الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: غرة الجنين المحكوم بها فيه. لمن هي
؟
ش: أي هذا باب في بيان حكم الغرة التي تجب لأجل الجنين، يكون الثمن لأم الجنين أم لمن يرث الجنين لو كان حيًّا؟ وقد مرتا -الغرة والجنين- في باب: شبه العمد الذي لا قود فيه.
ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة:"أن امرأتين من هُذيل رمت إحداهما الأخرى بحجر، فطرحت جنينها، فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو وليدة".
حدثنا يونس، قال: أنا شعيب بن الليث، عن أبيه، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال:"قضى رسول الله عليه السلام في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتًا بغرة عبد أو أمة، وأن التي قضى عليها بالغرة توفيت، فقضى رسول الله عليه السلام أن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها".
حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال:"قضى رسول الله في الجنين بغرة عبد أو أمة، فقال الذي قضى عليه العقل: كيف يدي مَن لا شرب ولا أكل، ولا صاح فاستهل، فمثل ذلك يطل، فقال رسول الله عليه السلام: إن هذا يقول يقول شاعر. فيه غرة عبد أو أمة".
ش: هذه ثلاث طرق صحاح:
الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح. عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة.
وقد أخرجه الطحاوي مرةً في باب: شبه العمد الذي لا قود فيه، عن يونس، عن ابن وهب، عن يونس بن زيد، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
وأخرجه البخاري (1) ومسلم (2) وقد ذكرناه.
الثاني: عن يونس أيضًا، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.
وأخرجه أبو داود (3) والترمذي (4): كلاهما عن قتيبة، عن الليث. . . . إلى آخره نحوه.
الثالث: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن محمَّد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة.
وأخرجه ابن ماجه: (5) نا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا محمَّد بن بشر، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال:"قضى رسول الله عليه السلام في الجنين بغرة عبد أو أمة، فقال الذي قضي عليه: أنعقل من لا شرب ولا أكل، ولا صاح ولا استهل مثل ذلك يطل؟! فقال رسول الله عليه السلام: إن هذا ليقول بقول شاعر، فيه غرة عبد أو أمة".
وأخرجه الترمذي (6): عن علي بن سعيد الكندي، عن ابن أبي زائدة، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، نحوه.
(1)"صحيح البخاري"(5/ 2172 رقم 5427).
(2)
"صحيح مسلم"(3/ 1309 رقم 1681).
(3)
"سنن أبي داود"(2/ 602 رقم 4577).
(4)
"جامع الترمذي"(4/ 426 رقم 2111).
(5)
"سنن ابن ماجه"(2/ 882 رقم 2639).
(6)
"جامع الترمذي"(4/ 23 رقم 1410).
وقال: حديث حسن.
قوله: "أن امرأتين من هذيل" قد ذكرنا أن اسم إحداهما مُليكة، واسم الأخرى: أم غُطيف.
و"هذيل": وابن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
قوله: "بغرة عبد" يتعلق بقوله: "قضى"، وعبد بالجر عطف بيان عن الغرة.
قوله: "أو وليدة" أي: أو جارية، وهذا محمول على التفسير لا على الشك عند الجمهور، فافهم.
قوله: "من بني لحيان" بكسر اللام وفتحها وهو لحيان بن هذيل بن مدركة، ولحيان قبيل من هذيل، فلذلك جاء في رواية:"امرأتان من هذيل"، وفي أخرى:"من بني لحيان".
قوله: "وأن العقل" أي: الدية "على عصبتها" أي: عصبة المرأة القاتلة.
قوله: "فقال الذي قضى عليه العقل": أي: الدية، وهو على صيغة المجهول.
قوله: "كيف ندي" من ودى يدي، أي: كيف نُودي دية من لا شرب ولا أكل، ولا صاح أي ولا صوَّت.
قوله: "فاستهل" بالتاء، تفسير لقوله:"صاح" أي: ولا رفع صوته، وكل من رفع صوته فقد استهل.
قوله: "يُطَل" بضم الياء آخر الحروف وفتح الطاء المهملة، من طَلَّ دمه إذا هدر، وروي "بطل" بالباء الموحدة، من البطلان وقد حققنا القول فيه في باب: شبه العمد.
ص: حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيد بن نضلة، عن المغيرة بن شعبة: "أن رجلًا كانت له امرأتان، فضربت إحداهما الأخرى بعمود فسطاط أو بحجر فأسقطت، فرفع ذلك إلى النبي عليه السلام، فقال الذي يخاصم: كيف نعقل -أو كيف
ندِي- من لا صاح فاستهل، ولا شرب ولا أكل؟! فقال النبي عليه السلام: أسجع كسجع الأعراب؟! فجعل رسول الله عليه السلام فيه غرة عبد، وجعله على قومها".
ش: إسناده صحيح.
وأخرجه مرةً في باب: شبه العمد عن الحسين بن نصر، عن الفريابي، عن سفيان، عن منصور. . . . إلى آخره.
وأخرجه الجماعة غير البخاري، وقد بيناه هناك.
قوله: "أن رجلًا كانت له امرأتان" هذا الرجل هو حمل بن مالك بن النابغة الهذلي.
قوله: "أسجع" أي: أكلامك سجع مثل سجع الأعراب؟! وقد استوفينا الكلام فيه في باب: شبه العمد.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن الغرة الواجبة في الجنين إنما تجب لأم الجنين؛ لأن الجنين لم يعلم أنه كان حيًّا في وقوع الضربة بأمه.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: داود وجماعة الظاهرية، ومالكًا في رواية، والشافعي في قول، فإنهم قالوا: غرة الجنين لأم الجنين ليس لأحد معها فيها شيء، وليست هي دية، وإنما هي بمنزلة جناية جني عليها بقطع عضو من أعضائها، ألا ترى أنه لا يعتبر فيه الذكر والأنثى كما يعتبر في الديات؟
وقال داود: الغرة لم يملكها الجنين حتى تورث عنه.
قلت: يرد عليه دية المقتول خطأ، فإنه لم يملكها وتورث عنه.
قال أبو عمر: كان عبد الرحمن بن هرمز يقول: هي لأبويه خاصة، لأبيه ثلثاها، ولأمه ثلثها، مَن كان منهما حيًّا كان ذلك له، فإن كان أحدهما قد مات كانت للباقي منهما أبا كان أو أمّا، لا يرث الإخوة شيئًا.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل تلك الغرة المحكوم بها للجنين، ثم يرثها مَن كان يرثه لو كان حيًّا.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عامرًا الشعبي، والزهري والثوري وعبد العزيز بن أبي سلمة وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي في قول، وأحمد وأصحابهم فإنهم قالوا: الغرة تكون للجنين، ثم يرثها من كان يرث الجنين لو كان حيًّا، مثلًا لو كان له أبوان يرث الأب الثلثين والأم الثلث، ولو كان لو إخوة وليس له أب، ترث الأم السدس والباقي بين الإخوة، للذكر مثل حظ الأنثيين.
ص: وكان من الحجة لهم في ذلك ما قد ذكرناه في هذه الآثار: أن رسول الله عليه السلام لما قضى على المحكوم عليه بالغرة قال: كيف نعقل مَن لا أكل ولا شرب ولا نطق؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيه غرة عبد أو أمة. ولم يقل للذي سجع ذلك السجع: إنما حكمت هذا للجناية على المرأة لا في الجنين، وقد دل على ذلك أيضًا ما قد روينا فيما تقدم من هذا الكتاب: أن المضروبة ماتت بعد ذلك من الضربة، فقضى رسول الله عليه السلام فيها بالدية مع قضائه بالغرة، فلو كانت الغرة للمرأة المقتولة إذًا لما قضى لها بالدية، ولكن حكمها حكم امرأة ضربتها امرأة فماتت من ضربها فعليها ديتها، ولا يجب عليها للضربة أرش.
فلما حكم رسول الله عليه السلام مع دية المرأة بالغرة؛ ثبت بذلك أن الغرة دية للجنين لا لها، فهي موروثة عن الجنين كما يورث ماله لو كان حيًّا فمات، اتباعًا لما روي عن رسول الله عليه السلام.
وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه من أن الغرة يرثها مَن كان يرث الجنين لو كان حيًّا ومات.
والباقي كله ظاهر.
فإن قيل: الجنين لا يخلو حاله عن أمرين:
الأول: أن يكون قد تجاوز الحمل به مائة وعشرين ليلة.
الثاني: أن لا يكون ذلك.
ففي الأول يورثه ورثته لو كان حيًّا مسلم، لأنه قد نفخ فيه الروح، فصار كالقتيل فيرث ورثته ديته. وفي الثاني لا شيء.
هذا؛ لأنه إنما هو ماء، أو علقة من دم، أو مضغة من عضل، أو عظام ولحم، وليس هو بحي، فهو في كل ذلك بعض أمه، فإذا سقط بضرب أحد يكون كمن ضرب أمَّه وقطع عضوًا منها، فلا يكون الضارب قاتلًا ولا الجنين مقتولًا، وإذا لم يكن مقتولًا لا يكون له حكم القتيل، فتكون الغرة لأمه.
ثم الدليل على ما ذكرنا من التفصيل ما رواه مسلم (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير، قالا: ثنا وكيع وأبو معاوية، قالا جميعًا: عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله عليه السلام وهو الصادق المصدوق قال: "يجمع أحدكم خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد".
قلت: هذا كله سفهه أهل الظاهر.
وقول الطحاوي رحمه الله: "وقد دلَّ على ذلك أيضًا ما رويناه. . . ." إلى آخره يقطع هذه السفهه ويرفع هذا السؤال بأقل قدر. والله أعلم.
(1)"صحيح مسلم"(4/ 2036 رقم 2643).