الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السادس: ألفاظ الأذان جامعة مانعة لا تقبل الزيادة أو النقصان
مما لا شك فيه أن ثمة فرقا واضحا بين قولنا: الحكمة من هذا الحكم وبين قولنا: العلة لهذا الحكم، وإذا كان الناس قد تنازعوا في المعنى الثاني وفي جواز إطلاق القول بأن أحكام الله معللة أم لا، فإن الناس قد اتفقوا على أن للأحكام أسراراً وحكما، قد علمها من علمها وجهلها من جهلها، ولما كان الأذان أحد تلكم الشعائر العظيمة في هذا الدين فقد أحببت هنا أن أقف بك أيها القارئ العزيز عند بعض الحكم التي يمكن أن نتلمسها من وراء ألفاظ الأذان فأقول: إن الرب ـ جل وعلا ـ حكيم. وشرع الحكيم ـ بلا شك ـ حكيم. ولا بد أن يكون لكل أمر من أوامره ـ قولاً أو عملاً ـ حكمةً وسراً يتناسب مع الزمان والمكان والحال، علمه من علمه وجهله من جهله! وشعائر الدين لا نقص فيها فتحتاج إلى زيادة وتكميل، ولا
زيادة فتحتاج إلى تهذيب وتقليل، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] ، والأذان أحد شعائر هذا الشرع الحكيم. كل كلمة من كلماته مختارة بدقة وحكمة. وفيها سر يتناسب مع الزمان والمكان والحال. يبدأ الأذان بطرق السمع فجأة بقول المؤذن:(الله أكبر، الله أكبر) لا يخلو الإنسان من عمل يؤديه أو شاغل يشغله، وقد يكون مستغرقاً في نوم لذيذ، فإذا بصوت المؤذن يفاجئه ويطرق سمعه طرقاً (الله أكبر، الله أكبر) الله أكبر من كل شيء يشغلك، مما يكبر في نفسك أو يعز عليك! نعم: الله أكبر فتهتز المشاعر المؤمنة وتتهيأ النفوس المطمئنة، وبينما هو في ذلك يردد هاتين الكلمتين (الله أكبر، الله أكبر) يأتيه الصوت ثانية بالكلمات نفسها ليؤكد المعنى ويحرك المشاعر والنفوس مرة أخرى. إن أروع ما في هذا الصوت وهذا النداء، إنه يطرق السمع بلا استئذان ويدخل فجأة بلا مقدمات أو توسلات! إنه الحق ولا أحق من الحق وهذه الحقيقة، ولا أكبر من الله الكبير! وإنه الواجب المفروض بل هو أوجب الواجبات وأفرض الفرائض تدعى إليه بلا إطالة ولا مواريه. إن الأمر جد ولا يحتاج إلى مطاولة أو مجاملة. (أشهد أن لا إله إلا الله) والإله: هو الرب تألهه القلوب أي: تحبه وتتعلق به دون غيره فتطيعه وتعبده. إنه الآمر المطاع، والرب المعبود، فلا يجمل بعبد يسمع نداء الرب فلا يستجيب، ويتلقى أمره فلا يطيع! بل يظل في شواغله واهتماماته وعلائقه! ويأتيه النداء ثانية:(أشهد أن محمداً رسول الله) ليؤكد المعنى ويثير كوامن الإيمان في النفس مرة أُخرى. وللرب في كل وقت على عبده عمل يناسبه يعبر به العبد عن طاعته له وعلاقته وتعلقه. فما هو العمل المطلوب؟ ماذا تريد مني ـ أنا العبد ـ أيها الرب الجليل المطاع؟ وهنا يأتي النداء: (أشهد أن محمداً رسول الله) إن لكل عمل مشروع ـ ولا بد ـ شرطين: 1ـ أن يكون لله وحده. 2 ـ أن يكون طبقاً لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المتعلقة بذلك العمل بما شرع الله لا بالأهواء أو البدع. وقد مر الشرط الأول في الشطر الأول من الشهادة وهذا هو الشرط الثاني، أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الرسول المتبوع. وقد كان يلبي النداء ويسارع في الأداء وهو القائل:((إن أحب العمل إلى الله الصلاة على وقتها)) (1). والقائل صلى الله عليه وسلم: ((صلوا كما رأيتموني أُصلي)) (2). هذه المعاني وغيرها تتداعى وأنت تسمع هذا الشطر من النداء الذي يتكرر مرتين إثارة وتأكيداً. لقد كملت شروط العمل وأسبابه ومثيراته ودوافعه، ولم يبق إلا أن يفصح المنادي عن العمل المطلوب فيأتي النداء:(حي على الصلاة، حي على الصلاة) إنها الصلاة! لقد جاء الأمر بلفظ (حي) تعبيراً عن الحياة. إنك تدعى إلى ما تحيي به قلبك وروحك. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24] وبما أن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء، لذلك لا يردد السامع كلمات النداء نفسها كما هو الشأن في بقية الأذان وإنما يقول:(لا حول ولا قوة إلا بالله) أنه يتوجه إلى الله ـ جل وعلا ـ الذي (يحول بين المرء وقلبه) أن يمنحه القوة ويحوله إلى أحسن حال وينقله إلى أداء هذا العمل حيث ينبغي أن يؤدى. ولا يكتفي المنادي بذكر المطلوب دون أن يرغب فيه بما لا مزيد عليه فيقول: (حي على الفلاح، حي على الفلاح) فالصلاة هي الفلاح والفوز والظفر.
(1) رواه البخاري (527) ، ومسلم (85) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (631) ، من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
إن من استجاب للنداء كان الفلاح أي الجنة نصيبه. ومن ترك الصلاة فلا فلاح ولا جنة، فالفلاح والصلاة قرينان لا يفترقان. والفلاح نهاية. والبداية طاعة الله ورسوله. وأعظم ما يطاع الله به ورسوله الصلاة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:((الصلاة عمود الدين من أقامها أقام الدين ومن هدمها هدم الدين)) (1) والله يطاع بالتوحيد، والرسول يطاع بالاتباع، فجاء تسلسل الكلام مترابطاً وثيقاً حكيماً. ابتدأ بالتوحيد وثنى بالاتباع وثلث بالدعوة إلى الصلاة لينتهي بالفلاح ولا شيء بعد الفلاح كما قال تعالى: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 1 - 5]
فيكون مضمون الأذان ـ إلى هذا الحد ـ قد انتهى، وما بقي إلا أن يختم كما يختم على الجواهر الثمينة فجاء الختام بقوله:(الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله). إعادة مختصرة لما جاء في أوله وتذكيراً أخيراً للسامع الذي لم يتهيأ أو يتحرك بعد، وأن الله تعالى أكبر من كل شيء يشغله، وإن الانشغال والتعلق والتأله ينبغي أن يكون لله. والكلام إذا أُريد له أن يعاد ينبغي أن يختصر مراعاة للبلاغة وذلك لدلالة ما قبله عليه وإلا كان تطويلاً في غير موضعه. فجاءت خاتمة الأذان مختصرة إلى النصف فالتكبيرات الأربع صارت اثنتين. والشهادة التي كررت مرتين اُختصرت واحدة، ولا داعي لإعادة باقي الكلام، وإلا صار التكرار مملاً خارجاً عن الذوق وضعفت قوة كلام الداعي، وصار كلامه أشبه بالاستعطاف منه بالأمر الإلهي. وعلى هذا الأساس تكون الزيادات التي أضيفت إلى الأذان مما يخل به ويخرجه عن جلاله وجماله ويشير إلى نقصه وعدم كماله لأن البناء الكامل لا يحتاج إلى زيادة. فالروعة الكامنة (في فجائية الابتداء بالتكبير) دون مقدمات ومناسبتها لحال السامع تتبخر تماماً إذا ما أخر التكبير وابتدأ بأي كلام آخر حتى ولو كان قرآناً، فإن لكل مقام مقالاً. والشهادة لعلي بالولاية لا تضيف للنداء بالصلاة معنى مناسباً له بعد التكبير الذي يقطع السامع عما يشغله، وشهادة التوحيد التي تعلقه بالله وحده وهو الأصل، والشهادة بالرسالة التي تجعل العمل طبقاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أفصح المنادي عن المطلوب وهو الصلاة التي هي الفلاح الذي هو الغاية أو النهاية، فلم يبق بعد شيء يمكن أن يضاف. فما وجه النداء بالولاية لعلي أو غيره، وصلته أو مناسبته للصلاة، والصلاة غير متوقفة عليه كما هي متوقفة على الرب المعبود أو الرسول المتبوع! وأما (حي على خير العمل) فمعنى زائد لا داعي له بعد (الفلاح)
وأما تكرير التكبيرة الأخيرة فمناف للذوق والبلاغة، فالحال تقتضي الاختصار، والاختصار ينبغي أن يكون فيه تناسب وتناسق، وهذا يعني أن اللفظ الذي كرر مرتين ينبغي أن يعاد مرة واحدة تناسباً وتناسقاً مع اختصار الرباعي إلى اثنين، فيكون القانون الساري واحداً وهو اختصار الألفاظ إلى النصف، وإلا وقع التنافر وصار الأمر بلا قانون، وخرج عن التناسب والتناسق والذوق والبلاغة. وأما (الصلاة خير من النوم) مرتان في النداء الأول لصلاة الصبح فمتناسب جداً مع الحال ومتطابق مع أصول البلاغة التي تقضي بمناسبة المقال لمقتضى الحال. إن أغلب المصلين في هذا الوقت نيام، وللنوم سلطان على النفوس، ليس من اليسير منازعته، فتحتاج الحال إلى محفز خاص لا تحتاجه في بقية الأوقات، وهو (الصلاة خير من النوم) وتستطيع أن تقارن هذا ومناسبته لنداء الصبح مع إضافة (أشهد أن علياً ولي الله) التي لا تعطي أي معنى مناسب فهي محض زيادة بلا فائدة وذلك مناقض للشرع الحكيم! والحمد لله على دين يأسر العقول والقلوب معاً والشكر له أن جعلنا مسلمين.
المصدر:
الشهادة الثالثة في الأذان حقيقة أم افتراء لعلاء الدين البصير
(1) لم أجده بهذا التمام، وقد أخرج أوله البيهقي في ((شعب االإيمان)) 3/ 1077 (2807) قال الحاكم- كما في ((الشعب)):[فيه] عكرمة لم يسمع من عمر وأظنه أراد ابن عمر. وضعفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (3566).