الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: الشرعيَّة والحقيقة
مصطلح يردده المتصوفة كثيراً، ويقرنون بينه وبين مصطلح آخر لهم هو الظاهر والباطن، وسنحاول من خلال هذا المبحث التعرف على معاني هذه المصطلحات وعلاقتها بعضها ببعض.
فالشريعة – كما يرونها – هي مجموعة الأحكام العملية التكليفية أي ما يسمى (بالفقه الإسلامي)، والحقيقة هي ما وراء هذه الأحكام من إشارات وأسرار، فالفقهاء يعلمّون الناس أركان الصلاة وسننها والصوفية يهتمون بأعمال القلوب من المحبة والخشية .. هذا رأي المعتدلين منهم أما غلاتهم فقالوا: إن هذه الأحكام لعوام المسلمين نظراً لضيق عقولهم وقلوبهم عن استيعاب المعاني العلوية دون الالتزام برسوم وأشكال معينة فالصلاة خمس مرات بشكل وترتيب معين
…
هو أشبه ما يكون بالمعلم الذي يلزم الطالب بواجبات مدرسية لما يعلم عنه من عدم الاستفادة من العلم إن لم يعمل بتلك الواجبات، والمقصود هو العلم فإن كان من الخواص الذين يدركون المقصود الأساسي من الشرائع – وهو ما أطلقوا عليه الحقيقة – فقد حصل المقصود وإن لم يلتزم بها، فالصلاة هي دوام الصلة مع الله فإن استدامت فالحاجة للصلاة تصبح مجرد الوقوف مع الأوامر الشرعية احتراماً لها وإن كانت غير ذي فائدة، بل إنها انحرفت بعد ذلك عند البعض إلى القول بإسقاط التكاليف لمن أدرك الحقيقة.
إن بداية الانحراف كانت في هذا الفصل بين الشريعة والحقيقة، وعند أهل السنة الشريعة هي الحقيقة فالصلاة حركات معينة ولكنها تستلزم الخشية والإنابة، وهكذا كل الأحكام الشرعية القيام بها يعني الإتيان بها على تمامها كما أرادها الله سبحانه وتعالى.
وقد جرهم ذلك إلى مصطلح آخر وهو الظاهر والباطن. فقد ادعى الصوفية أن للقرآن ظاهراً وباطناً، فالظاهر هو ما يؤخذ من ألفاظه حسب الفهم العربي أو السياق أو غير ذلك من الأصول المرعية في التفسير وهو ما يهتم به علماء الظاهر أو ما يطلقونه عليهم (علماء الرسوم) زراية بهم، أما الباطن فهو العلم الخفي وراء تلك الألفاظ وهو المراد الحقيقي بها وهذا لا يطلع عليه الخواص من أصحاب المقامات السامية ويطلقون عليه (الإشارات)، وهم يغمزون أهل الفقه بأنهم لا يهتمون بأعمال القلوب.
…
ويسأل أحدهم عن قيمة الزكاة فيجيب: أما على العوام فربع العشر وأما نحن فيجب علينا بذل الجميع؟!! " وإذا وقع خلاف في مسألة بين علماء الشرع وبقيت غامضة، فالقول فيها ما يقوله علماء الباطن أهل التصوف "(1). وفي تفسير قوله تعالى: وَلَكِن لَاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]. قال الغزالي: " وهذا الفن مما يتفاوت أرباب الظواهر وأرباب البصائر في عمله "(2).
والحقيقة أن هذه التفرقة غير صحيحة بل هي باطلة وقبيحة، وأي تجزئة للإسلام فهي من قبيل اتخاذ القرآن عضين، والإسلام كل متكامل كالجسم الواحد، فليس هناك ظاهر وباطن ولكن هناك فهم صحيح كما عقله الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نعم هناك أعمال للجوارح وأعمال للقلوب والإيمان يزيد حتى يصبح كالجبال وينقص حتى يكون كالنبتة الصغيرة الضعيفة، ولكن كل هذا اسمه شريعة أو إسلام أو دين وكل تقسيم يشعر بأن هناك تضاداً أو تغايراً كمن يفرق بين العقل والنقل وكأن النقل مضاد للعقل، أو بين العلم والدين وكأن العلم يخالف الدين، كل هذا لا يكون إلا من ضعف وانحسار أمام أعداء هذا الدين، هذا إن أحسناً الظن بهم.
(1) شكيب أرسلان: ((حاضر العالم الإسلامي)) (2/ 160) والكلام لأحمد الشريف السنوسي.
(2)
زكي مبارك: ((التصوف)) (2/ 25)
انتقد ابن الجوزي هذا التقسيم فقال: " هذا قبيح لأن الشريعة ما وضعه الحق لصالح الخلق، فما الحقيقة بعدها سوى ما وقع في النفوس من إلقاء الشياطين، وبغضهم الفقهاء أكبر الزندقة "(1).
كما أن هذه التفرقة بين الظاهر والباطن أدت بهم في موضع التفسير إلى تأويل الآيات وتحريفها تخريفاً شنيعاً، وهذا التأويل المذموم حاولت كل الفرق الضالة الباطنية أن تجد له نصيراً من كتاب الله يتناسب وأهواءها. ولذلك ضبط علم التفسير عند أهل السنة بـ (أصول التفسير) حتى لا يتحول الأمر إلى فوضى لا نهاية لها، ففي تفسير آية " فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي " قال صاحب (منازل السائرين):" رأى هذه حالة العطش كأن إبراهيم عليه السلام لشدة عطشه إلى لقاء محبوبه لما رأى الكواكب قال: هذا ربي، فإن العطشان إذا رأى السراب ذكر به الماء".
ويعقب ابن القيم: " هذا ليس معنى الآية مطلقاً وإنما القوم مولعون بالإشارات "(2)، وآية " فاخلع نعليك " فسرها الشيخ عبد المغني النابلسي - وهو من المتأخرين - " أي صورتك الظاهرة والباطنة يعني جسمك وروحك فلا تنظر إليها لأنها نعلاك "(3)، وفسر بعضهم هذه الآية: يعني اخلع دنياك وآخرتك إلى آخر هذا الهراء ويبدو أن البعض منهم كان يشعر بخطأ هذه التفرقة، فيحذر وينصح، قال سهل ابن عبدالله:" احفظوا السواد على البياض (يعني العلم) فما أحد ترك الظاهر إلا تزندق "(4). ولكن القوم استمروا في إشاراتهم البعيدة عن العلم فقالوا عن آية " وإن يأتوكم أسارى " أي غرقى في الذنوب، " والجار ذي القربى " أي القلب " والجار الجنب " أي النفس حتى أنه يروى عن سهل بن عبد الله نفسه أنه فسر " ولا تقربا هذه الشجرة " بقوله:(لم يرد معنى الأكل في الحقيقة وإنما أراد أن لا تهتم بشيء غيري) قال الشاطبي: وهذا الذي ادعاه في الآية خلاف ما ذكره الناس (5).
وقد جمع لهم أبو عبد الرحمن السلمي تفسيراً للقرآن الكريم من كلامهم الذي أكثره هذيان نحو مجلدين، وليته لم يصنفه فإنه تحريف (6) وشيخهم السراج يهاجم الفقهاء لأن علمهم أقرب إلى حظوظ النفس، وأن علومهم قد يحتاج إليها في العمر مرة وعلوم الصوفية يحتاج إليها دائماً (7) بينما نجد أن الصحابة لم يتعمقوا في كلامهم ولم يخوضوا في الأمور المتكلفة ولا بد في فهم الشريعة من إتباع مفهوم العرب الذي نزل القرآن بلسانهم، وتفسير القرآن بالمعاني التي تخطر على قلوب المتصوفة غير صحيح ومثل هذا التفسير لم ينقل عن السلف بل هو أشبه بمذهب الباطنية، وبسبب طموح النفوس إلى التكلف والأشياء المستغربة نشأ التفرق والفرق (8).
ولقد صدق الشاعر محمد إقبال حين صوّر الشيخ الصوفي بهذه الأبيات:
" متاع الشيخ ليس إلا أساطير قديمة
كلامه كله ظن وتخمين
حتى الآن إسلامه زناري
وحين صار الحرم ديراً أصبح هو من براهمته " (9)
المصدر:
الصوفية نشأتها وتطورها لمحمد العبدة، وطارق عبد الحليم
(1)((تلبيس إبليس)) (337).
(2)
((مدارج السالكين)) (3/ 61).
(3)
بدوي: ((شطحات الصوفية)) (195).
(4)
((تلبيس إبليس)) (325).
(5)
القاسمي: ((محاسن التأويل)) (1/ 73).
(6)
محمد حسين الذهبي: ((التفسير والمفسرون)) (2/ 386) نقلاً عن الإمام الذهبي.
(7)
((اللمع)) (ص36).
(8)
انظر تعليق الشيخ الخضر حسين على كتاب ((الموافقات)) للشاطبي (2/ 52)
(9)
((ديوان أرمغان حجاز)) (ص 130) تحقيق د. سمير عبد الحميد. ويعني (إسلام زناري) تأثرهم بالنصارى الرهبان الذين يلبسون الزنار على وسطهم.