الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: مقارنة بين أهل السنة والصوفية في مناهج التزكية
وإنما قصدنا الصوفية من بين فرق الضلالة؛ لأنهم يزعمون أنهم أصحاب الأحوال والمقامات والنفوس الزاكيات، وأنهم أصحاب مناهج في تصفية النفوس وتنقيتها، وهذه المقارنة يظهر فيها بجلاء نقاء المنهج السلفي، وكيف أنه ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم وما خالفه إنما هو ابتداع وبعد عن الكتاب والسنة.
ا- منهج التزكية عند أهل السنة والجماعة
أهل السنة والجماعة هم أهل الأثر وأهل الحديث، وهم كذلك أهل الإتباع، فهم يزكون أنفسهم مما زكى به النبي صلى الله عليه وسلم نفوس الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فلا يبتدعون طرقا للتزكية، ولا ينتهجون من المناهج ما يخالف نهج النبوة، وهم يضبطون بالعلم اعتقاداتهم وأقوالهم وأعمالهم، ونلخص مناهج التزكية عند السلفيين في ثلاثة أمور:
- التزكية بالعقيدة الصحيحة عقيدة التوحيد، ولا يكفيهم ذلك حتى تتعبد قلوبهم لله عز وجل، وتمتلئ بأنوار أسمائه وصفاته وربوبيته وإلهيته.
- التزكية بأداء الواجبات وترك المحرمات.
- التزكية بالنوافل.
أ- التزكية بالتوحيد
لاشك أن أوجب أنواع التزكية، التزكية بالتوحيد قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: 28] وهذه النجاسة ليست نجاسة عينية بحيث أن المسلم إذا مس كافرا يغسل يده، فقد أبيح للمسلم أن يتزوج بالكتابية ولا يسلم من عرقها، والواجب عليه من الطهارة كما هو الواجب على من تزوج بالمسلمة، فهذه نجاسة معنوية، قلوبهم نجسة لأنها لا تعرف الله عز وجل معرفة صحيحة، ولا تعبده وحده لا شريك له عبادة صحيحة. ونجاسة الشرك ملازمة لا تطهرها المصائب المكفرة ولا الحسنات الماحية، بعكس تدنس المسلم بشيء من نجاسات المعاصي التي هي دون الشرك، فإنما تطهرها المصائب المكفرة والحسنات الماحية، ودعاء المؤمنين، واستغفار الملائكة، وغير ذلك من مكفرات الذنوب والخطايا، لذا كان أول الواجبات أن يطهر العبد نفسه من أنجاس الشرك، ويزكيها بالتوحيد، كما قال ابن عباس في قوله تعالى: وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [فصلت: 6 - 7] قال: الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله، وكذلك قول موسى عليه السلام لفرعون فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تَزَكَّى [النازعات: 18] أي تتطهر من هذا الشرك بالتوحيد، فأصل التزكية، التزكية بالتوحيد، بل لا تزكو النفس بسائر أنواع العبادات حتى تزكو بالتوحيد أولا، ومن اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأصل لما أرسل معاذا إلى اليمن قال:((فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة)) (1) الحديث
وأيضا فإن الزكاة هي التطهير، وهل هناك نجاسة أشد من الشرك قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء: 48]
(1) انظر ((صحيح البخاري)) (1458) ومسلم (19)
وقال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13].وقال: وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيدًا [النساء: 116] وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاما يدعو إلى التوحيد وكان القرآن المكي دعوة للتوحيد، وبان ما أعده الله عز وجل لأهل التوحيد، وكذلك ما أعده للمعرضين عن توحيده، وكيف نصر الله عز رجل أولياءه الموحدين، وأهلك الكافرين والمعاندين، حتى استنارت قلوب الصحابة بأنوار التوحيد، وظهر هذا النور على جوارحهم فأثمر فعل الطاعات وترك المعاصي، كما قيل في قول الله عز وجل ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [إبراهيم: 24 - 25] فالكلمة الطيبة هي كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) أصلها ثابت في قلب المؤمن، وفرعها من الأعمال الصالحة في السماء صاعد إلى الله عز وجل، ونقصد بالتوحيد الذي تزكو به النفوس التوحيد الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره)) (1) والإيمان بالله هو ركن التوحيد الأعظم ويشمل الإيمان بربو بيته وأسمائه وصفاته وإفراده عز وجل بجميع ألوان العبادة تصديقا لقولنا (لا إله إلا الله).
ولا يكفي في توحيد الأسماء والصفات. وتوحيد الربوبية أن نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتا بلا تشبيه وتنزيها بلا تعطيل، بل ينبغي أن تتعبد قلوبنا لله عز وجل بصفات الربوبية، وأسمائه وصفاته، والتحقق بتوحيد المعرفة هو السبيل كذلك لتمام العبودية وكمالها لله عز وجل.
قال ابن القيم رحمه الله في وصف السابقين بالخيرات:
وجملة الأمر أنهم قوم قد امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وغمرت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته، فسرت المحبة في أجزائهم، فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب، قد أنساهم حب ذكره غيره، وأوحشهم أنسهم به ممن سواه، قد فنوا بحبه عن حب من سواه، وبذكره عن ذكر من سواه، وبخوفه ورجائه والرغبة إليه والرهبة منه والتوكل عليه والإنابة إليه والسكون إليه والتذلل والانكسار بين يديه، عن تعلق ذلك منهم بغيره، فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه واجتمع همه عليه، متذكرا صفاته العلى وأسماءه الحسنى، مشاهدا له في أسمائه وصفاته، قد تجلت على قلبه أنوارها فانصبغ قلبه بمعرفته ومحبته، فبات جسمه على فراشه يتجافى عن مضجعه، وقلبه قد آوى إلى مولاه وحبيبه فآواه إليه، وأسجده بين يديه خاضعا خاشعا ذليلا منكسرا من كل جهة من جهاته، فيالها من سجدة ما أشرفها. من سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء.
(1) رواه مسلم (8).
وقيل لبعض العارفين: أيسجد القلب بين يدي ربه، قال: إي والله بسجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم القيامة. فشتان بين قلب يبيت عند ربه، قد قطع في سفره إليه بيداء الأكوان وخرق حجب الطبيعة، ولم يقف عند رسم، ولا سكن إلى علم حتى دخل على ربه في داره فشاهد عز سلطانه وعظمة جلاله، وعلو شأنه وبهاء كماله، وهو مستو على عرشه يدبر أمر عباده، ويصعد إليه شيءون العباد، تعرض عليه حوائجهم وأعمالهم فيأمر فيها بما يشاء، فينزل الأمر من عنده نافذا كما أمر، فيشاهد الملك الحق قيوما بنفسه مقيما لكل ما سواه، غنيا عن كل من سواه فقيرا إليه (كل من عداه) (1) يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29] يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويفك عانيا وينصر ضعيفا، ويجبر كسيرا، ويغنى فقيرا، ويميت ويحي، ويسعد ويشقى، ويضل ويهدى، وينعم على قوم ويسلب نعمته عن آخرين، ويعز أقواما ويذل آخرين، ويرفع أقواما ويضع آخرين (2).
إلى أن قال رحمه الله:
وجماع الأمر في ذلك إنما هو تكميل عبودية الله في الظاهر والباطن، فتكون حركات نفسه وجسمه كلها في محبوبات الله، وكمال عبودية العبد موافقته لربه في محبته ما أحبه، وبذل الجهد في فعله، وموافقته في كراهة ما كرهه، وبذل الجهد في تركه، وهذا إنما يكون للنفس المطمئنة لا للأمارة ولا للوامة فهذا كمال من جهة الإرادة والعمل. وأما من جهة العلم والمعرفة فأن تكون بصيرته منفتحة في معرفة الأسماء والصفات والأفعال. له شهود خاص فيها، مطابق لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لا مخالف له، فإن بحسب مخالفته له في ذلك يقع لانحراف، ويكون ذلك قائما بأحكام العبودية الخاصة التي تقتضيها كل صفة بخصوصها، وهذا سلوك الأكياس الذين هم خلاصة العالم، والسالكون كل هذا الدرب أفراد من العالم، طريق سهل قريب موصل طريق آمن، اكثر السالكين في غفلة عنه، ولكن يستدعى رسوخا في العلم ومعرفة تامة به، وإقداما على رد الباطل المخالف له ولو قاله من قاله (3).كذلك كانت تزكية النبي صلى الله عليه وسلم لنفوس أصحابه من شرك الألوهية كلما سنحت فرصة. قال للصحابة يوما على إثر سماء من الليل، ((أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر: فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)) (4) وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان)) (5).
وكذلك قصة ذات الأنواط وغير ذلك مما كان يزكي به النبي صلى الله عليه وسلم قلوب أصحابه حتى صاروا أبر الأمة قلوبا وأعمقها علما.
2 -
التزكية بفعل الواجبات وترك المحرمات: وهذه تزكية واجبة بعد التزكية بالتوحيد، وأولى ما يتقرب به العبد إلى ربه بعد توحيد الله عز وجل أداء الفرائض واجتناب المحرمات، والعمدة في ذلك حديث الولي في صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: ((وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه)) (6).
(1) زيادة لا يستقيم المعنى إلا بها.
(2)
((طريق الهجرتين)) (287).
(3)
((طريق الهجرتين)) (299، 300).
(4)
رواه البخاري (4147) ومسلم (71).
(5)
رواه أبو داود (4980) وأحمد (5/ 384)(23313) والبيهقي (3/ 216) وصححه الألباني في ((الصحيحة)) رقم (137).
(6)
رواه البخاري (6502).
قال ابن حجر رحمه الله: ويستفاد منه أن أداء الفرائض أحب الأعمال إلى الله)) قال الشوكاني: وجه ذلك أن النكرة وقعت في سياق النفي فتعم كل ما يصدق عليه معنى الشيء، فلا يبقى شيء من القرب إلا وهو داخل في هذا العموم، لأن كل قربه كائنه ما كانت يقال لها شيء، سواء كانت من الأفعال أو الأقوال، أو مضمرات القلوب أو الخواطر الواردة على العبد أو التروك للمعاصي التي هي ضد فعلها.
قال الطوفي: الأمر بالفرائض جازم ويقع بتركها المعاقبة بخلاف النفل في الأمرين، وإن اشتركت مع الفرائض في تحصيل الثواب، فكانت الفرائض أكمل، فلذا كانت أحب إلى الله، وأشد تقربا، فالفرض كالأس، والنفل كالفرع والبناء، وفي الإتيان بالفرائض على وجه المأمور به امتثال الأمر واحترمه وتعظيمه بالانقياد إليه وإظهار عظمة الربوبية وذل العبودية، فكان التقرب بذلك أعظم العمل.
قال الشوكاني رحمه الله: واعلم أم من أعظم فرائض الله سبحانه ترك معاصيه التي هي حدوده، التي من تعداها كان عليه من العقوبة ما ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، ولا خلاف أن الله افترض على العباد ترك كل معصية كائنة ما كانت، فكان ترك المعاصي من هذه الحثيثة داخلا تحت عموم قوله:((وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى من مما افترضت عليه)) بل دخول فرائض الترك للمعاصي أولى من دخول فرائض الطاعات كما يدل عليه حديث ((إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فلا تقربوه)) (1) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والورع عما حرم الله، وحسن النية فيما عند الله عز وجل (2)،والمقصود أن أهل السنة، يزكون أنفسهم بعد التوحيد بتكميل الفرائض من فعل الواجبات وترك المحرمات، فلا يفتحون على أنفسهم أبواب النوافل، وهم بعد مقصورون في أداء الفرائض، كما يذهب كثير من الناس إلى الحج والعمرة كل عام ولا يؤدون زكاة أموالهم، أو يهتمون ببناء المساجد وينفقون في أبواب البر لا بنية الزكاة الواجبة في المصارف الثمانية التي حددها الله عز وجل ويصح هنا قول القائل: من شغله الفرض عن النفل فهو معذور ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور. والله عز وجل لا يقبل النفل حتى تؤدي الفريضة، فأهل السنة يزكون أنفسهم بالمشروع، ومع ذلك يقدمون في العمل ما قدمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ((نبدأ بما بدأ الله به ثم تلا إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ [البقرة: 158])) (3)
ومن تلبيس الشيطان على العبد أن يشغله بالعمل المفضول عن الفاضل، وقد ظهر أن الفرائض أفضل وأنفع للعبد من النوافل، فينبغي أن يكمل العبد فرائضه أولا، ثم يزداد تقربا وتحببا إلى الله عز وجل بالنوافل.
3 -
التزكية بالنوافل
النوافل هي ما عدا الفرائض من جميع أجناس الطاعات، وكل ما ندب الله سبحانه إليه ورغب فيه من غير حتم وافتراض، وتختلف النوافل باختلاف ثوابها، فما كان ثوابه أكثر كان فعله أفضل، وتختلف كذلك باختلاف ما ورد في الترغيب فيها، فبعضها قد يقع الترغيب فيه ترغيبا مؤكدا، وقد يلازمه النبي صلى الله عليه وسلم مع الترغيب للناس في فعله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه)).
(1) رواه مسلم (1337) بلفظ (فدعوه) بدل (فلا تقربوه) فإننا لم نجدها.
(2)
ولاية الله والطريق إليها (369) بتصرف واختصار.
(3)
رواه الترمذي (2967) واللفظ له، ورواه أبو داود (1905) والنسائي (2961) وابن ماجه (3074) وابن حبان (3943) قال الترمذي حسن صحيح، وصححه الألباني
قال الحافظ رحمه الله: وقد استشكل بما تقدم أولا أن الفرائض أحب العبادات المتقرب بها إلى الله فكيف لا تنتج المحبة؟ والجواب أن ما كانت حاوية للفرائض مشتملة عليها ومكملة لها، ويؤيده أن رواية أبي أمامة:((ابن آدم إنك لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضت عليك)) (1).
قال الفاكهاني: معنى الحديث أنه إذا أدى الفرائض ودام على إتيان النوافل من صلاة وصيام وغيرهما أفضى به ذلك إلى محبة الله.
قلت: ويفهم منه أن العبد إذا قصر في الفرائض وأكثر من النوافل لا تكون هذه الطريق موصلة له إلى محبة الله عز وجل: فلا يتم التقرب بالنوافل حتى يتقرب أولا بالفرائض، فهذه سبيل التزكية عند أهل السنة.
وقال ابن هبيرة: ويؤخذ من قوله: ((ما تقرب
…
إلخ)) أن النافلة لا تقدم على الفريضة، لأن النافلة إنما سميت نافلة لأنها تأتي زائدة على الفريضة فما لم تؤد الفريضة لا تحصل النافلة، ومن أدى الفرائض ثم زاد عليه النفل وأدام ذلك تحققت منه إرادة التقرب انتهي وأيضا فقد جرت العادة أن التقرب يكون غالبا بغير ما وجب على المتقرب كالهدية والتحفة خلاف من يؤدي ما عليه من خراج أو يقضي ما عليه من دين، وأيضا فإن من جملة ما شرعت له النوافل جبر الفرائض، كما صح في الحديث ((انظروا هل لعبدي من تطوع فتكمل به فريضته)) (2) الحديث بمعناه.
فتبين أن المراد من التقرب بالنوافل أن تقع ممن أدى الفرائض لا من أخل بها.
وقال الشوكاني رحمه الله: إن العبد لما كان معتقدا لوجوب الفرائض عليه، وأنه أمر حتم يعاقب على تركها، كان ذلك بمجرده حاملا له على المحافظة عليها والقيام بها، فهو يأتي بها بالإيجاب الشرعي والعزيمة الدينية، أما النوافل فهو يعلم أنه لا عقاب في تركها فإذا فعلها كان ذلك لمجرد التقرب إلى أرب خاليا، عن حتم عاطلا عن حزم، فجوزي على ذلك بمحبة الله له، وإن كان أجر الفرض أكثر، فلا ينافي أن تكون المجازاة بما كان الحامل عليه هو محبة التقرب إلى الله أن يحب الله فاعله لأنه فعل ما لم يوجبه الله عليه، ولا عزم عليه بأن يفعله.
ومثال هذا في الأفعال المشاهدة في ابن آدم أن السيد إذا أمر عبده بأن يقضي له في كل يوم حاجة أو حوائج، وكذلك أمر من له من الممالك بمثل ذلك، فكان أحدهم يقضي له تلك الحوائج ثم يقضى له حوائج أخرى يعلم أن سيده يحب قضاءها وتحسن لديه، والآخرون لا يقضون له إلا تلك الحوائج التي أمرهم السيد بها، فمعلوم أن ذلك العبد الذي صار يأتي له كل يوم بما أمره به وبغيره مما يحبه، يستحق المحبة من السيد محبة زائدة على محبته لكل واحد منهم، فالمراد من الحديث هذه المحبة الزائدة الحاصلة من فعله لما يحبه سيده من غير أمر منه، مع قيامه بما قام به غيره من امتثال أمر السيد والتبرع بالزيادة التي لم يأمره بها (3).
وهذه مجموعة من نوافل الطاعات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أذكر بها من كمل فرائضه وأحب أن يزداد زكاة ومحبة لله عز وجل.
(1) رواه الطبراني (7896) قال الهيثمي في ((المجمع)) (2/ 248) فيه علي بن يزيد ضعيف، وقال أبو حاتم منكر كما في علل ابنه (1872)
(2)
رواه أبو داود (864) والترمذي (413) والنسائي (465) وابن ماجه (1426) والحاكم (965) قال الترمذي حسن غريب من هذا الوجه وقال الحاكم صحيح الإسناد، وصححه الألباني.
(3)
ولاية الله والطريق إليها (419)(بتصرف).
ا- نوافل الصلاة: من نوافل الصلاة المرغوب فيها المؤكد في استحبابها رواتب الفرائض وهي في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر قال: ((حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الغداة)) (1). وأخرجه مسلم بمعناه لكن زاد: ((قبل الظهر أربعا)) (2) وفضل هذه النوافل ما رواه مسلم وأهل السنن من حديث أم حبيبة بنت أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة سجدة سوى المكتوبة، بنى له بيت في الجنة)) (3).
ومن نوافل الصلاة المؤكدة قيام الليل: روى مسلم عنه صلى الله عليه وسلم قال: ((أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل)) (4). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى ما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة)) (5).
ومن النوافل صلاة الضحىوالأحاديث في مشروعيتها متواترة منها ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: ((صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام)) (6).
ومن نوافل الصلاة المؤكدة صلاة تحية المسجد: عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل أحد المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)) (7)
ومن النوافل: الصلاة عقب الوضوء.
والصلاة بين الأذان والإقامة.
ومطلق التنفل إلا في أوقات الكراهة.
2 -
نوافل الصيام: صوم شهر المحرم روى مسلم وأهل السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الصيام بعد شهر رمضان أفضل؟ فقال: ((شهر الله المحرم)) (8)
ومنه صيام يوم عرفة ويوم عاشوراءعن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبله، وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة ماضية)) (9).
ومنه صيام ست من شوالعن أبي أيوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال فذلك صيام الدهر)) (10).
ومنه صوم شعبانأخرج أحمد وأهل السنن من حديث أم سلمة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم من السنة شهرا تاما إلا شعبان يصل به رمضان)) (11).
وحسنه الترمذي والمعنى يكثر من صيام شعبان لأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صام شهرا كاملا إلا رمضان.
ومنه مطلق التنفل ويكفى في مطلق التنفل بالصيام قوله صلى الله عليه وسلم: ((من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا)) (12)
(1) رواه البخاري (1180).
(2)
رواية مسلم (730) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
رواه مسلم (728) دون قوله (سوى المكتوبة) وبهذا اللفظ رواه النسائي (1806) وأحمد (6/ 326)(26812) والطبراني (19389) وصححه الألباني.
(4)
رواه مسلم (1163).
(5)
رواه مسلم (736).
(6)
رواه البخاري (1981) ومسلم (721)
(7)
رواه البخاري (1163) ومسلم (714).
(8)
رواه مسلم (1163) دون قصة السؤال وكذلك أصحاب السنن.
(9)
رواه أحمد (5/ 296)(22588) والنسائي في الكبرى (2/ 150)(2796) وأصله عند مسلم (1162).
(10)
رواه مسلم (1164).
(11)
رواه أبو داود (2336) والنسائي (2353) أحمد (6/ 84)(24586) وصححه الألباني والحديث أصله عند البخاري (1970)
(12)
رواه البخاري (2840) ومسلم (1153).
3 -
نوافل الحج والعمرة: في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) (1) وقال صلى الله عليه وسلم: ((من حج فلم - يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) (2).
4 -
نوافل الصدقة:
قال الله عز وجل: وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ: 39]. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان من السماء فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا)) (3) وفي صحيح مسلم من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى)) (4). وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ((لا توكي فيوكي الله عليك)) (5) أي لا تبخلي.
5 -
نوافل الأذكار:
قال الله تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت: 45] أي أكبر مما سواه من الأعمال الصالحة.
وقال تعالى: وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ [الجمعة: 10].وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى: ((الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت)) (6).
التقرب والتزكية بالدعاء:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة) ثم تلا هذه الآية وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60].
وقال عز وجل: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل: 62].
وقال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 86]. وعن أنس مرفوعا ((لا تعجزوا في الدعاء فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد)) (7).وعن أبي سعيد عنه صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها)) (8).وعن سلمان عنه صلى الله عليه وسلم قال ((إن ربكم حي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين)) (9).
7 -
التزكية والقرب بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
(1) رواه البخاري (1773) ومسلم (1349)
(2)
رواه البخاري (1521) ومسلم (1350).
(3)
رواه البخاري (1442) ومسلم (1010).
(4)
رواه مسلم (1036).
(5)
رواه البخاري (1433).
(6)
رواه البخاري (6407) واللفظ له ومسلم (779) بلفظ (مثل البيت الذي لا يذكر الله فيه والبيت الذي يذكر الله فيه مثل الحي والميت).
(7)
رواه ابن حبان (871) والحاكم (1818) وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الذهبي لا أعرف عمر تعبت عليه، وقال الألباني في ((الضعيفة)) (843) ضعيف جدا
(8)
رواه أحمد (3/ 18)(11149) والحاكم (1816) وقال صحيح الإسناد والبيهقي في ((الشعب)) (1090) قال الهيثمي في ((المجمع)) (10/ 149) رجاله رجال الصحيح وقال البوصيري في ((الإتحاف)) (6/ 147) إسناده جيد وقال الألباني حسن صحيح كما في ((صحيح الترغيب)) (1633)
(9)
رواه أبو داود (1488) والترمذي (3556) وابن ماجه (3865) وابن حبان (876) والحاكم (1831). قال الترمذي حسن غريب وروى بعضهم ولم يرفعه، وصححه الألباني
ومما تزكو النفس بملازمته والاستكثار منه الصلاة والسلام على رسول اللهصلى الله عليه وسلم فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرا)) (1).
فانظر إلى هذا الأمر العظيم والجزاء الكريم، يصلي العبد على الرسول صلى الله عليه وسلم واحدة، فيصلي عليه خالق العالم ورب الكل عز وجل عشر مرات؛ فهذا ثواب لا يعادله ثواب وجزاء لا يساويه جزاء وأجر لا يماثله أجر.
وبعد أن ذكرنا هذه المجموعة الطيبة من النوافل على سبيل التذكير لمن أراد أن يزكى نفسه بالنوافل بعد الفرائض، يظهر جليا كيف أغنانا الله بالوسائل المشروعة لتزكية النفوس، ونوع الأعمال الصالحة التي يدخل العبد بها على الله عز وجل.
قال ابن القيم رحمه الله: من الناس من يكون سيد عمله الذكر وقد جعله زاده لمعاده ورأس ماله لمآله، فمتى فتر عنه أو قصر رأى أنه قد غبن وخسر، ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة فمتى قصر في ورده منها، أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو مستعد لها، أظلم عليه وقته، وضاق صدره، ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي، كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وأنواع الصدقات، قد فتح له في هذا وسلك منه طريقا إلى ربه، ومن الناس من يكون طريقه الصوم، فهو متى أفطر تغير عليه قلبه وساءت حاله، ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن، وهي الغالب على أوقاته، وهي أعظم أوراده، ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد فتح الله له فيه ونفذ منه إلى ربه، ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه الحج والاعتمار، ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق، وتجريد الهمة، ودوام المراقبة، ومراعاة الخواصر، وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة، ومنهم جامع المنفذ السالك إلى الله في كل واد، الواصل إليه من كل طريق، فهو جعل وظائف عبوديته قبلة قلبه ونصب عينه يؤمها أين كانت ويسير معها حيث سارت، قد ضرب مع كل فريق بسهم، فأين كانت العبودية وجدته هناك إن كان علم وجدته مع أهله، أو جهاد وجدته في صف المجاهدين، أو صلاة وجدته في القانتين، أو ذكر وجدته في الذاكرين، أو إحسان ونفع وجدته في زمرة المحسنين، أو محبة ومراقبة وإنابة إلى الله وجدته في زمرة المحبين المنيبين، يدين بدين العبودية التي استقلت ركابها، ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربها، لو قيل له: ما تريد من الأعمال؟ لقال: أريد أن أنفذ أوامر ربي حيث كانت وأين كانت، جالبة ما جلبت، مقتضية ما اقتضت، جمعتني أو فرقتني، ليس في مرادي إلا تنفيذها والقيام بأدائها، مراقبا له فيها، عاكفا عليه بالروح والقلب والبدن والسر، قد سلمت له المبيع منتظرا منه تسليم الثمن: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ [التوبة: 111].فهذا هو العبد السالك إلى ربه النافذ إليه حقيقة (2).
فهذه طريقة ومناهج التزكية عند السلفيين أهل السنة والجماعة، جعلها الله عز وجل كثيرة متنوعة جدا؛ لاختلاف استعدادات العباد وقوابلهم، ولو جعلها نوعا واحدا مع اختلاف الأذهان والعقول وقوة الاستعدادات وضعفها لم يسلكها إلا واحد بعد واحد، مع أن كل هذه طريق واحد، وهو صراط الله المستقيم كما قال تعالى وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام: 153].
المصدر:
التزكية بين أهل السنة والصوفية لأحمد فريد - ص17 - 31
(1) رواه مسلم (408)
(2)
((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) (179).