الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: بابُ: الرجل يُوجب على نفسه أن يصلي في مكان فيصلي في غيره
ش: أي هذا باب في بيان حكم من يوجب على نفسه أن يصلي في مكان بعينه، مثلًا في المسجد الحرام، أو المسجد الأقصى، فيصلي في غيره؛ هل سقط عنه ما أوجبه أم لا؟
ص: حدثنا محمد بن الحجاج الحضرمي، قال: ثنا الخَصِيب بن ناصح، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن حبيب المُعَلِّم، عن عطاء -وهو ابن أبي رباح- عن جابر رضي الله عنه:"أن رجلًا قال يوم فتح مكة: يا رسول الله، إني نذرتُ إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس. فقال له النبي عليه السلام: صلِّ هاهنا. فأعادها على النبي عليه السلام مرتين أو ثلاثًا، فقال النبي عليه السلام: شأنك إذًا".
ش: إسناده صحيح، وأخرجه أبو داود (1): عن موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن حبيب المُعَلِّم. . . . إلى آخره نحوه.
والبيهقي في "سننه"(2): من حديث حبيب بن الشهيد، عن عطاء، عن جابر، نحوه.
ويستفاد منه:
صحة النذر بالصلاة ونحوها، إن فعل الله كذا وكذا.
وفيه: وجوب النذر لقوله عليه السلام: "صَلِّ هاهنا" فلو لم يكن نذره موجبًا لم يأمره بالصلاة، وبهذا يُردّ على ابن حزم ومن تبعه في أن مَنْ نذر صلاة تطوع في بيت المقدس، أو في مكة، أو مسجد المدينة؛ فإنه لا يلزمه شيء من ذلك.
وفيه: أن من نذر أن يصلي في مكان فصلى في مكان أعلى منه في الفضل، فإنه يجوز على ما يجيء الآن مع الخلاف فيه.
(1)"سنن أبي داود"(3/ 236 رقم 3305).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(10/ 82 رقم 19922).
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: معنى هذا الحديث: أن رسول الله عليه السلام أمر الذي نذر أن يصلي في بيت المقدس أن يصلي في غيره.
فقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن رحمهم الله: مَنْ جعل لله عليه أن يصلي في مكان فصلّى في غيره أجزأه ذلك، واحتجوا في ذلك بهذا الأثر، غير أن أبا يوسف قد قال في "أماليه": مَنْ نذر أن يصلي في بيت المقدس فصلى في المسجد الحرام، أو في مسجد رسول الله عليه السلام أجزأه ذلك؛ لأنه صلّى في موضعٍ الصلاةُ فيه أفضل من الصلاة في الموضع الذي أوجب الصلاة فيه على نفسه.
ومن نذر أن يصلي في المسجد الحرام فصلّى في بيت المقدس لم يجزئه ذلك؛ لأنه صلّى في مكانٍ ليس للصلاة فيه من الفضل ما للصلاة في المكان الذي أوجب على نفسه [الصلاة](1) فيه.
ش: هذا ظاهر، ومذهب زفر هاهنا كمذهب أبي يوسف: أنه لا يجوز ذلك إلا في مكان عَيَّن فيه، أو في مكان أعلى شرعًا منه، لا أحط؛ كمن نذر في المسجد الأقصى يجوز أن يؤديه في أحد الحرمين وبالعكس لا، وبه قال أحمد، والشافعي في قول.
وقد ذكر المتأخرون من الحنفية أن أبا يوسف مع صاحبيه، وجعلوا الخلاف بينهم وبين زفر، ولم يذكروا ما ذكره الطحاوي.
وقال ابن حزم (2): قال الشافعي: مَنْ نذر أن يصلي بمكة لم يجزه إلا فيها، فإن نذر أن يصلي بالمدينة، أو ببَيْتِ المقدس، أجزأه أن يصلي بمكة، أو في المسجد الذي ذكر لا فيما سواه، فإن نذر صلاةً في غير هذه الثلاثة المساجد لم يلزمه؛ لكن يصلي حيث هو.
(1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "شرح معاني الآثار"(3/ 125).
(2)
"المحلى"(8/ 21).
قلت: وعن الشافعي كقول أبي حنيفة، ومحمد، وبعضهم نَصَّ على أنه هو الصحيح عنده.
ص: واحتج في ذلك بما رُوِيَ عن رسول الله عليه السلام:
حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عمرو بن مرزوق، قال: ثنا شعبة، عن أبي عبد العزيز الزبيدي، عن عمر بن الحكم، عن سعد بن أبي وقاص، عن النبي عليه السلام قال:"صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام".
حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا مكي، وشجاع، (ح).
وحدثنا عبد الرحمن بن الجارود، قال: ثنا مكي: قالا: ثنا موسى بن عبيدة عن داود بن مدرك، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله عليه السلام. . . . مثله (1).
ذكر في هذه الآثار، لم يجز لمن أوجب على نفسه صلاة في شيء منها إلا أن يصليها حيث أوجب، أو فيما هو أفضل منه من المواضع.
ش: أي احتج أبو يوسف فيما ذهب إليه بأحاديث أخرجها عن تسعة أنفس من الصحابة وهم: سَعْد بن أبي وقاص، وعائشة، وعبد الله بن عمر، وميمونة زوج النبي عليه السلام، وأبو هريرة، وأبو سعيد، وعبد الله بن الزبير، وعمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم، ففي أحاديث هؤلاء فضل الصلاة في بعض هذه المساجد [أي](2) المسجد الحرام، ومسجد النبي عليه السلام، ومسجد بيت المقدس، فإذا أوجب الرجل على نفسه صلاةً في مسجدٍ من هذه المساجد ليس له إلا أن يصليها حيث عيّنها فيه، أو في موضع أفضل منه، وهو معنى قوله:"قال: فلما كان فَضَّل".
(1) وقع هاهنا طمس في "الأصل" وترك موضعه بياضًا في "ك".
(2)
في "الأصل": "على"، وهو سبق قلم أو تحريف، ولعَلَّ ما أثبتناه هو الصواب.
أي قال أبو يوسف: فلما كان النبي عليه السلام فَضَّل الصلاة .. إلى آخره.
أما حديث سعد فأخرجه عن محمد بن خزيمة، عن عمرو بن مرزوق البصري شيخ أبي داود، عن شعبة، عن أبي عبد العزيز موسى بن عُبيدة الرَّبَذِي، فيه مقال، فعن يحيى: لا يحتج بحديثه. وعنه: ضعيف. وعنه: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: منكر الحديث. وقال النسائي: ليس بثقة.
ونسبته إلى رَبَذَة -بفتح الراء والباء الموحدة والذال المعجمة- وهي قرية معروفة قرب المدينة، وبها قبر أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
وأخرجه البزار في "مسنده "(1): ثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا أبو داود، نا شعبة، عن موسى بن عُبيدة أبي عبد العزيز الرَّبَذِي، عن عمر بن الحكم، عن سَعْد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام".
واختلف العلماء في تأويل هذا الحديث وأمثاله ومعناه، فتأوله قوم منهم: أبو بكر عبد الله بن نافع الزبيري، صاحب مالك على أن الصلاة في مسجد رسول الله عليه السلام أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بدون ألف درجة، وأفضل من الصلاة في سائر المساجد بألف صلاة، وقال بذلك جماعة من المالكية، ورواه بعضهم عن مالك.
قال أبو عمر: قال عامّة أهل الأثر والفقه: إن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد رسول الله عليه السلام بمائة صلاة.
وقال: وأما تأويل ابن نافع فبعيد عند أهل المعرفة باللسان؛ ويلزمه أن يقول: إن الصلاة في مسجد الرسول أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بتسع مائة ضعف وتسعة وتسعين ضعفًا، وإذا كان هذا لم يكن للمسجد الحرام فضل على سائر المساجد إلا بالجزء اللطيف على تأويل ابن نافع، فأنّى حَدَّ حدًّا في ذلك لم يكن لقوله دليل ولا حجّة.
(1)"مسند البزار"(4/ 59 رقم 1225).
وأما حديث عائشة فأخرجه من طريقين:
الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن مكي بن إبراهيم البلخي شيخ البخاري.
وعن شجاع بن مخلد الفلاس شيخ مسلم وأبي داود وابن ماجه، كلاهما عن موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي، عن داود بن مُدرك، مسكوت عنه، عن عروة، عن عائشة.
وأخرجه البزار في "مسنده" بأتم منه:
ثنا أحمد بن منصور، نا عبيد الله بن موسى، نا موسى -وهو ابن عُبيدة- عن داود بن مُدرك، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا خاتم الأنبياء، ومسجدي خاتم مساجد الأنبياء، أحق المساجد أن تزار وترحل إليه الرواحل: المسجد الحرام، ومسجدي، صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام".
الثاني: عن عبد الرحمن بن الجارود، عن مكي بن إبراهيم، عن موسى بن عُبيدة، عن داود بن مدرك .. إلى آخره.
وأما حديث عبد الله بن عمر فأخرجه بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن يعلى بن عبيد الطنافسي، عن موسى بن عبد الله ويقال عبد الرحمن الجهني الكوفي، عن نافع، عن ابن عمر.
وأخرجه النسائي (1): عن عمرو بن علي وابن مثنى ويحيى، عن موسى الجهني، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام".
(1)"المجتبى"(5/ 213 رقم 2897).
وقال النسائي: لا أعلم رواه عن نافع، عن ابن عمر غير موسى، وخالفه ابن جريج وغيره -يعني عروة- عن نافع، عن إبراهيم بن عبد الله (1).
أبي الدرداء فأخرجه البزار في "مسنده": ثنا إبراهيم بن حميد، قال: ثنا محمد ابن يزيد بن شداد، نا سعيد بن سالم القداح، نا سعيد بن بشير، عن إسماعيل ابن عبيد الله، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره: مائة ألف صلاة، وفي مسجدي: ألف صلاة، وفي مسجد بيت المقدس: خمسمائة صلاة".
قال البزار: إسناده حسن.
وأما حديث جبير بن مطعم فأخرجه الطبراني (2).
ثنا معاذ بن المثنى، قال: ثنا مسدد، ثنا حصين بن نُمير، ثنا حصين، عن محمد بن جُبير بن مطعم، عن أبيه، قال: قال رسول الله عليه السلام: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام".
وأما حديث أبي ذر رضي الله عنه فأخرجه الطبراني في "الأوسط"(3) من رواية قتادة، عن أبي الخليل، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، قال:"تذاكرنا ونحن عند رسول الله عليه السلام أيهما أفضل؛ مسجد رسول الله عليه السلام أو بيت المقدس؟ فقال رسول الله عليه السلام: صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه، ولَنِعم المُصَلَّى هو. . . ." الحديث.
وأما حديث علي رضي الله عنه فأخرجه البزار (4) في "مسنده" من رواية سلمة بن وردان، عن علي بن أبي طالب وأبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال: "ما بين قبري
(1) كذا في "الأصل"، ولعله قد وقع هاهنا سقط بمقدار ورقة. والله أعلم.
(2)
"المعجم الكبير"(2/ 132 رقم 1558).
(3)
"المعجم الأوسط"(7/ 103 رقم 6983).
(4)
"مسند البزار"(2/ 148 رقم 511).
ومنبري روضة من رياض الجنة، وصلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام".
وسلمة بن وردان ضعيف، ولم يسمع من علي رضي الله عنه.
ص: وكان من الحجّة لأبي حنيفة ومحمد على أهل هذا القول: أن معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه" إنما ذلك على الصلوات المكتوبة؛ لا على النوافل، ألا ترى إلى قوله في حديث عبد الله بن سعد:"لأن أصلي في بيتي أحبّ إليّ من أن أصلي في المسجد".
وقوله في حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه: "خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة"، وذلك حين أرادوا أن يقوم بهم في شهر رمضان في التطوع، وورد ذكرنا ذلك في غير هذا الموضع من هذا الكتاب، فلما رُوِيَ ذلك على ما ذكرنا، كان تصحيح الآثار يوجب أن الصلاة في مسجد رسول الله عليه السلام التي فيها الفضل على الصلاة في البيوت هي الصلاة التي هي خلاف هذه الصلاة وهي المكتوبة.
فثبت بذلك فسادُ ما احتج به أبو يوسف، وثبت أن من أوجب على نفسه صلاة في مكان، فصلّاها في غيره أجزأه، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار.
ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأبي حنيفة ومحمد بن الحسن فيما ذهبا إليه على قول أبي يوسف، وأراد بها أن احتجاج أبي يوسف بالأحاديث المذكورة لما ذهب إليه فاسدٌ، وبيّن ذلك بقوله:"إن معنى قول رسول الله عليه السلام. . . ." إلى آخره.
قوله: "ألا ترى إلى قوله" أي قول النبي عليه السلام، فحديث عبد الله بن سعد الأنصاري الحرامي الصحابي.
وحديثه رواه ابن ماجه (1): ثنا أبو بشر بكر بن خلف، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن حرام بن معاوية، عن عمّه عبد الله بن سعد، قال: "سألت رسول الله عليه السلام أيهما أفضل؛ الصلاة في
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 439 رقم 1378).
بيتي، أو الصلاة في المسجد؟ قال: ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد فلأن أصلي في بيتي أحبّ إليَّ [من](1) أن أصلي في المسجد إلا أن تكون صلاة مكتوبةً".
وقوله: "في حديث زيد بن أسامة مرّ في كتاب [. . . .](2).
ص: وأمّا وجهه من طريق النظر، فإنا رأينا الرجل إذا قال: لله عليّ أن أصلي ركعتين في المسجد الحرام، فالصلاة التي أوجبها قربة حيث ما كانت، فهي عليه واجبة: ثم أردنا أن ننظر في الموطن الذي أوجب على نفسه أن يصليها فيه، هل تجب عليه كما تجب عليه تلك الصلاة، أم لا؟
فرأيناه لو قال: لله عليّ أن ألبث في المسجد الحرام ساعة لم يجب ذلك عليه، وإن كان ذلك اللبث هو لو فعله قربةً، فكان اللبث وإن كان قربةً لا يجب بإيجاب الرجل إياه على نفسه.
فلما كان ما ذكرنا كذلك كان من أوجب على نفسه صلاة في المسجد الحرام ولم يجب عليه اللبث لها في المسجد الحرام، فهذا هو النظر في هذا الباب.
ش: أي وأمّا وجه هذا الباب من طريق النظر والقياس .. إلى آخره.
حاصله: أن الرجل إذا أوجب على نفسه صلاة مقيدة بمكان، فإن الصلاة تجب عليه بإيجابه إياها على نفسه، ولكن ننظر في المكان الذي قيد الصلاة به، هل له دخل في ذلك الإيجاب أم لا؟ فرأيناه لو قال: عَلَّي أن ألبث في المسجد الحرام ساعةً؛ فإنه لا يجب عليه وإن كان يقع ذلك قربةً عند فعله إياه، فإذا كان لا يجب عليه اللبث في المسجد الحرام لأجل الصلاة المنذورة، كان ذكره وعدمه سواء، فلا يجب عليه إلا تلك الصلاة دون اللبث. والله أعلم.
(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن ابن ماجه".
(2)
بيض له المؤلف رحمه الله.