الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وليس من العسير أن نثبت أن هذه "المجادلة" الابتداعية هى من ابتكار الجاحظ نفسه، فهو ينقب عن محاسن ومساوئ الديك والكلب، وفى الوقت نفسه يضع الردود التى توجه إلى "العائب"(موجه الاتهام). وهو يقدم هذه المناظرة إلى القارئ، فى شكل أدبى ممتع جدا وجذاب. . ولم يقتصر الجاحظ على الحديث عن الديك والكلب. . فهو يكشف عن محاسن ومساوئ الكثير من الأشياء الأخرى المعروفة فى زمانه مثل الخنزير والقرد.
وبهذه الأمثلة التى يسوقها الجاحظ، يرمى إلى إقناع القراء بأن كل شئ نسبى. وهو يأمل فى أن يؤدى هذا إلى أن تكون مهمته أيسر عندما يصل إلى شرح وتفسير أطروحته (فرضيته) حول نسبية الخير والشر بالإشارة إلى المخلوقات وضرورة تعايشهما، ومن ثم يبرهن على أنهما خير "فعلى" بالنسبة للخلق، وبقدر ما هما من عمل "اللَّه"(سبحانه). . ويتمكن الجاحظ فى الوقت نفسه من أن يهدم الإطروحة الثنائية ويثبت اثنين من المبادئ الجوهرية للمعتزلة وهما التوحيد - والتعديل (الوحدانية الإلهية والعدل الإلهى)، مع ما ينبثق عن ذلك منطقيًا، ومن أكثره أهمية الإرادة الحرة. ويجب أن نؤكد أن هذه الأطروحة الفلسفية يعرضها الجاحظ على شكل ردود مباشرة منه على الهجمات التى يوجهها "العائب" إلى الاثنين الكبار من المعتزلة لمناقشتها محاسن ومساوئ الكلب والديك.
والخلاصة كما يرى الجاحظ أن كل شئ نسبى، وكل شئ مهم وكل خلق له مكانة. . البيهقى وبتلورفن المحاسن والمساوئ.
وتبلور فن المحاسن والمساوئ
.
وهناك من سار على نهج الجاحظ واجتذبته طريقته. . ومن بين هؤلاء إبراهيم بن محمد البيهقى (القرن الثالث والرابع الهجريين - التاسع والعاشر الميلاديين). . ومؤلفه المشهور يحمل عنوان "المحاسن والمساوئ" وهو غير معروف لكتاب السّيَر العرب الأقدمين. . ولكننا يمكن أن نقول إنه كان شيعيا
معتدلًا (من الزيديين)، ووصل فى السلم الاجتماعى إلى أن أصبح من ندماء الملوك، مما جعله عرضة لهجاء الشاعر ابن الرومى؛ والأفكار والموضوعات التى يناقشها هذا الكتاب تتشابه مع تلك الموجودة فى كتاب "عيون الأخبار" لابن قتيبة مع استثناء واحد وهو الاتجاهات السياسية الدينية الموجودة فى الجزء الأول - والذى يجعل للكتاب مكانة فريدة ويميزه عن الأعمال الأخرى فى "الأدب"، هو منهجه الدقيق الذى يعالج به الموضوعات، وكذلك طريقته فى الكشف عن مشاعره تجاهها. فهو يقسم كل باب إلى قسمين متعارضين كأن يقول "محاسن كذا""ومساوئ كذا"، مثل "محاسن الفقر" و"مساوئ الفقر". . ولا تقتصر مصطلحات المحاسن والمساوئ على مفهوم واحد أو دلالة واحدة فهى تعنى المنافع والأخطاء، والحَسن والقبيح، والثناء والذم، والإيجابى والفاضل والطيب، وكل الصفات التى يمكن امتداحها وأيضًا السلبى والشرير والحقير وهكذا.
ويفسر البيهقى الدوافع التى جعلته يعطى كتابه هذا العنوان فيقول لقد سميته بهذا الاسم لأن أقصى اهتمامات العالم، منذ بدايته حتى نهايته يكمن فى تعايش الطيب (الخير) والسئ والمؤذى والمفيد والمحبوب والمكروه. فإذا بقى القبيح (أو الشر) وحده فنيت المخلوقات إذ سيقضى كل منها على الآخر، وإذا لم يكن هناك غير الحسن أو الخير، فسوف يختفى الآلم ولا يكون للتفكير العقلى آية قيمة.
وهذا التفسير ليس غير استهلال الرسالة الفلسفية التى قدمها الجاحظ فى كتاب الحيوان ردا على العائب (موجه الاتهام). . وبالرغم من أن البيهقى ينقل فقط السطور القليلة الأولى، وينأى بنفسه عن هدفه (أى كتاب الحيوان) العقدى إلا أنه بذلك يثبت أن ما حفزه وألهمه هما كتاب الحيوان، والتبرير الذى قدمه الجاحظ للجدل. والحق أن كتاب البيهقى يمثل المرحلة التى ظهر فيها أدب المحاسن والمساوئ كلون أدبى مستقل.
ومع ذلك -وكما رأينا- فإن البيهقى لم يطبق فى أغلب الحالات نهج الجاحظ الذى يتضمن مدح أو لوم (ذم) أى شئ أو أى موضوع من نوع ما؛ فهو يحرّفه عندما يبدو أن هذا النهج يضر باتجاهاته العقائدية مستخدما مصطلحات المحاسن والمساوئ كوسيلة للإعلان مقدما -فى عناوين الفصول- عن مشاعره وموقفه تجاه الموضوعات محل المناقشة.
ونأتى للمعايير التى تحكم اختياره للموضوعات وتملى عليه المواقف التى يتخذها وهى: مبادئه السياسية الدينية ومبادئه الأخلاقية والميول الاجتماعية الثقافية والأدبية والتى اتخذت شكلًا محددًا على يد الجاحظ وابن قتيبة فى أدب القرن الثالث الهجرى، التاسع الميلادى، والذى تعتبر كتبه مصادره الأولى.
ويؤيد مؤلف "المحاسن والمساوئ" فكره وأحكامه -التى يعبر عنها مقدمًا فى العناوين التى يختارها للفصول- بشذرات مختارة من الأدب تتمثل فى مقتطفات من النثر والشعر والنوادر والحكايات الطويلة والتقاليد (محاسن الأخبار وظرائف الآثار -كما يطلق هو نفسه عليها). . وباستثناء العناوين التى هى وحدها الانعكاس لتفكيره، لا يوجد أى تدخل شخصى منه فى النص.
وتجدر الإشارة إلى كتاب آخر هو المحاسن والأضداد "الكاتب مجهول غير معروف يبدو أنه كان يعرف الجاحظ. . وهذا الكاتب هو أول من حاكى البيهقى، إذ نقل عنه جزءًا كبيرًا من عمله. والجزء الأول من المحاسن والأضداد موجود فى كتاب البيهقى، ولكن بشكل أكثر اكتمالا ودقة. . ولكن هذا الكاتب المجهول لا ينقل شيئًا من الفصول التى تتعلق بالموضوعات السياسية الدينية التى تعكس ميول البيهقى ونزعاته. أما التعديلات التى أدخلها على الفصول والفقرات المنتحلة فتوضح أنه لم يفهم تمامًا المنهج الذى اتبعه هذا المؤلف، وأن نهج الجاحظ بطرح الثناء وإلقاء اللوم هو الذى أغراه.
وقد استبدل "بالمساوئ" كلمة "ضده"(أى العكس) فهو يقول محاسن كذا