الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيًا: - الشيعة الأمامية الاثنا عشرية:
أ- النشأة الفقهية والتاريخية الجغرافية:
التكوين والانتشار: تأخذ الشيعة الإمامية، على العكس من الطوائف الشيعية الأخرى كالزيدية والاسماعيلية، بفكرة الإمام الغائب. وقد وضع المذهب صفوة من الفقهاء للتأكيد على الولاء لآل على، والحفاظ على الروح الثورية للشيعة. وبعد الغيبة الصغرى (260 هـ/ 847 م) والكبرى (329 هـ/ 940 م) تركزت السلطة فى إمامة علماء الشيعة، الذين سرعان ما جمعوا من الأحاديث ما يؤيد مبادئهم فى مسائل "أصول الدين" و"أصول الفقه"، بعد ما تكونت المدارس الفقهية السنية، التى نجحت فى إرساء إمامة أهل السنة.
وقد عرض فى مادة "مرجع التقليد" بالتفصيل للوضع الفقهى للاجتهاد والتقليد فى الشيعة الامامية، وكذلك الأساس الذى بنى عليه الدور المؤثر للمجتهدين ومداه. ولذا فسيقتصر بحثنا، فى إطار الموضوعات الفقهية والاجتماعية والجغرافية والتاريخية والاقتصادية، على ما أظهرته الدراسات الحديثة من عناصر جديدة فى هذا الموضوع الذى لا تنقطع الخلافات بشأنه.
وقد وضعت أول صيغة للمذهب فى عهد الدولة البوهية فى وقت احتدام النزاع بين السنة والمعتزلة وكل فريق يذهب إلى أن اجتهاده يقوم على أساس من العلم لا على الظن، الذى يتأسس عليه مذهب الخصم. وفى هذا المضمار رفض العلماء القياس والاجتهاد، وحديث الواحد. وقد برر الطوسى (المتوفى 460 هـ/ 1067 م)، وهو يهاجم مبدأ السنة بأن كل مجتهد مصيب، أخذه بحديث الآحاد بتطبيق مفهوم الاختلاف، والذى على أساسه نجح الشافعى فى تأسيس سلطة طائفة أهل الحديث. وترتب على الاعتراف بالاختيار فى مسائل الرأى أن ثار الشك فى وضع المبادئ الفقهية، وجعل الشيعة يتقبلون مبدأ الاجتهاد الذى رفض سابقًا. وفى عهد السلاجقة دخل الفقه الشيعى مرحلة من الجمود.
وقامت نهضة شيعية فى نهاية حكم السلاجقة، تميزت بالأخذ بالمبدأ الأصولى. وقد كان ذلك فى مرحلة مبكره من قبل فقهاء الإمامية الموجودين فى الحلة، وهى المدينة التى أصبحت مركزا لهم بعد تخريب بغداد على أيدى التتار.
وعلى أيدى العلماء مثل ابن إدريس (المتوفى 596 هـ/ 1201 م) والمحقق (المتوفى 676 هـ/ 1277 م) والعلامة (المتوفى 726 هـ/ 1325 م) تطور فكر الشيعة فيما يتعلق بالاجتهاد وكانت موضع مناقشة مستمرة وظلت المسألة الشائكة المتمثلة فى شرعية الحكم والسلطة فى غيبة الإمام هى جوهر قضية الاجتهاد والتقليد. هذا وينقسم الفقهاء الإماميون من الناحية الزمانية تقليديا إلى متقدمين، ومتأخرين، ويرى ابن إدريس أن المتأخرين هم الأفضل.
ومع الاعتراف بانقسام مجتمع المؤمنين إلى مفتيين ومقلدين، أضفيت الصفات الباهرة من قبل المحقق والعلامة الحلى فى كتابتهما على طبقة رجال الدين، هذا وقد استعار الإمام العلامة قدرًا كبيرًا من فقهه من السنة. إلا أن اجتهاد علماء الشيعة قصر على الاجتهاد النصى المبنى على القرآن والسنة والرجال دون العقلى، ويقصد بالأول اللجوء للنصوص، وبالثانى اللجوء للقياس. ولم تزد مؤهلات المجتهد عن ذلك التى قال بها الطوسى بالنسبة للمفتى أو القاضى.
وكان التطور الحاسم فى النظرة للمجتهد هو اعتباره نائبا عن الإمام الغائب، باعتباره الأكثر حكمة، فى مجتمع من المقلدين، وما يستتبعه هذا التصور من سلطات وامتيازات. ومن خلال كم الأحاديث والتفاسير، لا يفهم بسهولة أثر العوامل المختلفة (الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والشخصية) على اختيار المجتهد. وعلى العموم، فالصياغة الأكثر توثيقا للاجتهاد هى المتضمنة فى كتاب "معالم الدين" لحسن بن زين الدين (المتوفى 1011 هـ/ 1602 م)، وقد هوجم هذا الكتاب بعنف من محمد أمين أسطر ابادى (المتوفى 1036 هـ/ 1626 م) فى مطلع المواجهة بين الأصولية والإخبارية، هذه المواجهة التى سيطرت فيما بعد على الفقه الشيعى الإمامى.
وفى العهد الصفوى (1501 هـ/ 1722 م) استطاع الأئمة المجتهدون المستقدمون من خارج إيران بهدف تطوير المذهب ووضعه موضع التنفيذ، أن يثبتوا سلطاتهم فى مواجهة الصفوة الدينية الفارسية المسيئة للدين. وكان نفوذهم أوضح ما يكون فى الوضع المتميز الذى تمتع به الكركى (المتوفى 940 هـ/ 1534 م)، الذى حاز لقب "خاتم المجتهدين"[على غرار خاتم الأنبياء] و"مجتهد الزمان" فى عهد السلطان طاهماسب (1524 هـ - 1576 م).
ورغم أن لقب "مجتهد الزمان" قد عهد احتفظ به أبناء الكركى من بعده طوال القرن العاشر/ السادس عشر، فإن هذا اللقب لم يكن يخول حامله أية امتيازات دينية فى مواجهة السلطات الدينية أو السلطات السياسية التى كانت مطلقة فى يد "الصدر" الذى كان يتبع الشاه مباشرة. وإذا كان أبناء الكركى قد استعادوا وضعهم فى عهد ميردماد (المتوفى 1041 هـ/ 1631 م) إلا أن أحد منهم لم يحمل ذلك اللقب مجتهد الزمان فى القرن الحادى عشر، ومع اتجاه كثير من الأئمة للصوفية أو الفلسفة، أصبحت السلطة الدينية مشاعة بين شيوخ الإسلام فى المدن الكبرى.
وفى عهد عباس الأول (1587 - 1629 م) أصبح شيخ الإسلام لمدينة أصفهان أكبر شخصية دينية فى المملكة، وهو المنصب الذى شغله محمد باقر مجلسى (المتوفى 1111 هـ/ 1699 م)، والذى ثبت بصفة قطعية سلطة المؤسسة الدينية بالتمهيد لإنشاء منصب "ملاباشى Mulla-bashi". ولكن رغم أهمية هذا المنصب، فيمكن اعتباره حلا مقتبسا من النظام الكنسى لإنشاء مؤسسة دينية تمثل السلطات الدينية العليا فى كافة أرجاء الدولة الشيعية. وفى عهد القاجار (1704 هـ - 1925 م) ظهر الشقاق بين الدولة وهذه المؤسسة الدينية نتيجة للسلطات المتزايدة والاستقلالية التى أعطتها لنفسها. هذا ولم يقدر للمبادئ المتعلقة بالنظام الدينى الشيعى أن تطبق بما يتفق مع فقهه الذى يقضى (بعد العديد من المراجعة والتنقيح) بتركيز السلطة فى يد رجال الدين إلا بعد الثورة الإسلامية فى 1979.
وبينما كان الاتجاه الأصولى يثبت أقدامه فى مواجهة الاتجاه الأخبارى، كان التنازع على السلطة بين الدولة والعلماء مثارا فى عهد القاجار. هذا ورغم أن القاجار لم يصلوا فى التوفيق معهم إلى حد قبول المبادئ التى قبلها الصفويون، فقد تمتعوا بشئ من الشرعية على يد قيادة من المجتهدين مثل الشيخ جعفر النجفى كاشف الغطاء (المتوفى 1227 هـ/ 1812 م) وميرزا أبو القاسم القمى (متوفى 1231 هـ/ 1816 م) وسيد جعفر كاشف (متوفى 1267 هـ/ 1850 م)، وأخذت هذه القضية الشرعية وضعا أكثر خطورة بإصدار الشيخ جعفر كاشف -شيخ المجتهدين- إذنا للشاه فتح على (1797 - 1834) بإعلان الجهاد باسم الإمام الغائب ضد روسيا.
ورغم ما أعطى للمجتهدين من سلطة، فقد أعيد النظر فى الرأى الذى بمقتضاه ظهر نظام "مرجعية التقليد"، والذى يعنى فى الواقع إنشاء هيئة متدرجة من المجتهدين تحت رئاسة واحدة. ورغم أنه من الوجهة النظرية فإن التدرج يكون على أساس "الأعلمية"، فإن العمل سار على الأخذ بمدى التأثير على المقلدين، أى على أساس "الرياسات"، متمثلة فى تقدير العامة وتحصيل الضرائب الدينية، وهو المفهوم الذى تطور مع التغيرات السياسية الاقتصادية والاجتماعية. فخلال القرن التاسع عشر كانت الرياسة مرتبطة بوجه خاص بمدى سيطرة المجتهد على الطبقات الاجتماعية والاقتصادية والمجتمعات العرقية (كالعرب والفارسيين والترك أو الناطقين بالتركية).
ويرتبط أيضًا التأخر فى هيكل تدرج الأئمة بالخلاف حول السلطة الذى استمر رغم إنشاء الملا أحمد نراغى (متوفى 1245 هـ/ 1829 م) لمبدأ تفويض السلطة للمجتهدين "الولاية". وقد جمع كل فريق قدرا من الأحاديث، تعارض ما جمعه الفريق الآخر، انتصارا لوجهة نظره حول شرعية السلطة للمجتهدين وبوصول مبدأ "ولاية الفقيه" إلى آخر مراحل تطوره على يد آية اللَّه الخُمينى (المتوفى 4 يونيو
1989 م) اختفى أى تحفظ حول هذا الموضوع كما سيرد لاحقا.
وبالنسبة للقوة الاقتصادية فقد تمتع بها أولئك المقيمون فى العتبات [المدن المقدسة الشيعية] بدعم من تجار بغداد والسلطات المحلية فى نهاية القرن 18 وفى عهد الشاه فتح على، اتجهوا إلى فارس حيث تمتعوا بدعمه. ورغم الصعوبات الاقتصادية التى نتجت عن القلاقل، فقد جمع المجتهدون أموالا طائلة من الهند وفارس وأماكن أخرى. ومع عودة مبدأ النيابة أو الولاية، العامة، والذى كان بداية لصالح الشيخ جعفر النجفى، أعطى المجتهدون لأنفسهم حق إدارة الضرائب الدينية، وخاصة "الخمس"، والذى يحجز منه لهم ما يسمى "سهم الإمام".
ورغم أن مجتهدى العتبات كانوا من ناحية المبدأ أعلى من مجتهدى فارس مرتبة، فإن الأخيرين وجدوا سلطانهم يقوى بما يحققوه من قوة سياسية واقتصادية. وقد كانت الأوقاف لفترة طويلة مصدرًا لدخلهم، إلى أن سحبها الشاه نادر (1736 - 1747 م) منهم. كما أعطوا لأنفسهم الحق فى تملك ما لا مالك له، علاوة على ما أغدقه عليهم الشاه فتح على من أوقات وعطايا مكنتهم أن يبسطوا سلطانهم روحيا وماديا على سائر المجتمع الشيعى الإمامى. كل ذلك أتاح لهم يدخلوا مجال الاستثمار الاقتصادى، وأن يضعوا أنفسهم على قدم المساواة مع الحكومة والطبقة الارستقراطية، خاصة مع تدهور سلطة القاجار فى نهاية عهد الشاه فتح على الشاه محمد (1834 - 1848 م). ورغم ما عرف عن المجتهدين عمومًا من صلاح وتقوى، فإن الأمر لم يخلو أن يوصم البعض منهم بالجشع وعدم الاستقامة فى جمع الأموال، كالمضاربة على الأسعار وقت المجاعة الأمر الذى ساهم فى إشعال الثورة ضد السيطرة الدينية قبل وبعد الثورة الدستورية عام 1905 - 1911 م.
وكان لظهور البابية أثر كبير على اضطرار المؤسسة الدينية الاحتماء بالسلطة الرسمية، كما بدءوا فى تحسين صورتهم الدينية، وكان ذلك من خلال شخصية من أبرز
الشخصيات، وهو الشيخ مرتضى الأنصارى، الذى دان له المجتمع الشيعى كلية بالرئاسة. وبدحر الحركة البابية والتخلص من الوزير الأكبر، ميرزا تاكى خان المعروف بميوله الإصلاحية المعادية للسيطرة الدينية أمكن عودة التعاون بين المؤسسة الدينية والسلطة المدنية، وإعادة التوازن بينهما. وقد وجد خليفة الأنصارى، الشيخ حسن الشيرازى سلطته تنازع فى النجف، فانتقل إلى سامراء، وهى مدينة متابعة للسنة، وقريبة من مكان اختفاء الإمام الغائب. وكان للشيرازى دور بارز فى ثورة مزارعى الدخان عام 1891/ 1892 م، كما اشترك بعض الطلاب الذين تبعوه إلى سامراء فى القيام بدور هام فى الثورة الدستورية 1905 - 1911 م.
وظل النزاع بعد قائمًا على قضية الزعامة الامامية للمجتمع الشيعى بعد موت الشيرازى وليس هذا فقط، بل أيضًا على التعامل مع الثورة الدستورية فى 1905 م والذى يعتبرها البعض قمة الأحداث الطويلة النابعة من فكرة عدم شرعية الحكومات القائمة، بينما تقلل دراسات حديثة من دور العلماء فى تلك الثورة، على الأقل فى مراحلها الأولى، التى ترجعها إلى تطورات اجتماعية واقتصادية. وقد انقسم العلماء بالنسبة لهذه الثورة أربع فرق: المحافظون الذين رفضوا الاشتراك فى ثورة ضد نظام الحكم، ولكنهم اتحدوا فى 1907 م مع الشيخ فضل اللَّه نورى (الذى أعدم عام 1909 م)، وأولئك الذين قبلوا مبدئيا بالدستور كحركة إصلاحية ثم رفضوه بعد ما انزعجوا مما به من آراء علمانية، وهم أتباع الشيخ ورى. وأولئك الذين قبلوه قبولا مشروطا، ثم أولئك الذين قبلوه قبولا غير مشروط، من شبان العلماء الذين رأوا فية وسيلة للحفاظ على المذهب الشيعى فى إيران، ولو على حساب شئ من امتيازاتهم.
وقد احتفظ رضا خان، (الشاه فيما بعد)(1925 - 1941 م) بعلاقات طيبة فى بداية عهده مع العلماء، الذين وجدوا فى السلطة الحاكمة درعا ضد قيام جمهورية علمانية كالتى قامت فى
تركيا. ولكن سرعان ما دب الخلاف بين العلماء -مع استمرار تفتت قياداتهم- والدولة بسبب الاتجاه للتحديث والمركزية والعلمانية، وفصل الدين عن السياسة. وتشبه مواجهته الصلبة ضد السيد حسن مداريس (الذى نفى ثم قتل عام 1936 م) بالمواجهة التى جرت بين الشاه محمد رضا بتلوى وآية اللَّه كاشانى (متوفى 1962 م) والسيد محمد بهبهانى (ابن الزعيم الدستورى الكبير البهبهانى).
وأخيرا مع ظهور مدينة قم كمركز علمى فى 1920 م، التفت المؤسسة الدينية تحت قيادة آية اللَّه بروجيردى (المتوفى 1961 م) والذى أصبح مرجع التقليد الأوحد. وبعد وفاته وتفتت القيادة الدينية، التفت مرة أخرى حول آية اللَّه الخُمينى، بما يتمتع به من نفوذ سياسى، فقد كان خصما قويًا للشاه، واستطاع مواجهة نظام الحكم البهلوى مواجهة حاسمة، اشعلتها سياسة القمع التى انتهجها الشاه ضد العلماء والمراكز التعليمية فى مشهد وقم، إلى أن انتصرت الثورة الإسلامية. وبعدها لم تستمر علاقة الخُمينى بالطبقة المثقفة ثقافة غربية، وبعض الذين عارضوا الاستغراب بل والعلماء الذين عارضوا آراءه عن ولاية الفقيه التى صاغها الخُمينى، وجعلها إحدى مؤسسات جمهورية إيران الإسلامية تمثلت فى عزل شريعة مدارى من منصب آية اللَّه العظمى عام 1982 م، فى أسوأ أزمة تشهدها المؤسسة الدينية الشيعية. ومنذ انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، ووفاة الخُمينى، والنزاع حول الزعامة الدينية لم يزل قائمًا. مجتهدى الامامية فى الهند، وكان على أثر إعلان المذهب الشيعى كمذهب رسمى فى إيران، أن أصبحت الأسرة العادل شاهينية فى بيجابور (895 - 1097 هـ/ 1490 - 1686 م) أول أسرة شيعية فى الهند وذلك فى 908/ 1503. ومن أهم الأسر الأخرى الأسرة القطب شاهينية فى جولكوندا (901/ 1496 - 1098/ 1687).
وقد قام العلماء الشيعيون الفارون من إيران بنشر المذهب فى الهند. وتحت حماية الشخصيات السياسية القومية، كانت العلاقات بين العلماء الإماميين فى بعض الأحايين متوترة مع السنة
والهندوس والصوفيين. وكان على المجتهدين أن يثبتوا وضعهم فى مواجهة الأخباريين أَيضا. ولقد كان التحول عن الأخبارية هو السبب فى تأسيس مؤسسة دينية إمامية مؤثرة فى لوكناو. وتحت قيادة المجتهد مولانا سيد دلدار على ناصر أبادى (متوفى 1235 هـ/ 1820 م) زاد تأثير الشيعة الإمامية، خاصة مع دعم السلطات الحاكمة لهم. وقد أسست مدرسة من أبناء وأتباع ناصر زبادى امتد تأثيرها إلى العراق وإيران.
واستمرت الزعامة الدينية لأبناء ناصر أبادى سارية وقوية، ولم يدخل العلماء والمجتهدون أنفسهم فى نزاعات مع البريطانيين حفاظا على حسن علاقتهم مع السلطات الحاكمة، إلى الأربعينيات والخمسينيات من القرن التاسع عشر. فأثناء تمرد عام 1957 - 1958 م انضم بعض العلماء للثورة، إلا أن رئيس المجتهدين، سيد محمد ناصر زبادى ظل منعزلا عن المشاركة فيها. وحين سعت السلطات البريطانية للمصالحة مع الشخصيات الهامة، دخل عدد من العلماء، من ضمنهم سيد على أكبر، الابن السادس لسيد محمد فى الإدارة البريطانية.
ورغم النشاط فى نشر المذهب، فقد أن نشاطات المجتهدين الشيعيين إلى انغلاق الطائفة على نفسها، اجتماعيا خاصة مع تطبيق طقوس خاصة بها (كطقوس الجنازات). كما أن الشيعة كانوا غير موافقين على قيام دولة باكستان السنية.
مجتهدى الإمامية فى العالم العربى، التطورات السياسية الدينية:
لعب المجتهدون أدوارا متباينة بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، تتراوح من السكون التام إلى الانخراط فى الأحداث السياسية بكل حماس. ففى العراق، قاوم مجتهدو "العتبات" الاستعمار البريطانى وأصدروا الفتاوى ضده. وبعد سقوط الملكية، تدهور وضع الشيعة فى العراق رغم أغلبيتهم، وخاصة بعد وصول حزب البعث للحكم 1963 م، وقد كانت زيارة الخُمينى للعراق فى 1965 م بمثابة باعث لحركة المعارضة الشيعية، التى
أخذت أشكال حركات محافظة متحمسة، أهمها "الدعوة الإسلامية"(تأسست عام 1960 م) و"المجاهدون"(تأسست بتأثير فارسى فى 1979 م). وفى نفس الوقت ظلت الزعامة على "المرجعية" قائمة. وقد زاد قمع الحركة الشيعية لدرجة إعدام القيادات البارزة، بواسطة نظام حسين، خاصة بعد نجاح الثورة الإسلامية فى إيران، وازداد أكثر خلال الحرب العراقية الإيرانية.
إما شيعة البحرين فقد اعتبروا البريطانيين حماية لهم ضد السنة. وقد تجدد التوتر بين السنة والشيعة بعد نجاح الثورة الإسلامية، واتخذت السلطات خطوات لمنع تأثير إيران على مواطنيها من الشيعة.
ورغم وجود جاليات شيعية لها وضعها فى بلدان خليجية أخرى، كالسعودية (أساسا فى القطيف والإحساء) وقطر والإمارات (خاصة دبى) وعمان، فلم يظهر فى تلك البلدان مجتهد بارز. وينطبق نفس القول على شمال أفريقيا، حيث يصل تعداد الشيعة إلى 4000 ألف نسمة.
وقد لعب شيعة لبنان دورا بارزا فى تطور الشيعة الإمامية، خاصة فى جبل العامل الذى أخرج مجتهدين بارزين كانوا وراء نشر المذهب فى إيران فى عهد الصفويين. وقد عانت الشيعة الإمامية، ككل الطوائف الأخرى، من النزاعات الطائفية العنيفة التى اشتعلت خلال حكم الدولة العثمانية، واستمرت بعد الاستقلال عام 1943 م. وقد قامت عام 1957 م نهضة تعليمية بمبادأة من زعيم الطائفة الشيعية الحاج سيد عبد الحسين شرف الدين فى الـ Tyre. وفى عام 1959 م وصل المدينة موسى الصدر، قادما من إيران ليتزعم الطائفة، ويخوض الحياة السياسية مؤسسا حزب "أمل"، ذو الروابط الوثيقة مع إيران، إلى اختفائه الغامض فى ليبيا عام 1978 م. واستمرت الطائفة من بعده تمارس نشاطها السياسى الذى عم جوانب منطقة الشرق الأوسط دون تعيين خليفة من بعده.
وقد قاوم مجاهدو وعلماء الشيعة الإمامية فى العراق ولبنان وسوريا طقوس الجنازات التى تمارسها الشيعة
الإيرانية، وذلك قبل أن يقعوا تحت سيطرة الثورة الإيرانية.
ثانيًا: مؤهلات ووظائف ومدى تأثير وألقاب المجتهدين فى الشيعة الإمامية:
الشروط الأساسية لكون الشخص مجتهدا، وهى البلوغ والذكاء والإيمان والورع والذكورة وطهارة النسب، وهى نفسها المطلوبة لمرجع التقليد. ويمكن للمرأة أن تصل لمنصب "ملا"، أما وصولها لدرجة الاجتهاد فأمر استثنائى. وعلى المجتهد أن يدرس كطالب ثلاث مراحل تعليمية عامة لكل الطلاب، مقدمات، دراسة النصوص الأصلية، درس خارجيى، يشمل الأقوال والمنافسات يقدم بعدها لأحد المجتهدين بحثا يحصل به على إجازة الاجتهاد.
وقد وضع بعض المجتهدين شروطا أساسية لدراسة علم الكلام وأصول الدين وأصول الفقه والتمكن من اللغة العربية والمنطق والتفسير والحديث وعلم الرجال (علم رواة الحديث) للحصول على الإجازة. بالإضافة إلى الورع والتقوى ولطول مدة الدراسة فلا يتصور الوصول لدرجة الاجتهاد قبل الثلاثين، والبعض يظل طالبًا إلى الأربعين. وتعتمد درجة المجتهد على سمعة المجتهد الذى أجازه، ومن ثم فإن الطلاب الذين يرغبون فى الوصول لمرتبة مرموقة يسعون للحصول على إجازات من عدة مجتهدين ذوى صيت طيب، وبذلك يؤهلون لدرجة "مجتهد مطلق". وسرعان ما يبدأ المجتهد فى تحقيق شهرة له متمثلة فى "المقلدين" له، ومن يخفق فى تحقيق ذلك يسمى "مجتهد محتاط".
وما إن يحصل المجتهد على إجازته حتى يكون مخولا بتولى آية وظيفة تقع فى اختصاص العلماء فى إدارة وتوجيه الشئون الدينية. من الناحية التطبيقية يمكن لشخص واحد أن يجمع بين وظائف المجتهد والفقيه والمفتى. كما يوكل إليهم أمور الولاية على أموال القصر ورعاية الأيتام، وتحصيل رسوم الأوقاف الهامة، وجمع الضرائب الدينية (كالخمس والزكاة). كما يقع فى أهم اختصاصاتهم الجلوس للقضاء والإفتاء. أما التدريس فيقوم به عادة من تفرغ لذلك ممن ينأى بنفسه عن المشاركة فى شئون الدولة.
وكما سبق بيانه فقد أعطتهم سلطاتهم المالية إمكانية إقامة علاقات