الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: طلب الهداية في غير الكتاب والسنة
من يقرأ في كتب المتصوفة يلاحظ بأن القوم لا يهتمون بعلم الكتاب والسنة اللذين لا يمكن الحصول على الهداية إلا عن طريقهما وذلك لأن القوم يزعمون بأن لهم علوما خاصة يتلقونها عن الله سبحانه وتعالى مباشرة عن طريق الكشوفات المزعومة وبالإضافة إلا ذلك يزعمون بأنهم يلتقون بالأنبياء بعد موتهم ويتعلمون منهم علوما وبالأولياء أيضا وعلى رأس الأولياء يزعمون بأنهم يلتقون بالخضر ويتعلمون منه العلوم اللدنية ولم يكتف المتصوفة بهذا الإدعاء بل صرحوا بأن علومهم التي يتلقونها عن الله بلا واسطة كما يزعمون أفضل من العلوم التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذا نفر المتصوفة الناس عن تعلم العلوم الشرعية وهذا مكر ومكيدة ودهاء وخبث منهم لأنهم يعلمون بأن علومهم الوهمية الخيالية التي يزعمون بأنهم يتلقونها عن طريق المنامات والأحلام والرؤى والهتافات والكشوفات لا يمكن أن يقبلها منهم الناس إذا تعلموا الكتاب والسنة إلا إذا نفروا الناس عن العلوم الصحيحة التي مصدرها الكتاب والسنة حتى لا تتبدد أباطيلهم فتصبح هباء منثورا لأنها ما هي إلا كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماءا حتى إذا لم يجده شيءا.
ولم يكتف المتصوفة بالتنفير عن طلب العلم الشرعي بل استهزؤا بعلماء الأمة الإسلامية ووصفوهم بأنهم علماء الرسوم الذين لا يفهمون شيئا عن الحقائق ووصفوا أنفسهم بأنهم علماء الحقيقة ومن أجل هذا طلب المتصوفة الهداية خارج الكتاب والسنة عن طريق الهواتف والمجاهدات والكشوفات المزعومة فضلوا عن الصواب وأضلوا كثيرا من شعوب العالم الإسلامي وهكذا مصير كل من بحث عن الهداية والوصول إلى رضوان الله سبحانه وتعالى خارج الكتاب والسنة فإن مصيره الضلال والتيه والضياع.
ولقد ادعى كثير من المتصوفة بأن الهداية تأتي إليهم عن طريق الهواتف وإليك الدليل على ما أقول:
فقد ذكر إبراهيم بن أدهم بأن أباه كان من ملوك خراسان وأنه خرج يوما للصيد وأثار ثعلبا أو أرنبا ثم يقول إنه هتف به هاتف وسمع صوته ولم يره وقال له " يا إبراهيم ألهذا خلقت أم بهذا أمرت" ثم يذكر بأن الهتاف عاوده فقال: " ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت" ثم قال إنه أخذ جبة راعي أبيه وانطلق هائما في الصحاري والغابات والأودية والجبال طلبا للهداية والتقى بسليمان عليه السلام وعلمه اسم الله الأعظم ثم جاءه الخضر وقال له: " إن الذي علمك اسم الله الأعظم هو أخي داود"
ثم قال إبراهيم بن أدهم إنه التقى بأسلم بن يزيد بالأسكندرية: "فقال لي: من أنت يا غلام؟ قلت شاب من أهل خراسان ـ قال: وما حملك على الخروج من الدنيا؟ قلت زهدا فيها ورجاء الثواب من الله تعالى.
فقال: إن العبد لا يتم رجاؤه لثواب الله تعالى حتى يحمل نفسه على الصبر فقال رجل ممن كان معه وأي شيء الصبر فقال إن أدنى منازل الصبر أن يروض العبد نفسه على احتمال مكاره الأنفس قال قلت ثم مه قال إن كان محتملا للمكاره أورث الله قلبه نورا قلت وما ذاك النور قال سراج يكون في قلبه يفرق به بين الحق والباطل والناسخ والمتشابه
…
"ثم قال إبراهيم بن أدهم قال له رجل من أصحاب أسلم بن يزيد أضربه فأوجعه فإنا نراه غلاما قد وفق لولاية الله تعالى. (1).
وبتحليلنا لهذه القصة نستنتج الأمور التالية:
(1)((طبقات الصوفية)) للسلمي تحقيق نور الدين شريبة (ص27ـ 30) ..
الأمر الأول: أن الهداية قد جاءت لإبراهيم بن أدهم من هاتف هتف به ولا أريد مناقشة هذه الدعوى لإثبات صحتها أو بطلانها لأن الذي أوردها صوفي له مكانته العالية في الأوساط الصوفية ولكن الذي أريده هو أنني أقول إن هذا الطريق الذي سلكه إبراهيم بن أدهم طالبا للهادية يختلف تماما عن الطريق الذي رسمه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطلب الهداية.
فالهداية دائما إنما تطلب بالعودة إلى تلاوة كتاب الله وفهم معانيه والاهتمام بدراسة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يمكن أن تكون الهواتف عندنا طريقا للهداية لأن الهواتف أنواع شتى فقد يكون الهاتف شيطانا ويأمره بشيء فيضل الطريق ولذا فالأحلام والرؤى والمنامات والهتافات أو الهواتف لا وزن لها في الشريعة الإسلامية فضلا عن أن تكون أسبابا للهداية.
الأمر الثاني: أقول إن خروج إبراهيم عن وطنه وتركه لماله وأهله وخلق ثيابه وبعده عن الدنيا كلها ليس من الإسلام في شيء لأن الإسلام لا يأمر المسلم أن يهاجر عن وطنه إلا إذا اضطهد فيه وأصبح لا يتمكن من أداء الشعائر الإسلامية فحينئذ تجب الهجرة وخراسان بلد إبراهيم لم تكن كذلك.
الأمر الثالث: ثم إن ادعاء بن أدهم بأنه لقي داود عليه السلام وعلمه اسم الله الأعظم. أولا وقبل كل شيء ما الذي دعا دواد عليه السلام للعودة إلى الدنيا مرة أخرى ليعلم فردا من أفراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم اسم الله الأعظم مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لعمر: ((والله لو كان موسى حيا لما وسعه إلا أن يتبعني)) (1).فكذلك داود لو عاد حيا لم يسعه إلا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يجوز له أن يقوم بتعليم الناس شيئا يعلمه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علت حد زعم المتصوفة وإلا فاسم الله الأعظم ليس مجهولا حتى يأتي داود ويخرج من قبره ليعلمنا إياه بل هو معروف من ملة محمد صلى الله عليه وسلم فقد ورد في الحديث الصحيح: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يدعو قائلا: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحدا. فقال صلى الله عليه وسلم: قد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب)) (2).
(1) رواه أحمد (3/ 387)(15195) وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (26421) والبيهقي في ((الشعب)) (1/ 347)(175) قال ابن كثير في ((البداية والنهارية)) (2/ 122) إسناده على شرط مسلم، قال ابن حجر في ((الفتح)) (13/ 345) رجاله موثقون إلا أن مجالدا فيه ضعف، وحسنه الألباني في ((الإرواء)) (1589)
(2)
رواه أبو داود (1493) والترمذي (3475) وابن ماجه (3857) وابن حبان (3/ 173)(891) والحاكم (1/ 683)(1858) قال الترمذي حسن غريب، وقال الحاكم صحيح على شرطهما، وصححه الألباني
الأمر الرابع: نستنتج من قصة إبراهيم بن أدهم بأنه بالمجاهدة والصبر يحصل النور الذي يعرف به الحق والباطل والناسخ والمتشابه. وأنا أقول إن مجرد المجاهدة والصبر مهما كانت لا يمكن أن تعلم الإنسان لابد من التعلم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما العلم التعلم)) (1). نعم الاجتهاد في طلب علمي الكتاب والسنة والصبر فيهما يجعل قلب الإنسان منورا لأن العلم ور والجهل ظلام فالاجتهاد في العلم الذي جاء به رسول الله من عند الله وهو علم الكتاب والسنة الذي من تعلمه عرف الحق من الباطل والله عز وجل يقول فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ [محمد: 19]
فالله عز وجل أمر بالعلم قبل العمل بخلاف المتصوفة فإنهم يأمرون بالعمل على الجهل من أجل الحصول على العلم الذي يزعمون بأنه يقذف في قلوبهم بسبب المجاهدة.
الأمر الخامس: نأخذ من قول أسلم بن يزيد لإبراهيم بن أدهم: " يا غلام إنا قد أفدناك ومهدناك وعلمناك علما" بأن للمتصوفة طريقا آخر يتلقون منه العلوم غير العلوم التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه حسب زعمهم وقد صرح المتصوفة بأن هناك علما آخر غير العلم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله ومما يدل على هذا قول الغزالي فقد قسم العلوم إلى أقسام وذكر من جملة الأقسام علم يسمى "علم المكاشفة" فقال: "القسم الأول: علم المكاشفة: هو علم الباطن وذلك غاية العلوم فقد قال بعض العارفين من لم يكن له نصيب من هذا العلم أخاف عليه سوء الخاتمة وأدنى نصيب منه التصديق به وتسليمه لأهله .. وهو علم الصديقين والمقربين أعني علم المكاشفة فهو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة .. " ثم قال: " فنعني بالعلم المكاشفة أن يرتفع الغطاء حتى تتضح له جلية الحق في هذه الأمور اتضاحا يجرى مجري العيان الذي لا يشك فيه وهذا ممكن في جوهر الإنسان لولا أن مرآة القلب قد تراكم صدؤها وخبثها بقاذورات الدنيا وإنما نعني بعلم طريق الآخرة العلم بكيفية تصقيل هذه المرأة عن الخبائث التي هي الحجاب عن الله سبحانه وهذه العلوم التي لا تسطر في الكتب ولا يتحدث بها من أنعم الله عليه بشيء منها إلا مع أهله وهو المشارك فيه سبيل المذاكرة وبطريق الإسرار وهذا هو العلم الخفي الذي يوصف بالعلم المكنون فقد قيل في وصفه أن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله فإذا نطقوا به لم يجهله إلا أهل الاغترار بالله تعالى. (2).
(1) أخرجه الخطيب البغدادي في ((تاريخه)) (9/ 127) والطبراني في ((الأوسط)) (3/ 118)(2663) قال الهيثمي في ((المجمع)) (1/ 128) فيه محمد بن الحسن بن ابي يزيد وهو كذاب وقال البوصيري في ((الإتحاف)) (1/ 46) في إسناده روا لم يسم، وذكره الألباني في ((السلسلة الأحاديث الصحيحة)) (342).
(2)
((الإحياء)) (1/ 31ـ 32).
ومن أقوال الغزالي السابقة يتضح لنا بأن القوم يدعون بأن لهم علوما خاصة وأن هذه العلوم يحصلون عليها من قبل الله عز وجل عن طريق قذفها في قلوبهم وعلى هذا فالقوم لهم علوم أخرى يطلبون الهداية إلى الحق والصواب عن طريقها وليس لهم أي حاجة لإتعاب أنفسهم في الدراسة ما داموا يتلقون العلوم الربانية بطريقة سريعة وهي القذف في القلوب ولكن من المؤكد أن قول المتصوفة هذا إنما هو مجرد ادعاء فقط وإلا فليس لهم علوم يحصلون عليها عن طريق القذف في القلوب كما يدعون وبالتالي تهديهم إلى الحق والصواب والصراط المستقيم وإنما من الممكن أن يكونوا يتلقون علوما من قبل الشياطين لأن الشياطين أيضا لهم وحي شيطاني كما قال الله عز وجل وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام: 121] وإلا فليس لدينا في الإسلام وحي غير الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله وقد ختمت النبوة فكل من يدعي أنه يحصل على علم غير العلم الذي جاء به رسول الله فقد كذب وافترى على الله فرية عظيمة ولو نظرنا وفكرنا جيدا فسنجد بأن المتصوفة ادعوا هذا الادعاء من أجل التعمية على العوام من الناس حيث إن المتصوفة يفسرون الكتاب بأهوائهم تفسيرا يختلف تماما مع التفسير الذي فسره العلماء للقرآن الكريم وإذا سئلوا قالوا: إن هذا علم الباطن الذي لا يعلمه إلا الخاصة من أوليائه وبهذا القاعدة هدموا كثيرا من أمور الشريعة وسنتناول هذه الفرية ألا وهي ادعاء الصوفية بأن للقرآن ظاهرا وباطنا في موضعها وسنوضح بأنها محض افتراء لا أساس لها من الصحة حينما نتعرف للعامل الثاني من العوامل التي أدت إلى انحراف المتصوفة إن شاء الله
الطريق الثاني الذي يطلب المتصوفة الهداية عن طريقه هي الكشوفات التي يزعمونها:
يعتقد كثير من المتصوفة بأن كل من انتسب إلى أي طريقة من الطرق الصوفية تحصل له المكاشفات والمشاهدات وتنزل عليه علوما من الله سبحانه وتعالى وذلك بشرط أن يجهد نفسه بقطع الرياضيات الشاقة التي ابتدعها المتصوفة.
قال الغزالي "اعلم أن ميل أهل التصوف إلى العلوم الإلهامية دون التعليمية فلذلك لم يحرصوا على دراسة العلم وتحصيل ما صنفه المصنفون والبحث عن الأقاويل بل قالوا: الطريق تقديم المجاهدة ومحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى ومهما حصل ذلك كان الله هو المتولي لقلب عبده والمتكفل له بتنويره بأنوار العلم وإذا تولى الله أمر القلب فاضت عليه الرحمة وأشرق النور في القلب وانشرح الصدر وانكشف له سر الملكوت وانقشع عن وجه القلب حجاب العزة بلطف الرحمة وتلألأت فيه حقائق الأمور الإلهية فليس على العبد إلا الاستعداد بالتصفية المجردة وإحضار الهمة الأمور مع الإرادة الصادقة والتعطش التام والترصد بدوام الانتظار لما يفتحه الله تعالى من الرحمة. فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر وفاض على صدورهم النور لا بالتعلم والدراسة والكتابة للكتب بل بالزهد في الدنيا والتبري من علائقها وتفزيغ القلب من شواغلها والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى والاختلاء في زاوية مع الاقتصار على الفرائض والرواتب ويجلس فارغ القلب مجموع الهم ولا يفرق فكره بقراءة القرآن ولا بالتأمل في تفسير ولا بكتب حديث ولا غيره بل يجتهد في الصبر أن لا يخطر بباله شيء سوى الله تعالى فلا يزال العبد بعد جلوسه في الخلوة قائلا بلسانه الله الله على الدوام مع حضور القلب حتى ينتهي إلى حالة يترك تحريك اللسان ويرى كأن الكلمة جارية على لسانه ثم يصبر عليه إلى أن ينمحي أثره عن اللسان وهكذا يصبح متعرضا لنفحات رحمة ربه فر يبقى إلا الانتظار لما يفتح الله من الرحمة كما فتحها على الأنبياء والأولياء بهذا الطريق وعند ذلك إذا صدقت إرادته وصفت همته وحسنت مواظبته فلم تجاذبه شهواته ولم يشغله حديث النفس بعلائق الدنيا تلمع لوامع الحق في قلبه ويكون في ابتدائه كالبرق الخاطف لا يثبت"(1).
وهكذا الغزالي قد تأثر بأفكار المتصوفة إلى حد بعيد حتى أصبح من أبرز علمائهم حيث ذكر في كتابه (الإحياء) كلاما عن الصوفية لا يمكن أن يقبله مسلم له علم بالكتاب والسنة.
والشاهد من كلام الغزالي السابق إثبات بأن القوم يدعون بأنهم يتلقون علوما أخرى غير العلوم التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هنا نعلم بأن القوم يبحثون عن الهداية خارج الكتاب والسنة وهذا هو الأمر الذي ضل القوم بسببه حيث أن كل من يطلب الهداية عن غير الطريق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فمصيره التيه والضلال المبين. ويقول عبد الكريم الجيلي واصفا كتابه (الإنسان الكامل): " وكنت قد أسست الكتاب على الكشف الصريح وأيدت مسائله بالخبر الصحيح وسميته بالإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل " ثم يقول: " فأمرني الحق الآن بإبرازه بين تصريحه وألغازه ووعدني بعموم الانتفاع فقلت طوعا للأمر المطاع"(2).
وكلام عبد الكريم الجيلي السابق مضمونه هو أنه يقول إنه تلقى المعلومات التي ضمنها كتابه عن طريق الكشف من الغيب وأن الله أمره بإظهار هذا الكتاب بما فيه من ألفاظ صريحة وألغاز معقدة وأن الله وعده بعموم الانتفاع به وأنه أجاب لهذا الأمر فأظهره.
وما كتاب الجيلي حتى يأمره الله بإظهاره فهو كتاب من أوله إلى آخره لا يحتوي إلا على الكفر والزندقة وسأورد منه نصوصا حينما أتعرض لعقيدة المتصوفة تجاه من يزعمونهم أولياء في الباب الرابع إن شاء الله تعالى.
(1)((الإحياء)) (3/ 21).
(2)
((الإنسان الكامل)) لبعد الكريم الجيلي (ص: 6).
ويقول ابن عربي" نحن بحمد الله لا نعتمد في جميع ما نقوله إلا على ما يلقيه الله تعالى في قلوبنا لا على ما تحمله الألفاظ"وقال أيضا: " اعلم أن العارفين رضي الله عنهم لا يتقيدون في تصانيفهم بالكلام فيما بوبوا عليه فقط وذلك لأن قلوبهم عاكفة على باب الحضرة الإلهية مراقبة لما يبرز لهم منها فمهما برز لهم كلام بادروا لإلقائه على حسب ما حد لهم فقد يلقون الشيء إلى ما ليس في جنسه امتثالا لأمر ربهم وهو تعالى يعلم حكمه ذلك"(1).
فإذا نظرنا إلى هذه النصوص فسنجد أن النص الأول صرح فيه ابن عربي بأنه هو وأتباعه من المتصوفة الكبار يلقي الله عز وجل علوما في قلوبهم وأنهم لا يتقيدون بما تدل عليه الألفاظ فقط لأن الوقوف على المعاني التي تدل عليها الألفاظ ظاهرا إنما هو من اختصاص علماء الظاهر أو علماء الرسوم كما يسمونهم.
وأما النص الثاني فقد صرح فيه ابن عربي بأن علوم المتصوفة لا يحصلون عليها عن طريق الفكر وإنما تلقى عليهم من الله إلقاءا مباشرة فهي هبة من الله تعالى.
وأما النص الثالث فقد صرح فيه ابن عربي بأن قلوب المتصوفة عاكفة على باب الحضرة الإلهية وإنها تراقب هذه الحضرة حتى تأخذ عنها أي شيء يظهر منها ولذا فإنهم يبادرون بإلقاء أي كلام يلقى عليهم من قبل الحضرة الإلهية وأنهم لا يضعون هذا الكلام إلا على حسب ما حدد الله لهم ولذلك فقد يضع مشايخ المتصوفة الكلام في غير جنسه امتثالا لأمر الله تعالى كما يزعمون. ووصف الرندي علم المتصوفة الذي يحصلون عليه عن طريق كشوفاتهم المزعومة فقال (2):"والعلم المخزون هو العلم اللدني الذي اختزنه الله عنده فلم يؤته إلا للمخصوصين من الأولياء" ثم أورد حديثا مكذوبا على الرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن الرسول قال: ((إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله تعالى فإذا نطقوا به لا ينكرونه إلا أهل الغرة بالله)) (3).وقد شرح أحد المتصوفة هذا النص فقال: " هي أسرار الله تعالى يبديها الله إلى أنبيائه وسادات النبلاء من غير سماع ولا دراسة وهي من الأسرار التي لم يطلع عليها أحد إلا الخواص"(4).وقال الرندي أيضا: " وربما أطلعك على غيب ملكوته وحجب عنك الاستشراف على أسرار العباد"(5).
والنتيجة التي توصلنا إليها من خلال إيرادنا لهذه النصوص هي إثبات بأن المتصوفة يدعون التلقي عن الله مباشرة علوما خاصة بهم مخزونة عند الله وأن هذه العلوم لا يكشفها الله إلا لهم لأنهم خصوا أنفسهم بالأولياء وهم لا يطلقون هذا اللفظ إلا لمن انخرط تحت لواء إحدى الطرق الصوفية وأن هناك علما مكنونا وهو لا يعلمه إلا العلماء بالله يعنون بهذا أنفسهم وأن هذه العلوم هي عبارة عن أسرار الله وأنه سبحانه لا يظهرها إلا للأنبياء والأولياء وأن الحصول على هذه العلوم لا يحتاج إلى دراسة ولا سماع بل تلقى في القلب القاءا وهي علوم خاصة بالخواص من البشر وهم زعماء الطرق الصوفية كما يزعمون.
(1)((اليواقيت والجواهر في عقيدة الأكابر)) للشعراني (2/ 24 ـ 25).
(2)
((غيث المواهب العلية)) للرندي (2/ 238).
(3)
قال ابن تيمية في ((درء التعارض)) (5/ 85) ليس له إسناد صحيح، وقال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/ 39) إسناده ضعيف، وقال الألباني في ((الضعيفة)) (870) ضعيف جدا
(4)
((غيث المواهب العلية)) للرندي (2/ 238).
(5)
((غيث المواهب العلية)) للرندي (2/ 7).
ولذا طلب المتصوفة الهداية إلى الحق والتقرب إلى الله عن طريق هذه العلوم التي ادعوا بأنهم يتلقونها عن الله فلم يصلوا إلى الهدى بل ضلوا الطريق لأنهم بحثوا عن الهداية في غير مكانها وسلكوا لها غير طريقها فإن كل من يطلب الهداية في غير الكتاب والسنة فإن مصيره الضلال المبين والانحراف الخطير كما حصل لهؤلاء المتصوفة الذين بحثوا عن الهداية عن طريق الكشوفات المزعومة فانحرفوا في عقائدهم وسلوكهم ومعاملاتهم.
الطريق الثالث الذي يبحث المتصوفة فيه عن الهداية " الذوق":
قال أبو حامد الغزالي في معرض حديثه عن المتصوفة:
" ابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل " قوت القلوب" لأبي طالب المكي الحارث المحاسبي .. حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلية وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم بالتعلم والسماع فظهر لي أن أخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات".ثم قال أيضا: " فعلمت يقينا بأنهم أرباب الأحوال لا أصحاب الأقوال وأن ما يمكن تحصيله بطرق العلم فقد حصلته ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعلم بل بالذوق والسلوك"(1).
وقال ابن عربي: "جميع علومنا من علوم الذوق لا من علم بلا ذوق فإن علوم الذوق لا تكون إلا عن تجلي إلهي والعلم قد يحصل لنا بنقل المخبر الصادق وبالنظر الصحيح "(2).
ومن هنا نعلم بأن الذوق من أهم الطرق التي يبحث المتصوفة فيه عن الهداية وهو معرفة الله سبحانه وأن هذا العلم الذي يسميه المتصوفة علم الذوق لا يحصل عليه الإنسان إلا عن طريق الكشف بتجلي الله له كما قال ابن عربي في النص السابق.
ويقول عبدالرحمن الوكيل في نقده لاعتماد الصوفية على الذوق في تلقي العلوم: " ويدين الصوفية ببهتان آخر يدمغها بالمروق عن الإسلام ذلك هو اعتقادها أن الذوق الفردي لا الشرع ولا العقل هو وحده وسيلة المعرفة ومصدرها معرفة الله وصفاته وما يجب له فهو ـ أي الذوق- الذي يقوم حقائق الأشياء ويحكم عليها بالخيرية أو الشرية بالحسن أو القبح بأنها حق أو باطل فلا جرم أن تدين الصوفية بعدد عديد من أرباب وآلهة ولا عجب أن ترى النحلة منها تعبد وثنا بغير ما تعبده أخرى أو تخضع لصنم يكفر به سواها من النحل الصوفية لا عجب من ذلك كله ما دامت تجعل الذوق الفردي حاكما وقيما على المسميات وأسمائها فيضع للشيء معناه مرة ثم ينسخه بنقيضه مرة أخرى هذه الحدة في توتر التناقض صبغت الصوفية دائما في منطقها المخبول ولقد ضربت الصوفيين أهواء أحبارهم بالحيرةوالفرقة فحالوا طرائق قددا تؤله كل طريقة منها ما ارتضاه كاهنها صنما له وتعبده بما يفتريه هواه من خرافات"(3).
تنفير الصوفية الناس عن العلم الشرعي:
لقد نفر الصوفية الناس عن العلم الشرعي بوصفهم له بأوصاف منفرة حيث وصفه بعضهم بأنه آفة المريد ووصفه البعض منهم بأنه يفرق الاهتمامات ووصف طلب العلم بأنه ركون إلى الدنيا وانحطاط من الحقيقة إلى العلم ووصفه بعضهم بأنه موحش ووصفه بعضهم بأنه حجاب.
وإليك النصوص الدالة على ذلك من بطون كتبهم:
فقد وصف أبو بكر الوراق كتابة الحديث والاهتمام به بأنه من الآفات التي يجب أن يبتعد عنها المريد فقال: "آفة المريد ثلاث: التزويج وكتابة (الحديث والأسفار) "(4).
ويقول الجنيد: "إذا لقيت الفير – أي الصوفي – فالقه بالرفق ولا تلقه بالعلم فإن الرفق يؤنسه والعلم يوحشه"(5).
(1)((المنقذ من الضلال)) للغزالي (ص: 61).
(2)
((اليواقيت والجواهر في عقيدة الأكابر)) للشعراني (2/ 84).
(3)
((هذه الصوفية)) لعبد الرحمن الوكيل (ص: 20).
(4)
((الرسالة القشيرية)) (2/ 436).
(5)
((الرسالة القشيرية)) (2/ 545).
واعتبر بعض المتصوفة طلب الحديث النبوي بأنه ركون إلى الدنيا حيث قال: " إذا طلب الرجل الحديث أو سافر في طلب المعاش أو تزوج فقد ركن إلى الدنيا"(1).
ووصف بعض المتصوفة العلم بأنه حجاب عن الله حيث قال أبو يزيد البسطامي: " أشد المحجوبين عن الله ثلاثة: الزاهد بزهده والعابد بعبادته والعالم بعلمه"(2).
ولقد صرح أحد كبار المتصوفة بأن المتصوفة لم يتعلموا العلم ولم يحرصوا على دراسته فقال:
"اعلم أن ميل أهل التصوف إلى الإلهية دون التعليمية ولذلك لم يتعلموا ولم يحرصوا على دراسة العلم وتحصيل ما صنفه المصنفون بل قالوا الطريق تقديم المجاهدات بمحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها والإقبال على الله تعالى بكنه الهمة وذلك بأن يقطع الإنسان همه عن الأهل والمال والولد والعلم ويخلو نفسه في زاوية ويقتصر على الفرائض والرواتب ولا يقرن همه بقراءة القرآن ولا بالتأمل في نفسه ولا يكتب حديثا ولا غيره ولا يزال يقول " الله الله الله" إلى أن ينتهي إلى حال يترك ترحيك اللسان ثم يمحو عن القلب صورة اللفظ"(3).
فالنصوص المتقدمة كلها توضح لنا موقف المتصوفة من العلم وتثبت لنا بأن المتصوفة من ألد الأعداء لعلمي الكتاب والسنة حيث أن النصوص المتقدمة صرحوا فيها بعدائهم للقرآن والسنة بنهيهم وتحذيرهم عن طلب الحديث النبوي وتلاوة كتاب الله عز وجل فهل هناك جريمة أكبر من الذي يحذر عن تلاوة القرآن وكتابة الحديث النبوي وطلبه بل وطلب العلم عموما.
ولم يقدم زعماء الصوفية على هذا عن جهل منهم بل أقدموا عليه عن تخطيط وتدبير ومكر ومكيدة لأنهم يعلمون جيدا بأن أباطيلهم لا يمكن أن يقبلها الناس إلا إذا كانوا جهالا لا يعلمون شيئا عن الكتاب والسنة فعلم الكتاب والسنة نور يكشف عورات هذه الظلمات التي يدعو لها أرباب التصوف عوام الناس لأنه بالعلم ينكشف للناس حقائق طرقهم وزيف أقوالهم وبالعلم يتبين المنكر وبالعمل به يتم الإنكار وقد علم الصوفية بأن الإنكار أصبح حجر عثرة أمامهم وأعاق طريقهم والمنكر لا يمكن أن يعرف إلا عن طريق العلم ولذا نفروا الناس عنه ودعوهم إلى الابتعاد عنه وشغلوهم بحلقات الرقص ونوادي الوجد والسماع ولبس الخرقة والتزام الخلوات المظلمة وغير ذلك من بدعهم المنكرة كما سيتضح لنا ذلك خلال بحثنا الطويل معهم في هذه الرسالة إن شاء الله تعالى.
حث الإسلام على العلم والإعلاء من شأنه:
لقد حث الإسلام على العلم وأعلى من شأنه ومما يدل على ذلك الأدلة الآتية من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأول سورة نزلت من القرآن جاء الأمر فيها بالقراءة وهي سورة العلق حيث قال تعالى اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1 - 5]
وقد أمر الله سبحانه بالعلم قبل العمل فقال: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ [محمد: 19].
وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى بأن أولى الناس بخشية الله سبحانه وتعالى هم العلماء فقال: كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر: 28]
(1)((تراجم الصوفية)) للمناوي (2/ 215).
(2)
((تراجم الصوفية)) للمناوي (2/ 247).
(3)
((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 21).
وقد أنكر الله سبحانه وتعالى أن يستوي العالمون والجاهلون فقال تعالى أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الألْبَابِ [الزمر: 9]
وأما الأدلة من السنة في الحث على طالب العلم وفضله فكثيرة جدا وإليك نبذة منها: الحديث الأول: حديث معاوية رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من يرد الله به خيرا يفقه في الدين وإنما أنا قاسم والله يعطي ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله)) (1).الحديث الثاني: الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة)) (2). وقال الترمذي عنه: حديث حسن. الحديث الثالث: الحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع)) (3).الحديث الرابع: الحديث الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ((اللهم علمه الكتاب)) (4).
فالآيات والأحاديث السابقة التي أوردتها هنا كلها تفيد بأن الإسلام دعا إلى العلم ورفع من شأن العلم وشأن أهله ووعد على طلبه الأجر العظيم والثواب الجزيل وأن كل دعوة إلى الابتعاد عن العلم والتنفير منه ما هي إلا محادة لله ولرسوله وتدمير وقتل لمواهب الأمة الإسلامية لأنه ما من أمة ابتعدت عن العلم إلا وانتشر فيها الجهل وأي أمة انتشر فيها الجهل فإنها تدمر وتصبح لقمة سائغة لأعدائها.
ولم يدع الصوفية إلى الابتعاد عن العلم الصحيح إلا ليصبح الناس جهلة حتى تسهل قيادتهم إلى حيث يشاءون وينشرون فيهم أفكارهم الخرافية الوهمية التي لا تستطيع أن تثبت أمام الحقائق العلمية ولذا نرى دائما زعماء الطرق الصوفية يحاربون علم الكتاب والسنة لأنهم يعلمون يقينا بأنهم لا وجود لهم ولا لأفكارهم الضالة إذا فهم الناس دينهم كما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله عز وجل لأن أفكار الصوفية لا يمكن أن تعيش إلا في الظلام الحالك كالسباع التي لا تخرج إلا ليلا لتبحث عن فريستها فكذلك الصوفية يريدون أن يبقى الناس جهالا حتى يسهل إخضاعهم لهذه الأفكار المنحرفة.
استهزاء الصوفية بعلماء الأمة الإسلامية.
لقد استهزأ الصوفية بعلماء الأمة الإسلامية ووصفوهم بأوصاف تحط من قدرهم وذلك حتى ينفروا الناس عنهم ويسقطوهم من عيونهم وإليك الأدلة على ما أقول:
فقد وصف أحد الصوفية الكبار الطريقة التي نقلت بها السنة النبوية بأنها طريقة لا يسلكها إلا المساكين وصرح بأن الصوفية يأخذون علمهم عن الله مباشرة وإليك نص كلام هذا الصوفي:
فقد قال إبراهيم بن سبتيه: (حضرت مجلس أبي يزيد والناس يقولون فلانا لقي فلانا وأخذ من علمه وكتب منه الكثير وفلانا لقي فلانا فقال أبو يزيد: "مساكين أخذوا علمهم ميتا عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت" (5).
(1) رواه البخاري (71) واللفظ له ومسلم (1037)
(2)
رواه مسلم (2699)
(3)
رواه الترمذي (2647) وقال حسن غريب ورواه بعضهم فلم يرفعه، والطبراني في ((الصغير)) (1/ 234)(380) وقال تفرد به أبو جعفر الرازي وخالد بن يزيد، وضعفه الألباني
(4)
رواه البخاري (75)
(5)
((الكواكب الدرية)) للمناوي (1/ 346).
وكلام أبي يزيد هذا يرمي إلى أمور خطيرة جدا من هذه الأمور أن أبا يزيد بكلامه هذا قلل من شأن الإسناد الذي يعتبر مفخرة عظيمة للأمة الإسلامية دون غيرها بجانب أنه قلل من شأن علماء السنة المشرفة والذين نقلوا إلينا السنة كما قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستهزاء والاستهتار بعلماء الأمة الإسلامية لا يحصل إلا من إنسان في قلبه مرض وكراهية للإسلام والمسلمين ثم إن وصف أبي يزيد للعلوم الإسلامية وعلى رأسها السنة النبوية بأنها نقلت ميتا عن ميت فيه استهزاء بمن شهد لهم القرآن بالجن وأخبرنا الله بأنه رضي عنهم وهم الصحابة الكرام وهذا يعتبر أكبر جريمة.
ثم إن ادعاء أبي يزيد بأنه أخذ علمه هو وجماعته الصوفية الكذابون عن الله ما هو محض افتراء على الله عز وجل فنحن المسلمون نعتقد بأنه لا نبي ولا رسول بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأن الله عز وجل يقول مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب: 40]
وبما أن الله عز وجل أخبرنا بأنه لا يكلم البشر إلا بالوحي أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء وأبو يزيد البسطامي وأمثاله من المتصوفة الذين يدعون بأنهم يتلقون علومهم من الله ليسوا بأنبياء ولا رسل فدعواهم التلقي المباشر عن الله تصبح دعوى لا أساس لها من الصحة بل هي كذب وافتراء على الله عز وجل ومع ذلك فنحن لا ننكر بأن القوم ربما يوحى إليهم من قبل الشياطين لأن الله عز وجل قد أثبت في كتابه الكريم بأن الشياطين يوحون إلى أوليائهم حيث قال تعالى وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام: 121]
وقوله تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام: 112]
وعلى هذا فنحن لا نصدق المتصوفة بأنهم يتلقون علوما عن الله مباشرة وذلك لأن النبوة قد ختمت ولكن نقول لهم إنه من الممكن أن ينزل إليكم الوحي من قبل الشياطين وإلا فليس عندنا في الإسلام دينان دين يتلقاه أبو يزيد وأمثاله من دجاجلة الصوفية عن الله ودين أتى به الرسول الله صلى الله عليه وسلم لا غير.
وممن حمل على أئمة الإسلام وعلمائهم ابن عربي حيث شبههم بأوصاف قبيحة للتقليل من شأنهم فمرة شبههم بفراعنة الرسل ومرة وصفهم بأنهم فاقدو الإدراك ومرة وصفهم بعدم الإنصاف وإليك نصوصا من كتبه: فقد قال: " وما خلق الله أشق ولا أشد من علماء الرسوم على هل الله المختصين بخدمته العارفين به من طريق الوهب الإلهي الذي منحهم أسراره في خلقه وفهمهم معاني كتابه وإشارات خطابه فهم لهذه الطائفة مثل الفراعنة للرسل"(1).
(1)((الفتوحات المكية)) لابن عربي (2/ 175).
وقال أيضا: " ولو كان علماء الرسوم ينصفون لاعتبروا بما في نفوسهم إذا نظروا في الآية بالعين الظاهرة التي يسلمون بها فيما بينهم فيرون أنهم يتفاضلون في ذلك ويعلو بعضهم في كلام على معنى تلك الآية ويقر القاصر بفضل غير القاصر وكلهم في مجرى واحد. ومع هذا الفضل المشهود لهم فيما بينهم في ذلك ينكرون على أهل الله إذا جاءوا بشيء مما يغمض عن إدراكه وذلك لأنهم يعتقدون فيهم أنهم ليسوا بعلماء وأن العلم لا يحصل إلا بالتعلم المعتاد في العرف وصدقوا فإن أصحابنا ما حصل لهم العلم إلا بالتعلم وهو الإعلام الرحماني الرباني"(1).وقال أيضا: " فلما رأى أهل الله أن الله قد جعل الدولة في الحياة الدنيا لأهل الظاهر من علماء الرسوم وأعطاهم التحكم في الخلق بما يفتون به وألحقهم بالذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون وهم في أفكارهم عن أهل الله يحسبون أنهم يحسنون صنعا. سلم أهل الله لهم أحوالهم لأنهم علموا من أين تكلموا وصانوا عنهم أنفسهم لتسميتهم الحقائق إشارات فإن علماء الرسوم لا ينكرون الإشارات"(2).
وهكذا زعماء التصوف الدجاجلة استهزءوا بعلماء الإسلام ووصفوهم بأوصاف لا تليق أن يوصف بها إنسان جأهل بل إنسان كافر فضلا عن العلماء الربانيين فماذا ترك ابن عربي من التشويه بعد ما تقدم لعلماء الأمة الإسلامية الذين تفتخر بهم الأمة الإسلامية وإذا بحثنا عن السبب الذي دفع زعماء التصوف للقيام بهذه الحملة ضد علماء الأمة الإسلامية فإننا سنجد بأن الدافع الأساسي لهم على هذا هو تنفير الناس العوام من هؤلاء العلماء حتى لا يأتوا إليهم ويتعلموا منهم ويعرفوا الحق من الباطل فتتعطل مصالح المتصوفة الاقتصادية التي يحصلون عليها من قبل جهلاء الأمة الإسلامية وبالإضافة إلى ذلك فإن زعماء المتصوفة يستخدمون الجهلة من المسلمين الذين انخرطوا في إحدى هذه الطرق الصوفية كالعبيد في مصالحهم الشخصية.
وفي ختام هذا المبحث أقول إن زعم المتصوفة بأن هم يتلقون علوما خاصة بهم من الله مباشرة كذب محض لا أساس له من الصحة لأن الله عز وجل يقول:
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِ لا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى: 51].
وبما أن زعماء الطرق الصوفية ليسوا بأنبياء ولا رسل تصبح دعوى تلقيهم العلم عن الله عارية عن الصحة إذا نقول لا كشف لهم ولا إلهام لهم من الله يأتون عن طريقه بعلوم تخالف العلوم التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله قد ختم النبوة به كما قال سبحانه مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب: 40]
ولذا نقول فكل من يدعي تلقي العلم عن الله تعالى إنما هو محادد لله ولرسوله لأن الله أخبر في كتابه بأن النبوة قد ختمت وكذلك أخبر الرسول في سنته بأنه آخر النبيين فدعوى الصوفية بأنهم يتلقون العلم عن الله دعوى فارغة عارية عن الصحة وإنما هي محض دل وافتراء فقط لإيهام العوام والتلبيس عليهم.
(1)((الفتوحات المكية)) لابن عربي (2/ 176).
(2)
((الفتوحات المكية)) لابن عربي (2/ 279).
وبما أن الدين قد كمل وتم فلا يحتاج إلى ترقيع عن طريق الكشوفات المزعومة كما قال الله سبحانه في كتابه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا [المائدة: 3]. وهذه من أكبر النعم على هذه الأمة حيث أكمل لها دينها فلا تحتاج إلى دين غيره فلا حلال إلا ما أحله الله ولا حرام إلا ما حرمه الله ولا دين إلا ما شرعه الله وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لقوله تعالى مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3 - 4].وقد أخرج الطبري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أَكْمَلْتُ لَكُمْ وهو الإسلام قال: أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا وقد أتمه الله عز ذكره فلا ينقصه أبدا وقد رضيه الله فلا يسخطه أبدا) (1).
ويقول سيد قطب رحمه الله في تفسير هذه الآية: " أعلن لهم إكمال العقيدة وإكمال الشريعة معا فهذا هو الدين ولم يعد للمؤمن أن يتصور أن بهذا الدين نقصا يستدعي الإكمال ولا قصورا يستدعي الإضافة ولا محلية أو زمانية تستدعي التطور أو التحوير"(2).
وبما أن الدين قد كمل والحمد لله فالعلوم التي يزعم المتصوفة بأنهم يتلقونها عن الله لا قيمة لها في ميزان الشرع لأنها أوهام وخيالات وكذب ودجل فقط. وإليك قول المعلمي فإنه مفيد في هذا المجال قال رحمه الله: "والشرع يقضي بأن الكشف ليس مما يصلح الاستناد إليه في الدين ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة)) (3).
ثم قال المعلمي:
" وفيه حجة على أنه لم يبق مما يناسب الوحي إلا الرؤيا اللهم إلا أن يكون بقي ما هو دون الرؤيا فلم يعتد به فدل ذلك أن التحديث والإلهام والفراسة والكهانة والكشف كلها دون الرؤيا
…
"
ثم قال المعلمي:
"إن التحديث والإلهام من إلقاء الملك في الخاطر والكهانة من إلقاء الشياطين والكشف قوة طبيعية كما يسمى في هذا العصر قراءة الأفكار .. " ثم قال: " وقد اتفق أهل العلم على أن الرؤيا لا تصلح للحجة إنما هي تبشير وتنبيه وتصلح للاستئناس بها إذا وافقت حجة شرعية صحيحة كما ثبت عن ابن عباس".
ثم قال: " هذه حال الرؤيا فقس عليه حال الكشف إن كان في معناها فأما إن كان دونها فالأمر أوضح وتجد في كلام المتصوفة أن الكشف قد يكون حقا يكون من الشيطان وقد يكون تخير موافقا لحديث النفس
…
"
ثم يقول المعلمي: "فالكشف إذا تبع الهوى فغلايته أن يؤدي الهوى ويرسخه في النفوس ويحول بين صاحبه وبين الاعتبار والاستبصار فكأن الساعي في أن يحصل له الكشف إنما يسعى في أن يضله الله عز وجل ولا ريب أن من التمس الهدى من غير الصراط المستقيم مستحق أن يضله الله عز وجل وما يزعمه بعض غلاتهم من أن لهم علامات يميزون بها بين ما هو حق من الكشف وما هو باطل دعوى فارغة.
فأما ما عرف عن المتصوفة من تحريف النصوص ربما أشنع وأفظع من تحريف الباطنية فهذا لا يشهد لكشفهم بل يشهد عليه أوضح شهادة بأنه من أبطل الباطل وذلك لأمور:
الأول: لأن النصوص بدلالتها المعروفة حجة فإذا شهدت ببطلان قولهم علم أنه باطل.
ثانيا: لأنهم يعترفون أن الكشف محتاج إلى شهادة الشرع فإن قبلوا من الكشف تأويل الشرع فالكشف شهد لنفسه فمن يشهد له على تأويله. وأما التحديث والإلهام ففي صحيح البخاري وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال ((لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فإن يكن في أمتي فإنه عمر)) (4).
وجاء في عدة روايات تفسير التحديث بالإلهام. وهذه سيرة عمر بين أيدينا لم يعرف عنه ولا عن أحد من أئمة الصحابة وعلمائهم أنهم استدلوا بالتحديث والإلهام في القضايا الدينية بل كان يخفى عليهم الحكم فيسألون عنه فيخبرهم إنسان بخبر عن النبي فيصيرون إليه" (5).
المصدر:
مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية لإدريس محمود إدريس – 1/ 83
(1)((تفسير ابن جرير الطبري)) (9/ 518).
(2)
((في ظلال القرآن)) لسيد قطب (2/ 843).
(3)
رواه البخاري (6990)
(4)
رواه البخاري (3689) ومسلم (2398)
(5)
((القائد إلى تصحيح العقائد)) للمعلمي (ص69).