المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: المسيحية وترك الدنيا: - موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام - جـ ٧

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المبحث الأول: الزواج

- ‌المبحث الثاني: المسيحية وترك الدنيا:

- ‌المبحث الثالث: الزّاويَةُ وَالملْبَسُ:

- ‌المبحث الرابع: المذاهبُ الهنْديّة وَالفَارسيَّة:

- ‌المبحث الخامس: الأفلَاطونيّة الحَدِيثَة:

- ‌الفصل العاشر: التصوف عند الوثنيين وأهل الكتاب

- ‌المبحث الأول: الصوفية عند الوثنيين

- ‌المطلب الأول: الطاوية (منتشرة في الصين)

- ‌المطلب الثاني: الجينينة (نسبة إلى جينا، أي: القاهر والمتغلب)

- ‌المطلب الثالث: الهندوسية

- ‌المطلب الأول: عند اليهود

- ‌المطلب الثاني: عند النصارى

- ‌الفصل الحادي عشر: الخلوات الصوفية ومنها الخلوات التجانية

- ‌المبحث الأول: الدليل على الخلوات الصوفية حسب زعمهم

- ‌المطلب الأول: مدة الخلوة

- ‌المطلب الثاني: شروط الخلوة الصوفية

- ‌المبحث الثالث: أقسام الخلوات الصوفية

- ‌المبحث الرابع: تثبيط الصوفية أتباعهم عن الجهاد في سبيل الله وقتال الكفار وتسميتهم للجهاد بالجهاد الأصغر وتسميتهم لما يسمونه جهاد النفس بالجهاد الأكبر

- ‌الفصل الثاني عشر: كيفية الدخول في المذهب الصوفي

- ‌الفصل الثالث عشر: أصول الصوفية

- ‌المبحث الأول: عقيدة المتصوفة في الإله عز وجل

- ‌المبحث الثاني: وحدة الشهود أو الفناء وبيان العلاقة بين وحدة الشهود ووحدة الوجود

- ‌المبحث الثالث: الولاية وبيان بعض المصطلحات الصوفية

- ‌المبحث الأول: معنى التزكية وأهميتها

- ‌المبحث الثاني: مقارنة بين أهل السنة والصوفية في مناهج التزكية

- ‌المبحث الثالث: منهج التزكية عند الصوفية

- ‌المبحث الرابع: مقارنة بين أهل السنة والصوفية في غاية التزكية

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: الشرعيَّة والحقيقة

- ‌المبحث الثاني: الحقيقة المحمَدية

- ‌المبحث الثالث: وحدة الأديان

- ‌المبحث الرابع: الأولياء والكرامات

- ‌المبحث الخامس: الأقطاب والأوتاد

- ‌المبحث السادس: الشطح واللامعقول

- ‌المبحث الأول: تربية ذليلة

- ‌المبحث الثاني: المتصَوفة وعلم الحَديث

- ‌المبحث الثالث: البطالة والانحِلَال

- ‌المبحث الرابع: السَّمَاع وَالذِكر

- ‌المبحَث الخامِس المتصَوفة والجهَاد

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: الإيمان بالغيب في الكتاب والسنة

- ‌المبحث الثاني: الغيب في المعتقد الصوفي

- ‌المبحث الثالث: عبدالكريم الجيلي وكتابه (الإنسان الكامل)

- ‌المبحث الرابع: ادعاء رؤية العوالم العلوية والسفلية

- ‌المبحث الخامس: ما الذي يريده هؤلاء الملاحدة

- ‌المبحث السادس: الغزالي وطريق الكشف

- ‌المبحث السابع: ابن عربي والكشف الصوفي

- ‌المبحث الثامن: نماذج من الكشف الصوفي

- ‌الفصل التاسع عشر: الشطحات الصوفية

- ‌الفصل العشرون: التكاليف في نظر الصوفية

- ‌المبحث الأول: تعريف الذكر الجماعي

- ‌المبحث الثاني: نشأة الذكر الجماعي

- ‌المبحث الثالث: حجج المجوّزين للذكر الجماعي وأدلتهم

- ‌المبحث الرابع: حجج المانعين من الذكر الجماعي وأدلتهم

- ‌المبحث الخامس: صفة الذكر

- ‌المبحث السادس: حكم الذكر الجماعي

- ‌المبحث السابع: مفاسد الذكر الجماعي

- ‌المبحث الثامن: فضائل مكذوبة للأذكار الصوفية

- ‌الفصل الثاني والعشرون: الوجد والرقص عند الصوفية

- ‌الفصل الثالث والعشرون: الكرامات وخوارق العادات عند الصوفية

- ‌المبحث الأول: أبو يزيد البسطامي ومعراجه

- ‌المبحث الثاني: معراج إسماعيل بن عبدالله السوداني

- ‌المبحث الأول: الولاية الرحمانية

- ‌المبحث الثاني: الولاية الصوفية الشيطانية

- ‌المبحث الثالث: مراتب الولاية عند الصوفية

- ‌المبحث الرابع: القطب الغوث واحد في الزمان فقط

- ‌المبحث الخامس: قطب سنة 593هـ من مدينة فاس بالمغرب

- ‌المبحث السادس: وظيفة القطب

- ‌المبحث السابع: الأبدال السبعة ووظائفهم

- ‌المبحث الثامن: مدة حكم القطب ووظيفته

- ‌المبحث التاسع: ابن عربي القطب الأعظم

- ‌المبحث الأول: الحكيم الترمذي وكتابه (ختم الأولياء)

- ‌المبحث الثاني: ابن عربي وختم الولاية

- ‌المبحث الثالث: محمد عثمان الميرغني وختم الولاية

- ‌المبحث الرابع: أحمد التيجاني وختم الولاية

- ‌المطلب الأول: الإسلام لم يأت بتقديس القبور والأضرحة

- ‌المطلب الثاني: تعامل الصحابة مع ما عرف من قبور الأنبياء

- ‌المطلب الثالث استمرار ما درج عليه الصحابة من الهدي في تسوية القبور والنهي عن تعظيمها إلى نهاية القرون المفضلة

- ‌المطلب الأول هدي اليهود والنصارى في اتخاذ القبور مساجد واستحقاقهم اللعن على ذلك وتحذير النبي صلى الله عليه وسلم من فعلهم

- ‌المطلب الثاني: النهي عن التشبه باليهود والنصارى

- ‌المطلب الثالث: الرافضة هم أول من أحدث المشاهد المعظمة في الملة الإسلامية وغلوا في أصحابها حتى عبدت من دون الله تعالى

- ‌المبحث الثالث: واقع القبورية في العالم الإسلامي

- ‌المبحث الرابع: أشهر هذه القبور في العالم الإسلامي

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: الفضائل المفتراة التي يروجون بها لزيارة هود عليه السلام

- ‌المطلب الثاني: نماذج من أشعار القوم في الترويج لها

- ‌المطلب الثالث: وسائل جذب الزوار لهذه الزيارة

- ‌المطلب الرابع: مظاهر وثنية في هذه الزيارة

- ‌المطلب الخامس: الطقوس الوثنية فيها

- ‌أولا: المناسك الزمانية

- ‌ثانياً: المناسك المكانية

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: هيئة الديوان

- ‌المبحث الثاني: زعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر الديوان

- ‌المبحث الثالث: ساعة انعقاد الديوان

- ‌المبحث الرابع: زوجات النبي صلى الله عليه وسلم والديوان

- ‌المبحث الخامس: زعمهم حضور الملائكة للديوان

- ‌المبحث السادس: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وفاطمة والحسن والحسين أعضاء في الديوان

- ‌المبحث السابع: لغة أهل الديوان

- ‌المبحث الثامن: أولياء يحضرون الديوان بأرواحهم فقط

- ‌المبحث التاسع: الديوان يعقد في صحراء السودان أحياناً

- ‌المبحث العاشر: ماذا لو غاب الغوث

- ‌المبحث الحادي عشر: الغوث الصوفي دكتاتور كبير

- ‌المبحث الثاني عشر: أولياء ينظرون في اللوح المحفوظ

- ‌المبحث الثالث عشر: لماذا يجتمع أهل الديوان

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: اتخاذ الشيخ

- ‌المبحث الثاني: مواصفات الشيخ

- ‌المبحث الثالث: آداب المريد

- ‌الفصل الثلاثون: تراجم زعماء الصوفية

- ‌الفصل الحادي والثلاثون: موقف بعض العلماء من التصوف

- ‌المبحث الأول: موقف الإمام الشافعي

- ‌المبحث الثاني: موقف الإمام أحمد بن حنبل

- ‌المبحث الثالث: موقف الإمام أبو زرعة الدمشقي

- ‌المبحث الرابع: موقف الإمام أبو اليسر محمد بن محمد بن عبدالكريم البزودي المتوفى سنة 478هـ ببخارى

- ‌المبحث الخامس: موقف الإمام ابن الجوزي

- ‌المبحث السادس: موقف الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية

- ‌المبحث السابع: موقف الإمام برهان الدين البقاعي المتوفى سنة 885ه

- ‌المبحث الثامن: شهادة الدكتور الشيخ تقي الدين الهلالي

- ‌المبحث التاسع: مع الشيخ الفاطمي الشرادي

- ‌المبحث العاشر: مع الشيخ عبدالعزيز بن إدريس

- ‌المبحث الحادي عشر: شهادة الشيخ عبدالرحمن الوكيل

- ‌المبحث الأول: أوائل المتصوفة وعلاقتهم بالتشيع

- ‌المبحث الثاني: دلالة اسم عبدك

- ‌المبحث الثالث: سلاسل التصوف

- ‌المبحث الرابع: نزول الوحي وإتيان الملائكة

- ‌المبحث الخامس: المساواة بين النبي والولي

- ‌المبحث السادس: تفضيل الولي على النبي

- ‌المبحث السابع: إجؤاء النبوة

- ‌المبحث الثامن: العصمة

- ‌المبحث التاسع: عدم خلو الأرض من حجة

- ‌المبحث العاشر: وجوب معرفة الإمام

- ‌المبحث الحادي عشر: الولاية والوصاية

- ‌المبحث الثاني عشر: الحلول والتناسخ

- ‌المبحث الثالث عشر: مراتب الصوفية

- ‌المبحث الرابع عشر: التقية

- ‌المبحث الخامس عشر: الظاهر والباطن

- ‌المبحث السادس عشر: نسخ الشريعة ووضع التكاليف

- ‌المبحث السابع عشر: تقديس القبور وزيارة المشاهد

- ‌المطلب الأول: الحلاج والتشيع

- ‌المطلب الثاني: الحلاج داعية الإسماعيلية في المشرق

- ‌المطلب الثالث: شهادة العمار الحنبلي أن الحلاج قرمطي

- ‌المطلب الرابع: الحلول عند الحلاج الصوفي وعند أبي الخطاب الشيعي

- ‌المبحث التاسع عشر: الطرق الصوفية والتشيع

- ‌المطلب الأول: الطريقة البكتاشية

- ‌المطلب الثاني: الطريقة البكتاشية تنتشر في مصر

- ‌المطلب الثالث: أصول الطريقة البكتاشية

- ‌المطلب الرابع: مراتب الطريقة البكتاشية

- ‌المطلب الخامس: التكية البكتاشية

- ‌المطلب السادس: العهد ودخول الطريقة

- ‌المطلب السابع: آداب الطريقة البكتاشية

- ‌المطلب الثامن: الأوراد البكتاشية

- ‌المطلب التاسع: دور الفرس في التشيع والتصوف

- ‌المبحث الأول: طلب الهداية في غير الكتاب والسنة

- ‌المبحث الثاني اعتقادهم بأن هناك حقيقة تخالف الشريعة

- ‌المبحث الثالث: الغلو الزائد في الرسول صلى الله عليه وسلم والأولياء

- ‌المطلب الأول: غلوهم في الرسول محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثاني غلوهم في الأولياء

- ‌المبحث الرابع: تأثرهم بالفكر اليوناني الوثني

الفصل: ‌المبحث الثاني: المسيحية وترك الدنيا:

‌المبحث الثاني: المسيحية وترك الدنيا:

ومن خصائص المسيحية وتعاليمها ترك الدنيا، والتجرد عن المال، والتجوع، وتعري الأجساد والأعراض عن زينة الحياة، المباحة، وتحريم الطيبات باسم الانقطاع إلى الآخرة، ورهبانية ابتدعوها، وتعذيب النفس.

فلقد ورد في الأناجيل عن المسيح أنه قال: (لا تكنزوا كنوزا على الأرض، حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون. بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ، وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون. لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضا (1).

ونقل عنه أيضا أنه قال:

(لا يقدر أحد أن يخدم سيدين. لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال. لذلك أقول لكم: لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون. ولا لأجسامكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس. أنظروا إلى طيور السماء أنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها. ألستم أنتم بالحري أفضل منها ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعا واحدة، ولماذا تهتمون باللباس، تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو لا تتعب ولا تغزل، ولكن أقول لكم: إنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها، فإن كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويطرح غدا في التنور يلبسه الله هكذا، أفليس بالحري جدا يلبسكم أنتم قليلي الإيمان، فلا تهتموا قائلين: ماذا نأكل، أو ماذا نلبس، فإن هذه كلها تطلبها الأمم.

لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها، لكن اطلبوا أولا ملكوت الله وبره، وهذه كلها تزداد لكم. فلا تهتموا للغد، لأن الغد يهتم بما لنفسه. يكفي اليوم شره (2).

وورد في هذا الإنجيل أيضا (أن شابا تقدم إلى المسيح وقال له: أيها المعلم الصالح أي صلاح أعمل به لتكون لي الحياة الأبدية؟.

فأجابه المسيح ببعض الأجوبة ثم قال له: إن أردت أن تكون كاملا فاذهب وبع أملاكك، وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني. فلما سمع الشاب الكلمة مضى حزينا، لأنه كان ذا أموال كثيرة. فقال يسوع لتلاميذه: الحق أقول لكم، إنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات، وأقول لكم أيضا: إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله (3).

وقال أيضا: (وكل من ترك بيوتا أو إخوة أو أخوات أو أبا أو أما أو امرأة أو أولاداً أو حقولا من أجل اسمي يأخذ مائة ضعف، ويرث الحياة الأبدية (4).

ونقل عنه أيضا أنه قال: (لا تكنزوا ذهبا ولا فضة ولا نحاسا في مناطقكم، ولا مزودا للطريق، ولا ثوبين، ولا أحذية، ولا عصا)(5).

وليس هذا فحسب، بل نقل عنه لوقا في إنجيله أنه جاءه جموع كثيرة سائرين معه، فالتفت إليهم وقال:(إن كان أحد يأتي إلى ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده واخوته وإخوانه حتى نفسه أيضا فلا يقدر أن يكون لي تلميذا)(6).

وقال أيضا: (فكذلك كل واحد منكم لا يترك جميع أمواله لا يقدر أن يكون لي تلميذا)(7).

(1)([11566])((إنجيل متى الإصحاح السادس)) (19، 20، 21).

(2)

([11567])((إنجيل متى الإصحاح السادس)) الآية 24 إلى آخر الإصحاح.

(3)

([11568])((الإصحاح التاسع)) عشر الآية 16 إلى 24.

(4)

أيضا الآية 29.

(5)

((الإصحاح العاشر)) الآية 9، 10.

(6)

((إنجيل لوقا)) الإصحاح الرابع عشر الآية 26.

(7)

أيضا الآية 33.

ص: 12

وبمثل ذلك نقل متى في إنجيله: (لما رأى يسوع جموعا كثيرة حوله أمر بالذهاب إلى العبر، فتقدم كاتب وقال له: يا معلم، أتبعك أينما تمضي. فقال له يسوع: للثعالب أوجرة، ولطيور السماء أوكار. وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه. وقال له آخر من تلاميذه: يا سيد، ائذن لي أمضي أولا وأدفن أبي. فقال له يسوع: اتبعني، ودع الموتى يدفنون موتاهم)(1).

هذا ومثل هذا كثير في الأناجيل وأعمال الرسل وغيرها من الكتب المسيحية، وعلى هذه التعاليم أسسوا نظام الرهبنة، أي التجرد عن علائق الدنيا ومتطلباتها وحاجاتها.

وزادوا عليها تعذيب النفس، وتحمل المشاق والآلام، تعمقا في التجرد، ومغالاة في تجنب الدنيا، واحتقارا لزخارفها، كما أن هنالك أسبابا أخرى لاختيار الرهبنة، فقد ذكر علماء المسيحية الكثيرون وكتابها وباحثوها.

وجمع هذه الأقاويل والمقولات ول ديورانت في موسوعته الكبرى (قصة الحضارة)، فيقول:(لما أن أصبحت الكنيسة منظمة تحكم الملايين من بني الإنسان، ولم تعد كما كانت جماعة من المتعبدين الخاشعين، أخذت تنظر إلى الإنسان وما فيه من ضعف نظرة أكثر عطفا من نظرتها السابقة، ولا ترى ضيراً من أن يستمتع الناس بملاذ الحياة الدنيا، وأن تشاركهم أحيانا في هذا الاستمتاع، غير أن أقلية من المسيحيين كانت ترى في النزول إلى هذا الدرك خيانة للمسيح، واعتزمت أن تجد مكانها في السماء عن طرق الفقر، والعفة، والصلاة، فاعتزلت العالم اعتزالا تاماً. ولربما كان مبشرو أشوكا Ashoka ( حوالي 250 ق م) قد جاءوا إليه بنظرية البوذية وقوانينها الأخلاقية، ولربما كان النساك الذين وجدوا في العالم قبل المسيحية أمثال سرابيس Se apis في مصر أو جماعات الإسنيين في بلاد اليهود قد نقلوا إلى أنطونيوس وباخوم المثل العليا للحياة الدينية الصارمة وأساليب هذه الحياة. وكان الكثيرون من الناس يرون في الرهبنة ملاذاً من الفوضى والحرب اللذين أعقبا غارات المتبربرين، فلم يكن في الدير ولا في الصومعة الصحراوية ضرائب، أو خدمة عسكرية، أو منازعات حربية، أو كدح ممل. ولم يكن يطلب إلى الراهب ما يطلب إلى القسيس من مراسم قبل رسامته، وكان يوقن أنه سوف يحظى بالسعادة الأبدية بعد سنين قليلة من حياة السلام.

ويكاد مناخ مصر أن يغري الناس بحياة الأديرة، ولهذا غصت بالبرهان النساك الفرادى والمتجمعين في الأديرة يعيشون في عزلة كما كان يعيش أنطونيوس، أو جماعات كما كان يعيش باخوم في تابن Tabenne وأنشئت الأديرة للرجال والنساء على طول ضفتي النيل، وكان بعضها يحتوي نحو ثلاثمئة من الرهبان والراهبات. وكان أنطونيوس (251 – 356) أشهر النساك الفرادى، وقد أخذ ينتقل من عزلته حتى استقر به المقام على جبل القلزم القريب من شاطئ البحر الأحمر. وعرف مكانه المعجبون به فحذوا حذوه في تعبده ونسكه، وبنوا صوامعهم في أقرب مكان منه سمح لهم به، حتى امتلأت الصحراء قبل موته بأبنائه الروحيين. وقلما كان يغتسل، وطالت حياته حتى بلغ مائة وخمساً من السنين، ورفض دعوة وجهها إليه قسطنطين ولكنه سافر إلى الإسكندرية في سن التسعين ليؤيد أثناسيوس ضد أتباع أريوس، وكان يليه في شهرته باخوم الذي أنشأ في عام 325 تسعة أديرة للرجال وديراً واحداً للنساء. وكان سبعة آلاف من أتباعه الرهبان يجتمعون أحيانا ليحتفلوا بيوم من الأيام المقدسة، وكان أولئك الرهبان المجتمعون يعملون ويصلون، ويركبون القوارب في النيل من حين إلى حين ليذهبوا إلى الإسكندرية حيث يبيعون ما لديهم من البضائع ويشترون حاجياتهم ويشتركون في المعارك الكنسية – السياسية.

(1)((إنجيل متّى)) الإصحاح الثامن الآية 18 إلى 23.

ص: 13

ونشأت بين النساك الفرادى منافسة قوية في بطولة النسك يتحدث عنها دوشين Abbe Duchesne بقوله إن مكاريوس الإسكندري (لم يكن يسمع بعمل من أعمال الزهد إلا حاول أن يأتي بأعظم منه)، فإذا امتنع غيره من الرهبان عن أكل الطعام المطبوخ في الصوم الكبير امتنع هو عن أكله سبع سنين، وإذا عاقب بعضهم أنفسهم بالامتناع عن النوم شوهد مكاريوس وهو (يبذل جهد المستميت لكي يظل مستيقظاً عشرين ليلة متتابعة) وحدث مرة في صوم كبير أن ظل واقفا طوال هذا الصوم ليلا ونهارا لا يذوق الطعام إلا مرة واحدة في الأسبوع، ولم يكن طعامه هذا أكثر من بعض أوراق الكرنب، ولم ينقطع خلال هذه المدة عن ممارسة صناعته التي اختص بها وهي صناعة السلال. ولبث ستة أشهر ينام في مستنقع، ويعرض جسمه العريان للذباب السام. ومن الرهبان من أوفوا على الغاية في أعمال العزلة، من ذلك سرابيون Se apion الذي كان يعيش في كهف في قاع هاوية لم يجرؤ على النزول إليها إلا عدد قليل من الحجاج. ولما وصل جيروم وبولا إلى صومعته هذه وجدوا فيها رجلا لا يكاد يزيد جسمه على بضعة عظام وليس عليه إلا خرقة تستر حقويه، ويغطي الشعر وجهه وكتفيه، ولا تكاد صومعته تتسع لفراشه المكون من لوح من الخشب وبعض أوراق الشجر. ومع هذا فإن هذا الرجل قد عاش من قبل بين أشراف رومة، ومن النساك من كانوا لا يرقدون قط أثناء نومهم ومنهم من كان يداوم على ذلك أربعين عاما مثل بساريون Bessa ion أو خمسين عاما مثل باخوم. ومنهم من تخصصوا في الصمت وظلوا عددا كبيرا من السنين لا تنفرج شفاههم عن كلمة واحدة. ومنهم من كانوا يحملون معهم أوزانا ثقالا أينما ذهبوا. ومنهم من كانوا يشدون أعضاءهم بأطواق أو قيود أو سلاسل، ومنهم من كانوا يفخرون بعدد السنين التي لم ينظروا فيها إلى وجه امرأة. وكان النساك المنفردون جميعهم تقريبا يعيشون على قدر قليل من الطعام. ومنهم من عمروا طويلا. ويحدثنا جيروم عن رهبان لم يطعموا شيئا غير التين وخبز الشعير، ولما مرض مكاريوس جاءه بعضهم بعنب فلم تطاوعه نفسه على التمتع بهذا الترف، وبعث به إلى ناسك آخر، وأرسله هذا إلى ثالث حتى طاف العنب جميع الصحراء (كما يؤكد لنا روفينس)، وعاد مرة أخرى كاملا إلى مكاريوس. وكان الحجاج، الذين جاءوا من جميع أنحاء العالم المسيحي لشاهدوا رهبان الشرق، يعزون إلى أولئك الرهبان معجزات لا تقل في غرابتها عن معجزات المسيح، فكانوا – كما يقولون - يشفون الأمراض ويطردون الشياطين باللمس أو بالنطق بكلمة، وكانوا يروضون الأفاعي أو الآساد بنظرة أو دعوة، ويعبرون النيل على ظهور التماسيح، وقد أصبحت مخلفات النساك أثمن ما تملكه الكنائس المسيحية، ولا تزال مدخرة فيها حتى اليوم.

ص: 14

وكان رئيس الدير يطلب إلى الرهبان أن يطيعوه طاعة عمياء، ويمتحن الرهبان الجدد بأوامر مستحيلة التنفيذ يلقيها عليهم، وتقول إحدى القصص إن واحداً من أولئك الرؤساء أمر راهباً جديداً أن يقفز في نار مضطرمة فصدع الراهب الجديد بالأمر، فانشقت النار حتى خرج منها بسلام. وأمر راهب جديد آخر أن يغرس عصا رئيسه في الأرض ويسقيها حتى تخرج أزهراً، فلبث الراهب عدة سنين يذهب إلى نهر النيل على بعد ميلين من الدير يحمل منه الماء ليصبه على العصا، حتى رحمه الله في السنة الثالثة فأزهرت. ويقول جيروم إن الرهبان كانوا يأمرون بالعمل (لئلا تضلهم الأوهام الخطرة). فمنهم من كان يحرث الأرض، ومنهم من كان يعني بالحدائق أو ينسج الحصر أو السلاسل، أو يصنع أحذية من الخشب، أو ينسخ المخطوطات. وقد حفظت لنا أقلامهم كثيرا من الكتب القديمة. على أن كثيرين من الرهبان المصريين كانوا أميين يحتقرون العلوم الدنيوية ويرون أنها غرور وباطل. ومنهم من كان يرى أن النظافة لا تتفق مع الإيمان، وقد أبت العذراء سلفيا أن تغسل أي جزء من جسدها عدا أصابعها، وكان في أحد الأديرة النسائية 130 راهبة لم تستحم واحدة منهن قط أو تغسل قدميها، ولكن الرهبان أنسوا إلى الماء حوالي آخر القرن الرابع، وسخر الأب إسكندر من هذا الانحطاط فأخذ يحن إلى تلك الأيام التي لم يكن فيها الرهبان (يغسلون وجوههم قط).

ص: 15

وكان الشرق الأدنى ينافس مصر في عدد رهبانها وراهباتها وعجائب فعالهم. فكانت أنطاكية وبيت المقدس خليتين مليئتين بالصوامع والرهبان والراهبات، وكانت صحراء سوريا غاصة بالنساك، منهم من كان يشد نفسه بالسلاسل إلى صخرة ثابتة لا تتحرك كما يفعل فقراء الهنود، ومنهم من كان يحتقر هذا النوع المستقر من المساكن، فيقضي حياته في الطواف فوق الجبال يطعم العشب البري. ويروي لنا المؤرخون أن سمعان العمودي Simeon Stylites (390؟ - 459) كان لا يذوق الطعام طوال الصوم الكبير الذي يدوم أربعين يوماً. وقد أصر في عام من الأعوام أثناء هذا الصوم كله على أن يوضع في حظيرة وليس معه إلا القليل من الخبز والماء. وأخرج من بين الجدران في يوم عيد الفصح فوجد أنه لم يمس الخبز أو الماء. وبني سمعان لنفسه في عام 422 عموداً عند قلعة سمعان في شمالي سوريا وعاش فوقه. ثم رأى أن هذا اعتدال في الحياة يجلله العار فأخذ يزيد من ارتفاع العمد التي يعيش فوقها حتى جعل مسكنه الدائم فوق عمود يبلغ ارتفاعه ستين قدماً ولم يكن محيطه في أعلاه يزيد على ثلاثة أقدام، وكان حول قمته سور يمنع القديس من السقوط على الأرض حين ينام. وعاش سمعان على هذه البقعة الصغيرة ثلاثين عاماً متوالية معرضاً للمطر والشمس والبرد. وكان أتباعه يصعدون إليه بالطعام وينقلون فضلاته على سلم يصل إلى أعلى العمود، وقد شد نفسه على هذا العمود بحبل حز في جسمه، فتعفن حوله، ونتن وكثرت فيه الديدان، فكان يلتقط الدود الذي يتساقط من جروحه ويعيده إليها ويقول:(كلي مما أعطاك الله!). وكان يلقى من منبره العالي مواعظ على الجماهير التي تحضر لمشاهدته، وكثيراً ما هدى المتبربرين، وعالج المرضى، واشترك في السياسة الكنسية، وجعل المرابين يستحون فينقصون فوائد ما يقرضون من المال إلى ستة في المائة بدل اثني عشر. وكانت تقواه سبباً في إيجاد طريقة النسك فوق الأعمدة، وهي الطريقة التي دامت اثني عشر قرناً، ولا تزال باقية حتى اليوم بصورة دنيوية خالصة) (1).ومثل ذلك ذكر هرلبت في كتابه (2). ودي سي سيندرول (3). وستر زي غواسكي (4). وبروكوبيوس (5). وونكل مين (6).

فجاء الإسلام فهذب هذه التعاليم ونقحها، وحذف منها الغلو والتطرف، ومنع الناس عن التشدد في الدين، وتعذيب النفس، وعرفهم الحنيفية السمحة البيضاء، النزيهة عن الانغماس في الدنيا والجري وراء ملذاتها وشهواتها، كما راعى جانب الطبيعة والفطرة، وأباح الطيبات من الرزق والحلال من المال، والتمتع بالجائز من الدنيا، فوضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، وأمرهم بالقصد والاعتدال بين التجرد المحض والتزهد الصرف، وبين الإسراف المطلق والتقتير الفاحش، فقال جل وعلا في كتابه الذي أنزله على سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه:

(1) قصة الحضارة لول ديورانت ترجمة عربية لمحمد بدران ج12 ص 119 إلى 123 ط الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية القاهرة 1964 هـ.

(2)

The Story Of The Christian Church P8 89 ، 1933.

(3)

A Short History Of Our Religion London ، 1922.

(4)

Origin Christian Church Art ، 4-6 Oxford ، 1933.

(5)

Buildings ، Loeb. Lib I ، 10.

(6)

History Of Ancient Art ، I ، 350-1، Finlay ، 195.

ص: 16

يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأعراف:31 - 32]

وقال: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إليك وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77] وقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ٌ [البقرة:29]

وقال: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:14]

وقال: وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إلى حِينٍ وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل:80 - 81]

وقال: وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلَاّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [النحل:5 - 7]

وقال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10].

وجعل المال قواماً للإنسان حيث قال:

وَلَا تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً [النساء:5].

وقال: وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275].

ووَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ [البقرة:212].

وأمر المؤمنين أن يتوجهوا إليه بطلب الدنيا وحسناتها مع الآخرة وحسناتها قائلين:

وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

كما أمر من اجتمع عنده مال الدنيا ورزقها أن يخرج منها حقا للسائل والمحروم وزكاة وصدقة، وأن يعمروا مساجد الله، وينفقوا على ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فقال تعالى:

وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19]

وقال: كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141].

وقال: فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ [الروم:38].

وقال مع ذلك: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء:27].

كما قال: وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141].

ص: 17

فهذا ما قد ورد في كتاب الله، وما أكثره في هذا المعنى. وأما سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الأصل الثاني للشريعة الإسلامية فلم يرد فيها أن صاحبها صلى الله عليه وسلم قال لمن أراده أن يتبعه: بع واتبعني، بل قال لمن كان يريد أن يتصدق بأكثر ماله – وهو سعد بن أبي وقاص – وكان مريضا في حجة الوداع فعاوده الرسول صلى الله عليه وسلم وكان عازما على الصدقة بثلثي ماله، وفي رواية أخرى: بماله كله، فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم عما ترك لولده – وفي رواية أنه لم يكن له إلا بنت -، فقال:((الثلث والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس)) (1).

وكذلك نهي كعب بن مالك عن التصدق بجميع ماله كما ورد في الصحيحين أن عبيد الله بن كعب بن مالك قال: سمعت كعب بن مالك يحدث بحديث توبته، قال فقلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال:((أمسك بعض مالك فهو خير لك)) (2).وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: ((نعم المال الصالح للرجل الصالح)(3).

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)) (4).وفي الصحيحين أيضا عن أم سليم أنها قالت: يا رسول الله، خادمك أنس ادع له – فدعا له رسول الله عليه الصلاة والسلام – وفيما دعا له أن يكثر ماله:((اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيهما)) (5).وكان صلى الله عليه وسلم يردد كثيرا: ((ما نفعني مال كمال أبي بكر)) (6)((إن من أمنَّ الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر)) (7).كما أمر أم هانئ باتخاذ الغنم حيث قال: ((اتخذي غنما، فإن فيها بركة)) (8).

وادخر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهله قوت سنة كما ورد في الصحاح، واللفظ لمسلم عن عمر أنه قال:(كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله)) – وفي رواية – ((كان يحبس منه قوت أهله لسنة)) (9).

وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أحكام الزكاة والصدقات والإنفاق في سبيل الله، ولم تكن هذه الأحكام إلا لمن يملكه، ولو لم يكن ما كان لبيانها غرض ولا فائدة.

فهذه هي تعاليم الكتاب والسنة، وفي ضوء هذه نرى الصوفية والمتقدمين منهم بالأخص والمتأخرين أيضا بأيتهما يتمسكون؟

لكي يتضح الأمر عن مرجع تصوفهم ومعول أمرهم.

(1) رواه البخاري (3936) ومسلم (1628)

(2)

رواه البخاري (4676) ومسلم (2769)

(3)

الحديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم رواه أحمد (4/ 197)(17798) وابن حبان (3210) والبيهقي في الشعب (2/ 446) واللفظ له، وصححه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (140)

(4)

رواه البخاري (73) واللفظ له، ومسلم (816)

(5)

رواه البخاري (6334) ومسلم (2480) بلفظ فيما أعطيته بدل فيهما، ولمسلم (660) بلفظ بارك له فيه.

(6)

الحديث رواه بلفظ مقارب الترمذي (3661) وابن ماجه (94) وأحمد (2/ 253)(7439) وابن حبان (6858) قال الترمذي حسن غريب من هذا الوجه، وصححه الألباني

(7)

رواه البخاري (3654) ومسلم (2382)

(8)

رواه ابن ماجه (2304) واللفظ له والطبراني (21061) وصححه الألباني

(9)

رواه البخاري (2904) ومسلم (1757) واللفظ له وارواية الثانية رواها أبو داود (2965) والنسائي (4140)

ص: 18

فذكر المحاسبي المتوفى 243هـ عن صوفي قديم آخر إبراهيم بن أدهم أنه قال: إن كنت تحب أن تكون لله وليا، وهو لك محبا فدع الدنيا والآخرة، ولا ترغبن فيهما (1).

ونقل السهر وردي والسراج الطوسي والقشيري عن السري السقطي المتوفى سنة 251 هـ أنه قال: (لا يكن معك شيء تعطي منه أحد)(2).وذكر القشيري عن واحد آخر من الصوفية الأوائل داود الطائي المتوفى 165 هـ أنه قال: (صم عن الدنيا، واجعل فطرك الموت، وفر من الناس كفرارك من السبع)(3).

وسيد الطائفة الجنيد البغدادي يقول: (أحب للمريد المبتدئ أن لا يشغل قلبه بالتكسب، وإلا تغير حاله (4).

ويقول أيضا: (ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات (5).

ويبين ابن عجيبة الحسني حالة أهل التصوف في كتابه (إيقاظ الهمم): (وكان بعضهم إذا أصبح عنده شيء أصبح حزينا، وإذا لم يصبح عنده شيء أصبح فرحا مسرورا (6).

وقال أيضا: (الفقر أساس التصوف، وبه قوامه (7).

وروى مثل ذلك عن أبي محمد رويم المتوفى 303 هـ أنه قال: (مبنى التصوف على الفقر)(8).نعم، الفقر الذي تعوذ منه سيد الخلائق المدعم بالوحي، والمعصوم بعصمة الله وقال:((اللهم إني أعوذ بك من الفقر)) (9).

فجعلوا ذلك الفقر أساس التصوف وقوامه، وأقاموا بناءه عليه.

ونقل الطوسي عن الجنيد أنه سئل عن الزهد فقال: (الزهد هو تخلي الأيدي من الأملاك)(10).وبمثل ذلك قال رويم بن أحمد الصوفي المتوفى 303 هـ حينما سئل عن الزهد ما هو؟. فقال: (هو ترك حظوظ النفس من جميع ما في الدنيا)(11).

وذكر الشعراني عن ابن عربي أنه قال: (من أراد فهم المعاني الغامضة من كلام الله عز وجل وكلام رسوله وأوليائه فليزهد في الدنيا حتى يصير ينقبض خاطره من دخولها، ويفرح لزوالها)(12).

وينقل أيضا عن إبراهيم المتبولي أنه قال: (كل فقير لا يحصل له جوع ولا عري فهو من أبناء الدنيا)(13).

وذكر الصوفي عماد الدين الأموي في كتابه (حياة القلوب) أن رجلا دخل على بعض الصوفية يتكلم في الزهد وعنده قميص معلق وعليه آخر، فقال: يا شيخ، أما تستحي أن تتكلم في الزهد ولك قميصان (14).

وزجر السري السقطي رجلا كان يملك عشرة دراهم وقال:

(1) المحبة للمحاسبي نقلا عن ملحق تاريخي في آخر كتاب ((ختم الأولياء)) بتحقيق عثمان إسماعيل ط بيروت.

(2)

((عوارف المعارف)) للسهروردي (ص 92)، ((اللمع)) للطوسي (ص 262)، ((الرسالة القشيرية)) (1/ 71).

(3)

((الرسالة القشيرية)) لأبي القاسم القشيري (1/ 84).

(4)

((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي (1/ 267)، أيضا ((غيث المواهب العلية)) للنفزي الرندي (ص 208).

(5)

((الرسالة القشيرية)) (1/ 117).

(6)

((إيقاظ الهمم)) لابن عجيبة الحسني (ص 213) الطبعة الثالثة مصطفى البابي الحلبي 1402 هـ.

(7)

أيضا.

(8)

((اصطلاحات الصوفية)) لكمال الدين عبد الرزاق القاشاني من صوفية القرن الثامن الهجري (ص 76) ط الهيئة المصرية العامة للكتاب مصر.

(9)

رواه أبو داود (1544) والنسائي (5460) وأحمد (2/ 305)(8039) وابن حبان (1030) والحاكم (1983) وقال صحيح الإسناد على شرط مسلم، وصححه الألباني

(10)

((اللمع)) للطوسي (ص 72)، أيضا ((مناقب الصوفية)) لقطب الدين المروزي (ص 55) ط طهران 1362 هجري قمري.

(11)

((اللمع)) للطوسي (ص 72).

(12)

((اليواقيت والجواهر)) للشعراني (1/ 26) مصطفى البابي 1378 هـ.

(13)

((الأخلاق المتبولية)) للشعراني (2/ 94) تحقيق عبد الحليم محمود ط مطبعة حسان – القاهرة.

(14)

((حياة القلوب في كيفية الوصول على إلى المحبوب)) لعماد الدين الأموي (2/ 122) على هامش ((قوت القلوب)).

ص: 19

أنت تقعد مع الفقراء ومعك عشرة دراهم (1).

وذكر الكلاباذي عن أحمد بن السمين أنه قال:

كنت أمشي في طريق مكة، فإذا أنا برجل يصيح: أغثني يا رجل، الله، الله. قلت مالك، مالك؟

خذ مني هذه الدراهم، فإني ما أقدر أن أذكر الله وهي معي، فأخذتها منه فصاح: لبيك اللهم لبيك، وكانت أربعة عشر درهما (2).

وقال سهل بن عبد الله التستري:

اجتمع الخير كله في هذه الأربع خصال، وبها صار الأبدال أبدالا: أخماص البطون، والصمت والخلوة، والسهر (3).

وينقل الهجويري عن أبي بكر الشبلي أن واحدا من علماء الظاهر سأله على سبيل التجربة عن الزكاة قائلا: (ما الذي يجب أن يعطى من الزكاة؟.

قال: حين يكون البخل موجودا ويحصل المال فيجب أن يعطى خمسة دراهم عن كل مائتي درهم، ونصف دينار عن كل عشرين دينارا، هذا في مذهبك. أما في مذهبي فيجب أن لا تملك شيئا حتى تتخلص من مشغلة الزكاة (4).

وقال الهجويري: (السكون إلى مألوفات الطبع يقطع صاحبها عن بلوغ درجات الحقائق (5).

وينقلون عن الرفاعي أحمد بن أحمد بن أبي الحسين صاحب الطريقة الرفاعية أنه كان يقول: (أكره للفقراء دخول الحمام، وأحب لجميع أصحابي الجوع والعري والفقر والذل والمسكنة، وأفرح لهم إذا نزل بهم ذلك)(6).

ونقل أبو المظفر أن أبا بكر الوراق قال: (الزهد مركب من الحروف الثلاثة: الزاء، والهاء، والدال، فالزاي ترك الزينة، والهاء ترك الهوى، والدال ترك الدنيا)(7).ونقل أبو طالب المكي عن سفيان أنه قال: (الصائم إذا اهتم في أول النهار بعشائه كتب عليه خطيئة، وكان سهل (التستري) يقول: إن ذلك ينقص من صومه) (8).

ونقل عن حذيفة المرعشي أنه قال: (منذ أربعين سنة لم أملك إلا قميصا واحدا)(9).وذكر الكلاباذي في تعرفة عن أبي الحسن محمد بن أحمد الفارسي أنه قال: (من أركان التصوف ترك الاكتساب وتحريم الادخار)(10).ونقل نجم الدين الكبري المتوفى 618 هـ: التصوف هو نبذ الدنيا كلها (11).

ويقول الهروي عبد الله الأنصاري المتوفى 481 هـ: (الزهد أصله تعذيب الظاهر بترك الدنيا)(12).

(1)((طبقات الأولياء)) لابن الملقن المتوفى 804 هـ نشر مكتبة الخانجي القاهرة 1393 هـ.

(2)

((التعرف لمذهب أهل التصوف)) للكلاباذي (ص 185) ط القاهرة 1400 هـ.

(3)

((غيث المواهب العلية)) للنفزي الرندي المتوفى 792 هـ (ص92، 93) ط القاهرة.

(4)

((كشف المحجوب)) للهجويري (ص 558).

(5)

((كشف المحجوب)) للهجويري (ص 558)361.

(6)

((النفحة العلية في أوراد الشاذلية)) لعبد القادر زكي (ص 263) ط مكتبة المثنى القاهرة، أيضا ((الأنوار القدسية)) للشعراني (1/ 132) ط دار إحياء التراث العربي بغداد 1984 م.

(7)

انظر ((مناقب الصوفية)) (فارسي) لأبي المظفر المروزي (ص 55) باهتمام محمد تقي وايرج افشار ط إيران.

(8)

((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي (2/ 9).

(9)

أيضا (ص 21).

(10)

((التعرف لمذهب أهل التصوف)) (ص 108) ط مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة.

(11)

((فواتح الجمال وفواتح الجلال)) لنجم الدين الكبري (ص 59).

(12)

((منازل السائرين مع العلل والمقامات)) (ص 296) ط إيران 1361 هجري قمري.

ص: 20

وينقل ابن الملقن عن أستاذ الجنيد أنه قال: (علامة الفقير الصادق أن يفتقر بعد الغنى، وينحط بعد الشهرة)(1).وينقل السلمي عن سمنون المحب – وهو من أصحاب السري السقطي – أنه سئل عن الفقير الصادق فقال: (الذي يأنس بالعدم كما يأنس الجأهل بالغنى، ويستوحش من الغنى كما يستوحش الجأهل من الفقر)(2).وذكروا عن أبي يزيد البسطامي أنه سئل: بأي شيء نلت هذه المعرفة؟ فقال: (ببطن جائع وبدن عار)(3).

وأخيرا ذكر الكلاباذي عن الصوفية فقال: (أنهم قوم تركوا الدنيا فخرجوا عن الأوطان، وهجروا الأخدان، وساحوا في البلاد، وأجاعوا الأكباد، وأعروا الأجساد)(4).

مع اعترافهم بأن هذه هي المسيحية كما نص على ذلك أبو طالب المكي حيث قال: (روينا عن عيسى عليه السلام أنه قال: (أجيعوا أكبادكم، وأعروا أجسادكم لعل قلوبكم ترى الله عز وجل (5).

فالنصوص في هذا المعنى أكثر من أن تعد وتحصى، وأن يسعها كتاب فهيهات هيهات أن يسعها باب أو جزء من الباب، وكل هذه النصوص تنطق صراحة عن مصدرها الأصلي ومرجعها الحقيقي، ولا علاقة لها بتعاليم الإسلام وإرشاداته، بل أنها مخالفة تماما لتلك، ولكي يسهل على القراء والباحثين المقارنة ذكرنا ما ورد في القرآن والسنة في هذا الخصوص، كما أوردنا قبل ذلك توجيهات مسيحية وتعاليم رهبانية وعلى ذلك قال C.H. BECKE وآسين بلاثيوس، ونيكلسون بأن ترك الدنيا، ومعنى التوكل جاء في التصوف من المسيحية. ونص فون كريمر على أن الزهد الصوفي نشأ بتأثير من الزهد المسيحي (6).

وقال جولد زيهر: (إن مدح الفقر وإيثاره على الغنى كان من العناصر النصرانية (7).

وأقر بذلك الكاتب الإيراني الكبير الدكتور قاسم غني في كتابه (تاريخ التصوف في الإسلام)(8).

‌المصدر:

التصوف المنشأ والمصادر لإحسان إلهي ظهير

(1)((طبقات الأولياء)) لابن الملقن المتوفى 804 هـ ص 152 ط مكتبة الخانجي القاهرة 1973 م.

(2)

((طبقات السلمي)) (ص 47).

(3)

((قوت القلوب)) (ص 168)، أيضا ((الرسالة للقشيري)) (ص 88).

(4)

((التعرف)) للكلاباذي (ص 29).

(5)

انظر ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي (2/ 167).

(6)

انظر لذلك كتاب فون كريمر تاريخ الأفكار الواردة في الاسم نقلا عن مقدمة الكتاب في التصوف الإسلامي وتاريخه للدكتور أبي العلاء العفيفي صهـ، و. وأيضا ((الفكر العربي ومكانته في التاريخ)) للمستشرق أوليري ترجمة تمام حسان (ص 194، 195) ط القاهرة.

(7)

انظر كتاب ((التصوف الإسلامي منهجا وسلوكا)) للدكتور عبد الرحمن عميره ص 33 ط مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة، وكتاب ((مدخل إلى التصوف الإسلامي)) للدكتور التفتازاني (ص 28).

(8)

انظر (ص 100) ترجمة عربية.

ص: 21