] قبله فى الصلاة، ثم عرج إلى السماء من عند نتوء صخرى عالٍ نجده اليوم فى قبة الصخرة الشهيرةً، ثم عاد جبريل ومحمد [عليهما السلام] إلى مكة وانتهت بعودتهما تلك الرحلة الليلية. وقد أدى ارتباط سيرة محمد [صلى الله عليه وسلم] بجبل المعبد فى هذه القصة إلى أن أضحت القدس عند المسلمين ثالث المدن المقدسة بعد مكة والمدينة.

وقد ثابر محمد [صلى الله عليه وسلم] فى سعيه إلى العثور على ميدان جديد لنشاطه خارج مكة رغم استقباله السيئ فى الطائف. فقد تكون تجربة الإسراء والمعراج قد رفعت من معنوياته لو أنها كانت قد حدثت فى تلك الفترة حتى لو أنها كانت بالروح لا بالجسد.

وقد كانت تفد إلى مكة قبائل عديدة لحضور أسواق الربيع والخريف، وكذا لأداء شعائر الحج عند الكعبة، وهو ما هيأ لمحمد فرصا ممتازة كى يحاول العثور على موطن جديد لنفسه ولأتباعه. وبعد عدة مفاوضات فاشلة، وجد تربة طيبة لمطامحه فى بعض

ص: 9125

رجال يثرب (التى سميت فيما بعد بالمدينة). وربما سهل عليه الوصول إلى اتفاق معهم وجود أقارب له فيها. من حسن الحظ أن لدينا معلومات عن الأحوال فى المدينة عشية ظهور الإسلام غير أنها لا تزال معلومات قليلة لا توفر إجابات عن الكثير من الأسئلة المهمة. غير أنه يمكننا أن نفترض أن كثرة عدد اليهود بها ساهمت فى إلمام سكانها العرب بفكرة التوحيد.

وما من شك مع ذلك فى أن أهل المدينة ما كانوا بالراغبين فى اجتذاب نبى (*) إليهم بقدر رغبتهم فى أن يكون بينهم زعيم سياسى يعيد تنظيم علاقاتهم السياسية التى حطمتها النزاعات القبلية البالغة ذروتها يوم بعاث والواقع أن المسئولية التى كان على محمد [صلى الله عليه وسلم] أن يأخذها على عاتقه كانت مسئولية رهيبة. إذ كانت تعنى أنه سيكون مسئولا عن أمن أتباعه وسبل عيشهم وهم الذين سيقطعون صلاتهم بقبائلهم وأسرهم وأنه سيتحمل المسئوليات الجسيمة الملقاة على عاتقه فيما يتعلق بمن سيهاجر معه من أتباعه، كما سيواجه التحدى ألذى تمثله محاولة تسوية النزاعات بين قبائل غير معروفة لديه إلى حد كبير ويحمل بعضها لبعض أحقادا قديمة.

وهنا نلمس مشكلة من أعقد المشاكل فى سيرة محمد [صلى الله عليه وسلم]، ألا وهى الازدواج الذى يواجهنا به. ذلك أن هذا المتحمس الملهم الورع الذى تركزت أفكاره أساسا حول يوم الحساب، والذى تحمل الإهانات والهجوم والذى لم يفكر إلا فى تردد ووجل فى احتمال المقاومة مقاومة إيجابية {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} سورة النحل آية 126، مفضلا أن يترك كل شئ لإرادة اللَّه يصنع ما يشاء، وأنه [صلى الله عليه وسلم] دخل بهجرته إلى المدينة مرحلة دنيوية ظهر فيها سياسيًا عبقريًا فذا. غير أن النقطة الفاصلة هنا هى أن أهل المدينة ما كانوا بكل تأكيد ينشدون

(*) فى الأصل "مصلح دينى ملهم" وهذا نموذج لمصطلح نرى تأثر كاتب المقال فيه بما ساد عصور الإصلاح الدينى فى أوربا فى العصور الوسطى فى حين أن مفهوم النبوة أعم وأشمل من ذلك. [هيئة التحرير]

ص: 9126

الخلاص على يديه من مشاكلهم الاجتماعية والسياسية ما لم تكن قدراته فى هذا المجال قد تركت فى نفوسهم انطباعا عميقا.

وبعد أن أقام محمد [صلى الله عليه وسلم] علاقات مع بعض أهل المدينة القادمين إلى مكة للحج عام 621 م، بدأ هؤلاء فى نشر الإسلام فى المدينة جنبا إلى جنب مع رجال أرسلهم هو إليها. وهكذا تمكن بعد اجتماع تمهيدى فى العقبة من أن يعقد خلال حج العام التالى (سنة 622 م) وفى المكان ذاته، اتفاقا رسميا مع عدد كبير من أهل المدينة، تعهدوا فيه نيابة عن مواطنيهم أن يأخذوه عندهم وأن يحموه حمايتهم لأى منهم، وهو تعهد يسرى أيضا كما أوضح التاريخ اللاحق- على أتباعه المكيين متى هاجروا إلى المدينة. ولا شك فى أن الروايات مصيبة إذ لم تذكر سوى وعد أهل المدينة بحماية محمد [صلى الله عليه وسلم] دون التزام بأمر سواه.

وما كان بالوسع أن تبقى هذه المفاوضات سرا على أهل مكة. فما علموا بها حتى أثارت مرارة شديدة، وبدأت على حد قول عروة- فتنة ثانية تعرض لها المؤمنون، لابد أنها ثبتت عندهم قرار الهجرة إلى المدينة. وقد ذكر أنهم تسللوا فى جماعات كبيرة أو صغيرة حتى لم يبق بمكة سوى محمد [صلى الله عليه وسلم] وأبى بكر وخادم لأبى بكر. وتقول روايات أخرى قد تكون شيعية إن عليا أيضا بقى فى مكة حتى اللحظة الأخيرة. والأرجح أن يكون تخلف محمد عن الآخرين جزءا من خطته أن تبقى الهجرة غير ملحوظة قدر الإمكان.

ومن الصعب أن نقدر مدى استطاعة قادة مكة أن ينجحوا لو أنهم شاءوا منع محمد [صلى الله عليه وسلم] وأتباعه من الخروج، والراجح أن أهل مكة وقت الهجرة لم يكونوا يرون فى محمد [صلى الله عليه وسلم] خطرا عليهم سواء بقى فى مكة أو رحل إلى المدينة. أما عن الرواية التى أضيفت إليها فيما بعد تفاصيل والتى تقول إن محمدًا [صلى الله عليه وسلم] وأبا بكر بقيا فى مكة حتى غادرها غيرهما من المسلمين آمنين، ثم اختبآ فى غار بالطريق، فقد نجد لها سندا فى الآية 40 من سورة التوبة، {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ

ص: 9127

{الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} .

* * *

لقد كان المسلمون على حق إذ اتخذوا من سنة هجرة محمد [صلى الله عليه وسلم] وأتباعه من موطنه بمكة إلى يثرب (المدينة، أو مدينة النبى)، بداية لتقويمهم. فقد كانت بداية مرحلة دامت عشر سنوات من حياة محمد [صلى الله عليه وسلم] أسس خلالها مجتمعا دينيا جديدا نما فى فترة قصيرة للغاية فأضحى نواة إحدى الحضارات الكبرى فى تاريخ العالم.

وقد وصل محمد [صلى الله عليه وسلم] إلى قباء (وهى من ضواحى المدينة) يوم 12 من ربيع الأول من العام الهجرى الأول (24 سبتمبر عام 622 م).

وقد فرضت المهام التى كانت تنتظره عبئا عظيما تطلب قدرات دبلوماسية وتنظيمية كبيرة، فأثبت أنه كفء لمجابهة التحدى من جميع الوجوه.

لم يكن بوسع محمد [صلى الله عليه وسلم] فى البداية أن يعتمد فى ثقة إلا على أولئك الذين هاجروا معه من مكة (وهم من سموا بالمهاجرين) وقد بات لهؤلاء الأتباع المخلصين -الذين بقوا على ولائهم لمحمد [صلى الله عليه وسلم] وعلى إيمانهم بقضيته خلال الأعوام المكية العصيبة- مكانة خاصة بين المسلمين. وقد دخل الإسلام بعض أهل المدينة قبل وصول محمد [صلى الله عليه وسلم] إليها، غير أنهم كانوا يشكلون نسبة صغيرة من سكان يثرب. وقد اعتنق أهل المدينة الإسلام، بطيئا فى بادئ الأمر، ثم فى أعداد أكبر. وقد سمى أولئك الذين أسلموا منهم أثناء حياة محمد [صلى الله عليه وسلم] بالأنصار وباتت لهم أيضا مكانة خاصة داخل الأمة الإسلامية لا يعلوها غير مكانة المهاجرين. ولم يصادف محمد [صلى الله عليه وسلم] معارضة مباشرة من قبل القبائل العربية فى المدينة إلا من بضع عشائر مثل أوس اللات. غير أنه كان ثمة عدد من الناس لم يعارضوه صراحة، وإن لم يقبلوا العلاقات الجديدة إلا على مضض. وكان من بين هؤلاء فئة أكثر إزعاجا للمسلمين من غيرها، التفت حول رجل من الخزرج هو عبد اللَّه بن

ص: 9128

أبى الذى ما كان يغفل كل فرصة بوسعه انتهازها من أجل إضعاف مركز محمد [صلى الله عليه وسلم].

كان ثمة خطر آخر يتمثل فى استمرار جذوة النزاع القديم المرير بين الطائفتين الرئيسيتين بالمدينة، وهما الأوس والخزرج، وكان يمكن للنار أن تشتعل من جديد فى أية مناسبة.

وبالإضافة إلى القبائل العربية فى المدينة، كان هناك عدد من الجماعات اليهودية، وأهمها "الكاهنان" أى بنو النضير وبنو قريظة. ومن بين الجماعات اليهودية الأخرى كان بنو قينقاع فيما يبدو أهمها. وقد لعبت هذه القبائل اليهودية الثلاث دورا بارزا فى حياة المدينة بفضل ثرائها وبفضل ما كانت تلقاه من تأييد المستعمرات اليهودية فى خيبر والمستوطنات الأخرى فى الشمال. وقد كرس محمد [صلى الله عليه وسلم] خلال عامه الأول فى المدينة جهدا كبيرا من أجل أن يقبل هؤلاء السكان اليهود المتكلمون بالعربية دعواه أنه رسول اللَّه. أما عن علاقاته بالمسيحيين فى المدينة فلا يمكن تخمين طبيعتها إلا من الإشارات الواردة فى القرآن الكريم إليهم. وبعد أن أصبح واضحا أن يهود المدينة لن يقبلوا دعواه النبوة، وردت بالقرآن آيات تعطى انطباعا بأن رأيه فى النصارى أضحى بالتدريج أكثر تعاطفا، {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} سورة المائدة 82 و 83، {. . . وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً. . .} سورة الحديد آية 27.

وكان على محمد [صلى الله عليه وسلم] أن يكون جماعة متآزرة من هذه العناصر المختلفة. وكانت أولى المشاكل كيفية توفير الوسائل اللازمة لإعاشة المهاجرين الذين كان معظمهم لا يملك شيئا. وقد خفف من حدة هذه المشكلة، بصورة مؤقتة على الأقل، مؤاخاة

ص: 9129

محمد [صلى الله عليه وسلم] بين كل مهاجر ورجل من المدينة، غير أن الآية السادسة من سورة الأحزاب التى نزلت بعد موقعة بدر تفسر عادة على أنها إلغاء للمؤاخاة، على الأقل فيما يتعلق بالمواريث، {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} .

وقد يكون من بين الاعتبارات الأكثر أهمية فى إلغاء هذه الترتيبات الأولى بالمدينة الاتفاق الذى أبرمه محمد مع كافة القبائل والعشائر المهمة. ومن حسن الحظ أن ابن اسحاق حفظ لنا وثيقة بالغة الأهمية خاصة بهذا الاتفاق، تسمى عادة بدستور المدينة. ويبدو أن هذه الوثيقة لا تنتمى إلى عام محمد [صلى الله عليه وسلم] الأول فى المدينة كما زعم البعض، حيث إنها تعكس التوتر اللاحق الذى طرأ على علاقة النبى [صلى الله عليه وسلم] بالأطراف اليهودية فى التسوية. وينم الاتفاق عن مواهب محمد [صلى الله عليه وسلم] الدبلوماسية العظيمة، إذ يضع فيه الاعتبارات العملية فى المقام الأول. صحيح أنه نص على أن الأمر للَّه ولرسوله يفصلان فى كافة الشؤون المهمة، غير أن الأمة كانت تشمل يهودا ووثنيين مما دعا إلى الاحتفاظ إلى حد كبير بالأشكال القانونية عند قبائل العرب القديمة. ولكن المواد التى نصت عليها هذه الوثيقة لم يكن لها مع ذلك أهمية عملية كبيرة ولم يذكرها القرآن البتة رغم قول بعض المفسرين إن الآية 56 من سورة الأنفال تشير إليها {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} . وعلى أى الأحوال فقد باتت غير ذات موضوع بسبب التغير السريع الحاسم الذى طرأ على الأحوال فى المدينة.

ومن دلائل حكمة محمد [صلى الله عليه وسلم] السياسية محاولاته الأولى فى المدينة استمالة اليهود هناك إلى دعوته بتأكيده على وجود أمور مشتركة بين العبادات اليهودية والعبادات الإسلامية. فقد فرض مثلا صوم العاشر من محرم على المسلمين، وكان فيما يبدو -صوما

ص: 9130

ليوم واحد على مدى أربع وعشرين ساعة، كصوم اليهود فى يوم الكفارة، وهو العاشر من شهر تشرى فى التقويم اليهودى. ويدلنا على أن هذه الشعيرة الإسلامية المؤقتة التى يبدو أنها لم تستمر إلا عاما واحدا مستمدة من عادة يهودية، فمجرد اسمها وهو "عاشوراء" المشتق من اللغة الأرامية والذى يطلقه بعض يهود شبه الجزيرة على يوم الكفارة يدل على ذلك.

أما صلاة الجماعة الأسبوعية الإسلامية، وهى التى ربما تكون قد فرضت قبل وصول محمد [صلى الله عليه وسلم] إلى المدينة فهى تشبه ما يسمى عند اليهود بيوم الاستعداد للسبت وهو يوم يبدأ مساء يوم الجمعة عند غروب الشمس. ولذا فقد كان الجمعة فى المدينة فى زمن محمد [صلى الله عليه وسلم] هو يوم السوق الأسبوعية الرئيسى، وفيه يتوافد على المدينة أكبر عدد من المسلمين من المناطق المجاورة، فيصبح أنسب الأوقات لاجتماع المسلمين فى صلاة جامعة.

وأما عن استقبال القدس الواقعة إلى الشمال أثناء الصلاة (وهو ما توقف بعد العام الأول من إقامة محمد [صلى الله عليه وسلم] بالمدينة)، فإنه ليس من المؤكد ما إذا كان القصد منه استمالة يهود المدينة إلى الإسلام، حيث إن الروايات تختلف بصدد قبلة المسلمين فى مكة قبل الهجرة، ومن المستبعد أن يكون محمد [صلى الله عليه وسلم] وأتباعه قد اتخذوا الكعبة قبل الهجرة قبلة لهم، وإلا لكان من الصعب تفسير اختلاف الروايات بصدد هذا الموضوع. فإن كان محمد وأصحابه يستقبلون بيت المقدس فى صلواتهم قبل الهجرة فإن هذا لا يعنى بالضرورة اقتداء باليهود حيث إن بيت المقدس كان القبلة فى صلاة جماعات أخرى فى الشرق الأدنى. وربما كان المسلمون يستقبلون الشرق فى صلواتهم بمكة شأن بعض الجماعات المسيحية [قبل تحول القبلة للقدس ثم للكعبة المشرفة].

أو ربما لم تكن لديهم قبلة على الإطلاق. وليس بالقرآن الكريم أى ذكر لهذه النقطة الفاصلة فى حياة النبى وفى نشأة الإسلام. وقد يكون من الأفضل قبول افتراض أن يكون المسلمون اتخذوا من بيت المقدس قبلة لهم خلال عام محمد [صلى الله عليه وسلم] الأول فى المدينة كممارسة مؤقتة.

ص: 9131

فإن كان البعض قد رأى فى مبادرته على الفور بإقامة مكان للعبادة تقليدا لكنيس اليهود، فقد أورد كايتانى أسبابا قوية لاعتقاده أن هذا المكان لم يكن مبنى مخصصا للعبادة وحدها، حيث إن ما يسمى بالمسجد كان يستخدم أيضا فى أغراض دنيوية شتى، وكان فى الواقع مجرد دار يسكنها محمد [صلى الله عليه وسلم] وأسرته، بينما كان الاجتماع للصلاة يتم فى المصلَّى. ومع ذلك فإن ما يسمى بمسجد ضرار فى الآية 107 من سورة التوبة {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} ، يبدو أنه كان كبناء شبيهًا بالكنيس اليهودى.

ورغم التشابه بين الإسلام واليهودية -كديانتى توحيد- فى بعض النقاط إلا أنه بدا واضحًا أن رغبة محمد [صلى الله عليه وسلم] فى إسلام يهود المدينة لن تتحقق. فمع أنهم كانوا يتوقعون فى لهفة ظهور المسيح، فما كانوا على استعداد للاعتراف لعربى بأنه المسيح اليهودى الذى ينتظرونه منذ أمد طويل. وما لبث محمد [صلى الله عليه وسلم] أن نعى على اليهود أنه لم يؤمن برسالته منهم غير نفر قليل، {. . . وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} سورة آل عمران آية 110. ونذكر بالأخص أن الاختلاف بين ما كان يتلوه من آيات يذهب إلى أنها مطابقة للكتاب الذى أنزل -من قبل- على موسى النبى عليه السلام، وبين ما كان يهود المدينة يعرفونه من كتابهم المقدس، أثار سخرية اليهود، خاصة أنه كان كثيرًا ما استشهد فى الماضى بأولئك الذين أوتوا الكتاب من قبل بحيث لم يستطع الآن أن يتجاهل هذا النقد.

فأكد القرآن أن اليهود لم يتلقوا غير جزء من الكتاب {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} سورة النساء آية 44، {هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} سورة آل عمران آية 119. وذهب إلى

ص: 9132

أنه حتى هذا الجزء الذى تلقوه يحوى عددًا من القوانين الخاصة التى وضعت لتناسب عصرًا ولّى، {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} سورة النساء آية 160، {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} سورة الأنعام آية 146، {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} سورة النحل آية 118. وقد تحدّاهم أن يظهروا توراتهم {. . . قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} سورة آل عمران آية 93، {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. .} سورة النساء آية 46. ثم اتهم معارضو محمد [صلى الله عليه وسلم] فى المدينة بإخفاء أجزاء من كتابهم المقدس، {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة البقرة آية 42، {. . . وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} سورة البقرة آية 146، {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} سورة البقرة آية 159، {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ. . .} سورة البقرة آية 174، إلى آخره. بل واتهمهم بوضع آيات والزعم بأنها فى كتابهم المقدس، {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ. . .} سورة البقرة آية 59، {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. . .} سورة النساء آية 41، كذلك فقد اتجه إلى الاعتقاد بأن كتاب النصارى المقدس لم يحفظ الرسالة ولا تعاليم النبى عيسى عليه السلام كما كانت فى الأصل.

ومع ذلك فقد ظل محمد [صلى الله عليه وسلم]، كما كان فى الماضى لا يفكر إلا فى إصلاح الديانتين السابقتين وهداية مشركى قريش دين جديد وإنما كان سعيه منصبا على إعادة الديانة الحقة التى نادى بها الأنبياء [عليهم السلام] منذ البداية. ومن الواجب حول هذه النقطة أن نميز بين المعتقدات الدينية والصياغات

ص: 9133

الثيولوجية اللاحقة من جانب، وبين النتائج التى تتوصل إليها البحوث التاريخية والاجتماعية من جانب آخر.

فالمعتقد الإسلامى مثلا هو أن محمدًا "آخر وأعظم الأنبياء" وهو اعتقاد من الراجح أنه يقوم على تفسير لاحق لتعبير "خاتم النبيين" الذى وصفت النبى به الآية 40 من سورة الأحزاب. كذلك فإنه ينظر إليه لا باعتباره "مؤسسا" بل مصدقا ومعيدا لبناء صرح عقيدة التوحيد القديمة الحقة التى نادى بها النبى إبراهيم. [عليه السلام] وليس من المستغرب أن نجد المؤرخين ينظرون إلى بدء ورود هذه الأفكار فى القرآن خلال السنوات الأولى بعد الهجرة باعتباره بداية لنشأة جماعة دينية جديدة. ويبدو أن معارضة يهود المدينة له كان لها -بالأخص- تأثير كبير فى وضوح صورة الإسلام كدين متميز. ففى تلك المرحلة بالذات، ونتيجة لرفض اليهود الإيمان به، أضحى للجماعة الإسلامية الناشئة طابع خاص واضح. وقد حدث تغير حاسم فى مجرى الإسلام فى السنة الثانية للهجرة (يوليو 623 - يونيو 624 م). وكانت بداية هذا التغير "تحويل قبلة الصلاة" من القدس إلى الكعبة فى مكة، وهو ما تحدث عنه القرآن الكريم فى الآيات 142 - 145 من سورة البقرة: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ

ص: 9134

مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}. وهكذا أضحت مكة موطنه محور الدين الحق، وقبلة الصلوات اليومية، كما أصبحت الوجهة المنشودة للحج السنوى.

وقد أدى ربط الإسلام بأمة العرب إلى إضفاء الشرعية على محمد [صلى الله عليه وسلم] وتوسيع سلطانه إذ يظهر بمظهر الداعى إلى إعادة ملة إبراهيم [عليه السلام] التى أفسدها اليهود والنصارى. فقد غدا إبراهيم الآن الذى يزعم اليهود والنصارى معا أنه أصل عقيدتهم، الحنيف الأكبر وأول المسلمين، عكس الوثنيين، بل والآن عكس أهل الكتاب. {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا. . .} سورة آل عمران آية 67، {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} سورة البقرة آية 135، {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} سورة آل عمران آية 95، وغير ذلك من الآيات التى يبدو أنها نزلت فى السنوات الأولى بعد الهجرة إلى المدينة. ثم قيل بعد ذلك إن إبراهيم وإسماعيل الذى يعتبر أبًا للعرب، قاما ببناء الكعبة ووضعا الشعائر التى تقام فيها، {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} سورة البقرة الآيات 125 -

ص: 9135

132.

وكان على محمد أن يعيد الشعائر القديمة إلى أصلها من التوحيد بعد أن أفسدها المشركون. وليس بوسعنا أن نقطع بصدد ما إذا كان اعتبار إبراهيم أول الموحدين فكرة حين اختلف محمد مع يهود المدينة، أو أنها كانت قائمة بالفعل بين اليهود المستعربين مثلًا. وتقول الآية 65 من سورة آل عمران إن أهل الكتاب عارضوا الفكرة {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} .

وبينما كانت هذه التطورات المهمة تجرى فى شعائر الإسلام، كان مركز محمد [صلى الله عليه وسلم] الشخصى يتغير تدريجيًا بتغير الظروف. وقد ذكر دستور المدينة الذى أشرنا إليه أن كافة الأمور المهمة ينبغى أن يرجع فيها إلى اللَّه ورسوله. فأصبح الآن لزاما على المؤمنين إطاعة اللَّه والرسول، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} سورة آل عمران آية

132، {. . . وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} سورة النساء 13 و 14، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. .} سورة النساء آية 59. كذلك أصبح الآن لزامًا عليهم جنبًا إلى جنب مع الإيمان باللَّه "الإيمان" بالرسول، {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} سورة الفتح آية 9، {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا. . .} سورة التغابن آية 8. واللَّه هو مولى النبى، وكذا جبريل، والملائكة تؤازره {. . . وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} سورة التحريم آية 4.

وقد فرض اعتبار مكة مركز الدين على محمد [صلى الله عليه وسلم] مهمة جديدة لاشك أنه توقعها. فما دامت زيارة الأماكن المقدسة فى مكة وما حولها واجبًا على المسلمين الذين رفض أهل مكة السماح لهم بدخولها، فقد أضحى محتما البحث عن

ص: 9136

وسيلة تجبر المكيين على الإذن لهم بالدخول، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} سورة الحج آية 25. وقد جاء الدخول إثر صدور أمر إلهى جديد تسميه كتب السيرة "الإذن بقتال المشركين" (*). فأما عن الأنصار فلم يكونوا ملزمين بغير الدفاع عن محمد [صلى الله عليه وسلم] لو أنه هوجم، ولم يكن كفار مكة على استعداد لإرضائه بالبدء بالهجوم عليه، صحيح أن المهاجرين لم يكونوا مقيدين بهذا الشرط، غير أن مشاعرهم العربية كانت تأبى عليهم أن يحاربوا أبناء قبيلتهم وأقرباءهم. وقد ضايقته اعتراضاتهم إلى حد جعله يعاتب أتباعه عتابًا قويًا -وهنا جاء قول اللَّه تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} سورة البقرة آية 216، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} سورة الحج الآيات 38 - 40.

وبعد إرساله لأشخاص مختلفين بجماعات صغيرة مسلّحة لم تفلح فى لقاء العدو، أرسل بعض أتباعه إلى نخلة حيث نجحوا فى الاستيلاء على غنائم قافلةء وقتلوا أحد المكيين، ربما عن غير قصد، رغم أنهم كانوا فى شهر رجب أحد الشهور المقدسة التى حُرّم فيها القتال. وقد أرسلت الغنيمة الوفيرة إلى المدينة حيث هبت عاصفة من الغضب تركها محمد [صلى الله عليه وسلم] حتى هدأت، ثم طمأنهم بالآية 217 من سورة البقرة {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ

ص: 9137

قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ. . .}.

وكان لنجاح الغزوة من الأثر فى المدينة أن عرض الأنصار -لا المهاجرون وحدهم- خدماتهم حين دعا محمد [صلى الله عليه وسلم] أتباعه فى رمضان من العام الثانى للهجرة إلى غارة جديدة يقودها بنفسه. ذلك أنه علم أن قافلة مكية وافرة السلع كانت فى طريقها عائدة من الشام فقرر رصد كمين لها عند بدر. غير أن أبا سفيان الحذر الذى كان يقود القافلة علم بخطة محمد [صلى الله عليه وسلم]، وبعث برسله مسرعين إلى مكة يطلب النجدة. وقبل أن يصل جيش مكة ويعسكر عند بدر، كانت القافلة قد وصلت مكة آمنة بعد اتخاذها طريقا جانبيا محاذيا للساحل. وقد أغضب ذلك أهل مكة وعلى رأسهم أبوجهل أحد السادة المكيين البارزين. ويقال: إن جيشهم كان ثلاثة أضعاف عدد جيش محمد [صلى الله عليه وسلم] الذى قيل: إنه كان من نحو ثلاثمائة رجل. وما كان أهل مكة ليضيعوا هذه الفرصة دون إنزال العقاب بعدوهم. وبعد نزول المكيين بمعسكرهم قرب بدر بقليل، وصل محمد [صلى الله عليه وسلم] وأصحابه متوقعين أن يجدوا قافلة أبى سفيان العزلاء. وحين تبين لهم أن القافلة قد هربت وأنهم بصدد مواجهة حربية وشيكة مع أهل مكة وحلفائهم، انتابهم الفزع، {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} سورة الأنفال الآيات 5 - 10. وقد رأى محمد [صلى الله عليه وسلم] فى هذا اللقاء إرادة اللَّه الذى شاء أن يفرض على المشركين حربًا، وقد قتل فى الموقعة عدد من أهل

ص: 9138

مكة، من بينهم أبو جهل، بينما أسر عدد آخر منهم العباس عم النبى [صلى الله عليه وسلم] وسيقوا أسرى إلى المدينة حيث أمر محمد [صلى الله عليه وسلم] بقتل اثنين منهم هما: النضر بن الحارث وعقبة بن أبى معيط، وعرض إطلاق سراح الآخرين مقابل الفدية.

وقد أضحى لموقعة بدر هذه التى قد تبدو لأعيننا صغيرة غير ذات شأن، أهمية كبرى فى تاريخ الإسلام. وقد رأى محمد [صلى الله عليه وسلم] فى هذا النصر تأكيدا قويا لإيمانه بوحدانية اللَّه وبرسالته، {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سورة الأنفال آية 17، {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} سورة الأنفال آية 65، {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} سورة آل عمران آية 123. وحيث إن مدينة مكة التجارية كانت تتمتع بسمعة عظيمة فى شبه الجزيرة العربية، كان لابد للمنتصر على قواتها فى معركة أن يجذب اهتمام الكافة إليه. ولذا فقد رأى محمد [صلى الله عليه وسلم] نشاطا أكبر من ذى قبل واستطاع أن يستغل المزايا التى أحرزها. فبعد أن وضع ترتيبات افتداء الأسرى من أهل مكة، بدأ فى محاصرة قبيلة بنى قينقاع اليهودية فى حصونها. ولم يجرؤ المنافقون أن يعارضوه معارضة جادة بإبداء تأييدهم لبنى قينقاع صراحة، فى حين تخلت الجماعات اليهودية الأخرى عن إخوتهم فى الدين، فاضطرت هذه القبيلة اليهودية الأولى إلى ترك المدينة، وهاجروا إلى مستوطنات يهودية أخرى فى الشمال، {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} سورة الحشر آية 14.

ولكى يحمى نفسه وأتباعه من هجمات عدو آخر فى الجزء الشمالى من الحجاز، انتهج محمد [صلى الله عليه وسلم] فى تلك الفترة خطة هى دليل آخر على قدراته

ص: 9139

السياسية العظيمة. فقد أبرم تحالفات مع عدد من قبائل البدو تلزم كلا من الطرفين بمساعدة الطرف الثانى.

وفى العام الثالث الهجرى (624 - 635 م) واصل محمد [صلى الله عليه وسلم] هجومه على قوافل مكة مما رأت قريش معه فى النهاية ضرورة اتخاذ إجراءات أقوى والثأر لأنفسهم من هزيمة بدر. لذلك أعدت جيشا قيل إنه من ثلاثة آلاف رجل خرج فى مظاهرة كبيرة قاصدا المدينة بقيادة أبى سفيان الذى كان واضحًا أنه بات أبرز زعماء مكة بعد وفاة أبى جهل. ورغم أن عددًا من أصحاب محمد [صلى الله عليه وسلم] نصحوه بأن يقيم دفاعه داخل حدود المدينة، فقد قرر الخروج بقواته التى نقص عدد أفرادها بدرجة كبيرة، وفى اللحظة الأخيرة حين انسلخ عنها المنافقون، والتى استقرت عند سفح تل أُحد. وقد كان النصر فى البداية حليف المسلمين رغم التفوق العددى لجيش مكة، بيد أنه ما إن ترك عدد من الرماة المسلمين الذين كانوا يحمون جناح جيشهم مكانهم على التل -مخالفين بذلك أمرًا مشددًا من محمد [صلى الله عليه وسلم] لمطاردة بعض مقاتلى مكة، بدوا وكأنهم يتقهقرون، حتى تمكن خالد بن الوليد، ذلك الاستراتيجى العسكرى الحاذق، من أن يحتل موقعا ممتازا عند سفح أحد، عندئذ انقلبت الأوضاع، وشروع الكثير من المسلمين فى الهرب خاصة حين انتشرت إشاعة مقتل النبى [صلى الله عليه وسلم]{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ. . .} ، سورة آل عمران آية 144. والحقيقة أنه جرح فحسب واستطاع النجاة مع عدد من أتباعه المخلصين عن طريق وادٍ عند السفح الجنوبى للتل. كان من حسن حظه أن المكيين لم يصلوا نصرهم بمطاردة المنهزمين، إذ اعتقدوا أنهم عاقبوا محمدا [صلى الله عليه وسلم] بما فيه الكفاية وأنقذوا سمعتهم، فانصرفوا عائدين سريعا إلى مكة. وهكذا نجا النبى [صلى الله عليه وسلم] من مصير رهيب، وإن كان قد فجع فى كثير من أصحابه الذين قتلوا فى المعركة، ومن بينهم عمه حمزة، وقد حاول بكل ما أوتى من فصاحة أن يرفع من معنويات أتباعه سواء بالنصح أو بالتقريع، وقد نزلت فى هذه

ص: 9140

المناسبة: الآيات 118 و 120 - 122 من سورة آل عمران وكذلك الآيات 139 - 154 من السورة ذاتها.

وقد نجح محمد [صلى الله عليه وسلم] فى أن يحول دون وقوع عواقب سلبية فى المدينة لهزيمة أحد. غير أن بعض يهود المدينة الذين لم يشتركوا فى القتال لم يخفوا فرحهم بما أصاب محمدا. لذلك كان من الضرورى أن يجعل منهم عبرة للآخرين، ووجد قبيلة يهودية ثانية بالمدينة، هى بنو النضير، هدفا مناسبا، إذ أقدموا على تصرف بررّ ما صنعه بهم. ورغم أن الروايات تنسب إليهم ارتكاب جرائم مختلفة، فإنه من الصعب أن نحدد بالضبط ما اقترفوه. فالآية 4 من سورة الحشر تكتفى باتهامهم بأنهم {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وقد اضطروا بعد حصار عدة أسابيع إلى الهجرة من المدينة إلى خيبر وغيرها من المستوطنات اليهودية فى الشمال، مخلفين وراءهم أسلحتهم وذهبهم وفضتهم غنيمة وفيرة، احتفظ بها النبى (*) فى هذه المناسبة لنفسه ولم يوزعها، {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} سورة الحشر الآيات 6 - 8.

وبينما كان محمد [صلى الله عليه وسلم] يحاول استعادة سلطته التى أضعفتها هزيمة أحد، دهمه ودهم المدينة خطر جديد مصدره مكة. فقد أدركت قريش التى

(*) حسبما يتضح من سياق الآيات الكريمة 6 - 8 من سورة الحشر والتى أوردها المستشرق ذاته فإن النبى [صلى الله عليه وسلم] لم يحتفظ بعلك الغنائم لنفسه وإنما وزعت حسب الأمر الإلهى الوارد فى الآيات. [التحرير]

ص: 9141

كان لا يزال يهاجم قوافلها والتى كان يهود خيبر يستحثونها أن نصر أحد لم يضعف مركز محمد [صلى الله عليه وسلم] بالقدر الكافى، وأدركت ضرورة احتلالها للمدينة، وهو ما كان ينبغى عليها القيام به فور انتصارهم فى أحد. وقد أدى شعورهم بضعف كفاءتهم الحربية وهم التجار قليلو الخبرة بالقتال، إلى الجد فى التفاوض مع قبائل شتى من البدو، مما مكنهم من حشد جيش كبير قيل إنه كان مؤلفا من عشرة آلاف مقاتل. وساروا عام 5 هـ/ 626 - 627 إلى المدينة. وقد تعددت الروايات عن الفصل الذى حدثت خلاله الغزوة، إذ يقول بعضها إنها كانت بعد شهر من جمع محصول الشعير، بينما يتحدث البعض عن أن الجو وقتها كان شتويا باردا عاصفا. والقول الثانى تؤيده قصيدة لحسان بن ثابت والآية التاسعة من سورة الأحزاب:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا. .} . ويمكن التوفيق بين هاتين الروايتين بالقول باحتمال أن يكون الحصار قد استمر زمنا طويلا.

وقد أثار زحف هذا الجيش الهائل وجلا عظيما فى المدينة، زاد منه موقف المنافقين المتذبذب، واكتشاف تآمر بين اليهود والعدو، أو ربما كان مجرد شك {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} الأحزاب 10 - 13. {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} الأحزاب الآيات 26 و 27.

ولكى يقوى محمد [صلى الله عليه وسلم] من دفاعه

ص: 9142

أمر بحفر خندق -وخندق كلمة فارسية- حيال المناطق العارية من الدفاع فى المدينة ولا تذكر سيرة ابن هشام أن فكرة الخندق كانت فكرة سلمان الفارسى. غير أن ثمة روايات أخرى تقول إن سلمان اقترح على محمد [صلى الله عليه وسلم] حفر الخندق الذى يقال إنه من الاستراتيجيات العسكرية الفارسية. ورغم بساطة الخندق تبين أنه كان حائلًا كافيا دون عبور العدو قليل الخبرة بمثل هذه الفنون الحربية، مما أطال تدريجيا من أمر الحصار. وقد استغل محمد [صلى الله عليه وسلم] الوقت فى إجراء مفاوضات سرية مع قبيلة غطفان، وبذر بذكائه بذور الشقاق والشك بين صفوف أعدائه. وعندما ساءت الأحوال الجوية ألقى فى أيدى العدو المحاصر فشرع تدريجيا فى الانسحاب. وهكذا فشلت آخر محاولة لقريش لهزيمة محمد عن طريق استخدام القوة.

غير أن غزوة الخندق هذه التى تكاد تكون خالية من الأحداث المثيرة، كانت مأساة دموية بالنسبة لجماعة من سكان المدينة. ذلك أنه ما انسحب المكيون وحلفاؤهم حتى أعلن النبى [صلى الله عليه وسلم] الحرب على آخر قبيلة يهودية كبيرة فى المدينة، وهى قبيلة بنى قريظة، وبدأ فى حصار قلاعهم. وإذ أدرك اليهود حرج موقفهم، طمعوا فى النجاة على نحو نجاة بنى النضير وبنى قينقاع خاصة أن حلفاءهم من قبيلة الأوس القوية كانوا يحاولون جاهدين إقناع محمد [صلى الله عليه وسلم] بانتهاج سبيل الرحمة معهم. غير أنه فى هذه المرة لم يقبل التساهل معهم على نحو ما فعل مع القبيلتين الأخريين. ويقول ابن هشام إن كافة الرجال -وعددهم ما بين ستمائة وتسعمائة ضربت أعناقهم بناء على مشورة سعد بن معاذ، وهو من الأوس، وأن أموالهم قسمت بين المسلمين، وأسر نساؤهم وأطفالهم. اقترب النبى [صلى الله عليه وسلم] من إرساء دعائم أمة على أساس دينى محض. ومع ذلك فقد أذن لبعض اليهود من عشائر أخرى بالبقاء فى المدينة.

وقد كان فشل حصار أهل مكة للمدينة، واستئصال تلك القبيلة من اليهود التى كانت آخر قبائلهم الكبيرة

ص: 9143

فيها، إحدى نقاط التحول الرئيسية فى حياة محمد [صلى الله عليه وسلم] فى نشأة الأمة الإسلامية فنحن نعلم أنه بعد نحو ستة أشهر من وصوله إلى المدينة أرسل أول جماعة مغيرة مسلمة بقيادة عمه حمزة لمهاجمة قافلة مكية. وقد واصل منذ ذلك الحين مهاجمة القوافل المكية حتى حدثت غزوة الخندق وحتى استأصل بنى قريطة فتوقفت هذه الهجمات ووجه النبى [صلى الله عليه وسلم] اهتمامه إلى الشمال. وقد قاد النبى [صلى الله عليه وسلم] بنفسه غزوتين من تلك الغزوات فى الشمال، إحداهما ضد بنى لحيان فى بداية العام السادس الهجرى (منتصف 627 م) وانتهت دون أى قتال والأخرى وهى الأشهر -ضد بنى المصطلق، وقد حدثت فى طريق العودة منها القصة المشهورة عن عائشة وحديث الإفك الذى هدد بقاءها زوجة للنبى لولا الآيات القرآنية التى برأتها:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} سورة النور آية 4؛ {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} سورة النور آية (11) والأهم من ذلك فيما يتعلق ببدايات تاريخ الإسلام، هو أن قصة عائشة هذه تسببت فى نشوء صراع خطير فى صفوف المهاجرين البارزين كما تسببت فى صراع بين المهاجرين والأنصار استمر حتى ما بعد وفاة محمد [صلى الله عليه وسلم]. وقد يفسر لنا هذا الهرج السياسى عقب غزوة بنى المصطلق حقيقة أن هذه الغزوة المهمة التى قادها محمد [صلى الله عليه وسلم] تختلف المصادر فيما بينها اختلافا كبيرا حول تاريخها فابن هشام يؤكد أن هذه الغزوة حدثت فى الشهر الثامن (شعبان) من العام السادس الهجرى بعد غزوة ذى قرد (المسماة أيضا بغزوة الغابة)، التى يذكر عادة أنها الغزوة التاسعة عشرة التى يقودها النبى [صلى الله عليه وسلم] بنفسه، فى حين ينقل ابن سعد عن الواقدى أن غزوة بنى المصطلق حدثت فى شعبان من العام الخامس الهجرى بعد غزوة دومة الجندل التى يذكر عادة أنها غزوة محمد [صلى الله عليه وسلم] الخامسة عشرة. وهذا الاختلاف يثبت صعوبة أو استحالة

ص: 9144

الوصول إلى ترتيب زمنى دقيق للأحداث فى حياة محمد [صلى الله عليه وسلم] وحتى فيما يتعلق بالفترة المدنية التى يتوفر لدينا كثير من الأخبار عنها.

وقرب نهاية العام السادس الهجرى رأى محمد [صلى الله عليه وسلم] أن مركزه فى المدينة أصبح من الثبات بحيث يمكنه الإقدام على خطوة أكبر. لقد كان هو وأتباعه لا يزالون ممنوعين من زيارة مكة والأماكن المقدسة بها. غير أنه علم عن طريق عيونه فى مكة -وربما كان عمه العباس من بينهم- أن المشاعر فى مكة بدأت تتحول تدريجيا فى جانبه {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} سورة الممتحنة آية 7.

وفى شهر ذى القعدة من العام السادس (مارس 628 م) أمر أتباعه بأن يهيئوا الذبائح للقيام بعمرة معه فى مكة ذاكرًا أن اللَّه قد وعده فى رؤيا له بنجاح هذا الحلم القديم {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} سورة الفتح آية 27. وكان الكثيرون فى مكة يميلون إلى تمكينه من بُغيته غير أن الحزب المتشدد كان لا يزال قويا وأرسل جماعة مسلحة للقائد ومنعه من دخول مكة. لذلك عسكر عند الحديبية حيث شرع فى التفاوض مع بعض كبار أهل مكة. وحين فشلت هذه المفاوضات أرسل عثمان، الذى ضمنت له صلاته العائلية الحماية ممثلا له إلى مكة. فلما غاب عثمان عدة أيام شاع الخبر بين المسلمين أنه قتل، فتوتر الوضع، وقطع محمد [صلى الله عليه وسلم] المفاوضات. وجمع أتباعه تحت شجرة وطلب منهم أن يبايعوه على القتال فى سبيل اللَّه إلى النهاية، وهو ما فعله كافتهم تقريبًا {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} سورة الفتح آية 10؛ {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} سورة الفتح آية 18.

ص: 9145

وبعد ذلك بقليل وصل عدد من رجال مكة ومعهم عثمان يعرضون حلا وسطا، هو أن يعود المسلمون أدراجهم هذه المرة دون عمرة، على أن يسمح لهم بأداء العمرة فى العام التالى. وقد قبل محمد [صلى الله عليه وسلم] العرض وأبرم مع قريش هدنة مدتها عشر سنوات واعدا بتسلمهما كافة المكيين من الرقيق والموالى الذين يلجأون إلى المدينة. وقد غضب بعض أتباعه عند سماعهم الشروط التى قبلها النبى [صلى الله عليه وسلم]، إذ كانوا مصممين على أداء شعائر العمرة فى مكة ذلك العام. غير أنّ محمدًا [صلى الله عليه وسلم] أمر فى هدوء بذبح الهدى الذى أحضروه معهم والذى كان المفروض أن يذبحوه أثناء العمرة فى مكة، ثم حلق رأسه وأجبر أتباعه المتذمرين بأن يحذوا حذوه وما أدركوا إلا بعد مدة أن محمد [صلى الله عليه وسلم] قام بحركة دبلوماسية باهرة بإبرامه صلح الحديبية، إذ جعل أهل مكة يعترفون به ندا لهم. وعقد معهم صلحا يبشر بالخير فى المستقبل، وكسب إعجاب الكثيرين فى مكة. وثمة ما يدل على أن عددا من قادة مكة كانوا قد غدوا على استعداد لهجر وثنيتهم إلى التوحيد.

وفى مستهل العام السابع الهجرى (628 - 629 م) فتح الرسول [صلى الله عليه وسلم] خيبر التى يسكنها اليهود. وكان هذا هو أول فتح حقيقى للمسلمين. وقد استن فى هذه المناسبة سنة صارت تطبق بعد ذلك على اليهود والنصارى القابلين للعيش تحت حكم المسلمين. فهو لم يقتل المهزومين ولم ينفهم وإنما فرض عليهم الجزية كل عام. وقد كانت هذه الغزوة التى تلاها ضم محمد [صلى الله عليه وسلم] المستعمرات اليهودية فى وادى القرى سببا فى إثراء أمة المسلمين لأول مرة {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} سورة الفتح الآيات 20، 21.

وتقول الروايات إن هذه هى الفترة -رغم الاختلاف حول تحديد التاريخ بدقة- التى أوفد فيها النبى [صلى الله عليه وسلم] الرسائل إلى المقوقس عظيم القبط فى

ص: 9146

مصر ونجاشى الحبشة وهرقل الإمبراطور البيزنطى وملك فارس، وعدد آخر من الحكام يطالبهم باعتناق الإسلام. والرسائل بالصيغة التى وصلت إلينا لا يمكن قبول صحتها حيث إنها تحوى من التفاصيل ما يعكس مرحلة تالية من تاريخ الإسلام، بل إنه حتى لو نحن أغفلنا بعض هذه التفاصيل مما قد يكون أقحم فيما بعد فى الرسائل فإن فحوى الرسائل لا يمكن أن تبرر تقبل معظم الناس لها. ذلك أنه من غير المعقول أن يقبل محمد [صلى الله عليه وسلم] وهو السياسى والدبلوماسى المحنك، على اتخاذ هذه الخطوة قبل فتحه لمكة، وإن كان من غير المستبعد أن يكون قد بعث برسائل إلى ولاة امبراطورى بيزنطة وفارس على الحدود الشمالية من شبه الجزيرة العربية وفى اليمن، كذلك فإنه بوسعنا أن نقبل دون تردد أنه كان يراسل نجاشى الحبشة.

قد يكون صحيحا أن ثمة آيات مدنية فى القرآن تتجاوز المفهوم السابق عن أنه بعث نبيا إلى العرب. غير أنه حتى تلك الآيات التى كثيرا ما يشار إليهاء على أنها دليل على أنه كان يؤمن بأن رسالته هى للعالم أجمع لا تدل على ذلك إلا إن نحن تجاوزنا معناها الحرفى إلى تفسير أوسع. فمن المشكوك فيه أن يكون محمد قد اعتبر أمته القائمة على أساس اجتماعى دينى والتى أسسها فى المدينة، نواة دين عالمى كما اعتقد نولدكه وجولدزيهر وتوماس آرنولد مثلا. أما النتائج التى استخلصها سنوك هورجرونجى وهنرى لامانس فأكثر اتفاقا مع دلالات القرآن (*).

(*) ساق باحثون مسلمون كثيرون أدلة من القرآن الكريم وحديث الرسول [صلى الله عليه وسلم] على عالمية الإسلام. وإنه موجه للناس كافة. ويهمنا هنا أن نشير إلى أدلة من نوع جديد على عالمية الإسلام، هى أن المجتمع المحيط برسول اللَّه [صلى الله عليه وسلم] منذ البداية كان يشكل كل أجناس البشر وليس العرب فقط: صهيب الرومى (العنصر الأبيض) وبلال الحبشى (العنصر الأسود) وسلمان الفارسى العنصر (الأبيض الأندواوربى) ومارية القبطية أم إبراهيم (العنصر الحامى، أو السامى الحامى المخلط). . . الخ وقد لعبوا جميعا أدوارا مهمة فى التاريخ الإسلامى فى عهد النبوة. وبصرف النظر عن البحث عن حقائق تاريخية غابت عنا، فإن انتشار الإسلام كما يبدو من خريطة العالم اليوم يشير أنه لم يعد قصرا على العرب إذ يمتد بين خص عرضه 60 شمالا و =

ص: 9147

والحقيقة أن محمدا [صلى الله عليه وسلم] وهو فى ذروة قوته لم يجبر اليهود والنصارى الذين يعيشون فى شبه الجزيرة العربية قط على اعتناق الإسلام، وإنما قنع بخضوعهم السياسى ودفعهم الجزية. والنتيجة السليمة إذن هى رفض الصياغة الراهنة لتلك الروايات التى تؤكد أن محمدا [صلى الله عليه وسلم] سعى إلى إقناع إمبراطورَىّ بيزنطة وفارس وغيرهما من كبار الحكام خارج شبه الجزيرة باعتناق الإسلام، وأن نبحث عن الأسس التاريخية الحقيقية فى المفاوضات ذات الطابع السياسى الغالب كتلك التى دارت مثلا مع مقوقس مصر الأكثر تعاطفا مع محمد [صلى الله عليه وسلم] والذى قيل إنه الشخص الذى أهدى إلى النبى [صلى الله عليه وسلم] مارية القبطية التى ولدت له إبراهيم، فمات للأسف وهو رضيع قبل أشهر قلائل من وفاة محمد [صلى الله عليه وسلم] نفسه. ومع ذلك فقد تغيرت فى ذلك الوقت طبيعة رسائل النبى [صلى الله عليه وسلم] الموثوق بصحتها إلى القبائل العربية، إذ لم يعد قانعا باتفاق سياسى بحت، بل أصبح الآن وقد توطدت دعائم سلطته، يطالبهم أيضا باعتناق الإسلام بما يفرضه من أداء الصلاة وإيتاء الزكاة. بل وقد أعطى محمد [صلى الله عليه وسلم] قبيلة جذام على ساحل الشام أمانا مدته شهران عليها بعدهما أن تختار لنفسها أمرا.

وفى أواخر العام السابع الهجرى (مارس 629 م) أدى محمد [صلى الله عليه وسلم] العمرة التى نص عليها صلح الحديبية، وأدى مناسكها عند الكعبة وفى الحرم المكى. وقد كان من بواعث رضاه الشديد. وهو الذى طُرد من بلدته قبل سبع سنوات. أن يتمكن الآن من زيارة مكة بصفته سيد المدينة غير المنازع. وقد كان من بين الإنجازات المهمة التى حققها خلال إقامته هذه بمكة مصالحته لعشيرته من بنى هاشم، وهى مصالحة

= 6 جنوبا تقريبًا وهذه المنطقة تشمل مسلمين أوربيين (سالونيكا فى اليون، والبوسنه والهرسك. . الخ) ومسلمين صينيين (سيتكيانج). . . الخ كما أن التحول للإسلام لم يكن قصرا على العرب الوثنيين، فقد تحول يهود للإسلام وتحول مسيحيون. . الخ، فلا مجال إذن للنقاش الجدلى أو النظرى: هل جاء الإسلام للعرب فقط أم للناس كافة هذا سؤال من قبيل الترف الفكرى وتضييع الوقت. [التحرير]

ص: 9148

توجها زواجه من ميمونة بنت الحارث أخت زوجة عمه العباس الذى كان وقتها سيد العشيرة. وتذهب بعض المصادر إلى أن العباس كان حتى قبل ذلك حليفا سريا لمحمد [صلى الله عليه وسلم].

كذلك فإنه مما كان له أهمية كبرى فى التاريخ اللاحق للإسلام أن بعض أبرز الشخصيات المكية، كخالد بن الوليد القائد الحربى العبقري، وعمرو ابن العاص الذى يكاد يماثل خالدا فى عبقريته والذى فتح مصر فيما بعد أثناء خلافة عمر، تحولوا إلى الإسلام. ولابد أن هؤلاء المكيين أدركوا أن الغلبة ستكون لمحمد [صلى الله عليه وسلم] فى شبه الجزيرة فانضموا صراحة إلى صفه، بينما حاول العباس عم النبى [صلى الله عليه وسلم] وأبو سفيان أبرز زعماء مكة أن يضمنا عن طريق المفاوضات السرية مع محمد [صلى الله عليه وسلم] أفضل معاملة لأهل مكة عند استسلامها المؤكد للمسلمين.

وواصل محمد [صلى الله عليه وسلم] فى هذه الأثناء غزواته. وقد صادفت قواته هزيمة خطيرة فى أول محاولة كبيرة له لبسط نفوذه على العرب فى الأراضى البيزنطية بالأردن، وذلك فى موقعة مؤتة التى فقد فيها محمد [صلى الله عليه وسلم] ابنه بالتبنى زيد بن حارثة الذى كان فيها قائد فرقة يقال إنها كانت من ثلاثة الآف رجل. كذلك قتل فى تلك الموقعة ضد البيزنطيين جعفر بن أبى طالب الذى كان هو أيضا ممن تتطلع أمة المسلمين فى البداية إلى زعامته، والذى لم يلحق إلا مؤخرا بالمسلمين فى المدينة بعد سنوات قضاها فى الحبشة مع من هاجر إليها من المسلمين قبل ذلك بنحو خمسة عشر عامًا. وبالرغم من هزيمة مؤتة فقد بدأت عدة قبائل من البدو تدرك بعض المنافع التى ستعود عليها من جراء الانضمام إلى محمد [صلى الله عليه وسلم]. بل إن بعض القبائل الكبيرة مثل سليم أسلمت طواعية والتفت حول رايته.

ثم كان أن قرر الحزب المتشدد فى مكة -ضد مشورة أبى سفيان- أن يناصر إحدى العشائر الموالية لقريش، وهى بكر، ضد قبيلة خزاعة الموالية لمحمد، وهو ما كان فى عرف العرب وقتذاك يمثل لدى الطرفين نقضا لصلح الحديبية، مما أتاح الفرصة للنبى أن

ص: 9149

يتحرر من شروط ذلك الصلح فيهاجم قبائل المكيين بِل ومكة ذاتها. وفى رمضان من العام الثامن الهجرى (ديسمبر 629 م) خرج على رأس جيش من المهاجرين والأنصار والبدو، فأثار خبر خروجه قلقا شديدا فى مكة حيث كان عدد أولئك الراغبين فى القتال يتناقص يوميا وأصبح بإمكان الأكثر حذرا أن يتولوا مقاليد الأمور. وقد أرسل أبو سفيان مع آخرين، من بينهم صديق محمد بُدَيل بن ورقة الخزاعى لمقابلة محمد [صلى الله عليه وسلم] قرب مكة، معظمين إياه، وحصلوا منه على عفو عن قريش كلها شرط ألا تقاومه بالسلاح. وهكذا تمكن النبى [صلى الله عليه وسلم] من دخول بلدته دون قتال، واعتنق معظم أهلها الإسلام. وكان موقف النبى منهم كريما للغاية، وحاول تأليف كافة القلوب بالعطايا السخية التى أصبحت تشكل وجها جديدا من وجوه إنفاق الصدقات {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} التوبة 60. ولم يطلب النبى [صلى الله عليه وسلم] غير تحطيم الأوثان داخل مكة وحولها. وقد جاءت سورة النصر {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} ، معبرة عن سعادته بهذا النصر، وكذا تلك الآيات قوية التأثير {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} الفتح 1 - 3. ومن الشائق أن نلاحظ فى هاتين السورتين ذكر غفران اللَّه لذنوب محمد [صلى الله عليه وسلم] بعد ذكر الفتح الذى فتحه اللَّه له، مما يوحى بأن تحقق أحد الأهداف الرئيسية للنبى، وهو استسلام بلدته دون قتال، فيه دليل مباشر على أن اللَّه قد غفر له كافة ذنوبه.

وبعد استسلام مكة بزمن قصير بدأت قبائل هوازن فى وسط شبه الجزيرة فى الاستعداد لمعركة حاسمة، وكانت لا تزال هناك مدينة الطائف وثيقة الصلة بمكة لا سلطان له عليها. وقد قاتل النبى (صلى الله عليه وسلم) هوازن وحلفاءها عند حنين على الطريق إلى الطائف، وبدا فى

ص: 9150

مستهل المعركة أن قوات النبى كادت تواجه كارثة قاضية. وكان السبب الرئيسى فى ذلك تصرفات مريبة من عدد من المسلمين الجدد. غير أن بعض أتباعه نجحوا بعد ذلك فى إرجاع الفارين وإلحاق الهزيمة بالعدو {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} التوبة 25 و 26. غير أن جنده غير المدربين عجزوا عن الاستيلاء على الطائف بسبب دفاعاتها القوية. وبعد ذلك بنحو عام، بعد نجاح غزوة تبوك التى اشترك فيها حوالى ثلاثين ألفًا من أتباع النبى [صلى الله عليه وسلم]، قبل أهل تبوك مصيرهم وأوفدوا الرسل إلى محمد [صلى الله عليه وسلم] يعلنون استسلامهم للنبى واعتناقهم الإسلام. وبعد رفع الحصار عن مدينة الطائف الحصينة فى بداية عام 630 م عام محمدًا [صلى الله عليه وسلم] إلى الجعرانة للإشراف على توزيع غنائم حنين. وقد غضب الأنصار غضبًا شديدا -وهم الذين كانوا قد عبّروا بعد فتح مكة مباشرة عن خوفهم من أن يختار محمد [صلى الله عليه وسلم] الإقامة فيها- إذ رأوه يعطى العطايا السخية لأعدائه القدامى حتى يؤلف قلوبهم، ولم يعطهم شيئا. غير أنه خاطبهم فى رقة متناهية أدت إلى انخراطهم فى البكاء وإعلانهم رضاءهم.

وكانت أهم أحداث العام التاسع الهجرى (630 - 631 م) عند المسلمين تقاطر الوفود العديدة على المدينة من مختلف أنحاء شبه الجزيرة لأداء فروض الطاعة نيابة عن قبائلها لفاتح مكة.

وفى خريف ذلك العام، قرر محمد [صلى الله عليه وسلم] القيام بغزوة واسعة النطاق ضد شمالى شبه الجزيرة، ربما انتقاما لهزيمة مؤتة. وذلك حتى يبقى على ما بات يتمتع به من احترام، ولأن ملك الغساسنة كان يتخذ موقفا عدائيا من محمد [صلى الله عليه وسلم] وأتباعه. وقد دهش النبى [صلى الله عليه وسلم] أن يرى أتباعه بعد انتصارهم فى حنين، عازفين عن الاستجابة لمناشدته الخروج فى الغزوة الجديدة، ربما خشية تكرر هزيمة مؤتة.

ص: 9151

فقد تراضى المهاجرون وبعض البدو، بل وكان هناك من بين أتباعه المخلصين من أبدى اعتراضات شتى مبعثها خوفهم إزاء حملة تذهب بهم بعيدا فى قيظ شديد {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} التوبة الآية 42. .

{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} .

{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} التوبة 42 - 45، 81 - 84، 97.

والظاهر أن محمدا [صلى الله عليه وسلم] لقى فى ذلك الوقت معارضة قوية فى المدينة {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} . {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ

ص: 9152

طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}. {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} التوبة 58، 61، 64 - 66، 124 - 127.

ومن هنا كانت الآيات القرآنية التى نزلت فى هذه الفترة قريبة فى أسلوبها من الآيات الكريمة التى نزلت قبل الهجرة:

{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} التوبة 70؛ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} التوبة 128 - 129.

غير أن محمدا [صلى الله عليه وسلم] رغم كل هذه المعارضة مضى قدما فى سبيل نشر الدعوة. لكنه ما إن وصل إلى تبوك هو وثلاثون ألفا من المسلمين وحلفائهم بعد مصاعب طائلة، والتقى بالعدو عند الحدود مع الأراضى الببزنطية، حتى اشتبك معه فى معركة غير حاسمة، بيد أن سمعته كانت قد بلغت من القوة بحيث خضعت له المستعمرات المسيحية واليهودية الصغيرة فى شمال شبه الجزيرة خلال إقامته بتبوك. مثال ذلك الملك المسيحى يوحنا فى أَيلة، وأهل أَذْرُح ويهود ميناء مَكْنَة. وقد قيل إن النبى مكث فى تبوك عشر ليال. كذلك فتح خالد بن الوليد مركزا هاما هو دُومة الجندل خلال غزوة تبوك.

ولا نعلم للأسف كيف تطوّرت الأمور فى المدينة وهى التى تأزّمت بسرعة. ولكن بوسعنا أن نفترض أن وفاة عبد اللَّه بن أُبَىّ بعَيْد غزوة تبوك،

ص: 9153

ساهمت فى تخفيف التوتر. وقد شهدت تلك السنوات زيادة ضخمة فى انتشار صيت محمد [صلى الله عليه وسلم] فى المناطق المحيطة مباشرة بالمدينة. فقد باتت مكة الآن بيده، وكان هناك بين البدو فى أماكن عدة ميل ملحوظ إلى الإذعان لإرادة فاتح مكة حتى يأمنوا هجماته، وينالوا نصيبا من الغنائم الوفيرة فى غزواته. مثال ذلك مجموعة قبائل عامر بن صَعْصَعَة، وبعض بطون قبيلة نفيم الكبيرة، وقبيلة أسد المجاورة، وقبيلتا بكر وتغلب فى الشمال بل وحتى فى المناطق البعيدة عن المدينة مثل البحرين وعُمان داخل نطاق النفوذ الفارسى، وبين الرؤساء فى جنوب شبه الجزيرة، توغّل الدين والنظام الجديد ولقيا أنصارا متحمسين فى بعض البقاع.

وبالإضافة إلى اليهود الذين خبروا بأسه من قبل، كان هناك أيضا عدد كبير من المسيحيين والزرادشتيين (المجوس) فى المناطق الشرقية والجنوبية من شبه الجزيرة العربية.

وكانت هناك تسوية طيبة مع أهل الكتاب، هى السماح بالزواج من الكتابيات وبالأكل مما يعدّه أهل الكتاب من طعام. {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ. .} المائدة الآية 5. ويذكر ابن سعد أن محمدا [صلى الله عليه وسلم] اعتبر المجوس (الزرادشتيين) من أهل الكتاب وذلك فى رسالة بعث بها إلى جماعة منهم فى هَجر. غير أنه حُظر على المسلمين الزواج من نسائهم أو الأكل من لحوم ما يقتلون من حيوان أو طير. غير أن هذا التوسع فى تفسير عبارة "أهل الكتاب" لا نجده فى القرآن الكريم. ومع هذه الاستثناءات نجد النبى (صلى الله عليه وسلم) قد اقترب من الهدف الذى ينشده، ألا وهو تكوين أمة على أساس دينى بحت. فقد ارتبط أهالى عدة أجزاء من شبه الجزيرة العربية برباط من الدين، مما كان كفيلا -فيما يبدو- بإنهاء النزاعات القديمة بين القبائل، ومشاحناتها التى لا تنتهى، وثاراتها الدموية، والهجاء اللاذع المتبادل بينها مما كان يثير دوما منازعات جديدة. وقد أصبح على المؤمنين أن يشعروا بأنهم إخوة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ

ص: 9154

وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} الحجرات الآيات 10 - 11 و 13 {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ. . .} التوبة الآية 11.

وقد أدى هذا التوسع السريع جدا فى مجال نفوذ محمد (صلى الله عليه وسلم) عن طريق مختلف صنوف المعاهدات والاتفاقات الأخرى، إلى أن أصبح ثمة الآن مسلمون جُدد لا يعرفون إلا القليل عن تعاليم الإسلام وشعائره. ذلك أنه إلى جانب أتباع محمد القدامى الذين آمنوا إيمانا عميقا حقيقيا بتعاليمه والذين امتحنوا فى إيمانهم بما عانوه من حرمان وخبروه من مخاطر، أضحى الآن هناك عدد كبير ممن اعتنقوا الإسلام بفضل التحالفات السياسية وعن خوف من تزايد سلطان النبى. ورغم أن محمدا [صلى الله عليه وسلم] أوفد إليهم من يفقههم فى الدين، فلاشك أن تحول هؤلاء العرب إلى الإسلام لم يكن عميق الجذور، وأن الروح العربية القديمة ظلت قائمة وقوية بينهم، كاستمرار الفخر والهجاء فى القصائد التى أوردها ابن هشام فى سيرته. وقد سجل القرآن نفسه بكل وضوح كيف أن إيمان الأعراب بعيد كل البعد عن الإيمان الصحيح {. . . قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ. . .} الحجرات 14.

ويلاحظ أن الأوامر المتعلقة بالدين والعبادة -وهى التى كانت تشغل محمدًا إلى حد بعيد فى السنوات الأولى من إقامته فى المدينة، بدأت تفسح الطريق، بصورة ملفتة للنظر، للترتيبات الاجتماعية والسياسية الواردة فى أواخر السور القرآنية، نتيجة للتوسع السريع فى مجال نفوذ الدولة الإسلامية.

وأخيرا تمت كافة الاستعدادات، وتمكن محمد (صلى الله عليه وسلم) فى نهاية العام

ص: 9155

العاشر من الهجرة (مارس 732 م) من أداء أول حج إسلامى صحيح (حجة الإسلام) التى أصبحت نموذجا يُحتذى أبد الآبدين. ولم يورد القرآن الكريم إلا إشارات قليلة إلى شعائر الحج السنوى، مما يدفع المسلمين إلى الاعتماد فى حجهم على ما ورد فى كتب الحديث وأئمة المذاهب. ولا شك فى أن المعالم الرئيسية للصورة التى يتم عليها الحج فى العصر الحديث أساسها ما فرضه النبى (صلى الله عليه وسلم) فى تلك المناسبة المشهورة.

ويقال إن حجة الوداع شملت خطبة ألقاها النبى (صلى الله عليه وسلم) وصلتنا عنها روايات بها بعض الاختلاف. وهى خطبة تمثل ذروة نشاطه وكفاحه. وقد تعبر عن مشاعره وقتها الآية الثالثة من سورة المائدة {. . . الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا. . .} .

استعد محمد [صلى الله عليه وسلم] قبل وفاته بشهر واحد لقيادة غزوة كبيرة إلى شرق نهر الأردن بنفسه غير أنه فى النهاية اختار أسامة بن زيد الشاب قائدا للجيش المؤلف كما يقال من نحو ثلاثة آلاف رجل، ربما من أجل تمكين أسامة من الانتقام لمقتل أبيه زيد بن حارثة هناك. وقد شكا عدد من كبار المسلمين من اختيار محمد (صلى الله عليه وسلم) لهذا الشاب الحدث قائدا لجيش مكلف بمهمة عسيرة. غير أن النبى (صلى الله عليه وسلم) كان مصمما على إتاحة الفرصة لأسامة كى ينتقم من هزيمة المسلمين فى مؤتة، وهى الهزيمة التى أودت أيضا بحياة ابن عم النبى جعفر بن أبى طالب.

وفى نحو ذلك الوقت ظهر فى عدة أنحاء من شبه الجزيرة العربية عدة أشخاص يدعون النبوة ويثيرون الاضطرابات بدعاويهم.

وهنا مرض محمد [صلى الله عليه وسلم] فجأة، ربما بحمى المدينة المألوفة. ولكن الحمى كانت خطرا على رجل مرهق جسمانيا وذهنيا. وقد تحسنت صحته قليلا بعد ذلك، غير أنه توفى على صدر زوجته الأثيرة عائشة يوم 12 من ربيع الأول عام 11 هجرية (8 يونيو عام 632 م). وهذا هو التاريخ الوحيد لوفاته الذى

ص: 9156

يتفق مع ما ذكره حسان بن ثابت فى قصيدة له، وما ذكرته كافة الروايات من أنه توفى يوم الاثنين. ولم يخلف محمد [صلى الله عليه وسلم] وريثا شرعيا له يخلفه فى الحكم، فاضطر كبار الصحابة ممن كانوا لصيقين به إلى اختيار قائد، أما ابنه إبراهيم الذى ولدته له زوجته مارية القبطية ربما فى أوائل عام 630، فكان قد مات قبله فى عام 632 م. ويقال إن النبى (صلى الله عليه وسلم) دفن فى مسكن عائشة.

إن الصعوبة الكبرى التى تواجه كاتب سيرة محمد [صلى الله عليه وسلم] فى كل صفحة، هى أن المصادر الأولى لم تذكر شيئا -ولم يكن بوسعها أن تذكر شيئا- عن السر الحقيقى لنجاحه وقوة شخصيته المذهلة وقدرته على التأثير فيمن حوله، فكتاب السيرة المسلمون الأوائل كانت نقطة البداية عندهم الإيمان بأن أعماله العظيمة وانتصاراته الباهرة لم تكن من صنع بشر، بل هى براهين إلهية على أن النبى [صلى الله عليه وسلم] إنما كان يأتى به طاعة للَّه. صحيح أن القرآن الكريم يعرفنا بالسور العظيمة التى أوحى بها إليه فى البداية والتى تؤثر فينا اليوم تأثيرها وقت تلاوة محمد (صلى الله عليه وسلم) لها أول مرة. كذلك فإن بوسع المؤرخين المحدثين أن يروا مواهبه السياسية الخارقة التى كثيرا ما أبداها خلال سنوات إقامته فى المدينة. إذ من ذا بوسعه أن ينكر أن القائد فى معركة بدر، أو المفاوض فى الحديبية، هو رجل فائق الذكاء، وذو مهارة دبلوماسية خارقة، غير أن هذه الدلائل على عبقرية محمد [صلى الله عليه وسلم] التى تظهر بوضوح فى كتب السيرة، هى مجرد لمحات خاطفة متفرقة، وعلينا فى معظم الأحيان أن نستطلع الأمور الجوهرية من بين السطور.

لقد كان العامل القوى حقا فى حياة محمد، والمفتاح الأساسى لنجاحاته الخارقة، -إيمانه الذى لا يتزعزع، ومن البداية إلى النهاية، بأنه رسول اللَّه. فإيمان كهذا لا يتطرق إليه أدنى شك بوسعه أن يؤثر تأثيرا لا حدّ له فى

ص: 9157