المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: المؤمن يقتل الكافر متعمدا - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٥

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: بابُ: الرجل يحلف لا يكِّلم الرجل شهرًا كم عدد ذلك الشهر من الأيام

- ‌ص: بابُ: الرجل يُوجب على نفسه أن يصلي في مكان فيصلي في غيره

- ‌ص: بابُ: الرجل يوجب على نفسه المشي إلى بيت الله الحرام

- ‌ص: بابُ: الرجل ينذر وهو مشرك نذرًا ثم يُسلم

- ‌ص: كتاب العتاق

- ‌ص: باب: العبد يكون بين الرجلين فيعتقه أحدهما

- ‌ص: باب: الرجل يملك ذا رحم محرَّم منه هل يعتق عليه أم لا

- ‌ص: باب: المكاتب متى يعتق

- ‌ص: باب: الأَمة يطأها مولاها، ثم يموت وقد جاءت بولد في حياته هل يكون ابنه وتكون له أُمّ ولدٍ أَمْ لا

- ‌ص: كتاب الرهن

- ‌ص: باب: ركوب الرهن واستعماله وشرب لبنه

- ‌ص: باب: الرهن يهلك في يد المرتهن كيف حكمه

- ‌ص: كتاب الشفعة

- ‌ص: باب: الشفعة بالجوار

- ‌ص: كتاب الجنايات

- ‌ص: باب: ما يجب في قتل العمد وجرح العمد

- ‌ص: باب: الرجل يَقتل الرجل كيف يُقتَل

- ‌ص: باب: شبه العمد الذي لا قود فيه، ما هو

- ‌ص: باب: شبه العمد هل يكون فيما دون النفس كما يكون في النفس

- ‌ص: باب: الرجل يقول عند موته: إن مُت ففلان قتلني

- ‌ص: باب: المؤمن يقتل الكافر متعمدًا

- ‌ص: باب: القسامة هل تكون على ساكني الدار الموجود فيها القتيل أو مالكها

- ‌ص: باب: القسامة كيف هى

- ‌ص: باب: ما أصاب البهائم في الليل والنهار

- ‌ص: باب: غرة الجنين المحكوم بها فيه. لمن هي

- ‌ص: كتاب الحدود

- ‌ص: باب: حد البكر في الزنا

- ‌ص: باب: حد الزاني المحصن

- ‌ص: باب: الاعتراف بالزنا الذي يجب به الحد

- ‌ص: باب: الرجل يزني بجارية امرأته

- ‌ص: باب: من تزوج امرأة أبيه أو ذات محرم منه فدخل بها

- ‌ص: باب: حد الخمر

- ‌ص: باب: من سكر أربع مرات ما حده

- ‌ص: باب: المقدار الذي يقطع فيه السارق

الفصل: ‌ص: باب: المؤمن يقتل الكافر متعمدا

‌ص: باب: المؤمن يقتل الكافر متعمدًا

ش: أي هذا باب في بيان حكم قتل المؤمن الكافر على وجه العمد، هل يجب قصاص أم لا؟

ص: حدثنا المزني، قال: ثنا الشافعي، قال: أنا سفيان (ح).

وحدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قالا: ثنا أسباط، عن مطرف بن طريف، عن الشعبي، عن أبي جحيفة قال:"سألت عليًّا رضي الله عنه: هل عندكم من رسول الله عليه السلام علمٌ غير القرآن؟ قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما عندنا من رسول الله عليه السلام سوى القرآن وما في الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يُقتل مسلم بكافر".

ش: هذان طريقان صحيحان:

الأول: عن إسماعيل بن يحيى المزني، عن محمَّد بن إدريس الشافعي الإِمام، عن سفيان بن عيينة، عن مطرف بن طريف الحارثي الكوفي، عن عامر الشعبي، عن أبي جحيفة -بضم الجيم، وفتح الحاء المهملة، وسكون الياء آخر الحروف، وفتح الفاء- واسمه وهب بن عبد الله السُّوائي، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.

وأخرجه البخاري (1): نا صدقة بن الفضل، أنا ابن عيينة، ثنا مطرف، سمعت الشعبي، قال: سمعت أبا جحيفة قال: "سألت عليًّا رضي الله عنه: هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟ -وقال ابن عيينة مرةً: ما ليس عند الناس- فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن إلا فهما يعطى رجل في كتابه وما في الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يُقتل مسلم بكافر".

(1)"صحيح البخاري"(6/ 2531 رقم 6507).

ص: 336

الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن أسباط بن محمَّد القرشي الكوفي، عن مطرف. . . . إلى آخره.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا سفيان بن عيينة، ثنا مطرف بن طريف قال: سمعت الشعبي، نا أبو جحيفة قال:"قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: هل عندكم من رسول الله عليه السلام سوى القرآن؟ قال علي: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا أن يعطي الله عبدًا فهمًا في كتابه، وما في الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يُقتل مسلم بكافر".

وأخرجه الترمذي (2): عن أحمد بن منيع، عن هشيم، عن مطرف، عن الشعبي، أنا أبو جحيفة، به. وقال: حسن صحيح.

والنسائي (3): عن محمَّد بن منصور، عن سفيان، عن مطرف بن طريف، عن الشعبي، عن أبي جحيفة بمعناه.

وابن ماجه (4): عن علقمة بن عمرو الدارمي، عن أبي بكر بن عياش، عن مطرف، عن الشعبي.

قوله: "والذي فلق الحبة" أي وحق الذي فلق الحبة، أي أقسم بالله الذي فلق الحبة، وكان علي رضي الله عنه كثير القسم بهذه اللفظة، أي الذي شق حبَّة الطعام، ونوى التمر للإنبات.

و"الفَلْق": الشق، وهو بسكون اللام، وأما الفَلَق بالتحريك: فهو الصبح نفسه.

قوله: "وبرأ النسمة" أي وخلق النسمة، والبارئ هو الخالق، وهو الذي خلق الخلق لا عن مثال، ولهذه اللفظة من الاختصاص بخلق الحيوان ما ليس لها بغيره

(1)"مسند أحمد"(1/ 79 رقم 599).

(2)

"جامع الترمذي"(4/ 24 رقم 1412).

(3)

"المجتبى"(8/ 23 رقم 4744).

(4)

"سنن ابن ماجه"(2/ 787 رقم 2658).

ص: 337

من المخلوقات، وقلما يستعمل في غير الحيوان، فيقال: برأ الله النسمة وخلق السموات والأرض.

والنسمة: النفس والروح، وكل دابة فيها روح تسمى نسمة.

قوله: "العقل" أي الدية، وأصله: أن القاتل كان إذا قتل قتيلًا جمع الدية من الإبل فعقلها بفناء أولياء المقتول، أي شدها في عقلها ليُسْلمها إليهم ويقبضونها منه، فسميت الدية عقلًا بالمصدر، يقال: عَقَلَ البعير يَعْقله عَقْلًا، وجمعها عُقُول.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن المسلم إذا قتل الكافر متعمدًا لم يُقتل به، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: عمر بن عبد العزيز والأوزاعي والثوري وابن شبرمة ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور؛ فإنهم قالوا: لا يقتل المسلم بالكافر. وإليه ذهب أهل الظاهر.

وقال ابن حزم في "المحلى"(1): وإن قتل مسلم عاقل بالغ ذميًّا أو مستأمنًا، عمدًا أو خطأً، فلا قود عليه ولا دية ولا كفارة، لكن يؤدب في العمد خاصةً ويسجن حتى يتوب، كفًّا لضرره.

وقال مالك: لا يقادُ المسلم بالذمي إلا أن يقتله غيلة أو حرابة فيقاد به ولابد، وعليه في قتله خطأً أو عمدًا غير غيلة الدية فقط، والكفارة في الخطأ.

وقال الشافعي: لا يقاد المسلم بالذمي أصلًا، لكن عليه في قتله إياه عمدًا أو خطأ الدية والكفارة.

وقد اختلف عن عمر بن عبد العزيز في ذلك كما روينا عن عبد الرزاق عن معمر، عن سماك بن الفضل -قاضي اليمن- قال: "كتب عمر بن عبد العزيز في زياد بن مسلم -وكان قد قتل هنديًّا باليمن- أن أغرمه خمسمائة ولا تقده به.

وقول آخر رويناه عنه: "أنه يقتل" كما ذكرناه.

(1)"المحلى"(10/ 347 - 350) بتصرف واختصار.

ص: 338

قال: ورجع إليه زفر بن الهذيل روينا ذلك من طريق أبي عبيد عن عبد الرحمن ابن مهدي عنه.

وقال أبو بكر الرازي: قال مالك والليث بن سعد: إن قتله غيلة قتُل به، وإلا لم يُقتل.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل يقتل به.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: إبراهيم النخعي وعامرًا الشعبي ومحمد بن أبي ليلى وعثمان البتي وأبا حنيفة وأبا يوسف -في رواية- ومحمدًا. فإنهم قالوا: يقتل المسلم بالكافر. وذكر أبو بكر الرازي قول زفر مع هؤلاء، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز.

ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: أن هذا الكلام الذي حكاه أبو جُحيفة في هذا الحديث عن علي رضي الله عنه لم يكن مفردًا، ولو كان مفردًا لاحتمل ما قالوا، ولكنه كان موصولًا بغيره.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن ابن أبي عروبة، قال: ثنا قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عُبَاد قال:"انطلقت أنا والأشتر إلى علي رضي الله عنه فقلنا: هل عهد إليك رسول الله عليه السلام عهدًا لم يعهده إلى الناس عامة؟ قال: لا، إلا ما كان في كتابي هذا، فأخرج كتابًا من قراب سيفه فإذا فيه: المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على مَن سواهم، لا يُقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، ومَن أحدث حدثا فعلى نفسه، ومَن أحدث حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين".

فهذا هو حديث علي رضي الله عنه بتمامه، والذي فيه مِن نفي قتل المؤمن بالكافر هو قوله:"لا يُقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" فاستحال أن يكون معناه على ما حمله عليه أهل المقالة الأولى؛ لأنه لو كان معناه على ما ذكروا لكان ذلك لحنًا من رسول الله عليه السلام، ورسول الله عليه السلام أبعد الناس من ذلك، ولكان لا يقتل

ص: 339

مؤمن بكافر ولا ذي عهد في عهده، فلما لم يكن لفظه كذلك، صلى الله عليه وسلم إنما هو: ولا ذو عهد في عهده علمنا أن ذا العهد هو المعني بالقصاص؛ فصار ذلك كقوله: "لا يُقتل مؤمن ولا ذو عهد في عهده بكافر"، وقد علمنا أن ذا العهد كافر، فدل هذا أن الكافر الذي نسخ النبي عليه السلام أن يقتل به المؤمن في هذا الحديث هو الكافر، الذي لا عهد له، فهذا مما لا اختلاف فيه بين المسلمين أن المؤمن لا يقتل بالكافر الحربي، وأن ذا العهد الكافر الذي قد صارت له ذمة لا يُقتل به أيضًا، وقد نجد مثل هذا كثيرًا في الكلام، قال الله عز وجل:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} (1) فقدَّم وأخَّر، فكذلك قوله:"لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" إنما مراده فيه -والله أعلم- لا يُقتل مؤمن ولا ذو عهد في عهده بكافر، فقدم وأخر؛ فالكافر الذي منع صلى الله عليه وسلم أن يُقتل به المؤمن هو الكافر غير المعاهد.

ش: أي: وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه: أن هذا الكلام -أعني قول علي رضي الله عنه الذي حكاه عنه أبو جحيفة السوائي: "وأن لا يقتل مسلم بكافر" لم يكن مفردًا يعني لم يكن كلامًا مستقلًا برأسه، وإنما كان معه كلام آخر، وهو الذي رواه قيس بن عباد والأشتر، فإن في روايتهما:"لا يُقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" فهذا هو أصل الحديث وتمامه، وهذا الأولى على ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى؛ لأن المعنى على أصل الحديث: لا يقتل مؤمن بسبب قتل كافر، ولا يقتل ذو عهد في عهده" بسبب قتل كافر، ومن المعلوم أن ذا العهد كافر، فدل هذا أن الكافر الذي منع النبي عليه السلام أن يُقتل به مؤمن -في الحديث المذكور- هو الكافر الذي لا عهد له، وهذا لا خلاف فيه لأحد أن المؤمن لا يُقتل بالكافر الحربي، ولا الكافر الذي له عهد يُقتل به أيضًا، فحاصل معنى الحديث -الذي رواه أبو جحيفة: لا يقتل مسلم ولا ذو عهد في عهده بكافر.

(1) سورة الطلاق، آية:[6].

ص: 340

فإن قيل: كل واحد من الحديثين كلام مستقل مفيد فيعمل به، فما الحاجة إلى جعلهما واحدًا حتى نحتاج إلى هذا التأويل؟

قلت: قد ذكرنا لك أن أصل الحديث واحد، فبتقطيعه لا يزول المعنى الأصلي، ولئن سلمنا أن أصله ليس بواحد، وأن كل واحدٍ حديث برأسه، ولكن الواجب حملهما على أنهما وردا معًا؛ وذلك لأنه لم يثبت أن النبي عليه السلام قال ذلك في وقتين: مرةً من غير ذكر ذي العهد، ومرة مع ذكر ذي العهد.

وأيضًا أن أصل هذا كان في خطبته عليه السلام يوم فتح مكة، وقد كان رجل من خزاعة قتل رجلًا من هذيل في الجاهلية، فقال عليه السلام:"ألا إن كل دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي هاتين، لا يُقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" يعني -والله أعلم- الكافر الذي قتل في الجاهلية، وكان ذلك تفسيرًا لقوله:"كل دمٍ كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدميّ"؛ لأنه مذكور في خطاب واحد في حديث، وقد ذكر أهل المغازي أن عهد الذمة كان بعد فتح مكة، وأنه إنما كان قُبْلُ بين النبي عليه السلام وبين المشركين عهود إلى مُدد، لا على أنهم داخلون في ذمة الإِسلام وحكمه، وكان قوله عليه السلام يوم فتح مكة:"لا يُقتل مؤمن بكافر" منصرفًا إلى الكفار والمعاهدين؛ إذْ لم يكن هناك ذمي ينصرف الكلام إليه، ويدل عليه قوله:"ولا ذو عهد في عهده"، وهذا يدل على أن عهودهم كانت إلى مُدد؛ ولذلك قال:"ولا ذو عهد في عهده"، كما قال تعالى:{فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} (1)، وقال:{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} (2)، وكان المشركون حينئذٍ على ضربين:

أحدهما: أهل الحرب ومَن لا عهد بينه وبين النبي عليه السلام.

(1) سورة التوبة، آية:[4].

(2)

سورة التوبة، آية:[2].

ص: 341

والآخر: أهل عهد إلى مدة، ولم يكن هناك أهل ذمة فانصرف الكلام إلى الضربين من المشركين، ولم يدخل فيه مَن لم يكن على أحد هذين الوضعين.

وفحوى هذا الخبر ومضمونه على أن الحكم المذكور في نفي القصاص على الحربي المعاهد دون الذمي؛ وذلك أنه عطف عليه قوله: "ولا ذو عهد في عهده" ومعلوم أن قوله: "ولا ذو عهد في عهده" غير مستقل بنفسه في إيجاب الفائدة لو انفرد عما قبله، فهو إذًا مفتقر إلى ضمير، وضميره ما تقدم ذكره، ومعلوم أن الكافر الذي هو ذو العهد هو الحربي المستأمن فثبت أن مراده مقصور على الحربي، ولا يجوز أن يُجعل الضمير: ولا يُقتل ذو عهد في عهده من وجهين:

الأول: أنه لما كان القتل المبدوء بذكره قتلًا على وجه القصاص، وكان ذلك القتل بعينه سبيله أن يكون مضمرًا في الثاني؛ لم يجز لنا إثبات الضمير قتلًا مطلقًا؛ إذا لم يتقدم على الخطاب ذكر قتل مطلق غير مقيد بصفة، وهو القتل على وجه القود، فوجب أن يكون هو المَعْنِيّ بقوله:"ذو عهد في عهده" فالكافر المذكور بدًا ولو أضمرنا قتلًا مطلقًا كنا مثبتين لضمير لم يجر له ذكر في الخطاب، وهذا لا يجوز، وإذا ثبت ذلك وكان الكافر الذي لا يُقتل به ذو العهد هو الكافر الحربي، كان قوله:"لا يُقتل مؤمن بكافر" في منزلة قوله: لا يقتل مؤمن بكافر حربي، فلم يثبت عن النبي عليه السلام نفي قتل المؤمن بالذمي.

والوجه الآخر: أنه معلوم أن ذا العهد يُحظر قتله ما دام في عهده، فلو حملنا قوله:"ولا ذو عهد في عهده" على أن لا يُقتل ذو عهد في عهده لأخلينا اللفظ عن الفائدة، وحكم كلام النبي عليه السلام حمله على مقتضاه في الفائدة، ولا يجوز إلغاؤه ولا إسقاط حكمه.

قوله: "فهذا هو" أشار به إلى ما رواه قيس بن عباد والأشتر.

قوله: "وقد نجد مثل هذا كثيرًا في الكلام" أراد به مثل ما ذكره في الحديث المذكور من التقديم والتأخير، وهو أن معنى قوله عليه السلام:"لا يُقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده" لا يُقتل مؤمن ولا ذو عهد في عهده بكافر؛

ص: 342

وذلك كما في قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (1) والمعنى: واللائي يئسن من المحيض واللائي لم يحضن، إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر، فكما أن المعنى فيه على التقديم والتأخير، وهو أن المعنى يقتضي أن يكون قوله:{وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (1) عقيب قوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ} (1) ليقع قوله: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} (1) جوابًا عن الاثنين؛ لأن حكم اللائي يئسن وحكم اللائي لم يحضن سواء، وهو وجوب العدة على كل واحدة منهما بثلاثة أشهر عوضًا عن ثلاث حيض، فكذلك التقدير في قوله عليه السلام:"لا يُقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده": لا يقتل مؤمن ولا ذو عهد في عهده بكافر، فقدم وأخر، فدل أن الكافر الذي منع عليه السلام أن يقتل به المؤمن هو الكافر غير المعاهد والله أعلم.

ثم إنه أخرج حديث عُبَاد بن قيس بإسناد صحيح عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مسدد بن مسرهد شيخ البخاري، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة السدوسي، عن الحسن البصري، عن قيس بن عُبَاد -بضم العين وتخفيف الباء الموحدة- القيسي البصري، روى له الجماعة سوى الترمذي.

والأشتر هو مالك بن الحارث النخعي، أدرك الجاهلية، وكان من شيعة علي رضي الله عنه، قال العجلي: كوفي تابعي ثقة.

وأخرجه أبو داود (2): ثنا أحمد بن حنبل ومسدد، قالا: ثنا يحيى بن سعيد، قال: نا سعيد بن أبي عروبة، قال: ثنا قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عُبَاد قال:"انطلقت أنا والأشتر إلى علي رضي الله عنه. . . ." إلى آخره نحوه.

وأخرجه النسائي (3) أيضًا: عن أبي موسى، عن يحيى. . . . إلى آخره نحوه.

(1) سورة الطلاق، آية:[4].

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 588 رقم 4530).

(3)

"المجتبى"(8/ 19 رقم 4734).

ص: 343

قوله: "عهد إليك" أي أوصى إليك، كما جاء في حديث آخر:"عهد إليَّ النبي عليه السلام" أي أوصى.

قوله: "من قِراب سيفه" بكسر القاف، وهو غلافه.

قوله: "تتكافأ" أي تتساوى دماؤهم في القصاص والديات، من الكفؤ وهو النظير والمُساوي، ومنه الكفاءة في النكاح، وهو أن يكون الزوج مساويًا للمرأة في حسبها ودينها ونسبها، وغير ذلك.

قوله: "يسعى بذمتهم أدناهم" أي إذا أعطى أحد الجيش العدو أمانًا صار ذلك على جميع المسلمين، وليس لهم أن يُخفروه، ولا أن ينقضوا عليه عهده، وقد أجاز عمر رضي الله عنه أمان عبدٍ على جميع الجيش.

قوله: "يدٌ على مَن سِواهم" أي هم مجتمعون على أعدائهم لا يسعهم التخاذل، بل يعاون بعضهم بعضًا على جميع الأديان والملل، كأنه جعل أيديهم يدًا واحدة، وفعلهم فعلًا واحدًا.

قوله: "لا يُقتل مؤمن بكافر""الباء" فيه يجوز أن تكون للتعليل، والمعنى بسبب كافرٍ، ويجوز أن تكون للعوض والمقابلة، كما في قولك: اشتريته بدرهم.

قوله: "ولا ذو عهد في عهده" أي ولا ذو ذمة في ذمته، وقد قلنا: إن التقدير: لا يقتل مسلم ولا ذو عهد في عهده بكافر، أي لا يقتل مسلم ولا كافر معاهد بكافر، فإن الكافر قد يكون معاهدًا أو غير معاهد.

قوله: "ومَن أحدث حدثًا" الحدث: الأمر المنكر الذي ليس معتاد ولا معروف في السُّنَّة، قيل: الحدث هاهنا: الإثم، وقيل: هو عام في الجنايات والحدث في الدين.

قوله: "أو آوى مُحْدثًا" بضم الميم وسكون الحاء، ويروى بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول، فمعنى الكسر: مَن نصر جانيًا وآواه وأجاره من خصمه، وحال بينه وبين أن يقتص منه، والفتح: هو الأمر المبتدع نفسه، ويكون معنى الإيواء: الرضا به والصبر عليه؛ فإنه إذا رضي بالبدعة وأقر فاعلها ولم ينكرها عليه؛ فقد آواه.

ص: 344

واستُفيد منه أحكام:

فيه: أن المسلمين متساوون في الدماء، حتى إن الشريف يُقاد بالوضيع، والكبير بالصغير، والعالم بالجاهل، والحر بالعبد، والرجل بالمرأة.

فإن قيل: فعل هذا ينبغي أن لا يُقتل المسلم بالكافر؛ لأن دم الكافر لا يساوي دم المسلم.

قلت: قوله: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم" لا ينفي مكافأة دماء غير المؤمنين من أهل الذمة، والدليل على ذلك: أنه لم يمنع تكافؤ دماء الكفار حتى تقاد بعضهم لبعضهم إذا كانوا ذمةً لنا، وكذلك لا يمنع تكافؤ دماء المسلمين وأهل الذمة.

وفيه: أن أحدًا من أهل العسكر إذا أمَّنَ أهل حصن أو أهل مدينة صح أمانه سواء كان حرًّا أو حرةً، ولا يصح أمان ذمي؛ لأنه منهم، إلا شاذًا عن مالك: يصح، ولا أمان أسير ولا فاجر منهم؛ لأنهما مقهوران تحت أيديهم. وعن الشافعية وجه: يصح إذا لم يخف.

وفيه: أن المؤمن لا يقتل بالحربي، وأن الذمي أيضًا لا يقتل بالحربي.

ص: فإن قال قائل: قوله: "ولا ذو عهد في عهده" إنما معناه: لا يقتل مؤمن بكافر، فانقطع الكلام، ثم قال:"ولا ذو عهد في عهده" كلام مستأنف، أي ولا يُقتل المعاهد في عهده، فكان من حجتنا عليه: أن هذا الحديث إنما جرى في الدماء المسفوك بعضها ببعض؛ لأنه قال: "المسلمون يدٌ على مَن سواهم، تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم" ثم قال: "لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" فإنما جرى الكلام على الدماء التي تجري قصاصًا، ولم يجر على حرمة دم بعهد، ليحمل الحديث على هذا. فهذا وجه.

ش: تقرير السؤال أن يقال: إن قوله عليه السلام: "لا يُقتل مؤمن بكافر" كلام مستقل بذاته مفيد لحكم، وليس له تعلق به لما بعده، فلما قال هذا الكلام: انقطع عما قبله وتم.

ص: 345

ثم قوله عليه السلام بعده: "ولا ذو عهد في عهده" كلام مستأنف أي مبتدأ، وهو أيضًا كلام مستقبل بذاته مفيد لحكمه، ومعناه: لا يُقتل المعاهد في عهده، فإذا كان كذلك كان كل من الكلامين حكمًا، وهو أن يكون حكم الأول: منع قتل المؤمن بالكافر، أي كافر كان، وحكم الثاني: منع قتل المعاهد ما دام في عهده.

وأشار إلى الجواب عن ذلك بقوله: "فكان مِن حجتنا عليه -أي على هذا القائل- أن هذا الحديث" يعني أن مورد الحديث في الدماء التي يُسفك بعضها ببعض بقرينة قوله: "المسلمون يد على من سواهم تتكافأ دماؤهم" أي تتساوى في القصاص كما ذكرنا، ولما قال:"لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده" عُلم أن جريان الكلام كان على الدماء التي تسفك من حيث القصاص، ولم يكن على حرمة دم بسبب العهد والذمة؛ وذلك لأن حرمة دم العهد معلومة بدون هذا.

ولو قلنا: المعنى ولا يُقتل المعاهد في عهده؛ لخلا اللفظ عن الفائدة.

فإذا كان كذلك لم يكن قوله: "ولا ذو عهد في عهده" كلامًا مستقلًا بدايةً، مفيدًا لحكم غير معلوم، فاحتاج إلى تأويل كما ذكرناه فيما مضى محققًا.

قوله: "فهذا وجه" أي فهذا الذي ذكرناه وجه في الجواب.

ص: وحجة أخرى: أن هذا الحديث إنما روي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُعلم أنه رُوي عن غيره من طريق صحيح، فهو كان أعلم بتأويله، وتأويله هو فيه إذْ كان محتملًا عندكم هذين المعنين اللذين ذكرنا، دليل على أن معناه في الحقيقة هو ما تأوله علي.

ش: أراد بقوله: "حجة أخرى": جوابًا آخر، وهو أن هذا الحديث الذي رواه قيس بن عُبَاد إنما رواه عن علي بن أبي طالب، عن النبي عليه السلام، وكان علي رضي الله عنه أعلم بتأويله، وتأويل علي رضي الله عنه فيه هو الذي يدل على أن معناه في الحقيقة هو الذي ما تأوله عليه من أن المراد بالكافر: هو الكافر الحربي على ما يجيء بيانه عن قريب.

ص: 346

قوله: "ولا نعلم أنه رُوي عن غيره" أي ولا نعلم أن هذا الحديث رُوي عن غير علي من طريق صحيح. وأشار بذلك إلى أن طريق هذا الحديث التي رُويت عن غير علي غير صحيحة، فالطريق الصحيح هو الذي رُوي عن علي رضي الله عنه الذي أخرجه البخاري ومسلم وبقية الجماعة (1) فاقتصر عليه؟ فلذلك قلنا: إنه كان أعلم بتأويله؛ لانفراده به وبمعناه.

فإن قلت: عمن روي عن غير علي رضي الله عنه؟

قلت: روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعمران بن حصين، ومعقل ابن يسار، وعائشة الصديقة، وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن مرسلًا.

أما ما روي عن عبد الله بن عمرو، فأخرجه أبو داود (2): نا عبيد الله بن عمر، قال: ثنا هشم، عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . . فذكر نحو حديث علي رضي الله عنه، زاد فيه:"ويجير عليهم أقصاهم وَيَرُدُّ مُشِدُّهم على مُضعِفَهُم ومُتَسَرِّيهم على قاعِدهم".

وأخرجه ابن ماجه (3): أيضًا، وهذا الإسناد لا يلحق إسناد حديث علي رضي الله عنه؟ لأن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مختلف في الاحتجاج به.

قوله: "ويجير عليهم أقصاهم" أي: إن بعض المسلمين وإن كان قاصي الدار إذا [عقد] عقدًا لكافر لم يكن لأحد أن ينقضه.

قوله: "ويَرْدُّ مُشِدُّهم" المُشِدُّ: الذي له دواب شديدة قوية، والمُضْعِفُ الذي دوابه ضعيفة، يريد أن القوي من الغزاة يساهم الضعيف فيما يكسبه من الغنيمة.

قوله: "ومُتَسَرِّيهم" المتسري: الذي يخرج في السرية التي يبعثها الإِمام من الجيش، فإذا غنموا شيئًا كان بينهم وبين الجيش عامة؛ لأنهم رِدْءٌ لهم، وأما إذا بعثهم من البلد فإنهم لا يردون على المقيمين شيئًا.

(1) تقدم تخريجه.

(2)

"سنن أبي داود"(4/ 181 رقم 4531).

(3)

"سنن ابن ماجه"(2/ 895 رقم 2685).

ص: 347

وأما السريَّة: فقال ابن السكيت: هي ما بين [خمسة](1) إلى ثلثمائة. وقال الخليل: هي نحو أربعمائة، وهو الأظهر، وقد جاء في الخبر "خير السرايا أربعمائة"(2).

وأما حديث ما روي عن عمران بن الحصين رضي الله عنه فأخرجه البيهقي في "سننه"(3) وفي كتابه "الخلافيات": أنا أبو بكر بن الحسن وأبو زكرياء بن أبي إسحاق وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالوا: ثنا أبو العباس محمَّد بن يعقوب، ثنا بحر بن نصر، ثنا ابن وهب، أخبرني يزيد بن عياض، عن عبد الملك بن عبيد، عن خرينق بنت الحصين، عن أخيها عمران بن الحصين قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: ألم تر إلى ما صنع صاحبكم هلال بن أمية؟! لو قتلت مؤمنًا بكافر لقتلته فَدُوه، فَوَدَّيْناه وبنو مدلج معنا، فجاءوا بغنم غفر لم أر أحسن منها ألوانًا، وكانت بنو مدلج حلفاء بني كعب في الجاهلية".

قلت: يزيد بن عياض متروك، قاله الذهبي.

وأما ما روي عن معقل بن يسار فأخرجه أبو أحمد بن (4) عدي الحافظ، نا عمر بن سنان، نا إبراهيم بن سعيد، نا أنس بن عياض، عن عبد السلام بن أبي الجنوب، عن الحسن، عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا يُقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، والمسلمون يدٌ على من سواهم، تتكافأ دماؤهم".

وأخرجه البيهقي من طريقه (5).

(1) في "الأصل، ك": خمسمائة، وهو خطأ، والمثبت من "هدي الساري"(1/ 131)، و"شرح الزرقاني"(3/ 17).

(2)

رواه أبو داود في "سننه"(2/ 42 رقم 2611)، والترمذي في "جامعه"(4/ 125 رقم 1555)، وأحمد في "مسنده"(1/ 294 رقم 2682)، وغيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنه.

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(8/ 29 رقم 15692).

(4)

"الكامل لابن عدي"(5/ 332 رقم 1487).

(5)

"سنن البيهقي الكبرى"(8/ 30 رقم 15694).

ص: 348

قلت: عبد السلام متروك. قاله الذهبي.

وأما ما روي عن عائشة رضي الله عنها فأخرجه البيهقي في "سننه"(1) وفي كتابه "الخلافيات": أنا أبو سعيد الصيرفي، نا أبو العباس، نا محمَّد بن سنان، نا عبيد الله ابن عبد المجيد، نا ابن موهب -يعني- عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب قال: سمعت مالكًا، عن ابن أبي الرجال، عن أبيه، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"وجد في قائم سيف رسول الله عليه السلام كتابان، فذكر أحدهما، قال: وفي الآخر: المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، لا يُقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده، ولا يتوارث أهل ملتين، ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ولا تسافر المرأة ثلاث ليال إلا مع ذي رحم محرم".

قلت: محمَّد بن سنان بن يزيد بن الذيال أبو الحسن القزاز البصري، قال عبد الرحمن بن خراش: هو كذاب. وكان أبو داود يُطلق عليه الكذاب.

ثم العجب من البيهقي يذكر مثل هذا الحديث في "سننه" وفي كتابه "الخلافيات" وغيرهما في معرض الاستدلال لإمامه، ثم يسكت عن بيان علته، وأعجب منه أنه استدل ببعض هذا الحديث وترك بعضه، فإنه عجيب عجيب.

وأما ما روي عن مجاهد ومن معه فأخرجه الشافعي في "مسنده"(2): أنا مسلم بن خالد، عن ابن أبي حسين، عن عطاء وطاوس -أحسبه قال: ومجاهد والحسن- أن رسول الله عليه السلام قال يوم الفتح: "لا يُقتل مؤمن بكافر".

قلت: مسلم بن خالد شيخ الشافعي، قال ابن المديني: ليس بشيء. وقال الرازي: لا يُحتج به. وقال النسائي: ضعيف. وقال البخاري: منكر الحديث.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(8/ 29 رقم 15693).

(2)

"مسند الشافعي"(1/ 190 رقم 925).

ص: 349

ولئن سلمنا صحة إسناد هذا، فالشافعي لا يقبل مرسل عطاء وطاوس ومجاهد والحسن وغيرهم، سوى مراسيل سعيد بن المسيب رحمه الله.

ص: حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، أنه قال: أخبرني سعيد بن المسيب، أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال حين قُتل عمر رضي الله عنه:"مررت على أبي لؤلؤة ومعه الهرمزان، فلما بعثهم ثاروا، فسقط من بينهم خنجر له رأسان ومَمْسكة في وسطه فانظروا لعله الخنجر الذي قتل به عمر رضي الله عنه، فنظروا فإذا هو الخنجر الذي وصف عبد الرحمن، فانطلق عبيد الله بن عمر حين سمع ذلك من عبد الرحمن ومعه السيف حتى دعى الهرمزان، فلما خرج إليه قال: انطلق حتى ننظر إلى فرس لي، ثم تأخر عنه حتى إذا مضى بين يديه علاه بالسيف، فلما وجد مس السيف قال: لا إله إلا الله. قال عبيد الله: ودعوت جفينة -وكان نصرانيًّا من نصارى الحيرة- فلما خرج علوته بالسيف فصلب بين عينيه، ثم انطلق عبيد الله يقتل ابنة أبي لؤلؤة صغيرة تدعي الإِسلام، فلما استخلف عثمان رضي الله عنه دعى المهاجرين والأنصار فقال: أشيروا عليَّ في قتل هذا الرجل الذي فتق في الدين ما فتق، فأجمع المهاجرون فيه على كلمة واحدة يأمرونه بالشد عليه، ويحثون عثمان رضي الله عنه على قتله، وكان فوج الناس الأعظم مع عبيد الله يقولون لجفينة والهرمزان أبعدهما الله، فأكثر في ذلك الاختلاف، ثم قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، إن هذا الأمر قد أغناك الله من أن تكون بعدما قد بويعت، فإنما كان ذلك قبل أن يكون لك على الناس سلطان، فأعرض عن عبيد الله، وتفرق الناس على خطبة عمرو بن العاص، وودي الرجلان والجارية".

ففي هذا الحديث أن عبيد الله قتل جفينة وهو مشرك، وضرب الهرمزان وهو كافر، ثم كان إسلامه بعد ذلك، فأشار المهاجرون على عثمان رضي الله عنه بقتل عبيد الله وعليٌّ رضي الله عنه فيهم فمحال أن يكون قول النبي عليه السلام:"لا يقتل مؤمن بكافر" يراد به

ص: 350

غير الحربي، ثم يشير المهاجرون وفيهم علي رضي الله عنه على عثمان رضي الله عنه بقتل عبيد الله بكافر ذمي، ولكن معناه هو على ما ذكرنا من إرادته الكافر الذي لا ذمة له.

ش: ذكر هذا شاهدًا لصحة تأويل قوله عليه السلام: "لا يُقتل المؤمن بكافر" أي بكافر حربي لا الكافر الذي له عهد وذمة، ولصحة ما ذكر عن علي رضي الله عنه أنه على هذا التأويل.

وأخرجه بإسناد صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا إبراهيم.

وعُقيل -بضم العين وفتح القاف- هو ابن خالد الأيلي.

وابن شهاب: هو محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري.

بيان ذلك: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قتله أبو لؤلؤة قتل عبيد الله بن عمر الهرمزان وجفينة وابنة أبي لؤلؤة الصغيرة، ثم لما ولي عثمان رضي الله عنه الخلافة، أشار المهاجرون كلهم على عثمان بأن يقتل عبيد الله بن عمر، وكان أكثر الناس مع عبيد الله يقولون: أبْعد الله جفينة والهرمزان، كيف يقتل عبيد الله بهما؟! فوقع في ذلك اختلاف كثير بين الناس، ثم أشار عمرو بن العاص على عثمان بالكف عن قتل عبيد الله، لأن قضيته لم تقع في سلطان عثمان رضي الله عنه وإنما كانت قبل أن بُويع له فأغناه الله تعالى عن ذلك، فأعرض عثمان عن عبيد الله، وتفرق الناس على كلام عمرو بن العاص.

ففي هذا أشار المهاجرون على عثمان بقتل عبيد الله لأجل جفينة والهرمزان، والحال أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان فيهم، فكيف يجوز لعلي رضي الله عنه أن يشير مع المهاجرين بقتل عبيد الله، والحال أنه قد روي عن النبي عليه السلام أنه قال:"لا يقتل مؤمن بكافر" وهذا محال في حق علي رضي الله عنه، فلو لم يكن أراد من قوله:"بكافر" الكافر الحربي لما أشار هاهنا فيمن أشار بقتل عبيد الله بكافر ذمي، فدل ذلك على صحة ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية، وانتقى أن يكون في قوله عليه السلام:"لا يقتل مؤمن بكافر" حجَّة تدفع أن يقتل المؤمن بالذمي. والله أعلم.

ص: 351

واعترض البيهقي هاهنا على الطحاوي رحمه الله وقال (1): هذا الذي ذكره الطحاوي ساقط من أوجه:

أحدها: أنه ليس في الحديث الذي رواه في هذا الباب أن عليًّا رضي الله عنه أشار بذلك؛ فإدخاله في جملة من أشار به على عثمان دون رواية موصولة محال.

والثاني: أن في الحديث الذي رواه: أنه قتل أيضًا ابنة لأبي لؤلؤة صغيرة كانت تدعي الإِسلام، وإذا وجب القتل بواحد من قتلاه صحَّ أن يشيروا عليه بالقصاص.

والثالث: أن الهرمزان وإن أقرَّ بالإِسلام حال مسِّه السيف في الخبر الذي رواه الطحاوي؛ فكان قد أسلم قبل ذلك، وهو معروف مشهور فيما بين أهل المغازي، وإنما قال: لا إله إلا الله حين مسَّه السيف تعجبًا أو تبعيدًا لما اتهمه به عبيد الله بن عمر رضي الله عنه، ومن الدليل على إسلامه قبل ذلك: ما أنا أبو الحسين ابن بشران، أبنا أبو الحسن المصري، نا مالك بن يحيى، نا علي بن عاصم، عن داود بن أبي هند، عن عامر، عن أنس بن مالك رضي الله عنه. . . . فذكر قصة قدوم الهرمزان على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وما جرى في أمانه، فقال عمر: أخرجوا هذا عني فسيروه في البحر، قال الهرمزان: فسمعت عمر رضي الله عنه تكلم بكلام بعدي، فقلت للذي سمعه أيْش قال؟ قال: قال: اللهم اكسر به، قال: فلما حمل في السفينة، فسارت السفينة غير بعيد، ففتح ألواح السفينة، فقال الهرمزان: فوقعت في البحر، فذكرت قوله أنه لم يقل: اللهم غرِّقه، فرجوت أن أنجو، فسبحت فنجوت، فأسلم".

فهذأ أنس بن مالك قد أخبر بإسلامه قبل ذلك بزمان.

وأخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، ثنا أبو العباس الأصم، أبنا الربيع، أنا الشافعي، أبنا الثقفي، عن حميد، عن أنس بن مالك قال: "حصرنا تستر، فنزل

(1) معرفة السنن والآثار (6/ 270) ووقع خطأ في ترتيب الكتاب في النسخة المطبوعة، وجاء باقي الكلام من أول قوله: الثالث في (6/ 147).

ص: 352

الهرمزان على حكم عمر رضي الله عنه. . . . فذكر الحديث في قدومه على عمر رضي الله عنه وما جرى في أمانه، قال أنس:"وأسلم وفرض له" يعني أسلم الهرمزان وفرض له عمر رضي الله عنه.

وأخبرنا أبو سعيد، قال: ثنا أبو العباس الأصم، ثنا الحسن بن علي بن عفان، ثنا يحيى بن آدم، ثنا الحسن بن صالح، عن إسماعيل بن أبي خالد قال:"فرض عمر رضي الله عنه للهرمزان دهقان الأهواز ألفين حين أسلم".

وأخبرنا الحسن بن الفضل القطان، أنا عبد الله بن جعفر، نا يعقوب بن سفيان، ثنا الحميدي، ثنا سفيان، نا عمرو بن دينار، عن ابن شهاب، عن عبد الله بن خليفة قال:"رأيت الهرمزان مع عمر بن الخطاب رافعًا يديه يهلل ويكبر".

ثم قال البيهقي: ولو اقتصر هذا الشيخ على ما اقتصر به مشايخه لم يقع له هذا الخطأ الفاحش لكنه يغرب ويخطئ، ولا يستوحش من رد الأخبار الصحيحة ومعارضتها بأمثال هذا.

قلت: أما عن الوجه الأول: فهو أن يقال إنه ساقط؛ لأن مثل هذه القضية التي فيها أعظم الأمور وهو حِلّ دم مثل عبيد الله بن عمر بن الخطاب يستحيل أن يخلو عنها علي بن أبي طالب الذي هو من أكبر المهاجرين، وقد أخبر عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق في حديثه:"أن عثمان رضي الله عنه دعى المهاجرين والأنصار، وقال: أشيروا عليّ في قتل هذا الرجل. . . . إلى آخره" فكيف يجوز أن يتخلف علي عن هؤلاء؟ أم كيف يجوز على عثمان أن لا يدعوه؟ وهذا من المحال.

وأما عن الثاني: فهو أن يقال: إن في حديث عبد الرحمن ما يدل على أنه أراد قتله بجفينة وهذا جواب سؤالين ذكرهما الطحاوي على ما يجيء عن قريب، أخذ البيهقي سؤاله واعترض على الطحاوي وذهل عن جوابه، فلو تذكره لما أورده عليه.

ص: 353

وأما عن الثالث: فهو أن يقال: إن الأخبار التي رواها التي فيها إسلام الهرمزان قبل أن يقتله عبيد الله بن عمر يعارضها خبر سعيد بن المسيب وهو أقوى وأصح من هذه، فسقط الاحتجاج بها والاعتراض على الطحاوي، على أن في سند الخبر: مالك بن يحيى بن عمرو. قال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج بأفراده.

وفيه علي بن عاصم، قال يزيد بن هارون: ما زلنا نعرفه بالكذب. وقال يحيى: ليس به. شيء. وقال النسائي: متروك الحديث.

وفي سند الخبر الأخير عبد الله بن خليفة، قال الأزدي: تكلموا فيه.

فهذا البيهقي يأتي بمثل هذه الأخبار ثم يعارض بها الخبر الصحيح ثم يقول: "ولو اقتصر هذا الشيخ. . . ." إلى آخر ما قال، ولو اقتصر هو عن مثل هذا الكلام لكان أحسن وأبعد له من نسبته إلى التعصب الفاسد، والإتيان بالمتاع الكاسد.

قوله: "خبر قتل عمر رضي الله عنه" وكان قتله وهو قائم يصلي في المحراب صلاة الصبح من يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة من سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، قتله أبو لؤلؤة، واسمه فيروز المجوسي الأصل الرومي الدار، غلام المغيرة بن شعبة بخنجر ذات طرفين، فضربه ثلاث ضربات، وقيل: ست ضربات إحداهن تحت سرته فقطعت السفاق فخر من قامته، واستخلف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ورجع العلج بخنجره لا يمر بأحد إلا ضربه، حتى ضرب ثلاثة عشر رجلًا مَات منهم ستة، فألقى عليه عبد الله بن عوف بُرْنُسا فانتحر نفسه، وحمل عمر رضي الله عنه إلى منزله والدم يسيل من جرحه وذلك قبل طلوع الشمس فجعل يفيق ثم يغمى عليه، ثم يُذَكِّرونه بالصلاة فيفيق ويقول: نعم، ولا حظ في الإِسلام لمن تركها، ثم صلى في الوقت ثم سأل عمن قتله من هو؟ فقالوا: أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، فقال: الحمد لله الذي لم يجعل مَنيَّتي على يدي رجل يدعي الإيمان، ولم يسجد لله سجدة، ثم قال: قبحه الله،

ص: 354

لقد كنا أمرنا به معروفًا، وكان المغيرة قد ضرب عليه في كل يوم درهمين، ثم سأل من عمر أن يزيد في خراجه، فإنه نجار نقاش حداد فزاد في خراجه إلى مائة في كل شهر، وقال: لقد بلغني أنك تحسن أن تعمل رحًى تدور بالهواء فقال أبو لؤلؤة: أما والله لأعملن لك رحًى يتحدث الناس بها في المشارق والمغارب، وكان هذا الكلام يوم الثلاثاء عشيةً، وطعنه صبيحة الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة من سنة ثلاث وعشرين، وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وخمس ليال، وعمره يوم مات: خمس وستون، وقيل: ست، وقيل: سبع وعن ابن عباس: ست وستون، وصلى عليه صهيب الرومي.

وقال ابن أبي شيبة في "مصنفة"(1): ثنا وكيع عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون قال:"كنت أدع الصف الأول هيبة لعمر رضي الله عنه، وكنت في الصف الثاني يوم أصيب، فجاء فقال: الصلاة عباد الله، استووا، قال: فصلى بنا، فطعنه أبو لؤلؤة طعنتين أو ثلاثًا، قال: وعلى عمر رضي الله عنه ثوب أصفر، قال: فجمعه على صدره ثم أهوى وهو يقول: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} (2)، فقَتَل وطعن ثلاثة عشر -أو اثني عشر- قال: ومال الناس عليه، فاتكأ على خنجره فقتل نفسه".

قوله: "ومعه الهرمزان" وهو الهرمزان صاحب تستر، وكان مجوسيًّا، ولما فتحت الصحابة مدينة تستر في سنة سبع عشرة من الهجرة أسروا الهرمزان هذا، وسيروه مع الجيش على يد وفد فيهم أنس بن مالك خادم النبي عليه السلام إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما بعثهم ثاروا -أي: فلما فاجأهم نهضوا وقاموا- يقال: بَعَثَهُ يَبعَثُهُ بَعْثًا أي فاجأه، ويقال: ثار الشيء يثور إذا انتشر وارتفع.

قوله: "ومَمْسَكه" بفتح الميم وهو موضع المسك.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(7/ 438 رقم 37068).

(2)

سورة الأحزاب، آية:[38].

ص: 355

قوله: "ودعوت جُفَيْنة" بضم الجيم وفتح الفاء وسكون الياء آخر الحروف بعدها نون مفتوحة وفي آخره هاء، وكان نصرانيًّا من أهل الحيرة، وكان قد مالا هو والهرمزان أبا لؤلؤة على قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

قوله: "فصَلَّب بين عينيه" بالصاد المهملة وتشديد اللام وفي آخره باء موحدة، ومعناه: ضربه على عرضه حتى صارت الضربة كالصليب.

قوله: "فلما استخلف عثمان" كان استخلافه يوم الاثنين لليلةٍ بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، كذا قاله الواقدي. وأول حكومة حكم فيها بقضية عبيد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

قوله: "الذي فتق" أصل الفتق: الشق، قال تعالى:{كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} (1) وأراد به هاهنا نقض العهد وهتك أمر الشريعة.

قوله: "وكان فوج الناس" الفوج: الجماعة من الناس.

و"الأعظم" بالرفع صفة للفوج.

قوله: "أبعدهما الله" أي أهلكهما الله، من البَعَد -بفتحتين- وهو الهلاك.

قوله: "وودى الرجلان" أي: أدى ديتهما، مِن ودَاه يَدِيَهُ ديةً، وقد ذكرناها مرةً.

ص: فإن قال قائل: ففي هذا الحديث أن عبيد الله قتل ابنة لأبي لؤلؤة صغيرةً تدعي الإِسلام، فيجوز أن يكون إنما استعجلوا سفك دم عبيد الله بها لا بجفينة والهرمزان.

قيل له: في هذا الحديث ما يدل على أنه أراد قتله بجفينة والهرمزان وهو قولهم: أبعدهما الله، فمحال أن يكون عثمان رضي الله عنه أراد أن يقتله بغيرهما، ويقول الناس له: أبعدهما الله، ثم يقول لهم: إني لم أرد قتله بهذين، إنما أردت

(1) سورة الأنبياء، آية:[30].

ص: 356

قتله بالجارية، ولكنه أراد قتله بهما وبالجارية، ألا تراه يقول: فأكثر في ذلك الاختلاف، فكيف يكثر الاختلاف في ابنة أبي لؤلؤة وهي صغيرة، ولا نعلم خلافًا أنه يقتل المؤمن بالطفل الصغير.

فدل ذلك أن عثمان رضي الله عنه إنما أراد قتله بمن قتل وفيهم الهرمزان وجفينة، فقد ثبت بما ذكرنا ما صحح عليه معنى هذا الحديث أن معنى حديث علي رضي الله عنه الأول على ما وصفنا، فانتفى أن يكون فيه حجة تدفع أن يقتل المسلم بالذمي.

ش: هذا السؤال وجوابه ظاهران. وهذا السؤال الذي أخذه البيهقي وجعله مطعنًا في حق الطحاوي وترك جوابه ولم يتأمل فيه؛ إذ لو لاحظ الجواب لما أقدم إلى الطعن بما طعنه من غير وجه.

ص: وقد وافق ذلك أيضًا وشده ما قد روي عن النبي عليه السلام وإن كان منقطعًا: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سليمان بن بلال، عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن البيلماني "أن رسول الله عليه السلام أتى برجل من المسلمين قد قَتَل معاهًدا من أهل الذمة، فأمر به فضربت عنقه، وقال: أنا أولى من وفى بذمته".

حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا يحيى بن سلام، عن محمَّد بن أبي حميد المدني، عن محمَّد بن المنكدر، عن النبي عليه السلام مثله.

ش: أي قد وافق ما ذكرناه من التأويل في حديث علي بن أبي طالب من أن المراد من الكافر في قوله: "لا يقتل مؤمن بكافر" هو الكافر الحربي لا المعاهد، وشده -أي أحكمه- ما قد روي عن النبي عليه السلام، وإن كان منقطعًا، فالمنقطع وإن لم يتم به الاستدلال ولكنه يصلح شاهدًا ومؤيدًا وشادًّا، وهذان مرسلان منقطعان، ورجالهما ثقات.

الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن سليمان بن بلال القرشي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن المدني المعروف بربيعة

ص: 357

الرأي، شيخ مالك، عن عبد الرحمن بن البيلماني، مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وأخرجه أبو داود في "المراسيل": (1) ثنا محمَّد بن داود بن أبي ناجية الاسكندراني، ثنا ابن وهب، حدثني سليمان بن بلال، حدثني ربيعة، عن عبد الرحمن بن البيلماني حدثه:"أن رسول الله عليه السلام أتي برجل. ." إلى نحوه.

الثاي: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن يحيى بن سلام بن أبي ثعلبة التميمي البصري نزيل مصر، عن محمَّد بن أبي حميد إبراهيم الزرقي الأنصاري، عن محمَّد بن المنكدر بن عبد الله المدني.

وأخرجه ابن حزم (2): من حديث يحيى بن سلام، عن محمَّد بن أبي حميد، عن ابن المنكدر، عن النبي عليه السلام نحوه. ثم قال: وهما مرسلان ولا حجة في مرسل.

وأخرج البيهقي (3) من حديث ابن البيلماني مرفوعًا متصلًا: أنا أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، أنا علي بن عمر الحافظ، ثنا الحسن بن أحمد بن سعيد الرهاوي، أخبرني جدي سعيد بن محمَّد الرهاوي، أن عمار بن مطر حدثهم، ثنا إبراهيم بن محمَّد الأسلمي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن ابن البيلماني، عن ابن عمر رضي الله عنهما "أن رسول الله عليه السلام قتل مسلمًا بمعاهد، وقال: أنا أكرم مَن وفى بذمته". ثم قال البيهقي: أخطأ عمار بن مطر في إسناد هذا الحديث من وجهين:

أحدهما: في قوله: عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وإنما يرويه إبراهيم بن محمَّد بن المنكدر، عن عبد الرحمن بن البيلماني.

والآخر: في ذكر ابن عمر فيه، وإنما رواه إبراهيم بهذا الإسناد مرسلًا دون ذكر ابن عمر فيه، وهذا غير مستساغ من عمار بن مطر الرهاوي، فقد كان

(1)"مراسيل أبي داود"(1/ 207 رقم 250).

(2)

"المحلى"(10/ 351).

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(8/ 30 رقم 9).

ص: 358

يقلب الأسانيد ويسرق الأحاديث، حتى كثر ذلك في رواياته، وسقط عن حد الاحتجاج به.

قلت: المنقطع إذا روي من وجه آخر متصلًا كان حجةً، والاعتبار لمن وصله لا لمن قطعه، ولكن الصواب هاهنا الانقطاع، لأن عمار بن مطر متروك الحديث، وقد قلنا: إن المنقطع إذا كان إسناده صحيحًا يصلح للاستشهاد والتقوية. والله أعلم.

ص: والنظر عندنا شاهد لذلك أيضًا، وذلك أنَّا رأينا الحربي دمه حلال وماله حلال، فإذا صار ذميًّا حرم دمه وماله كحرمة دم المسلم ومال المسلم، ثم رأينا من سرق من مال الذمي -ما يجب فيه القطع- قطع كما يقطع في مال المسلم، فلما كانت العقوبات في انتهاك المال الذي قد حرم بالذمة كالعقوبات في انتهاك المال الذي حرم بالإِسلام؛ كان في النظر أيضًا أن تكون العقوبة في الدم الذي قد حرم بالذمة كالعقوبة في الدم الذي حرم بالإِسلام.

ش: أي القياس عندنا شاهد لما ذكرنا من أن المسلم يقتل بالذمي، وبينه بقوله:"وذلك أنا رأينا. . . ." إلى آخره، وهو ظاهر.

وقد اعترض ابن حزم على قوله: "ثم رأينا من سرق من مال الذمي. . . ." إلى آخره، فقال: هذا قياس فاسد، لأن القصاص للمسلم من الذمي حق للذمي عندهم، له طلبه، وله تركه والعفو عنه، وليس كذلك القطع في السرقة؛ لأن القطع فيها ليس هو من حقوق المسروق منه المال ولا له طلبه دون غيره، ولا له العفو عنه، إنما هو حق الله عز وجل أمر به، شاء المسروق منه أو أبى، فلا سبيل فيه للذمي على المسلم أصلًا.

قلت: ليس القياس المذكور من الوجه الذي فهمه ابن حزم، وإنما هو من وجه آخر، وهو استواء العقوبة في الدم الذي قد حرم بعقد الذمة بالعقوبة في الدم الذي قد حرم بالإِسلام، قياسًا على استواء العقوبة في انتهاك المال الذي قد

ص: 359

حرم بعقد الذمة بالعقوبة في انتهاك المال الذي قد حرم بالإسلام، ولا شك أن دم الرجل وماله في الحرمة سواء، على أن القطع في السرقة وإن كان من حقوق الله تعالى، ولكنه لا يظهر إلا من جهة المسروق منه.

ص: فإن قال قائل: فإنا قد رأينا العقوبات الواجبات في انتهاك حرمة الأموال قد فُرِّق بينها وبين العقوبات الواجبات في انتهاك حرمة الدم، وذلك أنا رأينا العمد يسرق من مال مولاه فلا يُقطع، ويَقْتُل مولاه فيُقْتَل، فَفُرق بين ذلك، فما تنكرون أيضًا أن يكون قد فرق بين ما يجب في انتهاك مال الذمي ودمه؟

قيل له: هذا الذي ذكرت قد زاد ما ذهبنا إليه توكيًدا؛ لأنك ذكرت أنهم أجمعوا أن العبد لا يُقطع في مال مولاه، وأنه يقتل بمولاه وبعبد مولاه، فما وصفت من ذلك كما ذكرت فقد خففوا أمر المال ووكدوا أمر الدم، فأوجبوا العقوبة في الدم حيث لم يوجبوها في المال.

فلما ثبت توكيد أمر الدم وتخفيف أمر المال، ثم رأينا مال الذمي يجب في انتهاكه على المسلم من العقوبة كما يجب عليه فيه انتهاكه مال المسلم، كان دمه أحرى أن يكون عليه في انتهاك حرمته من العقوبة ما يكون عليه في انتهاك دم المسلم، وقد أجمعوا أن ذميًّا لو قتل ذميًّا ثم أسلم القاتل، أنه يقتل بالذمي الذي قتله في حال كفره، ولا يبطل ذلك بإسلامه.

فلما رأينا الإِسلام الطارئ على القتل لا يبطل القتل الذي كان في حال الكفر، وكانت الحدود تمامها أخذها ولا يؤخذ على حال لا يجب في البدء مع تلك الحال، ألا ترى أن رجلا لو قتل رجلا والمقتول مرتد أنه لا يجب عليه شيء، وأنه لو جرحه وهو مسلم ثم ارتد فمات منها لم يقتل، فصارت ردته التي تقدمت الجناية والتي طرأت عليها في درء القتل سواء، فكان كذلك في النظر: أن يكون القاتل قبل جنايته وبعد جنايته سواء، فلما كان إسلامه بعد جنايته قبل أن يُقْتل بها، لا يدفع عنه القود، كان كذلك إسلامه المتقدم لجنايته لا يدفع عنه القود. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ص: 360

ش: تقرير السؤال أن يقال: إن القياس الذي ذكرته قياس بالفارق، والدليل عليه: أنه قد فرق بين سرقة العبد من مولاه وبين قتله إياه، حيث لا يجب القطع في السرقة ويجب القصاص في القتل، فكذلك يُفرق بين مال الذمي ودمه، فيجب الضمان في ماله ولا يجب القصاص في دمه.

وهذا السؤال قريب من اعتراض ابن حزم الذي ذكرناه آنفًا، والجواب عنه ظاهر مبسوط.

قوله: "وقد أجمعوا أن ذميًّا. . . ." إلى آخره. حاصل ذلك أن أهل المقالة الأولى قد وافقوا أهل المقالة الثانية على أن ذميًّا لو قتل ذميًّا ثم أسلم فإنه لم يسقط عنه القود بإسلامه، فلو كان الإِسلام مانعًا من القصاص ابتداء لمنعه إذا طرأ بعد وجوبه قبل استيفائه ألا ترى أنه لما لم يجب القصاص للابن على الأب إذا قتله، كان ذلك حكمه إذا ورث من أبيه القود من غيره، فمنع ما عرض من ذلك من استيفائه كما منع ابتداء وجوبه، فكذلك لو قتل مرتدًّا لم يجب القود، ولو جرحه وهو مسلم ثم ارتد ثم مات من الجراحة سقط القود، فاستوى فيه حكم الابتداء والبقاء فلو لم يجب القتل بدءًا لما وجب إذا أسلم بعد القتل.

وهاهنا شيء آخر من وجوه النظر: وهو أنه لما كان المعنى في إيجاب القصاص ما أراده الله بقاء حياة الناس بقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (1) وهذا المعنى موجود في الذمي، لأن الله تعالى قد أراد بقاءه حين حقن دمه بالذمة، وجذب أن يكون ذلك موجبًا للقصاص بينه وبين المسلم كما يوجب في قتل بعضهم بعضًا.

فإن قلت: يلزمك على هذا قتل المسلم بالحربي المستأمن، لأنه محظور الدم.

قلت: ليس كذلك، بل هو مباح الدم إباحة مؤجلة، ألا ترى أنا لا نتركه في دار الإِسلام ويلحقه بمأمنه، والتأجيل لا يزيل عنه الإباحة، كالثمن المؤجل لا يخرجه العاجل عن وجوبه، فافهم.

(1) سورة البقرة، آية:[179].

ص: 361

ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن عبد الملك ابن ميسرة، عن النَزَّال بن سبرة قال:"قتل رجل من المسلمين رجلًا من العباد فذهب أخوه إلى عمر رضي الله عنه، فكتب عمر رضي الله عنه أن يُقتل، فجعلوا يقولون: اقتل حُنين فيقول: حتى يجيء الغيظ، قال: فكتب عمر رضي الله عنه أن يودى ولا يُقتل".

فهذا عمر رضي الله عنه قد رأى أيضًا أن يقتل المسلم بالكافر، وكتب به إلى عماله بحضرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يُنكر عليه منهم منكر. فهذا عندنا منهم على المتابعة له على ذلك، وكتابه بعد هذا:"لا يُقتل" فيحتمل أن يكون ذلك كان منه على أنه كره أن يبيحه دمه، لما كان من وقوفه على قتله، وجعل ذلك شبهة منعه بها من القتل، وجعل له ما يجعل في القتل العمد الذي يدخله شبهة، وهو الدية.

ش: ذكر ذلك الأثر أيضًا شاهدًا لصحة ما قاله أهل المقالة الثانية.

وأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة الهلالي العامري، عن النَزَّال بن سبرة الهلالي العامري المختلف في صحبته.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" من وجهين:

الأول (1): عن علي بن مسهر، عن الشيباني، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة قال:"قتل رجل من فرسان أهل الكوفة عباديًّا من أهل الحيرة، فكتب عمر رضي الله عنه أن أقيدوا لأخيه منه، فدفعوا الرجل إلى أخي العبادي فقتله، ثم جاء كتاب عمر رضي الله عنه: أن لا تقتلوه، وقد قتله".

الثاني (2): عن وكيع، عن محمَّد بن قيس الأسدي، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة "أن رجلًا من المسلمين قتل رجلًا من أهل الحيرة، فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب عمر: أن اقتلوه به، فقيل لأخيه حنين: اقتله،

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 408 رقم 27463).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 409 رقم 27470).

ص: 362

قال: حتى يجيء الغضب، قال: فبلغ عمر أنه من فرسان المسلمين، قال: فكتب: أن لا تقيدوه به، قال: فجاءه الكتاب وقد قتل".

وأخرجه الجصاص في "أحكامه": (1) ثنا عبد الباقي بن قانع، ثنا معاذ بن المثنى، قال: ثنا عمرو بن مرزوق، قال: ثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال ابن سبرة:"أن رجلًا من المسلمين قتل رجلًا من العباديين، فقدم أخوه على عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فكتب عمر أن يُقتل، فجعلوا يقولون: يا حنين اقتل، فجعل يقول: حتى يأتي الغيظ، قال: فكتب عمر رضي الله عنه: أن لا يقتل ويودى". قال الجصاص: ويروى في غير هذا الحديث أن الكتاب وَرَدَ بعد أن قتل، وأنه إنما كتب أن يسأل الصلح على الدية حين كتب إليه أنه من فرسان المسلمين".

وأخرجه البيهقي في كتاب "الخلافيات": أنبأني أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو الوليد، ثنا ابن زهير، ثنا علي بن خشرم، ثنا عيسى، عن شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة قال:"قتل رجل من المسلمين يهوديًّا، فركب أخوه إلى عمر رضي الله عنه، فكتب عمر رضي الله عنه: أن يُقيده، فجعل يقول: اقتل، فيقول: لا، حتى يجيء الغيظ، فكتب عمر رضي الله عنه: أن لا يقاد وأن يودى".

قوله: "رجلًا من العَباد" بفتح العين المهملة، والباء الموحدة المخففة، وبعد الألف الساكنة دال مهملة.

والعَبَاد: قبائل شتى من بطون العرب، اجتمعوا على النصرانية بالحيرة، والنسبة إليهم: عَبَادي.

قوله: "فذهب أخوه" أي أخو المقتول، واسمه حنين، وهو المذكور في قوله:"فجعلوا يقولون: اقتل حنين" يعني اقتل يا حنين قاتل أخيك.

قوله: "فيقول" يعني حنين: "حتى يجيء الغيظ" يعني الغضب.

(1)"أحكام القرآن" للجصاص (1/ 175).

ص: 363

قوله: "فكتب عمر أن يودى" أي تؤخذ الدية من القاتل، من وَدَى يَدِي دَيَة.

قوله: "إلى عماله" بضم العين وتشديد الميم: جمع عامل، وهو المتولي على موضع.

قوله: "على المتابعة منهم" أي من الصحابة له، أي لعمر.

"على ذلك" أي على قوله أن يقتل ذلك المسلم لأجل ذلك العبادي النصراني؛ وإنما قال ذلك تنبيهًا على أن عدم إنكار الصحابة لعمر في هذه القضية لم يكن إلا لأجل المتابعة منهم له فيما ذهب إليه من قتل المسلم بالذمي، ولم يكن سكوتهم لعلة غير ذلك؛ لأنه لا يُظَن في حقهم السكوت عن الحق ولا مراعاة أحد فيه.

قوله: "وكتابه بعد هذا ألَّا يقتل" جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: استدلالكم بهذا الأثر لا يتم؛ لأن عمر رضي الله عنه قد رجع عما أمر به من قتل ذلك المسلم بذلك العَبَادي، ورجوعه عن ذلك يدل على أنه قد ظهر عنده ما يمنعه من جواز ذلك.

وتقرير الجواب أن يقال: إن كتابه بترك قتله بعد كتابه بقتله، لاحتمال أن يكون قد ثبت عنده بعد كتابه بالقتل ما أوقفه على أن ذلك القتل كان فيه شبهة يدفع بها القود، فجعل ذلك كقتل العمد الذي فيه شبهة، فأوجب فيه الدية، هذا الذي ذكره الطحاوي.

وأما الذي ذكره الجصاص: أن كتابه بترك القتل لم يكن لظهور ما ينفي القتل عنده، وإنما كان لأجل ما بلغه أن القاتل كان من فرسان المسلمين، فكتب أن يسأل الصلح عن أخي المقتول، ثم يودى بعد وقوع الصلح. وعك كل حال قد وُجِدَ قتل مسلم بسبب ذمي في زمن الصحابة رضي الله عنهم.

ص: وقد قال أهل المدينة: إن المسلم إذا قَتَل الذمي فتلَ غَيْلَةٍ على ماله، أنه يقتل به، فهذا كان هذا عندهم خارجًا من قول النبي عليه السلام:"لا يُقتل مسلم بكافر" فما تنكرون على مخالفيكم أن يكون كذلك الذمي المعاهد خارجًا من قول النبي عليه السلام: "لا يُقتل مسلم بكافر"، والنبي عليه السلام فلم يشترط من الكفار أحدًا،

ص: 364

فلما كان لهم أن يخرجوا من الكفار من أريد ماله، كان لمخالفيهم أن يخرج أيضًا من وجبت ذمته.

ش: مذهب أهل المدينة -منهم مالك بن أنس: أن المسلم لا يقاد بالذمي إلا أن يقتله غيلة أو حرابة، وإليه ذهب الليث بن سعد.

قال الطحاوي رحمه الله: فإذا كان هذا خارجًا من عموم قوله عليه السلام: "لا يُقتل مسلم بكافر"، ويخص به هذا العام على زعمهم، فكيف ينكرون على من يخصه أيضًا بذمي الذي وجبت ذمته؟! وكيف يسوغ إنكارهم على هؤلاء بعد ذلك؟ فما كان جوابهم في هذا، فهو جوابنا بعينه، فافهم.

ص: 365