المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌محمد على باشا - موجز دائرة المعارف الإسلامية - جـ ٢٩

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌الماتريدى

- ‌المصادر:

- ‌الماتريدية

- ‌الماذرائى

- ‌المصادر:

- ‌الـ ماردينى

- ‌‌‌المصادر:

- ‌المصادر:

- ‌مارية القبطية

- ‌المازنى

- ‌المصادر:

- ‌مالك بن أنس

- ‌المصادر:

- ‌مالك بن عوف

- ‌المصادر:

- ‌مالك بن نويرة

- ‌المصادر:

- ‌المالكية

- ‌1 - المذهب:

- ‌المصادر:

- ‌انتشار المذهب

- ‌السند القيروانى:

- ‌السند الأندلسى:

- ‌السند العراقى:

- ‌ السند المصرى

- ‌المبادئ والنظرية الفقهية:

- ‌المالكية والمخالفين

- ‌المالكية والتصوف

- ‌الطبقات والمصادر الأخرى للمالكية وأتباعها

- ‌2 - انتشار المذهب:

- ‌الغرب الإسلامى:

- ‌الأندلس:

- ‌أفريقيا وبلاد السودان:

- ‌المصادر:

- ‌مالى

- ‌المصادر:

- ‌المبرد

- ‌ومن أشهر أعمال المبرد:

- ‌المصادر:

- ‌المبرز

- ‌المصادر:

- ‌المبرقع

- ‌المنتقى الهندى

- ‌المصادر:

- ‌متى بن يونس

- ‌المصادر:

- ‌المثل

- ‌أولا: تعريفه

- ‌ثانيًا: الأمثال العربية

- ‌ثالثا: المجموعات العربية

- ‌رابعًا: مجموعات حديثة

- ‌ المصادر

- ‌مجاهد بن جبر

- ‌المصادر:

- ‌مجاهد الموفق

- ‌المصادر:

- ‌مجاور

- ‌المصادر:

- ‌المجتهد

- ‌أولًا: - بالنسبة للسنة:

- ‌ثانيًا: - الشيعة الأمامية الاثنا عشرية:

- ‌المصادر:

- ‌المجرة

- ‌المصادر:

- ‌مجنون ليلى

- ‌1 - زودت المراجع العربية القديمة هذه الشخصية بسلسلة كاملة من الأنساب

- ‌2 - فى الأدب الفارسى والكردى والباشتو

- ‌المصادر:

- ‌3 - فى الأدب التركى:

- ‌المصادر:

- ‌المحاسن والمساوئ

- ‌1 - المجادلات العقيدية (المناظرات):

- ‌2 - المجادلات الدنيوية (مفاخرات، مناظرات):

- ‌كتابات الجاحظ:

- ‌وتبلور فن المحاسن والمساوئ

- ‌الثعالبى وفن المحاسن والأضداد

- ‌المحاسن والأضداد بعد الثعالبى:

- ‌المصادر:

- ‌محكمة

- ‌1 - مدخل عام:

- ‌المصادر:

- ‌2 - الدولة العثمانية:

- ‌(أ) ما قبل إصلاح النظام القضائى

- ‌أثر تدهور الإمبراطورية على المحاكم الشرعية

- ‌(ب) عصر الإصلاح:

- ‌المصادر:

- ‌3 - إيران

- ‌المصادر:

- ‌4 - فى بعض البلدان العربية فى العصر الحديث

- ‌1 - مصر

- ‌المصادر:

- ‌2 - سوريا

- ‌المصادر:

- ‌3 - لبنان

- ‌المصادر:

- ‌4 - العراق

- ‌المصادر:

- ‌5 - فلسطين

- ‌المصادر:

- ‌6 - الأردن

- ‌المصادر:

- ‌7 - المملكة العربية السعودية

- ‌المصادر:

- ‌8 - اليمن

- ‌المصادر:

- ‌9 - دول الخليج

- ‌المصادر:

- ‌10 - مراكش

- ‌المصادر:

- ‌تعديلات القوانين المطبقة فى المحاكم الشرعية

- ‌11 - إندونيسيا

- ‌المصادر:

- ‌محمد [صلى الله عليه وسلم] نبى الإسلام

- ‌المصادر:

- ‌محمد بن إبراهيم بن طهماسب

- ‌محمد بن حازم

- ‌ المصادر

- ‌محمد بن الحسن بن دينار

- ‌محمد بن الحنفية

- ‌محمد بن خلف

- ‌المصادر:

- ‌محمد بن طاهر الحارثى

- ‌المصادر:

- ‌محمد عبده

- ‌المصادر:

- ‌محمد على باشا

- ‌محمد على حاكما لامبراطورية اقليمية (1828 - 1841 م):

- ‌المصادر:

- ‌محمد بن القاسم

- ‌محمد بن محمود أبو شجاع

- ‌المصادر:

- ‌محمد بن مروان

- ‌محمد بن وصيف

- ‌المصادر:

- ‌المحمل

- ‌المصادر:

- ‌مخا

- ‌مخزوم، بنو

- ‌المصادر:

- ‌المخزومى

- ‌المصادر:

- ‌المدائنى

- ‌المصادر:

- ‌مدراس

- ‌1 - التسمية:

- ‌2 - التاريخ:

- ‌المصادر:

- ‌مدين شعيب

- ‌المصادر:

- ‌المدينة الزاهرة

- ‌المدينة المنورة

- ‌تاريخ المدينة حتى سنة 1926 م:

- ‌المدينة من 661 م إلى 1929 م:

- ‌المصادر:

- ‌المرابطون

- ‌1 - أصلهم وتاريخهم فى الشمال الإفريقى:

- ‌2 - سقوط المرابطين:

- ‌مراد، بنو

- ‌المصادر:

- ‌مراسم

- ‌مراسم الخلافة والفاطميين:

- ‌فى أسبانيا الإسلامية

- ‌فى إيران

- ‌فى الامبراطورية العثمانية:

- ‌فى بلاد الهند الإسلامية

- ‌المصادر:

- ‌مرثية

- ‌ فى الأدب العربى:

- ‌ فى الأدب الفارسى:

- ‌فى الأدب التركى:

- ‌فى الأدب الأردى:

- ‌فى الأدب السواحيلى:

- ‌مرج دابق

- ‌المصادر:

- ‌مرداس بن أدية

الفصل: ‌محمد على باشا

‌محمد على باشا

يعتبر محمد على باشا -والى مصر العثمانى من 1805 حتى 1848 م- واحد، من أعظم الشخصيات التى تثير الجدل فى تاريخ مصر الحديث، ويمكن تقسيم سيرته إلى أربعة أقسام:

(1)

وصوله إلى مرتبة الحاكم العام وهى تمتد من 1801 حتى 1811 م.

(2)

أما الفترة الثانية فمن سنة 1812 م حتى 1827 م والتى وضع خلالها الأسس الحربية والقواعد الاقتصادية لما سوف يصبح إمبراطورية إقليمية مركزها مصر.

(3)

أما الفترة الثالثة فتمت من 1828 حتى 1841 م وهى التى بلغت فيها العظمة المصرية ذروتها والتى شهدت أيضا أوليات انحلال نظامه الاقتصادى

(4)

أما الفترة الرابعة فمن 1841 حتى 1848 م وقد اصطبغت بصبغة الإنحلال.

ولد محمد على فى أخريات الستينيات من القرن الثامن عشر إذ إن تاريخ مولده المؤكد لا يزال موضع جدل، وقد أطل على الوجود فى ثغر قوله المقدونى الصغير، كان أبوه جنديا عثمانيًا ألبانى الأصل والتبعة ارتقى فى سلم القيادة حتى بلغ رئاسة القوة المحلية من الجند غير النظاميين، ولكنه احترف أيضًا مهنة التجارة فى الطباق (الدخان)، أما أمه فكانت من عائلة والى البلدة؛ وسلك محمد على نهج أبيه فى عمله حتى صدر الأمر بتعيينه سنة 1801 م نائب قائد العسكر الذين جُنِدَّوا فى قوله للانضمام إلى القوات العثمانية بمصر، وكانت هذه الكتيبة القولية جزءًا من الفريق العثمانى الألبانى الذى أرسلته تركيا لمقاتلة الفرنسيين فى مصر، وكان هذا بداية ظهور نجمه الذى استرعى الأنظار ووصوله إلى ذروة القوة فى هذه الولاية العثمانية التى كانت إذ ذاك مجال حرب.

سرعان ما تمكن محمد على من أن يأخذ بيده أزمةَ التنافس على القوة التى كانت تعم مصر إذ ذاك وإن يسيطر عليها سيطرة مكنّته من أن يوظّف -فى مهارة فائقة- جميع الفئات ويجعلها تعمل لصالحه، كما ظل على مدى أربع سنوات ونصف يناور هنا وهناك ليعيّنه

ص: 9169

الباب العالى واليا على مصر، وربما كانت تفاصيل هذه الأمور أقل أهمية من الطريقة التى أمكنه بها تحقيق هذه الغاية تحقيقا فوق العادة، وكانت الإدارة الرئيسية التى حققت آمال الضابط الشاب هى الوحدة العثمانية الألبانية التى ساعدته فى منتصف عام 1803 م من أن يصبح قائدها فكان ذلك حجر الأساس فى قيام سلطته وتبوّئه مكان الصدارة، ولقد كانت الجماعات الأخرى المنافسة له هى طوائف البكوات المماليك والوالى العام العثمانى والفرق العسكرية العثمانية وكبار رجالات البلد المحليين، وكان جوهر اللعبة -يمثل فى حفظ التوازن وقيام محالفات قوية، واللعب بالطوائف المعارضة فى ضرب كل واحدة منها بالأخرى، ومعرفة الطريقة التى يمكنه بها تحويل هذه الطوائف جميعها إلى معاونته، وقد نجح محمد على فى كل هذه الأمور.

على أن هناك أحداثا خطيرة أدت إلى ارتفاع شأن محمد على جرت فيما بين عامى 1803 و 1805 م، منها أن المحاربين المماليك كانوا قد انقسموا فيما بينهم إلى طائفتين متنافرتين احداهما بقيادة عثمان بك البرديسى والثانية بزعامة محمد بك الألفى. كما أن المعسكر العثمانى كان هو الأخر منقسم على نفسه بين الوالى خسرو باشا وقائد القوة الألبانية طاهر باشا، وقد أدى هذا إلى صراع عنيف بين الجماعات المختلفة، وحدث فى ابريل 1803 م أن ثار الألبان العثمانيون بالقاهرة لتأخر رواتبهم ففرّ خسرو إلى دمياط، وحينذاك أخذ طاهر القيادة فى يده واستدعى المماليك من الصعيد ولكنه ما لبث أن اغتيل، فكان هذا الحَدَث مساعدًا لمحمد على على أن تكون له قيادة الوحدة الألبانية العثمانية التى يمكن اعتبارها أقوى القوى الفعالة فى مصر حينذاك. ونجح محمد على فى تحالفه مع المماليك وهزم خورشيد باشا فى دمياط وجاء به إلى القاهرة يرسف فى أغلال الأسر، ولما كان محمد الألفى قد اتصل فى هذا الوقت بانجلترا فى طلب العون لفريقه فإن التحالف المؤقت اعتمد على العلاقات السياسية بين البرديسى ومحمد على، فأرسلت استانبول واليا آخر إلّا أن هذا التحالف

ص: 9170

قضى عليه فى مستهل 1804 م، وعاد الألفى فلم يجد ترحيبا به، واضطرته كتيبة ألبانية عثمانية على الهروب إلى الصعيد، ومن ثم أصبح الهدف الثانى هو التخلص من البرديسى، وكانت الوسيلة إلى ذلك هى بث الاضطراب فى القاهرة، فثارت قوات محمد على فى طلب رواتبهم المتأخرة مما حمل البرديسى على فرض ضريبة جديدة تُجْبَى من الأهالى فأصبح الموقف على وشك الانفجار والثورة وحينذاك ظهر محمد على كأنه المبعوث لخلاص أهل القاهرة فألغى الضريبة وأخرج البرديسى من المدينة، وبذلك وضع أساس تحالفه مع وجهاء البلد من العلماء والتجار الذين أتاحوا له شرعية أخذ السلطة فى يديه فى السنة التالية.

وفى خلال الستة عشر شهرا التالية قبل محمد بتعيين وال عثمانىّ وانشغل هو بالزحف مع جنده على المماليك، وحاول الوالى الجديد دَعْم موقفه المضطرب أمام القاهريين بجلب قوات جديدة غير نظامية شامية فلم يجن من سلوكهم الفوضوىّ سوى زيادة غضب العلماء وكبار الأهالى، وبعد عودة محمد على إلى المدينة استطاع بتعاونه مع أهل المكانة أن ينادى به واليًا على مصر، وبعد قليل أدرك الباب العالى مدى قوة محمد على وثبات مركزه فأخّر تعيينه واليًا، ولم تنجح بعد ذلك المحاولات التى بذلت لتحويله من ولاية إلى غيرها مثل جدة وسالونيكا، ولم يكن هذا الاعتراف من الباب العالى سوى اعتراف بقوة مكانة الباشا فى وجه منافسيه للاستحواذ على السلطة فى مصر، وقد استطاع محمد على فى السنوات الست من 1805 حتى 1811 أن ينجح فى تثبيت حكمه بتصفية جميع معارضيه، وكانت هذه صفحة جديدة فى تاريخ مصر الحربى والسياسى وفى تاريخ محمد على نفسه، إلّا أن أكبر خطر كان يهدد سلطانه على مصر جاءه من ناحية المماليك، الذين وإن كانوا منقسمين فيما بينهم إلا أنهم اعتصموا بالصعيد، فلم يدخر محمد على وسعا فى استعمال كل الأساليب فى مواجهتهم فحاول استمالة أكبر عدد منهم إلى جانبه أما

ص: 9171

من لم يُجْد ذلك معهم نفعا فقد رأى مقاتلتهم. ولقد جرت أول نقطة تحوّل فى نضال محمد على ضد المماليك فى أخريات سنة 1806 م ومطلع السنة التالية فقد مات فى خلال أربعة أشهر كل من البرديسى والألفى، وأصبح المعسكر المملوكى خاليا من قيادة تستجيب لها الجماهير فى الوقوف فى وجه الوالى، وعلى الرغم من أن ممثل الحكومة البريطانية وقنصلها العام بذلا جهدا كبيرا فى إعادة النظام المملوكى إلا أن ذلك لم يُجد نفعا، فقد استطاع محمد على أن يشدّد قبضته على البلاد بواسطة بعض المناوشات هنا وهناك، حتى إذا كان مارس عام 1811 وجّه للمماليك ضربة قاتلة باغتياله غدرا قوادهم الذى دعاهم إلى حفل أقامه بالقلعة بمناسبة ترقية ولده طوسون وسفره للحجاز، وتلى ذلك تصفية على مجال أوسع للمماليك فى ولايات مصر وبلغ قتلاهم مئات عدة، وتعتبر مذبحة القلعة هذه نهاية قوة المماليك بمصر وإن دخل الكثيرون منهم فى الطبقة العثمانية المصرية الرفيعة، واستمر هؤلاء فى الخدمة فى الوظائف الحربية والمدنية الكبرى طوال عهد محمد على وما بعده. على أن الباشا صادف تحدّيات داخلية وخارجية فلقد أرست فى ميناء الإسكندرية فى مارس 1807 م قوة بريطانية وكذلك قوة فرنسية بقصد مساعدة المماليك فى الاستيلاء على الحكومة فى مصر، وعجزت القوات البريطانية عن احتلال رشيد وحاصرتها قوات محمد على بالإسكندرية وضيقت عليها الخناق فجلَتْ عن البلاد بعد الاتفاق. وقد أدّت هذه التطورات إلى إعطاء محمد على فرصة كان محتاجا إليها لإلتقاط أنفاسه من التدخل العثمانى والبريطانى على السواء. غير أنه صادف قوة داخلية معارضة له تلك هى جماعة العلماء بالقاهرة. ولقد رتب محمد على خلال الفترة الأولى من حكمه أن يمكّن لنفسه بتجريده كل ذوى الشأن من السلطة والقوة السياسية فى مصر، وكانت طبقة العلماء هى أكثر هذه الجماعات تأثرا بهذه الخطة من جانبه، إذ كان اعتمادهم الرئيسى على ما يدره

ص: 9172

عليهم اشرافهم على أملاك الأوقاف من دَخْل كان يساعدهم على أن يكون لهم النفود القيادى فى البلد، كذلك كان للعلماء نفود إجتماعى من خلال الطرق الصوفية الموجودة بمصر فى دلك الوقت، وإذ أخذ سلطانه فى القوة بدأ فى العمل على إضعاف نفوذ العلماء ووضعهم تحت سيطرة الدولة، وكان أول هدف له هو عمر مكرم. الذى كان قد توثق ما بينه وبين محمد على أثناء أزمة 1804/ 1805 م حيث دفع جماهير القاهرة للوقوف إلى جانب الوالى، فلما كان منتصف عام 1809 م أقدم محمد على خطوة شديدة الخطورة على العلماء لم يسبق لها مثيل من قبل تلك هى فرضه الضرائب على أراضى الأوقاف فى محافظة البحيرة. فقام العلماء بقيادة نقيب الأشراف عمر مكرم بالاحتجاج على هذا العمل وبدأ الصراع بين الجانبين، ودفعته حاجته للمال للصرف على تحركاته الحربية الداخلية إلى العمل السريع للتخلص من عمر مكرم، وحاول تفريق وحدة العلماء بالتهديد تارة والإغراء تارة أخرى، حتى ينفضوا من حول عمر مكرم ويتركوه وحيدا، فلما لم يفلح فى ذلك نفاه.

ولقد بدأ محمد على خلال فترة دعم مركزه إلى إدخال تنظيم اقتصادى وإحكام قبضته على الأراضى، فعمد فى البداية إلى أن يحل أهل بيته وأعضاء أسرته من حوله محل "الملتزمين"، ثم عمد إلى احتكار الناتج والصادر فى الأراضى التى دخلت تحت سيطرته كلما سنحت له الظروف بهذا الاحتكار، ثم عرف مدى أهمية استقطاب دوى النفود من كبار أهالى البلد والبارزين منهم وبعض شيوخ البدو الأقوياء.

لم يكن محمد على يختلف عن المماليك السابقين فى أساليبه فى تحقيق استقلاله بمصر، ولكن سيره بحذر فى هذا الطريق ساعده على النجاح، فاستطاع أن يُرَوّض أضعف معارضيه، كما عمل على استرضاء أعدائه الذين كان من الصعب عليه أن يهزمهم، وأخيرا فإنه وثّق روابطه واطمأن إلى مجموعة صغيرة من رفاقه

ص: 9173

وأفراد عائلته وأصحابه القولتيين [أى من قوله] وهذه الطائفة هى التى ستكون فى العقود التالية قوام الحكومة العثمانية المصرية المنتقاة.

أما الفترة الثانية من عهد محمد على باشا فقد أمضاها فى وضع أسس إمبراطورية إقليمية وذلك من 1812 حتى 1827 م، ففى خلال هذه الخمس عشرة سنة كرّس الوالى قسما كبيرا من نشاطه فى جمع وتدريب طائفة من الصفوة المخلصة له لتكوين قوات قوية حسنة التدريب فى البر والبحر على السواء، وأقام قاعدة اقتصادية مزدهرة وإدارة حكومية فعالة وشبكة من الخدمات الإجتماعية قادرة على تخريج طبقة رفيعة تعمل فى خدمة الحكومة فيعمل هؤلاء جميعا يدا واحدة؛ ليجعل من مصر داخليا قوة ثانية تعمل على دعم الإمبراطورية التى يسعى الباشا لتأسيسها فى هذه الناحية من العالم خارجة عن سيطرة أملاك مولاه العثمانى الواسعة، وبينما كان محمد على يعمل على بناء هذه الكفايات أرسل أولاده القادرين على رأس حملات حربية إلى الحجاز والسودان وكريت والمورة ولقد أكدّت هذه الحملات مكانة مصر كقوة فعالة إقليميا. وما كاد محمد على يأخذ مقاليد الأمور فى يده بشدة حتى شرع فى تنفيذ مدّ سلطانه على ولايات الشام، وأفضى بهذه الرغبة سرا إلى القنصل البريطانى العام فى سنة 1812 م، ولم يكفّ عن الافصاح عن هذه الرغبة فى العقدين التاليين، كما أنه ما كاد يقضى على القوة المملوكية حتى اتجه للسيطرة على ثروة البلد، فمسح جميع الأراضى الزراعية ووضع نظاما لجمع الضرائب يخدم مالية البلد، وما أطل 1821 م حتى كانت جميع الأراضى فى بحرى مصر وقبليها قد حُصرَت وسجلت فى السجلات وقدرت ضرائبها، وبلغت الأراضى الزراعية والقابلة للزراعة خمسة ملايين ونصف مليون فدان، أما الأراضى التى تستحق عليها الضرائب فقاربت 60 % من هذه الأراضى، وقام محمد على فيما بين عامى 1812، 1815 م بإلغاء جميع "الالتزامات" وعوّض "الملتزمين" تعويضات بسيطة عما فى أيديهم وقدّر

ص: 9174

الضرائب التى تجبى على أراضى الأوقاف واعتمد فى ذلك على شيوخ القرى والجباة الأقباط.

واتبع محمد على نظام الإحتكار لزيادة الأرباح فى التجارة والتصدير، فراقبت الحكومة كل مظاهر النشاط الزراعى وثبّتت الأسعار والضرائب، ونظمت عمليات المبادلات التجارية والانتاج واهتمت بنظام الرى وجعلت الماء على مدار السنة، وقضت على المنافسة فى غلات البلد الرئيسية من القمح والشعير والفول والأرز والسكر والسمسم والنيلة والقطن القصير التيلة والقنّب، وأدخلت زراعة محصولات جديدة وأخصها القطن الطويل التيلة، مما زاد دخل الحكومة من سنة 1820 م فصاعدًا، واهتم محمد على باشا خلال هذا النصف الثانى من حكمه بالصناعة حتى تستطيع أن تزود الجيش بحاجاته فأقام أول ما أقام مصانع لصنع الذخيرة، وشهدت مصر منذ سنة 1815 م الترسانات فى قلعة القاهرة وبولاق ورشيد والإسكندرية، وأنشأ حول القاهرة مصانع النسيج وامتدت حتى غطت الوجهين البحرى والقبلى سنة 1820 م وأشارت الحكومة بتشغيل معامل تكرير السكر والنيلة ومطاحن الأرز ومدابغ الجلود، على أنه فى النصف الثانى من ثلاثينيات القرن التاسع عشر قامت صعوبات كثيرة فى وجه تجربة محمد على الصناعية التى كانت تعتمد على التكنولوجيا الأوروبية والخبراء الأوربيين مما أدى إلى تدهور هذه الناحية.

كذلك تميّز النصف الثانى من حكم محمد على بتغيرات جذرية فى تكوين قوات مصر الحربية وطبيعتها، وبدأت هذه التغيرات خلال حملاته على الأماكن البعيدة، وقد أدت هذه الحملات إلى تعزيز مكانة مصر وارتفاع شأوها واعتبارها القوة العظمى فى المنطقة وحسَّنت علاقاتها بالحكومة العثمانية، وأدرك السلطان أنه يمكن اعتبار محمد على حليفا مُجّديا وقت الحاجة وليس قوة تهديد [وأن كانت قد حدثت مواجهات بينهما فيما بعد]، كذلك أدّى نجاح الوالى إلى زيادة اهتمام الدول الأوربية بالأحوال المصرية، ونافست

ص: 9175

كل من إنجلترا وفرنسا الأخرى فى اهتمامها بزيادة نفوذهم السياسى بمصر، ووثق علاقاته بكل منهما كما يتبين ذلك من تقارير قنصل كل منهما العام وإن اهتم محمد على بفرنسا فاستعان بمستشارين فرنسيين وأصبح إيثار فرنسا واضحا منذ ذلك الحين مما جعل بريطانيا تقف ضده فيما بعد وتنصر الدولة العثمانية عليه، ولما كانت سنة 1811 م طلب الباب العالى من محمد على إخماد الثورة الوهابية فى بلاد العرب واحتلال المدينتين المقدستين بالحجاز، واستغل محمد على هذه الفرصة فى إبعاد عسكره عن الأمور السياسية ليكسب من ورائهم شكر دولة تقف منهم موقفا بعيدا عن الصداقة، وأصبح ولده طوسون القائد الأعلى لحملة أعادت السيطرة العثمانية على الحجاز سنة 1830 م، وكان محمد على قد ذهب بنفسه إلى الحجاز لمساعدة ولده طوسون وذلك سنة 1813 م، ونجح فى إقرار السلام بمقتضى معاهدة أبرمها بعد ذلك بعامين.

ومات طوسون على غير توقع فخلفه أخوه الأكبر إبراهيم باشا وقاد حملة ناجحة على نجد انتهت بهزيمة الوهابيين سنة 1818 م مما أبهج استانبول كذلك عقد محمد على بعد عامين من ذلك مع إمام اليمن معاهدة مدّت نفوذ الباشا على طول المنطقة الساحلية حتى باب المندب، غير أن الوهابيين استردوا سيطرتهم على نجد سنة 1824 م وإن ظل الحجاز تحت النفوذ العثمانى. وبعد أن فرغ محمد على من مشكلة بلاد العرب اتجه بنظره نحو السودان فاندفع بدوافع حربية واقتصادية إلى احتلال النوبة وسنار وكردفان، كما أنه شغل جنوده بأماكن بعيدة عن مصر واستغلهم فى القضاء على بقايا القوة المملوكية فى دنقلة، وكان هدف الباشا من ذلك أيضا السيطرة على تجارة السودان ومناجم الذهبء ولكن كان هناك ما هو أكبر من ذلك ألا وهو تكوين جيش من السودانيين، كما أراد أن يخلق قوة عسكرية على النمط الأوربى الحديث لتحلّ محل القوات التى تسير على النمط القديم، وقد استغرق فتح

ص: 9176

السودان عامين من 1820 حتى 1822 م، ومات فى هذه الأثناء. ولقد تم تدريب الجيش الجديد على يد الكولونيل سيف المعروف بسليمان باشا وكان جنديا فرنسيا استقال من الجيش الفرنسى بعد 1814 م وعين فى مصر ولما رأى محمد على ما عليه جند السودان من ضعف عمد إلى تكوين جيش من المصريين مما كان له نتائجه الكبيرة والبعيدة فى المجتمع المصرى وفى تكوين الطبقة العثمانية العليا المصرية، وأتيحت الفرصة لمحمد على لاختبار كفاءة جيشه الجديد حين التمس منه السلطان العثمانى محمود الثانى إخماد ثورة باليونان، وكان جزاؤه على ذلك أن منحه السلطان كلا من كريت وقبرص ثم المورة، وكان ابنه إبراهيم باشا يقود هذه الجيوش الجديدة من نصر إلى نصر حتى تمكن من الاستيلاء على أثينا فى يونيو 1827 م. ثم قامت روسيا وبريطانيا وفرنسا -على غير ما كان ينتظر محمد على- بأن فرضوا الهدنة فعارضتها الحكومة العثمانية ولكن بلا جدوى، وتحطم الأسطول العثمانى المصرى فى "نفارينو" فى أكتوبر 1827 م، وجلت قوات إبراهيم باشا من المورة بعد ذلك بسنة، وقد برهنت هذه الأحداث على أن محمد على كان المنافس والعدو الأكبر لكل من السلطة العثمانية والمخططات الأوروبية، وانصرف محمد على بعد أحداث اليونان انصرافًا تامًا لاحتلال بلاد الشام، مما حمل البعض على اعتباره استعماريا.

ولقد أدّى نظام الاحتكار وإدخال القطن الطويل التيلة وتكوين جيش جديد إلى حدوث تنظيم إدارى لم يكن موجودا من قبل وكان جوهر هذا التظيم هو تحويل حكومة الباشا إلى منظمة بيروقراطية إجتماعية، وقد أخذ هذا الاتجاه الجديد يظهر منذ مستهل الفترة الثانية من حكمه وذلك بتعيين أعضاء من آل بيته لمراقبة ما يجرى، ثم تلى ذلك إدخاله العناصر المحلية القيادية كموظفين تدفع لهم أجور من الإدارة، وإذا كان هذا التنظيم الادارى

ص: 9177