الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: التصوف البدعى
وهذا التصوف خليط من التصوف الإسلامي والتصوف الجاهلي، وقد يكون رجاله أهل علم وأصحاب نوايا حسنة، وأثرت فيهم العادات السائدة في عصرهم وخاصة ما فيها من بدع.
بعضهم حاول إصلاح الطرق فلم يستطع فاضطروا إلى تأويل أعمالهم التي هي في الظاهر مخالفة لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليوهموا الناس بأنها لا تعارض النصوص الشرعية وليسلموا من الطعون والانتقادات الموجهة إليهم.
وهؤلاء القوم ليس لهم تطلع لإقامة دين الله تعالى في الأرض بل هم يشغلون أنفسهم بأمور أهمها:
1 -
الاشتغال بالأذكار والأوراد وغالباً ما تكون طريقتهم في الذكر غير مطابقة للسنة بل تشتمل على بعض البدع، كأن يكون الذكر بصورة جماعية، ويسبق بعضهم بعضاً مما يجعل المسبوق يترك بعض الكلمات التي تخل بالمعنى، إضافة إلى الحركات المصطنعة التي يحدثونها أثناء الذكر من التمايل والقفز والتراقص.
كما أن أورادهم غالباً ما تشتمل على الاستشفاع والتوسل بالأولياء والصالحين والاستعانة بالمقبورين، والاستغاثة بهم والتوجه إليهم بالدعاء.
2 -
التربية والتزكية عن طريق النوافل، فهم غالباً يحرصون على الإكثار من صيام التطوع فبعضهم يتحرى صيام المندوبات والبعض يصوم زيادة على ذلك. وكذلك الصلوات فهم يكثرون من صلاة النافلة وقيام الليل بل يجعلوا لكل ليلة قيامًا مخصوصاً وتلاوة مخصوصة، ولا يجوز تخصيص يوم أو ليلة بعبادة مخصوصة إلا بدليل.
3 -
البيعة يهتم كثير من أصحاب الطرق الصوفية البدعية بأخذ البيعة من المريد وتكون البيعة على الطاعة المطلقة لشيخه، دون الاعتراض عليه. والطاعة المطلقة لا تصح إلا للمعصوم عليه السلام وكل بيعة لغيره يجب أن تكون مقيدة في حدود عدم المعصية لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فإنه ((لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف)) (1).
أبرز ما يميز هذا النوع من التصوف هو الوقوع في البدع.
أقسام البدعة:
البدعة تنقسم إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة:
1 -
البدعة الحسنة أو السنة الحسنة وهي تكون في الجوانب الحياتية والتقدم العلمي التجريبي وفى الأمور التي تخضع للمصالح المرسلة "المصالح العامة التي لا نص فيها " كعمل صندوق للصدقات وبناء المستشفيات والمدارس التعليمية وما شابه ذلك. 2 - البدعة السيئة وهي كل محدثة في دين الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة)) (2).
وقد وقع الصوفية في كثير من البدع والشركيات منها.
ما يكون من غلاة عباد القبور الذين يزعمون أن أرواح الأولياء تتصرف بعد الموت فيقضون الحاجات ويفرجون الكربات وينصرون من دعاهم ويحفظون من التجأ إليهم ولاذ بحماهم، فإن هذه من خصائص الربوبية
(1) رواه البخاري (7257) ومسلم (1840)
(2)
رواه الترمذي (2676) والطبراني (15328) قال الترمذي حسن صحيح، وصححه العراقي في ((الباعث على الخلاص)) (1) والألباني في ((صحيح الترمذي))
والذين يجعلون مع الله نداً يدعونه كما يدعو الله تعالى ويسألونه الشفاعة كما يسألون الله تعالى، ويحبونه كما يحبون الله تعالى. وقد حذر صلى الله عليه وسلم مما هو أدنى من ذلك فحين قيل له عليه السلام " ما شاء الله وشئت ". قال:((أجعلتنى لله عدلاً (نداً) بل ما شاء الله وحده)) (1).ومن ذلك أيضاً التبرك بالأماكن والأشخاص والأشجار وغير ذلك، وقد طلب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم شيئا من ذلك وهم حديثوا عهد بكفر وذلك حين خرجوا لغزوة حنين فمروا " بشجرة " بسدرة للمشركين يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط قالوا: اجعل لنا شجرة كذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((الله أكبر إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138] إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم)) (2).
ومن ذلك الذبح للأولياء والصالحين، وتقديم القرابين لهم، والذبح عند قبورهم. وقد نهي الله تعالى عن ذلك وحذر من الوقوع في ذلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162 - 163] وقال تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2] وقال صلى الله عليه وسلم ((لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من غير منار الأرض)) (3).وقد نهي صلى الله عليه وسلم عن الذبح عند الأوثان أو في أماكن يقام فيها عيد جاهلي وذلك حين سُئل عن رجل نذر أن يذبح إبلاً بأحد الأماكن فقال صلى الله عليه وسلم: ((هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية يعبد)) فقالوا: لا، قال:((فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟)) قالوا: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم)) (4).
ومنها الاستعاذة بالمقبورين والصالحين من الأولياء الذين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً. والاستعاذة معناها الالتجاء والاعتصام والتحرز والهرب من شيءٍ تخافه إلى من يعصمك منه.
وقد أمرنا المولى عز وجل أن نستعيذ به قال تعالى: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36] وقال أيضاً: وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ [المؤمنون:97 - 98] وقال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1].
ومنها الاستغاثة بغير الله تعالى والاستغاثة طلب الغوث لإزالة الشدة كالاستنصار طلب النصرة، والاستغاثة تمتاز عن الدعاء بأنها لا تكون إلا من المكروب قال تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال:9]
(1) رواه أحمد (1/ 283)(2561) والنسائي في ((الكبرى)) (6/ 245) قال العراقي في تخريج ((الإحياء)) (3048) إسناده حسن وقال أحمد شاكر في تحقيق الطبري (1/ 369) إسناده صحيح
(2)
رواه بهذا اللفظ الطبراني (3292) ورواه الترمذي (2180) وأحمد (5/ 218)(21947) وقال الترمذي حسن صحيح وكذلك صححه الألباني
(3)
رواه مسلم (1978)
(4)
رواه أبو داود (3313) والطبراني (1342) والبيهقي في الكبرى (10/ 83) وصححه الألباني
فقد وقع كثيرٌ من الصوفية والعوام في ذلك فمنهم من يدعو شيخه عند اشتداد الكروب فيقول: يا علي، ويا عبد القادر، ويا بدوي وأدى الغلو إلى أكثر من ذلك منهم من يسألهم الجنة وغفران الزلات حتى زعم أحدهم أن شيخة يجلس عند النار فلا يدع أحداً استغاثه يدخلها ونسجوا كثيراً من القصص المكذوبة فزعموا أن فلاناً استغاث شيخه فأغاثه، أو دعا الولي الفلاني فأجابه أو فرج كربته وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَومِ الْقِيَامَةِ [الأحقاف:5].
وممن وقع في ذلك البوصيري حيث قال:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به
…
سواك عند حلول الحادث العمم
ولا يضيق رسول الله جاهك بي
…
إذ الكريم تحلى باسم منتقم
فإن لي ذمة منه بتسميتي
…
محمداً وهو أوفى الخلق بالذمم
إن لم يكن في معادي آخذاً بيدي
…
فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
فقد وقع البوصيري بأخطاء كثيرة في أشعاره هذه منها: -
1 -
إنه نفى أن يكون له ملاذ إذا حلت به الخطوب إلا الرسول عليه السلام وليس ذلك إلا لله.
2 -
تضرع للرسول عليه السلام وناداه ودعاه وطلب منه أموراً لا تطلب إلا من الله عز وجل.
3 -
طلب منه الشفاعة عندما يريد الله تعالى الانتقام ولا يمنع ذلك أحد. قال تعالى لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ [الزمر:19].
4 -
ادعى أن له ذمة لأن اسمه محمد وهذا غير صحيح لأنه ليس بين الرسول عليه السلام ومن اسمه محمد ذمة إلا بالطاعة، وكم من الطغاة من سماه أهله بمحمد.
5 -
زعم أنه لا خلاص له إلاّ إذا تفضل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذ بيده يوم القيامة، والخلاص والنجاة يوم القيامة تكون بفضل الله عليه.
وكذلك البرعي وقع في شيء من ذلك في قوله:
أرجوك في سكرات الموت أن تشهدني
…
كيما يهون إذ الأنفاس في صعد
وإن نزلتُ ضريحاً لا أنيس به
…
فكن أنيس وحيد فيه منفرد
وقال أيضاً:
يا سيدي يا رسول الله يا أملي
…
يا موئلي يا ملاذي يوم يلقاني
هبني بجاهك ما قدمت من زلل
…
جوداً ورجح بفضل منك ميزاني
واسمع دعائي واكشف ما يساورني
…
من الخطوب ونفّس كل أحزاني
فأنت أقرب من ترجى عواطفه
…
عندي وإن بعدت داري وأوطاني
فقد وقع البرعي بأبياته هذه في أخطاء عدة منها: -
1 -
أنه يستغيث بالرسول عليه السلام ويطلب حضوره عند موته ليهون عليه سكرات الموت وهذا ليس إلا لله عز وجل.
2 -
وطلب من الرسول عليه السلام أن يؤنس وحشته في قبره وليس للعبد أنيس إلا العمل الصالح.
3 -
وطلب منه أن يرجح ميزانه يوم القيامة ولا يرجح الميزان إلا الإخلاص والعمل الصالح
4 -
وطلب منه عليه السلام أن يكشف عنه الضر والكربات ويهون عليه الحزن والخطوب.
5 -
وهو الذي يرجو عاطفة الرسول صلى الله عليه وسلم مهما بعدت الدار والرسول صلى الله عليه وسلم لا يرجى بعد موته.
6 -
زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أقرب من يرجى، والله تعالى هو القريب المجيب وليس الحبيب محمد عليه السلام بعد وفاته.
ومن الأخطاء التي وقع فيها القوم التوسل. والتوسل هو اتخاذ الوسيلة وهي الطريقة التي توصل إلى المطلوب " المرغوب".
الوسائل نوعان كونية وشرعية:
1 -
الوسيلة الكونية: وهي كل سبب طبيعي يوصل إلى المقصود بخلقته التي خلقه الله بها ويؤدي إلى المطلوب بما أودعه الله فيه من سنن كالماء فهو الوسيلة إلى ري الظمآن والطعام هو الوسيلة لحصول الشبع للجائع، والملابس تحفظ الإنسان من حرارة الشمس وبرد الشتاء، واستعمال الزراعة والري للحصول على الغذاء والزواج وسيلة لحصول الذرية وهي مشتركة بين المؤمن والكافر من غير تفريق ويشترط لاستعمالها شرطان أن تكون مباحةً شرعاً، وثبت بالتجربة وغالب الظن تحقق المطلوب بها.
2 -
والوسيلة الشرعية: وهي كل سبب يوصل إلى المقصود عن طريق ما شرعه الله تعالى وبينه في كتابه وسنة نبيه وهي خاصة بالمؤمن المتبع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
- فالوضوء والغسل والتيمم وسيلة لحصول الطهارة، والامتناع عن الطعام وسيلة لحصول الصيام والنطق بالشهادتين والعمل بمضمونها وسيلة لحصول مرضاة الله تعالى والفوز برحمته ودخول الجنة، وإتباع السيئة الحسنة وسيلة إلى محو السيئة، وقول الدعاء المأثور بعد الأذان وسيلة إلى نيل الشفاعة، وصلة الرحم وسيلة لطول العمر وسعة الرزق. ويشترط فيها ثبوتها بالشرع الحنيف. فهذه القضايا السابقة تحقق تلك الغايات والمقاصد عن طريق الشرع وحده، لا عن طريق العلم والتجربة أو الحواس، فنحن لم نعلم أن صلة الرحم تطيل العمر وتوسع الرزق إلا من قوله صلى الله عليه وسلم:((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه)) (1).
التوسل المشروع لا يتم إلا بأحد أنواع ثلاثة: -
1 -
التوسل باسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته.
2 -
التوسل بعمل صالح قام به الداعي.
3 -
التوسل بدعاء رجل صالح.
النوع الأول: التوسل باسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته: قال الله تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] ومنه ما ورد في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أحد أدعيته ((اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)) (2).وفي الحديث من كثر همه فليقل ((اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك ماض فيَّ حكمك عدل فيَّ قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي " إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجاً)) (3) وفي الحديث، ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني)) (4).
النوع الثاني: التوسل إلى الله بصالح الأعمال:
وهو أن يتوسل الإنسان بصالح أعماله إلى الله عز وجل لأن هناك مناسبة بين توسل الإنسان إلى الله وبين عمله الصالح الذي أخلص به لوجه الله تعالى والدليل على صحة ذلك ما ورد في القرآن الكريم قال تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16] وقال تعالى: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:53].
(1) رواه البخاري (5986) ومسلم (2557)
(2)
رواه النسائي (1305) وأحمد (4/ 264)(18351) وابن حبان (1971) وصححه الألباني
(3)
رواه أحمد (1/ 391)(3712) وابن حبان (972) والحاكم (1877) قال الهيثمي في ((المجمع)) (10/ 136) رجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهنى وقد وثقه ابن حبانوصححه الألباني في ((الصحيحة)) (199)
(4)
انظر صحيح مسلم (2717)
وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((انطلق ثلاثة رجال ممن كان قبلكم، فآواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار.
فقالوا: والله لا ينجينا من هذه الصخرة إلا أن ندعوا الله بصالح أعمالنا.
فقال أحدهم: كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فعاقني طلبُ يوماً، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما، فجئتهما به فوجدتهما نائمين، فتحرجت أن أوقظهما، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فقمت والقدح بيدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما ..
اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فأفرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة انفراجاً لا يستطيعون الخروج منه.
وقال الثاني: " اللهم لقد كانت لي ابنة عم، كانت أحب الناس إلى، فراودتها عن نفسها فامتنعت، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها مائة وعشرين ديناراً على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها، قالت: لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجتُ من الوقوع عليها وانصرفت عنها وهي أحب الناس إلى، وتركت المال الذي أعطيتها إياه.
اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج.
ثم قال الثالث: " اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجورهم، غير رجل واحد منهم، ترك أجره وذهب، فثمرت أجره، فجاءني بعد حين، فقال يا عبد الله أدِّ إلى أجرتي، فقلت له: إن أجرتك هي كل ما ترى من الإبل والغنم والبقر والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئُ بك، ورويت له القصة، فأخذ ذلك كله فاستاقه، ولم يترك منه شيءاً. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا من الغار يمشون)) (1) وهذا حديث صحيح.
وهذا الحديث يدل على صحة أعمالهم فيها وإن الله قبلها وقبل دعاءهم وتوسلهم بصالح أعمالهم.
النوع الثالث: التوسل بدعاء الصالحين:
وهو كأن يقع المسلم في ضيق شديد أو تحل به مصيبة كبيرة ويعلم من نفسه التفريط في جنب الله تعالى فيحب أن يتقرب إلى الله بسبب قوي، فيذهب إلى رجل حيث يعتقد فيه الصلاح والتقوى والعلم والفضل فيطلب منه أن يدعو له ربه أن يكشف عنه الضر ويفرج كربه. ومن ذلك توسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بدعاء العباس رضي الله عنه والاستسقاء به حيث قال:(اللهم إنّا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنّا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون)(2).
والمراد أن عمر رضي الله عنه كان يقول للعباس رضي الله عنه قم فاستسق لنا ربك فيدعو لهم فيسقيهم الله تعالى.
ومن ذلك أن معاوية رضي الله عنه دعا يزيد بن الأسود يستسقي لهم فدعا لهم ودعا الناس فسقاهم الله. وأما الشفاعة فهي شبيهة بالتوسل وليس لأحد أن يشفع عند الله تعالى إلا بإذنه لقوله تعالى: مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن شفاعته بأن الله عز وجل يحد له حداً ويقول له اشفع في هؤلاء فيشفع (3) وأما الشفاعة في الدنيا فيجوز للإنسان أن يشفع شفاعة حسنة. ولا تصح الشفاعة في ظلم ولا في حد من حدود الله لقوله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد مستنكراً ((أتشفع في حد من حدود الله، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها)) (4).
(1) انظر ((صحيح البخاري)) (2272)
(2)
رواه البخاري (1010)
(3)
رواه البخاري (4476)
(4)
رواه البخاري (3475) ومسلم (1688)
والشفاعة في الآخرة لا تطلب إلا من الله تعالى فليس لأحدنا أن يطالب أو يرجو الشفاعة من أحد حتى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يطلب ذلك من الله تعالى فيقول اللهم ارزقنا شفاعته.
وأما ما ورد في حديث الضرير حين توضأ وصلى ركعتين، وكان من دعائه بعدهما عن محمد صلى الله عليه وسلم اللهم شفع فيَّ محمداً وشفعني فيه، فالمراد من قوله اللهم تقبل دعاءه لي ودعائي له، فيكون المراد أيضاً طلب استجابة دعاء كلٍ منهما من الله عز وجل.
وأما الأحاديث الأخرى الواردة وتشمل على السؤال بحق النبي، أو بجاه النبي أو بحق السائلين فلا يقوى منها حديث لدرجة الصحة، فكلها بين الضعيف والموضوع.
من أبرز رجال التصوف البدعي:
البوصيري:
هو محمد بن سعيد بن حماد بن عبد الله الصنهاجي البوصيري المصري كنيته أبو عبد الله ولقبه شرف الدين، وهو شاعر مليح المعاني حسن الديباجة. والبوصيري نسبة إلى " أبو صير " من أعمال بني سويف بمصر، وأمه منها، وأصله من المغرب، وتوفى بالإسكندرية. عاش بين عامي 608– 696هـ، 1212– 1296م. له ديوان شعر وأشهر أشعاره البردة.
وسميت البردة بهذا الاسم – كما زعموا - لأن البوصيري أصيب بشلل نصفي، فأنشدها فرأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام فألقى عليه بردته فبرئ، وكان بعض الفقراء إذا مرض قرأ البردة فبرئ والله أعلم. وهذا لا يصح شرعاً لاشتمال البردة على مغالطات شرعية وعقدية ولا يصح عقلاً.
البرعي:
وهو عبد الرحيم بن أحمد بن علي البرعي اليماني، وهو شاعر متصوف من سكان اليمن، درس العلم وأفتى ودَرَّسَ، له ديوان شعر مطبوع أكثره في المدائح النبوية، ينسب إلى برع بتهامة، توفيَّ سنة 803هـ – 1400م.
المصدر:
مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص59 - 70
المطلب الثالث: التصوف الفلسفي (الباطل)
وهو التصوف الذي اختلط بالفلسفات القديمة حتى غلبت عليه أفكار الفلاسفة كالفلسفة الإشراقية والزرادشتية وهو أيضاً يشتمل على رهبانية النصاري، ودردشة الهنادكة، ودخل إليه الشرك أيضاً عن طريق تأثره بالفلسفة اليونانية والرومانية والفارسية.
وأصحاب هذا النوع من التصوف تحللوا من شريعة الإسلام ومبادئه ووقعوا في جاهلية عمياء حيث وقعوا في الخرافات والأكاذيب وابتعدوا عن الدعوة إلى الله والوعظ والإرشاد وانقطعوا لاستقبال الهبات والنذور من جهلة القوم. وأبرز الأفكار التي ظهرت عند هؤلاء القوم هي وحدة الوجود والحلول والاتحاد والاعتماد على العلوم الكشفية.
والملاحظ أن هذا النوع من التصوف لا يستمد أصوله وأفكاره من مصادر إسلامية لذلك قوبل بمعارضة شديدة من العلماء والأئمة كالغزالي في كتابه (المنقذ من الضلال)، ابن تيمية في (فتاويه)، ابن القيم في (مدارج السالكين)، وابن الجوزي في (تلبيس إبليس).
من أبرز رجال التصوف الفلسفي:
1 -
الحلاّج (240):
هو الحسين بن منصور الحلاج الفارسي ولد بفارس سنة 244هـ البيضاوي البغدادي، جدهُ زاردشتي، صوفي متكلم وله اتصال بالقرامطة له شطحات كثيرة، وأقوال سقيمة منها قوله " ما في الجبة إلا الله "" وأنا الحق " ولا يؤمن بفريضة الحج يقول أبو بكر بن الصولي عنه رأيت الحلاج وخاطبته فرأيت جاهلاً يتعاقل وغبياً يتبالغ وفاجراً يتزاهد وكان مع جهله خبيثاً، وكان متشدداً وعنيداً ومغالياً ويكتنفه كثير من الغموض وقد قتل مصلوباً بفتوى من علماء عصره سنة 309هـ.
2 -
ابن الفارض (241):
هو عمر بن علي بن المرشد بن علي الحموي الأصل المصري ولد سنة 576هـ، شاعر صوفي لقب بسلطان العاشقين اشتغل بفقه الشافعية أخذ الحديث عن ابن عساكر، وأخذ عنه الحافظ المنذري، حبب إليه سلوك طريق الصوفية كان يعتزل الناس ويأوى إلى المساجد المهجورة والأماكن الخربة.
توفى بالقاهرة سنة 632هـ، وله ديوان شعر وشعره ينعق بالاتحاد الصريح.
3 -
ابن عربي (242):
هو محيي الدين بن محمد بن على بن محمد بن أحمد بن عبد الله الطائي، الحاتمي، صوفي ومتكلم وفقيه وأديب ومفسر، ولد بالأندلس سنة 560هـ كان يلقب بالشيخ الأكبر والكبريت الأحمر، له أراء سقيمة أنكرها عليه كثيرٌ من أهل عصره واتهموه بالزندقة وعمل بعضهم على قتله خاصة في مصر، وحرم الشيخ جلال الدين السيوطي النظر في كتبه، له مؤلفات كثيرة منها الفتوحات المكية، وفصوص الحِكَم، من أقواله: الوجود كله واحد، وجود المخلوقات عين وجود الخالق، وجود الله هو الوجود الحقيقي، وجود العالم هو الوجود الوهمي، ويبني ابن عربي على وحدة الوجود وحدة الأديان وغير فكرة التوحيد بقوله ليس في الوجود على الحقيقة إلا الله ولا معبود في الواقع إلا الله وقد قال عن نفسه كيف يحبس من حل منه اللاهوت في الناسوت. وكانت وفاته عام 638هـ بدمشق ودفن فيها وله قبر يزار في أيامنا هذه.
4 -
ابن سبعين (243):
هو عبد الحق بن محمد بن نصر الاشبيلي المرسى القرمطي، ولد سنة 614 وتوفى سنة 669 هجرياً، وتوفى منتحراً، قيل أنه فصد الدم من يديه وتركه ينزف حتى تصفى فمات.
وهو صوفي وحكيم درس العربية وآدابها بالأندلس.
من أقواله السقيمة " لقد كذب ابن أبي كبشة حين قال لا نبي بعدي.
ومن مؤلفاته أسرار الحكمة – الحروف الوضعية في الصور الفلكية – جواهر السر المنير.
ولا تخلو مؤلفاته من الأقوال الباطلة كان يكثر من القول بوحدة الوجود في مؤلفاته ومواعظه.
5 -
شهاب الدين السهروردي (244):
هو أبو الفتوح شهاب الدين يحيى بن حبش بن أميرك السهروردي، الملقب بالشيخ المقتول، ولد عام 549هـ في مدينة ميديا المعروفة باسم سهرورد من أعمال زنجان من فارس (العراق العجمي)، تنقل في البلدان، تتلمذ على يد عبد الكريم الجيلي " الجيلاني " شيخ فخر الدين الرازي، طالع كتب ابن سينا وتصوف وتقرب من الملك الظاهر بن السلطان صلاح الدين الأيوبي وحضر مجالسه.
اختلف الفقهاء مع السهروردي لقوله (إن الله قادر على أن يخلق نبياً بعد محمد صلى الله عليه وسلم وأمر صلاح الدين ابنه الملك الظاهر بقتله لانحلال عقيدته، وكان ذلك عام 587هـ، كان مستوى القامة يميل إلى سماع الموسيقى، يحتقر من يتقرب إلى السلطان والأبهة الدنيوية، سليط اللسان، لا يحترم الفقهاء والشيوخ، وكان أحياناً يرتدي الخرقة الصوفية والثياب المهلهلة؛ وكان رديء الهيئة ذريء الخلقة لا يغسل له ثوباً ولا يقص ظفراً ولا شعراً.
وكان أوحد زمانه في العلوم الحكمية، جامعاً للفنون الفلسفية بارعاً في الأصول الفقهية، مفرط الذكاء، فصيح العبارة، علمه أكبر من عقله، من أقواله حرام على الأجساد المظلمة أن تلج ملكوت السموات .. اللهم خلص لطيفي من هذا العالم الكثيف.
وله كثير من المؤلفات بعضها مطبوع مثل: هياكل النور، رسالة في اعتقاد الحكماء، حكمة الإشراق وبعضها مخطوط مثل: المشارع والمطارحات، التلويحات، مقامات الصوفية.
وذكر ابن خلدون الاختلاف في اسمه هل هو يحيى أم أحمد أم عمر والمترجم عنده أنه يحيى وذلك لأن جماعة من أهل الفن كتبوه بهذا الاسم.
المصدر:
مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص70 - 73