المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: القسامة كيف هى - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٥

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: بابُ: الرجل يحلف لا يكِّلم الرجل شهرًا كم عدد ذلك الشهر من الأيام

- ‌ص: بابُ: الرجل يُوجب على نفسه أن يصلي في مكان فيصلي في غيره

- ‌ص: بابُ: الرجل يوجب على نفسه المشي إلى بيت الله الحرام

- ‌ص: بابُ: الرجل ينذر وهو مشرك نذرًا ثم يُسلم

- ‌ص: كتاب العتاق

- ‌ص: باب: العبد يكون بين الرجلين فيعتقه أحدهما

- ‌ص: باب: الرجل يملك ذا رحم محرَّم منه هل يعتق عليه أم لا

- ‌ص: باب: المكاتب متى يعتق

- ‌ص: باب: الأَمة يطأها مولاها، ثم يموت وقد جاءت بولد في حياته هل يكون ابنه وتكون له أُمّ ولدٍ أَمْ لا

- ‌ص: كتاب الرهن

- ‌ص: باب: ركوب الرهن واستعماله وشرب لبنه

- ‌ص: باب: الرهن يهلك في يد المرتهن كيف حكمه

- ‌ص: كتاب الشفعة

- ‌ص: باب: الشفعة بالجوار

- ‌ص: كتاب الجنايات

- ‌ص: باب: ما يجب في قتل العمد وجرح العمد

- ‌ص: باب: الرجل يَقتل الرجل كيف يُقتَل

- ‌ص: باب: شبه العمد الذي لا قود فيه، ما هو

- ‌ص: باب: شبه العمد هل يكون فيما دون النفس كما يكون في النفس

- ‌ص: باب: الرجل يقول عند موته: إن مُت ففلان قتلني

- ‌ص: باب: المؤمن يقتل الكافر متعمدًا

- ‌ص: باب: القسامة هل تكون على ساكني الدار الموجود فيها القتيل أو مالكها

- ‌ص: باب: القسامة كيف هى

- ‌ص: باب: ما أصاب البهائم في الليل والنهار

- ‌ص: باب: غرة الجنين المحكوم بها فيه. لمن هي

- ‌ص: كتاب الحدود

- ‌ص: باب: حد البكر في الزنا

- ‌ص: باب: حد الزاني المحصن

- ‌ص: باب: الاعتراف بالزنا الذي يجب به الحد

- ‌ص: باب: الرجل يزني بجارية امرأته

- ‌ص: باب: من تزوج امرأة أبيه أو ذات محرم منه فدخل بها

- ‌ص: باب: حد الخمر

- ‌ص: باب: من سكر أربع مرات ما حده

- ‌ص: باب: المقدار الذي يقطع فيه السارق

الفصل: ‌ص: باب: القسامة كيف هى

‌ص: باب: القسامة كيف هى

؟

ش: أي هذا باب في بيان كيفية القسامة.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: اختلف الناس في القتيل الموجود في محلة قوم كيف القسامة الواجبة فيه، فقال قوم: يحلف المدعى عليهم بالله ما قتلنا، فإن أبوا أن يحلفوا استحلف المدعون واستحقوا ما ادعوا. واحتجوا في ذلك بحديث سهل بن أبي حثمة الذي ذكرنا في الباب الذي قبل هذا الباب.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: يحيى بن سعيد وأبا الزناد عبد الله بن ذكوان وربيعة ومالكًا والشافعي وأحمد والليث بن سعد؛ فإنهم قالوا: يستحلف المدعون بالدم، فإذا حلفوا استحقوا ما ادعوا.

وقال أبو عمر: المدعون بالدم يبدءون بالأيمان في القسامة، وهذا في القسامة خاصةً، وهو يخصّ قوله عليه السلام:"البينة على المدعي واليمين على مَن أنكر"، وقد روي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله عليه السلام: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة".

وقال البيهقي أيضًا في "الخلافيات" أن حديث: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" مخصوص بما أخبرنا علي بن بشران، أنا علي بن محمَّد المصري، نا عبدة بن سليمان، نا مطرف بن عبد الله، ثنا الزنجي عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله عليه السلام قال:"البينة على من ادعى واليمين على مَن أنكر إلا في القسامة"(1).

قلت: هذا الحديث معلول من خمس وجوه:

الأول: أن الزنجي هو مسلم بن خالد، شيخ الشافعي، ضعيف. كذا قال

(1) انظر "سنن البيهقي الكبرى"(8/ 123 رقم 16222).

ص: 382

البيهقي نفسه في "سننه"(1): في باب من زعم أن التراويح بالجماعة أفضل. وقال ابن المديني: ليس بشيء. وقال أبو زرعه والبخاري: منكر الحديث.

الثاني: أن ابن جريج لم يسمع من عمرو. حكاه البيهقي أيضًا في "سننه"(2): في باب وجوب زكاة الفطر على أهل البادية. عن البخاري: أن ابن جريج لم يسمع من عمرو.

الثالث: أن الاحتجاج بعمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مختلف فيه.

الرابع: أن الزنجي مع ضعفه خالفه عبد الرزاق وحجاج وقتادة، فرووه عن ابن جريج عن عمرو مرسلًا.

كذا ذكره الدارقطني في "سننه"(3).

الخامس: أن الزنجي اختلف عليه، قال الذهبي: قال عثمان بن محمَّد الرازي، ثنا مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي هريرة أن رسول الله عليه السلام قال:"البينة على مَن ادعى واليمين على مَن أنكر إلا في القسامة".

قوله: "واحتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء القوم فيما ذهبوا إليه بحديث سهل بن أبي حثمة المذكور في الباب السابق، وقال البيهقي (4): البداية في القسامة مع اللوث بأيمان المدعين، ثم احتج على ذلك بحديث سهل بن أبي حثمة الذي أخرجه مالك، المذكور في الباب السابق، وبحديث الليث عن يحيى بن سعيد عن سهل بن أبي حثمة الذي أخرجه مسلم، وبحديث سعيد بن عبيد الطائي، عن بشير بن يسار الذي أخرجه الشيخان، وقد مر ذكره أيضًا في الباب السابق.

ثم قال (5): أخرجه مسلم من حديث سعيد بن عبيد ولم يسُق متنه لمخالفته

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 495 رقم 4388).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 173 رقم 7517).

(3)

"سنن الدارقطني"(3/ 111 رقم 100).

(4)

"السنن الكبرى"(8/ 117 رقم 16207).

(5)

"السنن الكبرى"(8/ 120 رقم 16215).

ص: 383

رواية يحيى بن سعيد وقال: قال مسلم: رواية سعيد غلط، ويحيى بن سعيد أحفظ منه.

ثم قال البيهقي: وإن صحت رواية سعيد فهي لا تخالف رواية يحيى، لأنه قد يريد بالبينة الأيمان مع اللوث، كما في رواية يحيى، ثم يردها على المدعى عليهم عند نكول المدعين.

قلت: لا وجه لتشكيك البيهقي بقوله: "وإن صحت رواية سعيد" مع نفيه، وإخراج البخاري حديثه هذا، وأخرجه مسلم أيضًا ولم يشك في صحته، وإنما رجح يحيى على سعيد، وقد جاءت أحاديث تقوي رواية سعيد وتعضدها، منها:

ما رواه أبو داود (1) بسند حسن عن رافع بن خديج قال: "أصبح رجل من الأنصار مقتولًا بخيبر، فانطلق أولياؤه إلى النبي عليه السلام فذكروا ذلك له، فقال: ألكم شاهدان يشهدان على قاتل صاحبكم؟ فقالوا: يا رسول الله لم يكن به أحد من المسلمين، وإنما هم يهود وقد يجترئون على أعظم من هذا، قال: فاختار منهم خمسين، فاستحلفهم فأبوا، فوداه رسول الله عليه السلام من عنده".

ومنها: ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ما يجيء عن قريب، وهذا هو الذي تشهد له الأصول من أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، فكان الوجه ترجيح هذه الأدلة على ما يعارضها، وتأويل البيهقي لرواية سعيد تعسف ومخالفة للظاهر، وحين قالوا:"ما لنا بينة" عقّب عليه السلام ذلك بقوله: "فيحلفون لكم" فكيف يقول البيهقي: وقد يطالبهم بالبينة ثم يعرض عليهم الأيمان، ثم يردها على المدعى عليهم؟!

ص: وقال آخرون: بل يستحلف المدعى عليهم، فإذا حلفوا غرموا الدية.

ش: أي قال جماعة آخرون، وأراد بهم: عثمان البتي والحسن بن صالح وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الله بن شبرمة وعامرًا الشعبي

(1)"سنن أبي داود"(2/ 587 رقم 4524).

ص: 384

وإبراهيم النخعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا رحمهم الله فإنهم قالوا: يُبدأ بأيمان المدعى عليهم فيحلفون، ثم يغرموا الدية.

وروي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ص: وقالوا: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: "أتحلفون وتستحقون" إنما كان على النكير منه عليهم، كأنه قال: أتدعون وتأخذون، وذلك أن رسول الله عليه السلام قال لهم:"أفتبرئكم عود بخمسين يمينًا بالله ما قتلنا؟ قالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟! فقال لهم رسول الله عليه السلام: أتحلفون وتستحقون" أي إن اليهود وإن كانوا كفارًا فليس عليهم فيما يدعون عليهم غير أيمانهم.

ش: أي قال أهل المقالة الثانية في جواب ما قاله أهل المقالة الأولى، بيانه: أن حديث سهل بن أبي حثمة مؤل، وأن استدلالهم به فيما ذهبوا إليه غير صحيح، وبيَّن ذلك بقوله: قول رسول الله عليه السلام للأنصار: "أتحلفون" إنما خرج على سبيل الإنكار منه عليه السلام عليهم، فكأنه قال: كيف تدَّعون وتأخذون وليس لكم عليهم غير أيمانهم، فكما أنه لا يقبل منكم وإن كنتم مسلمين أيمانكم ولا تستحقون بها شيئًا، فكذلك اليهود وإن كانوا كفارًا لا يجب بدعواكم عليهم غير أيمانهم.

ص: والدليل على صحة هذا التأويل: ما قد حكم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد رسول عليه السلام بحضرة أصحابه، فلم ينكره عليه منهم مُنكِر، ومحال أن يكون عند الأنصار من ذلك علم ولاسيما مثل محيصة وقد كان حيًّا يؤمئذٍ وسهل بن أبي حثمة فلا يخبرونه به ويقولون: ليس هكذا قضى رسول الله عليه السلام لنا على اليهود.

فمما روي عن عمر رضي الله عنه في ذلك: ما حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن الحارث بن الأزمع أنه قال لعمر رضي الله عنه:"أما ندفع أموالنا عن أيماننا ولا أيماننا عن أموالنا، قال: لا، وعقله".

ص: 385

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا أبو إسحاق، عن الحارث بن الأزمع قال:"قتل قتيل بين وادعة وحي آخر، والقتيل إلى وادعة أقرب، فقال عمر رضي الله عنه لوادعة: يحلف خمسون رجلًا منكم بالله ما قتلنا، ولا نعلم له قاتلًا، ثم أغرموا، فقال له الحارث: نحلف وتغرمنا؟! قال: نعم".

حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا عثمان بن مطر، عن أبي حرِيز، عن الشعبي، عن الحارث الوادعي قال: "أصابوا قتيلًا بين قريتين، فكتبوا في ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب عمر رضي الله عنه: أن قيسوا بين القريتين، فأيهما كان إليه أدنى فخذوا قسامة يحلفون بالله ثم غرموا الدية، قال الحارث: فكنت فيمن أقسم ثم غرمنا الدية.

فهذه القسامة التي حكم بها أصحاب رسول الله عليه السلام.

ش: أي الدليل على صحة تأويل أهل المقالة الثانية المذكور: ما حكم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد النبي عليه السلام ما ذهبوا إليه.

وأخرجه من ثلاث طرق:

الأول: إسناده صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن الحكم بن عتيبة، عن الحارث بن الأزمع الهمداني الكوفي، وثقه ابن حبان، وذكره في التابعين، وذكره أبو عمر وغيره في الصحابة.

وأخرجه عبد الرزاق (1): عن الثوري، عن منصور، عن الحكم، عن الحارث ابن الأزمع نحوه.

الثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي، شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن الحارث بن الأزمع.

(1)"مصنف عبد الرزاق"(10/ 35 رقم 18266).

ص: 386

وهذا أيضًا إسناد صحيح.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): نا وكيع، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث بن الأزمع قال: "وُجد قتيل باليمن بين وادعة وأرحب، فكتب عامل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إليه فكتب إليه عمر رضي الله عنه: أن قس ما بين الحيين فإلى أيهما كان أقرب فخذهم به، قال: فقاسوا فوجدوه أقرب إلى وادعة، فأُخذنا وأُغرمنا وأُحلفنا، فقلنا: يا أمير المؤمنين أتحلفنا وتغرمنا؟ قال: نعم، قال: فأحلف منا خمسون رجلًا بالله، ما فعلت ولا علمت له قاتلا.

الثالث: عن محمَّد بن خزيمة، عن يوسف بن عدي، شيخ البخاري، عن عثمان بن مطر الشيباني أبي الفضل البصري، عن أبي حَرِيز -بفتح الحاء المهملة، وكسر الراء المهملة، بعدها ياء ساكنة، وفي آخره زاي معجمة- واسمه عبد الله بن حسين الأزدي البصري.

عن عامر الشعبي.

وهذا إسناد معلول بعثمان بن مطر، فإنه ضعفه يحيى وأبو داود والنسائي، وعن يحيى: ليس بشيء.

وأبو حريز وثقه ابن حبان ويحيى في رواية، وضعفه في أخرى، وقال أبو داود: ليس حديثه بشيء.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): نا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن الشعبي:"أن قتيلًا وجد باليمن بين حيين، قال: فقال عمر رضي الله عنه: انظروا أقرب الحيين إليه فأحلِفوا منهم خمسين رجلًا بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلًا، ثم تكون عليهم الدية".

وأخرجه عبد الرزاق: عن أبي بكر بن عبد الله، عن أبي الزناد، عن سعيد بن

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 442 رقم 27813).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 442 رقم 27814).

ص: 387

المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه "قال في القتيل يؤخذ في الحي: يقسم خمسون -من الحي الذين وُجد فيهم- بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلًا، فإن حلفوا برئوا وإن لم يحلفوا أقسم من هؤلاء خمسون بالله: إن دمنا فيكم ثم يغرمون الدية".

وأخرج البيهقي (1): من حديث أبي عوانة، عن مغيرة، عن عامر:"أن قتيلًا وُجد في خربة من خرب وادعة همدان، فرفع إلى عمر رضي الله عنه، فأحلفهم خمسين يمينًا: ما قتلنا ولا علمنا قاتلًا، ثم غرمهم الدية، ثم قال: يا معشر همدان حقنتم دماءكم بأيمانكم، فما يبطل دم هذا الرجل المسلم؟ ".

وأخرج من حديث الشافعي (2): عن سفيان، عن منصور، عن الشعبي:"أن عمر رضي الله عنه كتب في قتيل وُجد بين خيوان ووادعة: أن يقاس بين القريتين، فإلى أيهما كان أقرب أخرج إليه منهم خمسين رجلًا حتى يوافوه بمكة، وأدخلهم الحجر فأحلفهم، ثم قضى عليهم بالدية، قالوا: ما دفعت أموالنا أيماننا ولا أيماننا أموالنا، قال عمر رضي الله عنه: كذلك الأمر".

قال البيهقي: فذكر الشافعي في الجواب عنه: ما يخالفون عمر في هذه القضية من الأحكام.

ثم قيل: أفثابت هو؟ قال: لا، إنما رواه الشعبي عن الحارث الأعور، والحارث مجهول، ونحن نروي عن رسول الله عليه السلام بالإسناد الثابت:"أنه بدأ بالمدعين فلما لم يحلفوا قال: فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا" وإذْ قال: "تبرئكم يهود" فلا يكون عليهم غرامة، ولما لم يقبل الأنصار أيمانهم، وداه النبي عليه السلام ولم يجعل على يهود والقتيل بين أظهرهم شيئًا.

ثم قال البيهقي: قال الربيع المرادي: أخبرني بعض أهل العلم، عن جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، قال الحارث الأعور: كان كذابًا.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(8/ 123 رقم 16226).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(8/ 124 رقم 16227).

ص: 388

قال: وروي عن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عمر، ومجالد غير محتج به.

وروي عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن الحارث بن الأزمع، عن عمر، وأبو إسحاق لم يسمعه منه.

روى ابن المديني عن أبي زيد، عن شعبة، سمعت أبا إسحاق يحدث حديث الحارث بن الأزمع:"أن قتيلًا وجد بين وادعة وخيوان" فقلت: يا أبا إسحاق، مَن حدَّثك؟ قال: مجالد، عن الشعبي، عن الحارث بن الأزمع فعادت رواية أبي إسحاق إلى مجالد، واختلف فيه على مجالد.

قلت: أما مخالفتهم عمر رضي الله عنه في تلك الأحكام، لأنه قامت عندهم فيها أدلة أقوى من أدلة عمر رضي الله عنه، وقد ذكر عيسى بن أبان في كتاب الحج أن مخالفه قال: قد تركتم من حديث عمر أشياء، لأنه كتب إلى عامله باليمن أن ابعث بهم إلى مكة، وأنتم تقولون: يدفع في الحكومة إلى أقرب القضاة.

وفيه: أنه استحلفهم في الحِجْر، وأنتم تنكرون أن يستحلف إلا في مجلس الحكم حيث كان.

وفيه: أنه قال لعامله: أبعث إليَّ بخمسين رجلًا. وعندكم الخيار للمدعي.

وفيه: حقنتم بأيمانكم دماءكم. وأنتم تقولون: إن لم يحلفوا لم يقتلوا. ثم أجاب ابن أبان عن ذلك بما ملخصه: أنه أراد أن يتولى الحكم، وأن عامله لا يقوم فيه مقامه لينتشر في البلاد ويعمل بها مَن بعده، ولهذا فعله في أشهر المواضع وهو الحِجْر ليراه أهل الموسم وينقلوه إلى الآفاق، ولا شك أن نوابَه كانوا يقضون في البلاد الثانية، ولو وجب حمل كل أحد إليه لم يكتب إلى موسى وغيره في الأحكام، ولهذا لم يستحلف عمر رضي الله عنه والأئمة بعده أحدًا في الحجر، وإنما كتب عمر رضي الله عنه أن لا يقتل دونه احتياطًا واستعظامًا بالدم، ولم يقل: ابعث إليَّ بخمسين تتخيرهم أنت، ولم يكن يولي جاهلًا فإنما كتب إلى من

ص: 389

يعلم أن الخيار للمدعين؛ لأنه لم يستحلف، فكيف يستحلف من لا يريدونه؟ وإنما قال:"حقنتم بأيمانكم دماءكم"؛ لأنهم لو لم يحلفوا حبسوا حتى يقروا فيقتلوا أو يحلفوا، فأيمانهم حقنت دماءهم إذ تخلصوا بها من القتل أو الحبس، كقوله تعالى:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} (1)، فلو لم تلاعن حبست حتى تلاعن فتنجو أو تقر فترجم.

وأما قوله: "أفثابت هو عندك؟ " أي: قضية عمر رضي الله عنه. . . . إلى آخره.

فنقول: لم يذكر أحد -فيما علمنا- أن الشعبي رواه عن الحارث الأعور غير الشافعي، ولم يذكر سنده في ذلك، وقد رواه الطحاوي بسنده عن الشعبي، عن الحارث الوادعي كما مرَّ ذكره عن قريب، وكذلك مجالد رواه عن الشعبي.

ورواية أبي إسحاق لهذا الأثر عن الحارث هذا، عن عمر رضي الله عنه أمارة على أنه هو الواسطة لا الحارث الأعور كما زعم الشافعي.

ورواه في أيضًا عبد الرزاق (2): عن الثوري، عن منصور، عن الحكم، عن الحارث ابن الأزمع، والحارث هذا ذكره أبو عمر في الصحابة رضي الله عنهم كما ذكرناه. وذكره ابن حبان في "الثقات" التابعين، ثم إن الحارث الأعور وإن تكلموا فيه فليس بمجهول كما زعم الشافعي، بل هو معروف، روى عنه: الضحاك والشعبي وأبو إسحاق السبيعي وغيرهم.

ص: وقد وافق ذلك ما قد رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير هذا الموضع أنه قال: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناسٌ دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه".

فسوى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بين الأموال والدماء، وحكم فيها بحكم واحد، فجعل اليمين في ذلك كله على المدعى عليه، فثبت بذلك أن معنى حديث سهل هذا أيضًا على ما قد تأولناه.

(1) سورة النور، آية:[8].

(2)

"مصنف عبد الرزاق"(10/ 35 رقم 18266).

ص: 390

ش: أي قد وافق ما ذكرناه أن ابتداء اليمين بالمدعى عليه في باب القسامة ما قد رويناه عن رسول الله عليه السلام من قوله: "لو يعطى الناس بدعواهم. . . . الحديث".

أخرجه الطحاوي مسندًا عن ابن عباس في باب: الرجل يقول عند موته: إن مت ففلان قتلني.

وأخرجه مسلم (1): أيضّا وقد ذكرناه هناك، وهذا فيه قد سوى عليه السلام بين الأموال والدماء وجعل حكمهما حكمًا واحًدا حيث جعل وظيفة المدعى عليه في الجميع اليمين فلا يجوز تخصيصه بغير دليل.

فإن قيل: قد خصصه قوله عليه السلام: "البينة على المدعي واليمين على مَن أنكر إلا في القسامة". رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي عليه السلام.

قلت: قد ذكرنا الجواب عنه في هذا الباب: أن هذا الحديث ضعيف ومعلول من وجوه كثيرة، فلا يعارض به الحديث الصحيح الثابت.

ص: وقد دل على ذلك أيضًا ما قد ذكرناه في الباب الذي قبل هذا الباب، عن سعيد بن عبيد، عن بُشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاهم بالبينة، فلما ذكروا أن لا بينة لهم قال: أفيحلفون لكم؟ ".

فدل ما ذكرنا أن ما كان من حكم رسول الله عليه السلام من ذلك هو هذا، وكان ما زاد عليه مما في حديث يحيى بن سعيد وأبي ليلى بن عبد الله ليس على الحكم، ولكن على المعنى الذي تأولناهما عليه.

ش: أي وقد دل على ما ذكرنا أيضًا من أن اليمين على المدعى عليه في الأموال والدماء جميعًا: ما ذكرنا من حديث سعيد بن عبيد. . . . إلى آخره.

قوله: "وكان ما زاد عليه" أي وكان الذي زاد على حديث سعيد بن عبيد الذي رواه عنه أبو نعيم الفضل بن دُكين، عن الذي في حديث يحيى بن

(1) تقدم.

ص: 391

سعيد، عن بشير بن يسار، وحديث أبي ليلى الذي رواه عنهما مالك بن أنس وأراد بقوله: وكان ما زاد عليه هو قوله عليه السلام: "أتحلفون خمسين يمينًا وتستحقون دم قاتلكم" بأن فيه ابتداء اليمين بالمدعي، وتعلقت به أهل المقالة الأولى حيث قالوا: يُستحلف المدعون بالدم، فإذا حلفوا استحقوا ما ادعوا.

قوله: "ليس على الحكم" يعني قوله عليه السلام: "أتحلفون خمسين يمينًا" ليس على أنه حكم قد شرع لكم، و"لكن على المعنى الذي تأولناهما" وهو أن المراد منه: إنكاره عليه السلام عليهم ذلك، وقد ذكرناه مستوفًى.

والضمير المنصوب في "تأولناهما" يرجع إلى حديث يحيى بن سعيد وأبي ليلى، فافهم.

ص: ثم هذا الزهري قد علم بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسامة، فمما روي عنه في ذلك:

ما قد حدثنا يونس، قال: ثنا أيوب بن سويد، عن الأوزاعي، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة وسليمان بن يسار، عن أناس من الأنصار من أصحاب رسول الله عليه السلام:"أن القسامة كانت في الجاهلية، فأقرها رسول الله عليه السلام على ما كانت عليه، وقضى بها رسول الله عليه السلام بين أناس في قتيل ادعوه على اليهود".

حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: ثنا الأوزاعى، قال: ثنا الزهري، قال: ثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار، عن أناس من الأنصار من أصحاب رسول الله عليه السلام مثله.

ثم قال الزهري في القسامة أيضًا ما قد حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا أبو معاوية الضرير، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري:"أن رسول عليه السلام قضى بالقسامة على المدعى عليهم".

فدل ذلك على أن القسامة على المدعى عليهم لا على المدعى، على ما بيَّن الزهري في حديثه هذا، وإنما كان أخَذَ القسامة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن

ص: 392

وسليمان بن يسار، عن أناس من أصحاب رسول الله عليه السلام، فكان هذا مما أخذه عنهم.

ش: ذكره هذا شاهدًا لصحة ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية من أن القسامة على المدعى عليهم دون المدعين، ولصحة التأويل الذي ذكره في حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه، بيان ذلك: أن محمَّد بن مسلم الزهري روى "أن القسامة كانت في الجاهلية، فأقرها رسول الله عليه السلام على ما كانت عليه".

أخرجه من طريقين:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن أيوب بن سويد الحميري السيباني -بفتح السين المهملة- فيه مقال، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن الزهري، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، وسليمان بن يسار الهلالي المدني مولى ميمونة زوج النبي عليه السلام، عن أناس من الأنصار من أصحاب رسول الله عليه السلام.

وأخرجه النسائي (1): أنا محمَّد بن هاشم، ثنا الوليد بن مسلم، أنا الأوزاعي، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة. . . . إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء. غير أن في لفظة:"على يهود خيبر".

وقال ابن حزم: هذا خبر صحيح.

وأخرجه مسلم: (2) حدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى -قال أبو الطاهر: نا، وقال حرملة: أنا- ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار مولى ميمونة زوج النبي عليه السلام، عن رجل من أصحاب النبي عليه السلام من الأنصار:"أن رسول الله عليه السلام أقر القسامة على ما كانت في الجاهلية".

(1)"السنن الكبرى"(4/ 206 رقم 6911).

(2)

"صحيح مسلم"(3/ 1295 رقم 1670).

ص: 393

وحدثنا (1) محمَّد بن رافع، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أنا ابن جريج، قال: حدثني ابن شهاب بهذا الإسناد مثله، وزاد:"وقضى رسول الله عليه السلام بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على اليهود".

الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن بشر بن بكر التنيسي، عن عبد الرحمن الأوزاعي، عن محمَّد بن مسلم الزهري. . . . إلى آخره.

وأخرجه البيهقي (2): من حديث الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة وسليمان، عن أناس من أصحاب رسول الله عليه السلام:"أن القسامة كانت في الجاهلية قسامة الدم فأقرها رسول الله عليه السلام على ما كانت عليه، وقضى بها بين أناس من الأنصار من بني حارثة ادعوا على اليهود".

ثم روى الزهري أيضًا: "أنه عليه السلام قضى بالقسامة على المدعى عليهم".

أخرجه عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن أبي معاوية الضرير محمَّد

ابن خازم، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن الزهري. . . . إلى آخره.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): ثنا شبابة بن سوار، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري:"أن النبي عليه السلام قضى في القسامة أن اليمين على المدعى عليهم".

وأخرج أيضًا نحوه (4): عن أبي معاوية، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري به.

فدل هذا أن القسامة التي كانت في الجاهلية التي قررها رسول الله عليه السلام على ما كانت عليه إنما كانت على المدعى عليهم لا على المدعين.

قوله: "وإنما كان أخذ القسامة. . . . إلى آخره" جواب عن سؤال مقدر، تقديره أن يقال: هذا من كلام الزهري وهو ليس بحجة علينا.

(1)"صحيح مسلم"(3/ 1295 رقم 1670).

(2)

"سنن البيهقي"(8/ 122 رقم 16220).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 442 رقم 27819).

(4)

"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 443 رقم 27822).

ص: 394

فأجاب عنه بأن هذا في الحقيقة عن النبي عليه السلام؛ لأن الزهري إنما أخذ القسامة عن أبي سلمة وسليمان بن يسار، وهما أخذاها عن أناس من الصحابة، والصحابة رضي الله عنهم أخذوها عن النبي عليه السلام، وقد وافق الزهري في ذلك عمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب.

قال ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال: أخبرني عبيد الله بن عمر، أنه سمع أصحابًا له يحدثون:"أن عمر بن عبد العزيز بدأ المدعى عليهم باليمين، ثم ضمنهم العقل".

ثئا أبو معاوية (2)، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب:"أنه كان يرى القسامة على المدعى عليهم".

وقد روي عن ابن عباس مثل ذلك أيضًا.

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): ثنا أبو معاوية، عن مطيع، عن فضيل ابن عمرو، عن ابن عباس أنه قضى بالقسامة على المدعى عليهم.

ص: وقد وافق ذلك ما رويناه عن عمر رضي الله عنه مما فعله وحكم به بحضرة سائر أصحاب رسول الله عليه السلام فلم ينكره عليه منكر.

وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أي وقد وافق ما روي عن الزهري ما رويناه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو الذي رواه الحارث بن الأزمع، وقد مر ذكره عن قريب.

قوله: "وهذا" أي كون القسامة على المدعى عليهم لا على المدعين، قول أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 443 رقم 27820).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 443 رقم 27822).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 443 رقم 27821).

ص: 395