الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: وحدة الشهود أو الفناء وبيان العلاقة بين وحدة الشهود ووحدة الوجود
وحدة الشهود هو ما يسمونه في بدء أمره مطالعة الحقائق من وراء ستر رقيق، أي لا يصل إلى درجة الحلول ولاتحاد في أول الأمر إلا بعد أن يترقى درجات ثم يصبح كما يقول على حرازم ناقلاً جواب شيخه التجاني:"اعلم أن سيدنا رضي الله عنه سئل عن حقيقة الشيخ الواصل ما هو؟ فأجاب رضي الله عنه بقوله: أما حقيقة الشيخ الواصل فهو الذي رفعت له جميع الحجب عن كمال النظر إلى الحضرة الإلهية نظراً عينياً وتحقيقاً يقينياً"(1).
وهذه نهاية الفناء في الله ووحدة الشهود فيه.
وأما العلاقة بين وحدة الوجود ووحدة الشهود:
فإنه يرى بعض العلماء أن بين وحدة الوجود ووحدة الشهود فارقاً بعيداً، وذلك أن وحدة الوجود هي الحلول والاتحاد وعدم التفرقة بين الله وبين غيره من الموجودات، بينما وحدة الشهود عند بعضهم هي بمعنى شدة مراقبة الله تعالى بحيث يعبده كأنه يراه.
ومن هنا ظن هذا البعض أن وحدة الشهود لا غبار على من يقول بها، ومنهم من يؤكد على أن وحدة الشهود هي الدرجة الأولى إلى وحدة الوجود، والواقع أن التفريق بين وحدة الشهود ووحدة الوجود ليس له أساس ثابت بل هو قائم على غير دليل إلا دليلاً واحداً هو الذوق الصوفي، وذلك أن خير البشر لم يستعمل هذه الحالة ولا نطق باسمها في عبادته لربه، ولا كان أصحابه أيضاً يقولون بها.
فكان شأنهم أنهم يعبدون الله وهم على أشد ما يكونون من الوجل والخوف أن ترد عليهم أعمالهم مع وجود أشد الطمع في نفوسهم لعفو ربهم وتجاوزه عنهم يعبدونه بالخوف والرجاء، ووحدة الشهود ووحدة الوجود لم تعرف إلا بين الفئات الذين امتلأت نفوسهم إعجاباً وتيهاً بأعمالهم وقلت هيبة الله تعالى في نفوسهم.
يقول الشيخ عبد الرحمن الوكيل في أثناء رده على الغزالي وبيان خطر أفكاره على الإسلام والمسلمين، ومدى تعلق الغزالي بوحدة الوجود أو الشهود:"أرأيت إلى من صنمَّته (2) الصوفية باللقب الفخم (3) لتفتن به المسلمين عن هدى الله تعالى؟ أرأيت إلى الغزالي يدين بوحدة الوجود أو الشهود – سمها بما شئت، فعند الكفر تلتقي الأسطورتان لا تقل إن وحدة الوجود أنشودة من البداية ووحدة الشهود أغرودة عند النهاية فكلتاهما بدعة صوفية، بيد أنها غايرت الاسمين وخالفت بين اللونين ولكن البصر البصير لا يخدعه اسم الشهد سمي به السم الناقع كلتاهما زعاف الرقطاء، غير أن واحدة منهما في كأس من زجاج والأخرى في كأس من ذهب"(4).
فينبغي أن نبتعد عن هذه الكلمة – وحدة – أشد البعد فإن الله تعالى هو الواحد القهار لم يشرك أحد في خلقه لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:3 - 4]، ولنا في العبارات الطيبة التي تربطنا بربنا مجال واسع كالإسلام والإيمان والإحسان كما جاء في حديث جبريل؛ حيث سأله عن تلك الأمور ولم يسأله عن وحدة الوجود أو وحدة الشهود ولا وحدة الوجود ولا الحلول ولا الكشف، ولا غير هذا مما هو اختراع الصوفية تبعاً لأفكار ضالة ليس بينها وبين الإسلام أي صلة أو تقارب.
إن وحدة الشهود تؤدي في النهاية إلى القول بالحلول رغم ما زخرفوه من الكلام والتدليس.
(1)((جواهر المعاني)) (1/ 135).
(2)
أي جعلته صنماَ.
(3)
أي لقبه حجة الإسلام.
(4)
هذه ((هي الصوفية)) (ص 50).
وقد وضح علي حرازم الأمر وجلاه في بيانه لأقسام مراتب المحبة التي هي محبة الإيمان، ومحبة الآلاء والنعماء، ومحبة الصفات، ومحبة الذات، ثم بين هذه المراتب إلى أن قال عن القسم الرابع من المحبة:"ومتى وصل إلى محبة الذات أعني أنه يشم رائحة منها فقط انتقل إلى الفناء مرتبة بعد مرتبة، فيكون أمره أولاً ذهولاً عن الأكوان ثم سكراً ثم عينية وفناءً مع شعوره بالفناء، ثم إلى فناء الفناء وهو لم يحس بشيء شعوراً وتهمماً وحساً واعتباراً، وغاب عقله ووهمه وانسحق عدده وكمه فلم يبق إلا الحق بالحق للحق في الحق، وهو مقام الفتح والبداية يعني بداية المعرفة، وصاحبه إذا أفاق من سكرته يأخذ في الترقي والصعود في المقامات إلى أبد الأبد بلا نهاية"(1).
وقوله: إنه لا نهاية لترقية لا يتفق مع ما قدمه مما يدل على نهاية الترقي، وهو الوصول إلى وحدة الوجود كما في قوله:"إلى أن ينتقل إلى المشاهدة وهي الاستهلاك في التوحيد وغاية المشاهدة ينمحق الغير والغيرية، فليس إلا الحق بالحق للحق عن الحق فلا علم ولا رسم ولا عقل ولا وهم ولا خيال ولا كيفية ولا كمية ولا نسبه انتفت الغيرية كلها"(2).
إلى أن قال عن دخول الحضرة الإلهية: "فإن من دخلها غاب عن الوجود كله فلم يبقى إلا الألوهية المحضة حتى نفسه تغيب عنه، ففي هذه الحال لا نطق للعبد ولا عقل ولا هم ولا حركة ولا سكون ولا رسم ولا كيف ولا أين ولا محدود ولا علم، فلو نطق العبد في هذا الحال لقال: لا إله إلا أنا سبحاني ما أعظم شأني؛ لأنه مترجم عن الله عز وجل"(3).
(1)((جواهر المعاني)) (1/ 165).
(2)
((جواهر المعاني)) (ص 13).
(3)
((جواهر المعاني)) (ص 17).
وهذا هو الحلول والاتحاد، مع هذا سماه علي حرازم"غاية الصفاء" ونسي أو تناسى أو جهل – وهو الصحيح – أن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أحد من صحابته قد قال: سبحاني ما أعظم شأني أو قال: لا إله إلا أنا؛ لأن قائل هذه الألفاظ لا دين له إلا دين المجوسية، ومن هنا استشهد علي حرازم بعد الكلام السابق على صحة هذا الصحو في الله بقول الحلاج: سبحاني ما أعظم شأني. ومن حسن الحظ لم يستدل بقول أحد من المسلمين. وتتضح صورة القول بوحدة الوجود عند التجانية كما هي عند سائر أقطاب الغلاة في قول علي حرازم في صراحة تامة زفي مواضع كثيرة في كتابه (جواهر المعاني) نأخذ منها قوله في أثناء بيانه لمنزلة الخلق من الحق تبارك وتعالى وأنهم صور تنبئ عن الله تماماً فقال في ذلك: "ولا يكون هذا إلا لمن عرف وحدة الوجود فيشاهد فيها الوصل والفصل فإن الوجود عين واحدة ولا تجرؤ فيها على كثرة أجناسها وأنواعها، ووحدتها لا تخرجها عن افتراق أشخاصها بأحكام الخواص وهي المعبر عنها عند العارفين أن كثرة عين الوحدة والوحدة عين الكثرة"(1).ومن العجيب أنهم يستدلون على هذا المسلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)) إلى أخر الحديث (2)، والحديث حسب مفهومهم معناه أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى يصفى من الكدورات، أنه يصير في معنى الحق – تعالى الله عن ذلك – وأنه يفنى عن نفسه جمله حتى يشهد أن الله هو الذاكر لنفسه الموحد لنفسه المحب لنفسه، وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدما صرفاً في شهوده وإن لم تعدم في الخارج (3)، وينسى العبد نفسه في الله وأن الله يحل بجوارحهم، فهو في سمعهم وأبصارهم وأيديهم وأرجلهم قد اتحدت ذاته بذواتهم. فهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد ما ذهب إليه زعماء الصوفية؟ والجواب سيكون بالنفي قطعاً. وقد أجاب العلماء عن معنى هذا الحديث بعدة أجوبة ذكرها كلها ابن حجر رحمه الله، ومنها أن معناه أن العبد يحب طاعة الله ويؤثر خدمته ومحبته، وأنه لا يستعمل هذه الجوارح إلا وفق ما شرعه الله له فلا يستعملها إلا في ما أحبه الله ويبعدها عن كل ما يغضب الله تعالى (4)، لا أن الله يحل في تلك الجوارح، والرسول صلى الله عليه وسلم لأعظم وأجل من أن يتصور ربه على هذه الصفات. وتلك المعاني الباطلة لمعنى الحديث موضحة في جمهرة الأولياء للمنوفي فيه مقال تحت عنوان "دور الكمال" ذكر فيه أن الصوفية قد تطورت فشاركت في أبحاث كثيرة فقهية وفلسفية إلى أن قال:"وقد خطى الجنيد في هذا السبيل الخطوات الأولى الفاصلة فانتقل من حال الفناء التي قال بها البسطامي إلى فكرة الاتحاد، وذهب إلى أن المتصوف قد يصل إلى درجة يتحد فيها الروح اتحاداً تاماً بخالقها عن طريق الشهود"(5).
(1)((جواهر المعاني)) (2/ 73).
(2)
((صحيح البخاري)) بشرحه ((فتح الباري)) (11/ 341).
(3)
((فتح الباري)) (11/ 344).
(4)
((فتح الباري)) (11/ 344).
(5)
انظر: (1/ 275).
ثم ذكر بعد ذلك أنه ليس المراد من هذا الاتحاد ما هو معروف في البوذية والمسيحية، وإنما هو بمعنى أنه مجرد ملاحظة روحية، ولكن يبقى عليه أن الملاحظة الروحية لا يقال فيها بالاتحاد، وإنما هي زيادة تعلق القلب بخالقها فقط، ومن قال إن ملاحظاته جعلته متحداً مع الله فلا شك في خروجه عن الحق مهما حاول بعد ذلك تغطية معتقده بزخرف القول. لقد أصبحت وحدة الشهود عند المتصوفة هي أخص مظهر من مظاهر الحياة الصوفية وهي الحال التي يسمونها بالفناء وعين التوحيد وحال الجمع، وهي الاتصال بين العبد وبين ربه عن طريق الشهود الصريح فيما يزعمون. ويصل الإنسان إليها – بزعمهم – بكثرة الذكر حتى يقع الشهود القلبي ثم يستغني عن الذكر بمشاهدة المذكور – حسب تخيلاتهم السقيمة الإلحادية – فاتضح مما سبق أن الفوارق لا تكاد تعرف بين تلك التسميات، فهي داخلة في النهاية كلها في دائرة واحدة هي القول بالحلول مهما تعددت صوره (1).
وأما اعتقادهم في الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو ضرب من الخيال والإلحاد، فهم يزعمون: 1 - أن الله كان في عماء دون تعيين فأراد أن يتعين في صورة فتعين في صورة محمد صلى الله عليه وسلم، أي أنهم يعتقدون أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الله سبحانه وتعالى ذاتاً وصفةً حيث تعينت فيه الذات الإلهية في صورة مادة كما قرر الكشخانلي ومحمد الدمرداش – والجيلي والبيطار والقاشاني والفوتي وعلي حرازم والشعراني (2).2 - وأن الذي هاجر من مكة إلى المدينة هو الذات الإلهية متجلية في صورة هو محمد صلى الله عليه وسلم كما قرر ابن عربي ذلك في قوله:"اللهم أفض صلة صلواتك وسلامة تسليماتك على أول التعيينات المفاضة من العماء الرباني وأخر التنزلات المضافة إلى النوع الإنساني المهاجر من مكة كان الله ولم يكن معه شيء ثان إلى المدينة الجمع بين العبودية والربوبية الشامل للإمكانية والوجودية"(3).
3 -
أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يحضر كل مجلس أو مكان أراد بجسده وروحه، وأنه يتصرف ويسير حيث يشاء في أقطار الأرض إلى اليوم لم يتبدل بعد وفاته.4 - كل هذه الموجودات إنما وجدت من نور محمد صلى الله عليه وسلم ثم تفرقت في الكون (4)، وهكذا فقد أصبح من الأمور المسلمة عند الصوفية أن هذا الكون وكل ما يحصل فيه من خير وفيض، إنما يتم عن طريق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وفيما قدمنا من النقل عن جواهر المعاني ورماح الفوتي ما يغني عن إعادته هنا، وهذا المعتقد مقرر في كتب الصوفية كلهم من التجانية أو من غيرهم؛ ولهذا يقول المنوفي في بيان تلك القضية:
لله در القائل:
من رحمة تصعد أو تنزل
…
ما أرسل الرحمن أو يرسل
من كل ما يختص أو يشمل
…
في ملكوت الله وملكه
نبيه المختار المرسل
…
إلا وطه المصطفى عبده
بعلم هذا كل من يعقل (5)
…
واسطة فيها واصل لها
أي أن كل من يعقل ـ ولو قال كل من يجهل لكان أصوب- يعرف تمام المعرفة أن هذا الكون وما فيه إنما هو مستمد لبقائه ووجوده من محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو الرب تعالى في تعيينه الثاني. ويقرر ابن عطاء الله السكندري ذلك بقوله:"جميع الأنبياء خلقوا من الرحمة ونبينا صلى الله عليه وسلم عين الرحمة"(6)
ومما لا يجهله أي مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم عبد بشر مثل سائر البشر كرمه الله تفضلاً ومنة بالرسالة مثل سائر الأنبياء والرسل.
وهو عليه الصلاة والسلام غني عن مبالغات الصوفية وأكاذيبهم الحمقاء، فكل ما قرره أقطاب الصوفية من أولهم إلى آخرهم حول الحقيقة المحمدية ونشوء الخلق عنها فإنه كلام خارج عن عقيدة المسلمين من دان فلا حظ له في الإسلام بل هو مجوسي وثني. يعتقدون كما قرره ابن عربي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف القرآن قبل نزوله بل إنه على حسب زعمهم هو الذي يعلم جبريل الذي بدوره يوحيه إلى محمد صلى الله عليه وسلم ثانية (7).ومن الصوفية مثل أبي يزيد البسطامي من يزعم أن الرسل كانوا أقل من مرتبتهم حيث قال:"خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله"(8) وهذه الافتراءات كلها إلحاد وزندقة وشبهات مظلمة وإبطالها مما لا يشق على مسلم عرف شيئا عن تعاليم الإسلام، فإن القرآن منزل من عند الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام وهذه هي عقيدة كل مسلم، من لم يؤمن بها أو شك فيها فلا حظ له من الإسلام ولا صلة بينه وبين المسلمين.
المصدر:
فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 1005
(1) انظر: ما كتبه د. صابر طعيمة في كتابه ((الصوفية معتقداً ومسلكاً)) (ص 257).
(2)
انظر: النصوص عن هؤلاء في كتاب ((هذه هي الصوفية)) من (ص 73 – 92).
(3)
((فتح الباري)) (11/ 344).
(4)
هنا مربط الفرس في العقيدة الصوفية فقلما يخلو كتاب من كتبهم عن تقرير هذه العقيدة.
(5)
((جمهرة الأولياء)) (2/ 10).
(6)
((لطائف المنن)) (ص 55)
(7)
((هذه هي الصوفية)) (ص 89)، ينقله عن كتاب ((الكبريت الأحمر)) للشعراني (ص 6).
(8)
انظر: ((شطحات الصوفية)) (ص31).