الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني غلوهم في الأولياء
لقد غلا المتصوفة في الأولياء كما غلوا في الرسول صلى الله عليه وسلم غلوا شديدا حتى رفعوهم إلى منزلة الأنبياء ولم يقفوا عند هذا بل تجاوزوا بهم منزلة الأنبياء حتى أوصلوهم إلى منزلة الألوهية والربوبية فقعوا بذلك في عقائد باطلة تصطدم تماما مع العقيدة التي جاء بها محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم ونحن هنا لا نريد أن نتتبع الانحرافات التي وقع فيها الصوفية تجاه الأولياء فإن هذا له باب خاص في البحث سيأتي وإنما غرضنا هنا هو الإتيان ببعض النماذج لكي نثبت بأن من أهم العوامل التي أدت إلى انحراف المتصوفة هو غلوهم في الأولياء وإليك البرهان على ما نقول:
1ـ الانحراف الأول: رفع مشايخهم إلى منزلة الألوهية والربوبية:
أولاً: النصوص عنهم من كتبهم: قال ابن عربي في منزلة القطب: (القطب هو مركز الدائرة ومحيطها ومرآة الحق عليه مدار العالم له رقائق ممتدة إلى جميع قلوب الخلائق ومنزلة حضرة الإيجاد والصرف فهو الخليفة ومقامه تنفيذ الأمر وتصريف الحكم وحاله الحالة العامية لا يتقيد بحال تخصيص فإنه الستر العام في الوجود وبيده خزائن الوجود والحق له متجل على الدوام وله من البلاد مكة ولو سكن حيث ما سكن بجسمه فإن محله مكة ليس إلا)(1).
وقال الدسوقي:
ومكنني في سائر الأرض كلها
…
وفي الجن والأشباح والمردية
وفي أرض صين الصين والشرق كلها
…
لأقصى بلاد الله تحت ولايتي
ففي هذا النص يتضح لنا جيدا بأن المتصوفة يعتقدون في مشايخهم ما لا يجوز اعتقاده إلا في الله عز وجل حيث اعتقدوا فيه بأنه منفذ للأمور ومصرف للحكم وأن خزائن الوجود كلها بيده.
ولو عرضنا هذه المعتقدات على الكتاب والسنة سنجد بأنها عقائد مخالفة تماما لما فيهما.
فالله سبحانه وتعالى قد أخبرنا في كتابه بأن كل الأمور بيده وأن جميع ما في الكون له سبحانه وتعالى لا يشركه فيه أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي من أولياء الله عز وجل.
قال تعال قُل لِّمَنِ الأرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [المؤمنون:84 - 85] وقال تعالى قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون: 88 - 89] وقال تعالى أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54] فهذه الآيات كلها تفيد بأن كل ما في السماوات وما في الأرض لله سبحانه وتعالى لأنه المتصرف فيه وحده لا شريك له لأنه هو الذي خلقه وبالتالي فهو الذي يسيره لا يشركه في ذلك أي أحد من مخلوقاته مهما كانت منزلته ولذا نقول: إن زعم الصوفية بأن مشايخهم لهم التصرف في هذا الكون كذب محض لا يعتمد على أي دليل لا عقلي ولا نقلي بل هو زعم يؤدي بصاحبه إلى الشرك في توحيد الربوبية إن لم يتب منه لأن من الواجب لله سبحانه وتعالى إفراده في توحيد ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته والقول بأن للمشايخ تصرفا في هذا الكون يعتبر شركا في توحيد الربوبية يجب أن يتوبوا منه ويرجعوا إلى الله فيوحدوه حق توحيده.
(1) كتاب ((الإنسان الكامل)) و ((القطب الغوث الفرد من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي)) لمحمود العزب.
ولم يكتف الصوفية بهذا بل ادعوا بأن مشايخهم لهم القدرة الكاملة على إجابة كل من استغاث بهم وأنهم يستطيعون تفريج كرب من دعاهم بل بالغوا فيهم حتى زعموا بأنهم باستطاعتهم أن يتحدوا الله في قضائه وقدره وإليك الدليل على ما أقول: فقد ذكر صاحب كتاب (مناقب الشيخ عبد القادر الجيلاني) راويا عن الرفاعي (توفي أحد خدام الغوث الأعظم وجاءت زوجته إلى الغوث فتضرعت والتجأت إليه وطلبت حياة زوجها فتوجه الغوث المراقبة فرأى في عالم الباطن أن ملك الموت عليه السلام يصعد إلى السماء ومعه الأرواح المقبوضة في ذلك اليوم فقال: يا ملك الموت قف وأعطني روح خادمي فلان وسماه باسمه فقال ملك الموت: إني أقبض الأرواح بأمر إلهي وأأديها إلى باب عظمته كيف يمكنني أن أعطيك روح الذي قبضته بأمر ربي؟؟ فكرر الغوث عليه إعطاءه روح خادمه إليه فامتنع من إعطائه وفي يده ظرف معنوي كهيئة الزنبيل فيه الأرواح المقبوضة في ذلك اليوم فبقوة المحبوبية جر الزنبيل وأخذه من يده فتفرقت الأرواح ورجعت إلى أبدانها فناجى ملك الموت عليه السلام ربه وقال يا ربي أنت أعلم بما جرى بيني وبين محبوبك ووليك عبد القادر فبقوة السلطنة والصولة أخذ مني ما قبضته من الأرواح في هذا اليوم فخاطبه الحق الله عز وجل جلاله: يا ملك الموت إن الغوث الأعظم محبوبي ومطلوبي لم لا أعطيته روح خادمه وقد راحت الأرواح الكثيرة من قبضتك بسبب روح واحد فتندم هذا الوقت)(1).
وذكر أحد الصوفية بأن الشيخ محمد صديق وقع في البحر ولم يكن يعرف السباحة فكاد أن يغرق فناداه – أي عبد القادر – مستغيثا به فحضر وأخذ بيده وأنقذه من الغرق. وحكى في نفس الصفحة أنه كان جالسا يوما مع أصحابه في رباطه إذ ابتلت يده الشريفة وكمه إلى إبطه فعجبوا من ذلك وسألوه عنه فقال رضي الله عنه: استغاث بي رجل من المريدين تاجرا كان راكبا في السفينة وقد كادت أن تغرق فخلصتها من الغرق فابتل لذلك كمي ويد فوصل هذا التاجر بعد مدة وحدث بهذا الأمر كما أخبر الشيخ رضي الله عنه (2).
فلو نظرنا في النصوص المتقدمة نلاحظ بأن الصوفية يجيزون الالتجاء إلى المخلوق والاستغاثة به ويقولون بأن بإمكان الولي أن يعلم بكل ما في هذا الكون وهو جالس في مكانه وأن باستطاعته تغيير القدر الذي قدره الله في الأزل وأنه يسمع كل من ناداه واستغاث به ويفرج عنه كربه ولو عرضنا هذه الاعتقادات كلها على الكتاب والسنة سنجدها تصطدم تماما مع ما فيهما من الاعتقادات التي أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نعتقدها.
ولنبدأ أولا بمناقشة موضوع الاستغاثة بغير الله والالتجاء إلى غيره بإيجاز شديد جدا.
(1) كتاب ((تفريج الخاطر في مناقب تاج الأولياء وبرهان الأصفياء الشيخ عبد القادر الجيلاني)) (ص: 17).
(2)
((المواهب السرمدية في مناقب النقشبندية)) لمحمد أمين الكردي (ص: 210).
فالصوفية كما اتضح لنا في النصوص السابقة التي نقلناها عنهم يجوزن الاستغاثة بغير الله والالتجاء إلى غيره عند الشدائد والملمات مع أن الاستغاثة تعتبر عبادة لأن الاستغاثة هي طلب الغوث وهي بمعنى الدعاء وإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز الاستغاثة بغير الله لأنها عبادة لا يجوز صرفها لغير الله سبحانه وتعالى بل يجب أن يعبد الله وحده ولا يشرك معه أحد غيره في عبادته سبحانه وتعالى وبما أن المخلوق ليس لديه القدرة على إغاثة من استغاث به فلا يجوز التوجه إليه بالدعاء وطلب الإغاثة إذا كان غائبا أو ميتا أما إذا كان حاضرا فيجوز طلب الإغاثة منه فيما يقدر عليه فقط وادعاء الصوفية بأن مشايخهم بإمكانهم إغاثة من استغاث بهم بعد مماتهم أو في حياتهم حال غيابهم يعتبر كذبا محضا وافتراء على الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب مبين لأن المغيث هو الله وحده لا شريك له أما من عداه فلا يستطيع أن يغيث أحدا وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى على أن أي مدعو من دونه لا يملك كشف ضر عن أحد أو تحويله عنه فقال تعالى قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلاً [56: الإسراء] وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى بأن المشركين دعوا شركاءهم فلم يستجيبوا لهم فقال تعالى وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ [القصص: 64] وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى بأن أي مدعو من دونه لا يملك شيئا ولو كان صغير الحجم قليل القيمة أو فاقد فقال تعالى وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 13 - 14] فهذه النصوص القرآنية التي أوردتها تفيد بأن المدعو من دون الله سبحانه وتعالى لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا عن غيره فلذا لا يجوز دعاء غير الله عز وجل وكل من خالف هذه النصوص ودعا غير الله عز وجل يعتبر وقع في الشرك الأكبر والذي يعتبر أكبر ظلم عصي به الله عز وجل على الإطلاق وقد نهي الله عز وجل في كتابه عن دعاء غيره فقال تعالى: وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ [يونس: 106] وقال تعالى وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 88] وقال تعالى وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن: 18] والله عز وجل لم ينهنا عن دعاء غيره ويتركنا هكذا حيارى بل أمرنا أن ندعوه وحده ولا نشرك معه أحدا غيره لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا ولا وليا فقال تعالى وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186] وقال تعالى وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60] إلى غير ذلك من الآيات التي تحثنا كلها على دعاء الله سبحانه وتعالى والالتجاء إليه والاستغاثة به عند الشدائد. وفي الحديث: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا حيث يبقى ثلث الليل الآخر ثم يقول: من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له)) (1).
(1) رواه البخاري (1145) ومسلم (758)
وفي حديث آخر: قال الرسول صلى الله عليه وسلم ((الدعاء هو العبادة)) (1).وفي حديث آخر: قال الرسول صلى الله عليه وسلم ((الدعاء مخ العبادة)) (2).
وأما ادعاء الصوفية بأن أحد مشايخهم نظر إلى ملك الموت وهو يصعد بالأرواح في زنبيل ثم أخذها منه ورجعت الأرواح إلى أصحابها وأن أحد مشايخهم أنقذ سفينة من الغرق وهو جالس في مكانه بالإضافة إلى إنقاذ إنسان آخر استغاث به فهذه كلها ادعاءات كاذبة مبنية على الكذب المحض لا أساس لها من الصحة ولا يمكن أن يقبلها إنسان به أقل شيء من العقل السليم من التأثر بالخرافات الصوفية وأوهامهم الفاسدة ولذا لا نريد أن نطول في الرد عليها بل نقول بإيجاز شديد إن علم الغيب مختص بالله سبحانه وتعالى ولا يمكن لأحد أن يعلم الغيب كائنا من كان.
كما قال تعالى عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن: 26 - 27] ومشايخ الصوفية ليسوا أنبياء ولا رسلا حتى يدعي أتباعهم بأنهم يوحى إليهم عن الله ولذا نقول بأن ادعاء الصوفية بأن مشايخهم يشاهدون ما في هذا الكون وهم جالسون في مكانهم لا أساس له من الصحة بل محض دجل وافتراء متعمد لتضليل العوام بتهويل قدر مشايخ الصوفية في أعينهم حتى يصرفوهم عن عبادة الله الواحد القهار إلى عبادة القبور والأحجار.
وأما زعم هذا الصوفي بأن أحد مشايخ الصوفية أخذ الأرواح من ملك الموت وردها إلى أصحابها فهذا يجر الصوفية إلى الاعتقاد بأن أحدا ما من المخلوقات باستطاعته منازعة الله في قضائه وقدره وذلك لأن من المعلوم والواجب اعتقاده بأن كل شيء يقع في هذا الكون بقضاء الله وقدره وأن الله سبحانه وتعالى قد حدد الآجال والأرزاق فكل ميت لا يمكن أن يموت قبل اليوم الذي قدره الله له ولا يمكن أن يحيا كذلك بعدها ولو لحظة ومن الأدلة في هذا المجال الآيات التالية:
قوله تعالى إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49]
وقوله تعالى وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2]
مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد: 22]. إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [نوح: 4]
وقوله تعالى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل: 61]
ولهذا نقول إن زعم هذا الصوفي بأن شيخه أخذ الأرواح وردها إلى أصحابها ليس بصحيح وإنما هو كذب وافتراء على الله ويلزم أصحاب هذا القول الاعتقاد بأن المخلوق يستطيع أن يغالب الله في قضائه وقدره وهذا يعتبر شركا في توحيد الربوبية وذلك لأن من أقسام التوحيد هو إفراد الله في ربوبيته والله سبحانه وتعالى قد قدر كل الأشياء قبل أن يظهرها لنا ومما يدل على ذلك قوله تعالى مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد: 22].
(1) رواه أبو داود (1479) والترمذي (2969) وابن ماجه (3828) وابن حبان (3/ 172)(890) والحاكم (1/ 667)(1802) وقال صحيح الإسناد وقال الترمذي حسن صحيح، وصححه الألباني
(2)
رواه الترمذي (3371) والطبراني في الأوسط (3/ 293)(3196) قال الترمذي غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة، وقال الطبراني لم يرو هذا الحديث عن أبان إلا عبيد الله تفرد به بن لهيعة، وضعفه الألباني
ومنها قوله تعالى وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر: 12] والمعنى: أي على أمر قد علم في سابق علم الله سبحانه وتحتم وقوعه فوقع كما قدره الله سبحانه وتعالى.
ومنها قوله تعالى فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ [النمل: 57] ومنها قوله تعالى: مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا [الأحزاب: 38] ولهذا نقول إن الإيمان بقضاء الله وقدره أمر واجب على كل مسلم ومعنى الإيمان بقضاء الله وقدره هو أن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى قد قدر كل ما يقع في هذا الكون وقضاه وكل شيء قدره الله لا بد وأن يقع ولا يمكن لأحد كائن من كان أن يغير شيئا مما قدره الله سبحانه وعلى هذا تصبح دعوى الصوفية بأن الشيخ نزع الأرواح من ملك الموت ورجعت إلى أصحابها كذب وافتراء بحت وذلك لأن الله سبحانه قد قدر بأن هذه الأرواح ستموت في هذا اليوم وما دام قدر الله أن تموت في هذا الوقت فلا يمكن أن تعود هذه الأرواح إلى أصحابها إلا إذا قال الصوفية بأنهم يؤمنون بأن مشايخهم باستطاعتهم أن ينازعوا الله في قضائه وقدره والتصرف في هذا الكون وإذا قالوا بهذا فإنهم قد وقعوا في الشرك بالله في توحيد ربوبيته لأن من الأمور الواجب اعتقادها تجاه الله سبحانه وتعالى هو الإيمان بأن كل ما في هذا الكون تحت تصرفه سبحانه وتعالى لا يشركه فيه أحد ولا يستطيع أحد أن ينازعه مهما كانت مكانته لا نبيا مرسلا ولا ملكا مقربا ولا وليا لأن الكل عبيد الله سبحانه وتعالى يتصرف فيهم كما يشاء.
2ـ الانحراف الثاني الذي وقع فيه الصوفية بسبب غلوهم في مشايخهم هو الادعاء بأن لهم علوما خاصة يتلقونها عن الله وعن رسوله مباشرة:
لقد وصل الغلو بالصوفية إلى أن ادعوا بأن لمشايخهم علوما خاصة يتلقونها عن الله مباشرة تختلف تماما مع العلوم التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه وادعوا أيضا بأنهم يتلقون علوما خاصة بهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يسمون هذه العلوم علوم الخاصة أي علوما يختصون بها هم دون سائر الأمة الإسلامية وإليك الأدلة من بطون كتبهم:
قال صاحب (الرماح) الذي بهامش (جواهر المعاني) في الفصل الثاني والعشرين:
(إنهم لا ينطقون إلا بما يشاهدون ويأخذون عن الله ورسوله الأحكام الخاصة للخاصة لا مدخل فيها للعامة لأنه صلى الله عليه وسلم كان يلقي إلى أمته الأمر الخاص .. ) ثم قال: (إن الكامل منهم ينزل عليه الملك بالأمر والنهي)(1). ونقل الشعراني عن ابن عربي أنه قال: (حدثني قلبي عن ربي أو حدثني ربي عن قلبي أو حدثني ربي عن نفسه بارتفاع الوسائط)(2).
(1)((الرماح بهامش جواهر المعاني)) (1/ 156).
(2)
((لطائف المنن)) للشعراني (1/ 145).
فالنصان السابقان يدلان دلالة واضحة على أن الصوفية يؤمنون بأن مشايخهم يتلقون علوما خاصة بهم عن الله مباشرة. والرد عليهم بإيجاز: إن ادعاءهم هذا يؤدي بهم إلى القول بعدم ختم النبوة وبقاء بابها مفتوحا لكل من يدعي التلقي عن الله وهذا يعتبر انحرافا عقديا خطيرا وذلك لأن عقيدة ختم النبوة تعتبر من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة يعرفها العامي فضلا عن العالم وقد وردت نصوص قرآنية وأحاديث نبوية تدل دلالة قاطعة على ختم النبوة فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب: 40] ومن الأحاديث الدالة على أن النبوة قد ختمت قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا نبي بعدي)) (1).
فالآية والحديث السابقان يدلان دلالة واضحة على أن النبوة قد ختمت بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قد أخبرنا بأن محمدا بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والسلام خاتم النبيين ونفى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون نبي بعده.
فكل من يدعي بأنه تنزل عليه علوم من الله سبحانه وتعالى بعد هذا الدليل القاطع يعتبر دجالا مفتريا على الله يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا فيجب أن تقطع عنقه حتى لا يفتن المسلمين في دينهم وذلك لأن ادعاء التلقي عن الله يؤدي إلى الإتيان بأحكام وعقائد جديدة تختلف مع العقيدة والشريعة التي أتى بها محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام من ربه وإذا اعترض عليه أي معترض يستطيع أن يقول بكل سهولة أنه تلقاه عن الله تعالى كما يزعم الصوفية ذلك وهذا يعتبر هدما وتقويضا للعقيدة والشريعة الإسلامية والقضاء عليها نهائيا.
3ـ الانحراف الثالث الذي وقع فيه الصوفية بسبب غلوهم في المشايخ: هو الادعاء بأن لهم الاطلاع على الغيب:
لقد وصل غلو الصوفية في مشايخهم إلى أن زعموا بأنهم يعلمون الغيب حيث ادعوا بأن الأولياء يعلمون الأشياء المكتوبة على أوراق الشجر والماء والهواء وكل ما في البر والبحر ما في السماء وكل ما يقع للإنس والجن في حياتهم وبعد مماتهم وأنهم يسمعون كل من ناداهم من قريب أو بعيد فيقضون له طلبه وإليك الأدلة على هذا من بطون كتبهم:
فقد قال إبراهيم الدسوقي في معرض حديثه عن خصائص العارف بالله عندهم: (وكذلك لهم الاطلاع على ما هو مكتوب على أوراق الشجر والماء والهواء وما في البر والبحر وما هو مكتوب على صفحة قبة خيمة السماء وما في حياة الإنس والجان مما يقع لهم في الدنيا والآخرة ولا يحجب من حكيم يتلقى علما من حكيم عليم)(2).وحكى أحد الصوفية عن أحد الصوفية أنه وقع في البحر ولم يكن يعرف السباحة فكاد أن يغرق فناداه مستغيثا به فحضر وأخذ بيده من الغرق) (3).
فالنصان السابقان يدلان بأن الصوفية يعتقدون بأن مشايخهم يعلمون الغيب ويفرجون كرب كل من استغاث بهم ودعاهم.
والذي نريد أن نناقشه هنا هو مسألة علم الغيب وهل يمكن للمخلوق أن يعلمه أم أن علم الغيب مختص بالله سبحانه وتعالى.
فلو نظرنا في كتاب الله عز وجل سنجد فيه آيات كثيرة وكلها تتحدث في اختصاص الله تعالى بعلم الغيب وليس بإمكاننا الآن أن نذكر كل الآيات التي تتحدث في هذا المجال وإنما نريد أن نذكر آية واحدة مع إيراد بعض أقوال المفسرين فيها وهي بالفعل كافية ومقنعة في هذا المجال لمن يبحث عن الحق ويريد الوصول إليه أما المعاند المكابر فلا يمكن أن يقتنع مهما أتينا بالآيات.
(1) رواه البخاري (3455) ومسلم (1842)
(2)
((جمهرة الأولياء)) للمنوفي (2/ 242).
(3)
((المواهب السرمدية)) لمحمد أمين الكردي (ص: 210).
والآية التي نريد أن نستدل بها على أن علم الغيب خاص بالله تعالى وأنه لا يمكن لأحد أن يطلع على الغيب إطلاقا باستثناء الرسل عليهم الصلاة والسلام فإن الله سبحانه وتعالى يطلعهم على بعض غيبه تأييدا لهم حتى يكون ذلك مساعدا لهم لإقناع أقوامهم بما يدعونهم إليه هي قوله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن:26 - 28]
وإليك أقوال بعض المفسرين الأعلام في هذه الأمة حتى نستطيع التوصل إلى الحكم الصحيح في كل من يدعي علم الغيب.
فقد قال القرطبي:
(والغيب ما غاب عن العباد فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه لأن الرسل مؤيدون بالمعجزات ومنها الإخبار عن بعض الغائبات
…
) ثم قال: (والأولى أن يكون المعنى: أي لا يظهر على غيبه إلا من ارتضى أي اصطفى للنبوة فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه ليكون ذلك دالا على نبوته)(1).
ثم قال القرطبي: (قال العلماء رحمة الله عليهم: لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه ثم استثنى من ارتضاه من الرسل فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى وينظر في الكتب ويزاجر الطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه)(2).
وقال ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية في المجلد الثاني عشر:
(يعني بالعالم الغيب عالم ما غاب عن أبصار خلقه فلم يروه فلا يظهر على غيبه أحدا فيعلمه أو يريه إياه أَحَدًا إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فإنه يظهره على ما يشاء من ذلك).
ونقل عن ابن عباس أنه قال في تفسيرها:
(أعلم الله سبحانه الرسل من الغيب الوحي وأظهرهم عليه بما أوحى إليهم من غيبه وما يحكم الله فإنه لا يعلم ذلك غيره).
ونقل عن قتادة أنه قال في تفسير هذه الآية: (فإنه يصطفيهم على ما يشاء من الغيب).ونقل عن ابن جرير أنه قال تفسيرها: (ينزل من غيبه من ما يشاء على الأنبياء أنزل على رسول الله الغيب القرآن قال: (وحدثنا فيه بالغيب بما يكون يوم القيامة)(3).وقال عبدالرحمن بن ناصر السعدي في كتابه (تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن): (فلا يظهر على غيبه أحدا من الخلق بل انفرد بعلم الضمائر والأسرار والغيوب إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ أي فإنه يخبره بما اقتضت حكمته أن يخبره به وذلك لأن الرسل ليسوا كغيرهم فإن الله أيدهم بتأييد ما أيده أحدا من الخلق وحفظ ما أوحاه إليهم حتى يبلغوه على حقيقته من غير أن تقربه الشياطين فيزيدوا فيه أو ينقصوا منه)(4).
فالأقوال التي أوردتها عن هؤلاء العلماء الأجلاء الذين سبق ذكرهم كلها اتفقت على نفي علم الغيب على جميع ما في هذا الكون ومن هنا نقول إن باب علم الغيب مسدود نهائيا وكل من يحاول أن يعلم الغيب إنما يسعى لكي يضله الله عز وجل وإلا فما الداعي لإنسان يؤمن بأن القرآن كلام الله أن يسعى للاطلاع على علم الغيب بعد أن أخبر الله عز وجل في كتابه بأن الغيب خاص به سبحانه وأنه لا يطلع عليه أحدا إلا رسله فإنه يطلعهم على جزء من غيبه حتى يكون لهم معجزة فيساعدهم في إيمان أقوامهم أو إقناعهم وحتى الوحي الذي يوحيه إليهم يعتبر غيبا وقد قال بعض المفسرين بهذا كما سبق.
والخلاصة أن غلو المتصوفة في مشايخهم واعتقادهم بأنهم يعلمون الغيب يعتبر اعتقادا فاسدا وأن الواجب عليهم التراجع عن هذا الغلو الذي صار سببا في ضلالهم كما ضل بسببه كثير ممن كان قبلهم من الأمم الماضية ومعروف أن أول شرك حصل في الأرض كان سببه الغلو في رجال صالحين.
المصدر:
مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية لإدريس محمود إدريس – 1/ 137
(1)((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (19/ 27).
(2)
((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (19/ 28).
(3)
((تفسير ابن جرير الطبري)) (29/ 76).
(4)
((تفسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن)) (8/ 182).