الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محكمة
1 - مدخل عام:
تولى رسول اللَّه [صلى الله عليه وسلم] ولاية القضاء التى أسندتها له صراحة آيات القرآن الكريم. وانتقلت هذه الولاية من بعده إلى الخلفاء الراشدين، حيث مارسوها بأشخاصهم فى المدينة المنورة. وقد سبق أن تطلب الأمر، نتيجة لتوسع الإمبراطورية الإسلامية فى عهد الخليفة عمر، تعيين قضاة للحملات العسكرية فى البداية، امتد اختصاصهم للمناطق المفتوحة أيضًا. وقد بقى هذا النظام لقضاة الجيوش (قاضى الجند) قائمًا حتى أيام العهد العثمانى (قاضى عسكر). وطبقا للشريعة فإن ولاية القضاء تكون للخليفة أصلا، ويمارسه القضاة كمفوضين عنهم، ولهم بدورهم تفويضه لمن يشاءون. ويكون تعيين القضاة بموجب عقد يتم بالإيجاب والقبول بحضور شاهدين على الأقل. ولا تتوقف صحة التعيين على شرعية سلطة التعيين، وبهذا الفكر المنفتح تجاوبت الشريعة مع الظروف الواقعية حتى فى أساسها النظرى. ومن جهة أخرى فإن للسلطة تحديد اختصاص القاضى (الولاية) من حيث المكان أو الزمان أو نوع المنازعة. وقد اقتصر تعيين القضاة فى البداية على المدن الكبرى، وكان الاختصاص المكانى بالتالى كبيرا (كمصر كلها مثلا). وكان تقليص الاختصاص النوعى أساسا لتخفيف العبء عن القضاة، خاصة بالنسبة للموضوعات غير القضائية بطبيعتها. وفى العصر الحديث، فإن التحديد الزمانى أو النوعى للاختصاص يراد به تعديل أو وقف تطبيق الشريعة دون التعرض لنصوصها. وكان تعيين القضاة فى العصر الأموى يتم عن طريق حكام الولايات أساسا، وفى العصر العباسى، فرغم اضطرار الخلفاء إلى تفويض أمراء الولايات المستقلة استقلالًا فعليا فى تعيين القضاة، فإنهم كانوا يتمسكون شكليا بهذا الحق كمظهر لسلطانهم على تلك الولايات. وقد تمخض عن هذه الاعتبارات نظام معقد من التفويضات. وقد كان الخلفاء الفاطميون، والأمويون فى الأندلس، والعثمانيون يعينون القضاة تعيينا
مباشرا أيضا. وكان العثمانيون يمارسون هذا الامتياز حتى بالنسبة للولايات الخاضعة لهم كمصر. وكان بالإمكان عزل القاضى فى أى وقت عن طريق السلطة التى عينته، وهو ما كان يترتب عليه عادة تغيير كل الوظائف القضائية التابعة. ونظريا، طبقا للفقه، فإن القضاة المفوضين فقط، وليس الأصليين، هم القابلون للعزل مع وفاة أو عزل من عينهم وقد ترتب على سلطة التعيين نوع من حق الرقابة، تمثل فى تقبل الشكاوى وإعطاء التوجيهات. وصورة أخرى من الرقابة القضائية كانت تمارس عن طريق جماعة من أهل العلم ممن يجب على القاضى استشارتهم فى الحالات غير القطعية، مما شكل ما يشبه القضاء الاستئنافى. أما الصورة الثالثة من الرقابة القضائية فكانت حق القاضى اللاحق فى إلغاء أحكام القاضى السابق عليه، وهو ما ترتب عليه إطالة مدى التقاضى فى بعض الحالات. وكان من الممكن أن يعين أكثر من قاضٍ يتبعون مذاهب مختلفة فى مدينة واحدة، خاصة فى العواصم. ولم يكن مسموحا للقاضى أن يرجع عن قضائه حتى ولو ظهرت أدلة جديدة أو تبين عدم جدوى الحكم، بل كان لقاض آخر أن يستأنف نظر القضية لعيب جسيم فى تطبيق القانون، بمعنى مخالفة القرآن أو السنة المتواترة أو الإجماع. وعلى القاضى أن يؤسس قضاءه على أساس المذهب التابع له وإلا كان قضاؤه عرضة للتجريح. ولم يكن من المشترط أن يتبع القاضى مذهب من عينه، أو من فوضه، ولكن كان من الممكن توجيهه لإتباع مذهب معين فى قضائه. وكان الفقه الشائع فى الخلافة العباسية هو الفقه الحنفى ثم الشافعى، وفى الخلافة العثمانية الفقه الحنفى، وفى الأندلس المالكى. وكان مذهب القاضى ذا أهمية للمتقاضين أكثر منه للحكام. وقد كان القضاء، خاصة فى العهود الأولى، مقسمة بين أكثر من مذهب، فقد لُجئ إلى تعيين أكثر من قاض، تكون لأحدهم الرئاسة، ولكن الخيار بين القضاة يكون لأطراف النزاع. وقد أطلق على قاضى العاصمة بدءا من العصر العباسى اسم "قاضى القضاة"، وكان أبو يوسف أول من شغل هذا المنصب
فى عهد هارون الرشيد. وكان هذا اللقب يطلق عليه فى البلدان الغربية اسم "قاضى الجماعة". وسرعان ما أصبح لقاضى القضاة حق الإشراف على زملائه، خاصة مع نظام التفويض الذى يعنى أن القاضى المفوَّض هو مجرد وكيل عن القاضى الذى فوضه. وكانت أهم الوظائف القضائية المساعدة هى "الكاتب"، و"الشاهد"، والذين عملوا فى نفس الوقت كموثقين. وكانت هذه الوظائف هى فى الغالب أول الطريق لمهنة القضاء. وكان تمثيل المتقاضين عن طريق متخصصين قانونيين، أى المحاماة، أمرا مرفوضا من الوجهة النظرية، ومستهجنًا عمليا فى العهود الأولى. وعلى النقيض من ذلك، كان دور أهل العلم المتخصصين، كالمفتى، هو إعطاء المشورة المحايدة للقاضى. وكانت الفتوى فى الغالب بطلب كتابى من أحد الطرفين. هذا وقد تطورت عملية إسداء المشورة للخصوم، ثم تمثيلهم "الوكيل"، إلى "المحامى" الذى أصبح معروفًا فى العصور المتأخرة فى المحاكم الشرعية. أما بالنسبة للإجراءات، انظر دعوى. هذا وتعرف الشريعة أيضا، بجوار القضاء، نظام التحكيم.
ورغم تركيز القضاء فى يد القضاة فى العصر الأموى، والوقوف فى وجه أى تدخل من الولاة فى شئون القضاء، فإنه بدءا من العصر العباسى ظهرت الحاجة إلى دعم الوظيفة القضائية بنظام "نظر المظالم"، والذى كان يمارسه الخلفاء أو نوابهم من ولاة أو وزراء أو سلاطين، الذين كانوا مهتمين بإقامة العدل حتى مالوا إلى احتكار الوظيفة القضائية، رغم ما يقال من فصل نظرى بين نظامى القضاء ونظر المظالم، خاصة وأن القاضى لم يكن لديه سلطة تنفيذية لتنفيذ أحكامه عدا ما ترى سلطات الدولة وضعه تحت تصرفه. وهكذا تطور فى كل البلدان الإسلامية، بجوار القضاء الدينى، نوع من القضاء المدنى، وهو إن كانت الشريعة تمثل خطوطا عامة له، إلا أنه كان مؤسسا أساسا على قواعد العدالة والأعراف، ويتبع إجراءات مرنة وأكثر تساهلا. وقد كان هذا الاتجاه معززا بتعاليم القرآن الكريم الآمرة بإطاعة