الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قد تأثر إلى حد كبير بالتجربة العثمانية فإنه فى الوقت ذاته قام على مثال التنظيم البونابرتى، كذلك قامت باصلاحات إجتماعية من بينها الاهتمام بالتعليم والصحة، فأُرسلت البعثات من التلاميذ إلى أوربا ذلك بدءا من سنة 1809 م على أنها أخذت فى الزيادة حتى بلغت أقصاها منذ منتصف العشرينيات فصاعدًا وأنشئت مدرسة المساحة 1816 م، وتلتها عدة مدارس عسكرية فى صعيد مصر والقاهرة والإسكندرية، وكان القائمون بالتدريب فيها من الأوربيين كذلك كانت برامجها هى الأخرى أوروبية.
أما الفترة الثانية من عهد محمد على باشا فلم تكن فترة تتسم بالهدوء فيما يتعلق بالطبقة الدنيا فى المجتمع المصرى فقد حدثت عدة أوبئة فى الصعيد فى عام 1813، 1816 م وراح ضحيتها الكثيرون، وازدادت الأعباء على كاهل السكان، وأدت زيادة الضرائب والشدة فى جمعها والرقابة النافذة إلى ظهور وزيادة السخرة فى مشاريع الرىّ والزراعة كما كثرت المصادرات، وأحس بالعبء كل من الفلاحين والمدنيين، واضطرت النساء تحت هذه الظروف إلى القيام بالخدمة إلى جانب أعباء عملهن ببيوتهن. وتحت هذه الظروف القاسية قامت محاولة للإطاحة بالباشا من داخل الطبقة المختارة، فقد حدث فى أثناء قيام محمد على بالحج أخريات سنة 1813 م ومرافقته للحملة على الحجاز أن أذاع أحد كبار الموظفين إشاعة بأن الوالى مات وحاول أن يأخذ مقاليد الأمور فى مصر فى يده، إلّا أن نائب محمد على بمصر وكان وفيًا له قضى على الثائر وحفظ العرش لمولاه الباشا حتى أنه أطال بقاءه فى الحجاز دون أن يتسرب الخوف إلى نفسه.
محمد على حاكما لامبراطورية اقليمية (1828 - 1841 م):
لقد كانت هذه الفترة من حياة محمد على فترة بلوغه القمة، بدأت بارتقائه ذروة القوة وانتهت بتحطيم حلمه وكانت الثلاثينيات من القرن التاسع
عشر ملأى بالمتناقضات، فقد شهدت أعظم نجاحات الوالى ولكنها رأت أيضا بداية انهيار بعض مخططاته الطموحة، فقد تمكنت مصر خلال هذه الفترة أن تمكن لحاكمها المستقل فرض سياسته على سكان إقليم واسع كل السعة وزيادة موارده الاقتصادية، كما أدت معارضة أوربا لتوسعه الذى أدّى إلى انهيار امبراطوريته، هذا إلى جانب أن مشكلاته الاقتصادية وصعوباته الادارية عطلت تنظيماته. أما الفترة الثالثة فقد بدأت مع عودة حملة إبراهيم باشا من المورة، إذ انصبت جهوده على تكوين قوة بحرية وبرية استعدادا لتكوين امبراطورية ضخمة، وإذ كان محمد على يعد ولايات الشام واقعة داخل مجاله من الناحيتين الاستراتيجية والتاريخية، فقد وجّه عنايته بتقدمها ومن ثم عقد محالفات مع زعمائها المحليين، حتى إذا وجد أن قواته البرّية والبحرية أصبحت على أتم أهبة للزحف شمالًا راح يتلمس ذريعة تبرر له الهجوم عليها، وكانت هذه الذريعة حين رفض والى عكا عبد اللَّه باشا -وكان حليفا سابقا له- أن يشارك إلى جانب محمد على، فكان من جراء ذلك خروج إبراهيم باشا بحملة سنة 1831 م لمحاصرة عكا، واحتلت هذه الحملة فى منتصف 1832 م وأقاليم فلسطين، كما استطاعت بالمساعدة التى قدمها لها فى لبنان بشير الثانى، أن تستولى على صيدا وبيروت وطرابلس ودمشق، وفى ديسمبر من السنة ذاتها أنزلت القوات المصرية الهزيمة بالجيش العثمانى قرب "قونية" وأسرت الوزير الأعظم، حتى إذا تقدمت الجنود المصرية نحو "كُتاهية" لم تعد المشكلة مشكلة عثمانية داخلية، واتهم السلطان العثمانى محمد على بالعصيان وكان السلطان إذ ذاك هو مراد الثانى الذى طلب تدخل روسيا الحربى، الأمر الذى حرك كلا من بريطانيا وفرنسا لبذل وساطتهما عند القاهرة لكن كان هدفهما وقف تقدم محمد على ووضع حد لتوسعه، وقد تمكن هو وولده إبراهيم من الحصول على تنازلات كبيرة من جانب السلطان
أثناء المفاوضات التى جرت، والتى انتهت بحصول محمد على الاشراف على الشام وكريت وأدنة نظير انسحاب جيوشه وهكذا أصبح محمد على يحكم بلادا شاسعة تمتد من السودان والحجاز إلى القسم الشرقى من الأناضول.
ولقد أدت حاجة الجيش والإدارة إلى مجموعة من المهرة المدربين فى مجالات العلوم العسكرية والمهن المدنية إلى الاهتمام بمسألة التعليم والتدريب على جميع المستويات، وكانت الخطوة الأولى إلى التعليم الغربى تتمثل فى إرسال بعثات من التلاميذ المصريين إلى أوربا للتدريب حتى أنه بلغ عدد التلاميذ الذين أرسلوا للخارج ثلاثمائة وخمسين طالبا فيما بين 1809، 1848 م، وأخذ الباشا منذ منتصف العقد الثالث من القرن التاسع عشر يهتم بالتعليم داخل البلاد من القاع إلى القمة حتى يسد حاجات البلد، فشرع فى تأسيس التعليم العالى والمدارس الحرفية ثم انتقل بعد ذلك إلى الاهتمام، بالتعليم الابتدائى فأنشأ مدرسة ابتدائية وأخرى ثانوية، كما كثرت المدارس العليا ونشر شبكة من التعليم على المستويَيْن الأَولى والمتوسطة، وأنشأت الحكومة أيضا المدارس التالية فيما بين 1825، 1836 م. المعاهد البحرية الحربية لتخريج ضباط مدربين وعسكر فى شتى الدرجات العسكرية (من مشاة وخياله وسلاح مدفعية)، وأسس مدرس الطب وأخرى للصيدلة، وغيرهما للحرف والصناعات والهندسة المدنية والإدارة ومدرسة للغات والترجمة، كذلك أسس مدارس أخرى أقل من هذه أهمية لم يقتصر وجودها على القاهرة والإسكندرية بل تعداهما إلى المحافظات، وقامت وزارة المعارف، غير أنه بحلول العقد الخامس تضاءل عدد هذه المدارس بل وأغلقت بعضها أبوابها وإن قامت غيرها ولكن بأعداد صغيرة. وقد اهتم التعليم بالدرجة الأولى بكل ماله صلة بالعسكرية. ونستمد من تعداد جرى سنة 1850 م أن عدد الذين تعلموا القراءة والكتابة
ارتفع فى هذه السنة فبلغ 3 % هن الكبار بعد أن كان 1 % فى سنة 1830 كما تأسست مطبعة بولاق سنة 1820 م وبدأت فى إخراج مطبوعاتها سنة 1822 م، وتلى ذلك فى السنوات القلائل بعد ذلك قيام ثمانى مطابع أخرى، كما صدرت فى سنة 1828 م جريدة رسمية باللغتين التركية والعربية باسم الوقائع المصرية، كذلك فإنه فتح مدرسة للترجمة سنة 1836 م ومكتبا لها سنة 1841 م أدّى إلى أن زخر عهد محمد على بترجمة المئات هن الكتب والمراجع الأوربية إلى العربية وتم معظم ذلك بإشراف رفاعة رافع الطهطاوى أحد أعظم رجال التنوير المصريين فى القرن التاسع عشر. كما طرأ تطور كبير على فن العمارة الذى بلغ ذروته فى العقد الرابع من ذلك القرن حيث حلت الفنون المعمارية اليونانية والإيطالية والإسبانية محل الفنون المملوكية والعثمانية القديمة وكانوا يطلقون على العمارة العثمانية فى العربية اسم "الرومية" وحلت منذ هذا العقد النوافذ (أو الشبابيك) محل "المشربيات". كذلك اهتم محمد على بإقامة السدود ومعسكرات الجند ومرافئ للسفن والمستشفيات والقصور الضخمة لأهل الجاه، وحفرت قناة المحمودية وأنشئت القناطر الخيرية والمسجد الكبير بالقلعة، وزاد الاهتمام بتحسين الطرق لنقل التجارة والمنسوجات، وفتحت بعض الشوارع الكبيرة لاسيما فى القاهرة، ووسع بعض ما كان موجودا من قبل لتتسع لمرور العربات. ولم يقتصر على الاهتمام بتعليم الجيش والموظفين وتدريبهم، بل صرف عنايته أيضا إلى صحة الجميع فعهد إلى الطبيب الفرنسى "كلوت بك" بالإشراف على هيئة صحية عسكرية للاهتمام بصحة جنده العامة ورفع روحهم المعنوية وأنشئ مجلس للصحة وعزل المرضى نتيجة انتشار وباء الكوليرا سنة 1830 - 1832 م، وسن قانونا للصرف الصحى لمدينة الاسكندرية فى أعقاب انتشار الطاعون سنة 1841 م، وأقيم
مركز للتطعيم فى الصعيد، وأنشئت المستشفيات فى كافة المديريات بمصر، وعلى الرغم من كل هذه الإنجازات إلّا أن البلاد لم تخل مما يقلق الهدوء الداخلى، وإذا كانت هذه الإضطرابات قد ظهرت فى الداخل إلا أنها ما لبثت أن ظهرت أيضا فى البلاد الخارجية الخاضعة لحكم محمد على لاسيما فى بلاد الشام، ذلك أنه فى إعداده للحملة على سورية استنفد موارد مصر مما جعل الناس يعيشون فى مغبة بالغة أرهقتهم كل الإرهاق، وضجر الفلاحون من أثار الطواعين والأوبئة التى اجتاحت البلاد عام 1830، 1835 م.
وكان محمد على يصر على وجود جهاز حكومى مركزى يكون هو رئيسه الأعلى ولذلك أصدر قانون 1837 م ألغى به جميع المجالس وكوّن إدارات جديدة. على أن اهتمام الوالى بدخول مصر سوق الاقتصاد العالمى عرّض البلد وأسواقها لهزات مثل للك الهزة التى حدثت أولا فى سوق المال الدولى سنة 1836 - 1837 م مما أدى إلى تدهور أسعار القطن تدهورا شديدا فعانى البلد نضب موارده، يضاف إلى ذلك المصاعب التى صادفها فى حكم الشام، إذ تزايدت الكراهية هناك من الحكم المصرى نتيجة لمحاولة تطبيق النظم المصرية بسورية، وكذلك بسبب زيادة الضرائب بل وفرض ضريبة الرؤوس حتى على المسلمين وإدخال نظام الاحتكار وتطبيق السخرة. وكانت متطلبات الصرف على الجيش الضخم عبئا ثقيلا باهظا على الخزانة، وما كاد العقد الرابع يقارب الانتهاء حتى أغلقت عشرات من المؤسسات، كما أن الأهالى راحوا يفرون من قراهم، فلما رأى الباشا ما فيه من أزمة اقتصادية وتزايد تأفف السكان الذين أرهقهم الوضع إذ ذاك أخذ يتراجع عن سياسته الإدارية لاسيما فى الزراعة، وبدأ منذ سنة 1838 م فصاعدا يقطع الاقطاعات الكبرى إلى أفراد من أسرته مما ترتب عليه قيام الاقطاعيين الكبار، كما قام فى الوقت ذاته بإنشاء ما عرف بنظام "العهدة"، وهو أن يعهد إلى رجال من
الطبقات الكبيرة نواحى تتألف من قرى قد تأخرت عن دفع التزاماتها الضرائبية، يقوم أصحابها الجدد بدفع ما على الناحية للخزانة ويكون له مطلق التصرف فى زراعتها واستعمال السخرة فى ذلك ويكون دخل هذه النواحى ملكا لهؤلاء الكبار، وكان معنى هذا رجوع الباشا إلى النظام الذى كان قد ألغاه فى العقد الثانى من ذلك القرن. لكن على الرغم من كل هذه المشكلات الداخلية إلّا أن الوالى لم تبارحه مطامعه فى الاستقلال ففى منتصف عام 1838 م أعلن للدول الأوروبية عزمه على إعلان استقلاله، وعلى الرغم من أن ردّ الدول على هذا العزم كان سلبيا إلّا أنه لم يتراجع عنه وعارضه السلطان محمود الثانى رغم حركاته الاصلاحية واعتبره خائنا ولبث بجيش عثمانى مدرب على الأساليب القديمة فعبر الفرات وزحف حتى إذا صار على الحدود الشمالية لحلب أنزلت به قوات إبراهيم باشا فى يونيو هزيمة ساحقة؛ ومات السلطان باستانبول قبل أن تصله أخبار هذه الفاجعة، فلما اختير خسرو باشا (عدو محمد على اللدود) وزيرا أول، حدث أن سلم الأسطول العثمانى كله الموجود بالإسكندرية للباشا، وقام السلطان الجديد عبد المجيد فأعلن حكم مصر وراثيا فى أسرة محمد على، ولم يكتف محمد على بذلك بل طالب بأن تكون له امتيازات فى الشام وأدنة ولم يمكن الوصول فى المفاوضات إلى حل بل وصلت إلى طريق مسدود بسبب وجود خسرو باشا فى الوزارة العثمانية، لكن ما أن تم خلعه سنة 1840 م حتى عادت الاتصالات من جديد، وكادت أن تنجح لولا تدخل الدول الأوربية لما رأته فى ذلك من ضرر بمصالحها فقامت بريطانيا والنمسا وبروسيا وروسيا بامضاء ما عرف باتفاقية لندن (يوليو 1841 م) وفرضت على الطرفين: السلطان والوالى وضعًا يقضى بأن يكون حكم مصر وراثيا لمحمد على وإن يكون له الحكم فى ولاية عكا طول حياته، وكان هذا الاتفاق جزءًا من موضوع كبير يتعلق بالصراع حول المضايق المائية، وكانت فرنسا فى
بادئ الأمر تؤيد محمد على لكنها -وقد عرفت الاتجاه- انضمت إلى الحلفاء، وقدم هذا الاتفاق إلى محمد على على لم نه انذار نهائى فان لم يقبله ارغمته الدول على قبوله بقواتها الحربية المشتركة، فلما لم يتزحزح الباشا عن موقفه تم الاستيلاء على بيروت بعد عمليات برية وبحرية، وقامت ثورة فى لبنان أدت إلى قيام قوات الحلفاء بالاستيلاء على عدة مدن ساحلية، كما ظهرت وحدات بحرية بريطانية أمام شواطئ الاسكندرية، وترتب على هذه الأمور كلها أن قام إبراهيم باشا بالخروج من سورية وقبول محمد على بشروط اتفاقية لندن والنزول على ارادة الدول الأوربية وأعاد الاسطول العثمانى إلى بلاده وأصدر السلطان فرمانا يوافق فيه ويؤكد حق محمد على فى أن تكون مصر وراثية فى أسرته وكان ذلك فى شهر يونيو 1841، وقد أدى هذا القرار السلطانى إلى تحديد حجم جيش مصر، وأن لا يتم عقد اتفاق لمحمد على مع دولة أجنبية إلا بعد الموافقة العثمانية، على أن الجيش أصبح أكبر قليلا من ثمانية عشر ألف عسكرى.
أما الفترة الرابعة من حكم محمد على (1841 - 1848 م) فهى الفترة الأخيرة له وتعتبر أيضا بداية عهد جديد فى تاريخ مصر فى القرن التاسع عشر أى أنها كانت الفترة النقضية بين سقوط الامبراطورية الإقليمية وقيام إسماعيل باشا فى منتصف الستينيات، أما ما كان بينهما من حكم عباس (1848 - 1854 م) وسعيد (1854 - 1863 م) والفترة الأولى من حكم إسماعيل، ففى هذه السنوات كانت مصر تتخلص شيئا فشيئًا من نتائج حروب محمد على التوسعية واصلاحاته التعسفية، وكان الفصل فى "القضية المصرية" مؤديا إلى خروج مصر من "الأجندة" الدولية وعلى أثر ذلك تمكن الباشا من تغيير طبيعة معاملاته مع الدول الأوربية وأن يعيد النظر فى صلاته بالسلطان وتحسن علاقاته باستانبول، حتى
لقد زارها وذلك سنة 1846 م وصار إلى فلك الدولة العثمانية، وراح يتاجر مع الدول الأوربية ويستعين بالقناصل الأوربيين فيما يتعلق بالاحتكارات ويستفيد من التجربة الأوربية فى تقدم البلد، وأذن فى سنة 1841 م لإنجلترا التى كانت من أكبر الدول التى عملت على إضعافه، أن تنشئ خطا منتظما لتجارتها مع الهند، تنقل فيه تجارتها برا. من الإسكندرية إلى السويس، كما رتب زيارة له لإنجلترا ولكن لم يقدر لها أن تتم، ولقد تزامن بلوغ قوة محمد على الحربية والسياسية ذروتها مع انهيار مركزيته الإدارية والاقتصادية. أما من ناحية الأراضى فقد ظل الأمر على ما هو عليه من إقطاع أسرة الوالى أراضى زراعية كبيرة، سميت "بالابعاديات" وذلك منذ العقد الثالث من القرن، وقد بلغ هذا النظام ذروته فى العقد الخامس من قلة المحصول وانتشار وباء الكوليرا وتفشى طاعون الماشية والأغنام مما أدّى إلى تأخير الضرائب وتراكمها، هذا إلى جانب أن ملاك الاقطاعيات رأوا أن الخير لهم فى القضاء على الرقابة الحكومية على الأسواق وفى اتصالهم المباشر بالمشترين، وبهذا قام صراع داخلى فى منتصف الأربعينيات بين ملاك الأراضى ومشايخ القرى حول انتفاع كل جانب منهم بالفلاحين، وقد أدى هذا كله إلى استمرار ضعضعة الاحتكارات وسقوط نظام الرقابة فى الريف الذى ابتدعه الباشا، مما ترتب عليه قلة دخل الحكومة وتدخل التجار الأجانب فى موضوع الزراعة فى الداخل، كما أخذت المصانع فى التوقف وكان هذا نتيجة طبيعية إلى انتهاء العمر الافتراضى للآلات وعدم حسن صيانتها وقلة المهارات الفنية، كما قلت موارد المياه التى تضخها الآلات التى أخذت هى الأخرى فى الضعف لسبب عدم موالاتها بالإصلاح كما يرجع بعض منه إلى نفوق كثير من ثيران إدارة السواقى نتيجة لانتشار الطاعون، كذلك أدى تقليل عدد الجيش إلى اضعاف قوة الشراء من السوق المحلية مما نجم
عنه قلة الاقبال على منتجات مصانع الباشا، ويضاف إلى ذلك كله ما ترتب على اتفاقية "بالطة ليمان" 1838 م، البريطانية العثمانية إلى تحسين أحوال التجار البريطانيين فى الدولة العثمانية، فقد ألغت هذه الاتفاقية نظام الاحتكار ونظمت قواعد جمع الضرائب الجمركية والواقع أنها فتحت الأبواب أمام المنافسات الخارجية، وأضعفت قوة المنتجات المحلية أمام المنتجات الأجنبية، ولقد حاول محمد على الحيلولة دون تطبيق هذه الاتفاقية فى مصر ولكنه اضطر فى النهاية للاستسلام لها. ومهما كان الأمر فقد استطاع محمد على تكوين ادارة مصرية عثمانية عظيمة كانت احدى انجازات عهده الكبرى الجليلة، وقد اختار لتسييرها جماعة من حاشيته وآل بيته، فكان فيهم رفاقه من أهل "قَوَله" وأخرين من الموظفين العثمانيين الذى ارسلتهم استانبول ومن خاصة مماليكه ومماليك من العهد السابق والكتاب اقبط والمترجمين الأرمن وكبار أهل الريف المصريين، هذا إلى جانب مجموعة من المستشارين الأوربيين الذين وكل الباشا إليهم الوظائف الكبرى والذين اعتنق بعضهم الإسلام. وقد تم بلوغ هؤلاء جميعا ذروة التمكن فى خلال العقدين الأخيرين من حكم محمد على، وأصبح الجميع من أشد المخلصين فى أداء خدماتهم له كذلك شغل العملاء والناطقون بالعربية والتجار مكانة مرموقة فى أمور الدولة المصرية السياسية، وبجانب هذا نجد أن الحكومة استطاعت فى سنة 1840 فى جعل مشيخات الطرق الصوفية تحت اشرافها بتنظيمها جميعا تحت "شيخ البكرية" ولقد كان أبرز الشخصيات فى رجال الدولة فى العهد الأخير من حكم الباشا وولده إبراهيم وحفيده عباس، ولما كانت سنة 1847 م وهن الباشا. "العجوز" كما عرف بعدئذ، وانحل بدنه ويقال أن ذلك راجع إما إلى تقدمه فى السن أو لتأثير نترات الفضة التى كانت تدخل فى أدوية معالجته من "الدوسنتاريا"، وأصبح الامر فى يد إبرهيم الذى القيت إليه
رسميا مقاليد الحكومة فى سنة 1848 م، لكنه ما لبث أن مات بعد ذلك بأربعة شهور فقط. وحينذاك خلفه عباس باشا (الأول) الذى استطاع تأكيد وراثة مصر فى الأسرة. أما الباشا "العجوز" فقد مات بالاسكندرية يوم الثانى من أغسطس 1849 م وهو لا يدرى بما يجرى حوله ودفن بجامع القلعة الذى كان قد شرع فى بنائه ثم أتم عباس اصلاحات محمد على وامبراطوريته ولم تكن مصر تفرغ من حرب حتى نهاية الفترة الأخيرة من حكمه إلا لتدخل فى حرب، وكانت جهود الباشا فى عهد تدعيم وإرساء الدولة منصبة على محاربة منافسيه وخصومه المحليين واتجه خارجيا فحارب "الوهابيين" فى شبه الجزيرة العربية ثم كان دخوله السودان عقب انتصاره فى الحجاز وتلى ذلك حملاته فى بلاد اليونان وحربه فى الشام وكان هدفه من كل هذه الحروب تأكيد قوة مصر وجعلها دولة إقليمية كبرى مع حرية التحرك داخليا وخارجيا، ولا يعرف على وجه التأكيد أكان يهدف حقا فى أخريات الثلاثينيات إلى الاستقلال التام أم كان ذلك مجرد طلب ليضمن أن يكون الحكم وراثيا فى كل امبراطوريته تحت السيادة العثمانية. ولقد رأى الفلاحون فى التجنيد الاجبارى مضرة بهم، وكان أبناء الأسرات والأقوياء يؤخذون بالسلاسل، وما يكاد الجيش يُجمع حتى تصرف له الملابس والأطعمة ويتم تدريبه ويُمد بالسلاح ويعنى به صحيا وتدفع للجند رواتبهم، وقد تطلب ذلك كله أموالًا كثيرة، فوقع عبء ذلك على وجه الخصوص على الريف، وإذا كان قد قصد بالتجارة فى المحصولات الزراعية تمويل الحملات فإن الصناعة قد خصصت للصرف على ملابس العسكر وتجهيزهم. ولقد عده المؤلفون المصريون بطلا قوميا، كما أن رغبته فى اقتباس المعرفة والتكنولوجيا من الأوربيين لإنشاء جيش حديث وأقامة قاعدة اقتصادية فيه وضعته فى مصاف المستنيرين المتقدمين ولقد نُعِتَ بأنه "مؤسس مصر