المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: ما يجب في قتل العمد وجرح العمد - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٥

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: بابُ: الرجل يحلف لا يكِّلم الرجل شهرًا كم عدد ذلك الشهر من الأيام

- ‌ص: بابُ: الرجل يُوجب على نفسه أن يصلي في مكان فيصلي في غيره

- ‌ص: بابُ: الرجل يوجب على نفسه المشي إلى بيت الله الحرام

- ‌ص: بابُ: الرجل ينذر وهو مشرك نذرًا ثم يُسلم

- ‌ص: كتاب العتاق

- ‌ص: باب: العبد يكون بين الرجلين فيعتقه أحدهما

- ‌ص: باب: الرجل يملك ذا رحم محرَّم منه هل يعتق عليه أم لا

- ‌ص: باب: المكاتب متى يعتق

- ‌ص: باب: الأَمة يطأها مولاها، ثم يموت وقد جاءت بولد في حياته هل يكون ابنه وتكون له أُمّ ولدٍ أَمْ لا

- ‌ص: كتاب الرهن

- ‌ص: باب: ركوب الرهن واستعماله وشرب لبنه

- ‌ص: باب: الرهن يهلك في يد المرتهن كيف حكمه

- ‌ص: كتاب الشفعة

- ‌ص: باب: الشفعة بالجوار

- ‌ص: كتاب الجنايات

- ‌ص: باب: ما يجب في قتل العمد وجرح العمد

- ‌ص: باب: الرجل يَقتل الرجل كيف يُقتَل

- ‌ص: باب: شبه العمد الذي لا قود فيه، ما هو

- ‌ص: باب: شبه العمد هل يكون فيما دون النفس كما يكون في النفس

- ‌ص: باب: الرجل يقول عند موته: إن مُت ففلان قتلني

- ‌ص: باب: المؤمن يقتل الكافر متعمدًا

- ‌ص: باب: القسامة هل تكون على ساكني الدار الموجود فيها القتيل أو مالكها

- ‌ص: باب: القسامة كيف هى

- ‌ص: باب: ما أصاب البهائم في الليل والنهار

- ‌ص: باب: غرة الجنين المحكوم بها فيه. لمن هي

- ‌ص: كتاب الحدود

- ‌ص: باب: حد البكر في الزنا

- ‌ص: باب: حد الزاني المحصن

- ‌ص: باب: الاعتراف بالزنا الذي يجب به الحد

- ‌ص: باب: الرجل يزني بجارية امرأته

- ‌ص: باب: من تزوج امرأة أبيه أو ذات محرم منه فدخل بها

- ‌ص: باب: حد الخمر

- ‌ص: باب: من سكر أربع مرات ما حده

- ‌ص: باب: المقدار الذي يقطع فيه السارق

الفصل: ‌ص: باب: ما يجب في قتل العمد وجرح العمد

‌ص: كتاب الجنايات

ش: أي هذا كتاب في بيان الجنايات، وهي جمع جناية، وهي مصدر من جناه يجنيه من شر أي يحدثه، قال ابن الأثير: الجناية الذنب والجرم، وما يفعله الإنسان مما يوجب عليه العقاب أو القصاص في الدنيا أو الآخرة.

قال الجوهري: جنى عليه جناية، وجَنَيْتُ الثمرة أجنيها جنيًا واجتنيتها بمعنىً.

وقال الفقهاء: الجناية اسم لفعل محرم واقع في النفس والأطراف.

* * *

‌ص: باب: ما يجب في قتل العمد وجرح العمد

ش: أي هذا باب في بيان ما يجب في قتل العمد، وهو القصد، وفي بيان ما يجب في جراح العمد أيضًا.

والجراح: بكسر الجيم بمعنى الجَرْح -بفتح الجيم- والجَرح -بالفتح- مصدر من جرحه يجرحه، والجُرح -بالضم- الاسم، ويجمع على جُروح، ولا يقال: أجراح، إلا في الشعر، ويقال: رجل جريح، وامرأة جريح أيضًا، ورجال جرحى، ونسوة جَرْحى.

ص: حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون البغدادي، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير (ح).

وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا حرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو سلمة، قال: حدثني أبو هريرة، قال:"لما فتح الله عز وجل على رسوله عليه السلام مكة -شرفها الله- قتلت هذيل رجلًا من بني ليث بقتيل كان لهم في الجاهلية، فقام النبي عليه السلام فخطب وقال في خطبته: مَن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يقتل، وإما أن يُودى". واللفظ لمحمد بن عبد الله.

ص: 216

وقال أبو بكرة في حديثه: "قتلت خزاعة رجلًا من بني ليث".

ش: هذان طريقان صحيحان:

الأول: عن محمد بن عبد الله بن ميمون البغدادي نزيل إسكندرية وشيخ أبي داود والنسائي، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي اليمامي، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة.

وأخرجه البخاري (1): عن يحيى بن موسى، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة نحوه.

وأخرجه أيضًا (2) عن أبي نُعيم، ثنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة:"أن خزاعة قتلوا رجلًا".

وقال عبد الله بن رجاء: حدثنا حرب بن شداد، عن يحيى، نا أبو سلمة، نا أبو هريرة: "أنه عام فتح مكة قتلت خزاعة رجلًا من بني ليث بقتيل لهم في الجاهلية، فقام رسول الله عليه السلام فقال: إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليهم رسوله والمؤمنين، ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ألا وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ألا وإنها ساعتي هذه حرام لا يختلى شوكها ولا يعضد شجرها، ولا يَلتقط ساقطتها إلا منشد، ومَن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يُودى له، وإما أن يقاد.

فقام رجل من اليمن يقال له: أبو شاة، فقال: اكتب لي يا رسول الله، فقال رسول الله عليه السلام: اكتبوا لأبي شاة، ثم قام رجل من قريش فقال: يا رسول الله، إلا الإذخر فإنما نجعله في بيوتنا وقبورنا، فقال رسول الله عليه السلام: إلا الإذخر".

(1)"صحيح البخاري"(2/ 857 رقم 2302).

(2)

"صحيح البخاري"(6/ 2522 رقم 6486).

ص: 217

وأخرجه مسلم (1): عن زهير وعبيد الله بن سعيد، عن الوليد، عن الأوزاعي.

وعن إسحاق بن منصور، عن عبيد الله بن موسى، عن شيبان، كلهم عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، بهذا.

وأخرجه أبو داود (2): عن أحمد بن حنبل، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، به نحوه.

وأخرجه الترمذي (3): عن محمود بن غيلان ويحيى بن موسى، عن الأوزاعي به منقطعًا.

وقال: حسن صحيح.

وأخرجه النسائي (4): عن عباس بن الوليد، عن أبيه، عن الأوزاعي، عن يحيى، به.

وأخرجه ابن ماجه (5): عن دحيم، عن الوليد، عن الأوزاعي، عن يحيى، به مختصرًا.

الطريق الثاني: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن حرب بن شداد، عن يحيى. . . . إلى آخره.

وأخرجه البخاري (6) من هذا الطريق أيضًا.

قوله: "لما فتح الله عز وجل على رسوله عليه السلام مكة" كان فتح مكة في سنة ثمان من الهجرة.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 988 رقم 447).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 579 رقم 4505).

(3)

"جامع الترمذي"(4/ 21 رقم 1405).

(4)

"المجتبى"(8/ 38 رقم 4786).

(5)

"سنن ابن ماجه"(2/ 876 رقم 2624).

(6)

"صحيح البخاري"(6/ 2522 رقم 6468).

ص: 218

قوله: "قتلت هذيل" وهي حيٌّ من مكة. وهو هذيل بن مدركة بن إلياس بن مُضَر.

و"بنو ليث" أيضًا قبيلة. وهو ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة بن خزيمة ابن مدركة بن إلياس بن مُضَر.

قوله: "بقتيل" أي بسبب قتيل كان لهم، ويجوز أن تكون الباء للمقابلة والعِوَض.

قوله: "فهو بخير النظرين" أي بخير الأمرين، يعني القصاص، والديَّة، أيهما اختار كان له.

قوله: "وإما أن يُوَدَّى" من ودَّيت القتيل أَدِيَه دِيَةً، إذا أعطيت ديته.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: ففي هذا الحديث ذكر ما يجب في النفس خاصة، وقد رُوِيَ عن أبي شريح الخزاعي، عن النبي عليه السلام، مثل ذلك.

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن ابن أبي ذئب، قال: حدثني سعيد المقبري، قال: سمعت أبا شريح الكعبي يقول: قال رسول الله عليه السلام في خطبته يوم فتح مكة: "ألا إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل، وأنا عاقله، فمن قتل له بعد مقالتي قتيل، فأهله بين خيرتين: بين أن يأخذوا العقل، وبين أن يقتلوا".

ش: أراد بهذا الحديث: هو الذي أخرجه عن محمد بن ميمون وأبي بكرة.

قوله: "مثل ذلك" أي مثل ما رُوِيَ عن أبي هريرة.

وأخرجه بإسناد صحيح، عن محمد بن خزيمة، عن مسدد شيخ البخاري وأبي داود عن يحيى بن سعيد القطان، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح الكعبي الخزاعي العدوي الصحابي قيل: اسمه خويلد بن عمرو، وقيل: عبد الرحمن بن عمرو، وقيل: هانئ بن عمرو، وقيل: كعب بن عمرو، وقيل: عمرو بن خويلد، والمشهور خويلد بن عمرو.

ص: 219

وأخرجه أبو داود (1): عن مسدد، عن يحيى، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد بن أبي سعيد، قال: سمعت أبا شريح. . . . إلى آخره نحوه.

قوله: "معشر خزاعة" خزاعة حي من الأزد؛ سموا بذلك؛ لأن الأزد لما خزعت عن مكة لتفترق في البلاد تخلفت عنهم خزاعة وأقامت بها.

و"المعشر": واحد المعاشر وهم جماعة الناس.

قوله: "وأنا عاقله" من العَقْل وهو الديّة، وأصله؛ أن القاتل كان إذا قتل قتيلًا جمع الديّة من الإبل فعقلها بفناء أولياء المقتول، أي شدها في عقلها ليسلمها إليهم ويقبضوها منه، فسميت الدية عَقْلًا بالمصدر، يقال: عَقَل البعيرُ يَعْقِله عَقْلًا، وجمعها عُقُول، وكان أصل الدية الإبل، ثم قوّمت بعد ذلك بالذهب والفضة والبقر والغنم وغيرها.

والعاقلة: هم العَصَبَة والأقارب من قِبَل الأب الذين يُعْطُون دية قتيل الخطأ، وهي صفة جماعة عاقلة، وأصلها اسم فاعلة من العَقْل، وهي من الصفات الغالبة.

ص: وقد رُوِيَ عن أبي شريح الخزاعي من غير هذا الوجه عن النبي عليه السلام فيما دون النفس، مثل ذلك أيضًا.

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا محمد بن إسحاق، عن الحارث بن فضيل، عن سفيان بن أبي العوجاء، عن أبي شريح الخزاعي، قال: قال رسول الله عليه السلام: "مَنْ أصيب بدم أو بخبل -يعني بالخبل الجراح- فوليه بالخيار بين إحدى الثلاث: بين أن يعفو، أو يقتص، أو يأخذ الدية. فإن أتى الرابعة فخذوا على يديه، فإن قبل واحدة منهن ثم عداهن بعد ذلك، فله النار خالدًا فيها مخلدًا".

(1)"سنن أبي داود"(2/ 579 رقم 4504).

ص: 220

حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا سعيد بن سليمان، قال: ثنا عباد، عن أبي إسحاق، قال: أخبرني الحارث بن فضيل، عن سفيان بن أبي العوجاء، عن أبي شريح الخزاعي عن النبي عليه السلام مثله.

ففي هذا الحديث أن حكم الجراح العمد كحكم القتيل العمد فيما يجب في كل واحد منهما من القصاص والدية.

ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات.

وأخرجه ابن ماجه (1): نا عثمان وأبو بكر ابنا أبي شيبة، قالا: نا أبو خالد الأحمر.

وثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة، ثنا جرير وعبد الرحمن بن سليمان، جميعًا عن محمد بن إسحاق، عن الحارث بن فضيل، عن ابن أبي العوجاء -واسمه سفيان- عن أبي شريح الخزاعي، قال: قال رسول الله عليه السلام: "مَن أصيب بدم أو خبل -والخبل: الجراح- فهو بالخيار بين إحدى ثلاث، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه: أن يَقْتل، أو يعفو، أو يأخذ الدية. فمن فعل شيئًا من ذلك فعاد، فإن له نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا".

قوله: "أو بخبل" بسكون الباء، وهو فسادُ الأعضاء، يقال: خَبَل الحُبُّ قَلْبَه: إذا أفسده، يَخْبِله ويَخْبُلُه خَبْلًا، ورجل خَبِلَ ومُخْتَبَل أي من أصيب بِقَتْلِ نفس أو قطع عُضوٍ يقال: بنو فلان يطالبون بدماء وخَبْل، أي بقطع [أيدٍ وأرجل](2)، وقد فسره في الحديث بالجراح.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا قُتل عمدًا فوليه بالخيار بين أن يعفو، أو يأخذ الديّة، أو يقتص، رضي بذلك القاتل أو لم يرض.

واحتجوا في ذلك بهذه الآثار.

(1)"سنن ابن ماجه"(2/ 876 رقم 2623).

(2)

كذا في "الأصل، ك"، وفي "النهاية" لابن الأثير، ومنه ينقل المؤلف (2/ 8):"يدٍ أو رجل".

ص: 221

ش: أراد بالقوم هؤلاء: سعيد بن المسيب، ومحمد بن سيرين، ومجاهدًا، والشعبي، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وأبا ثور، وإسحاق؛ فإنهم قالوا: وليُّ المقتول مخير بين هذه الأشياء الثلاثة، سواء رَضِيَ بذلك القاتل أو لم يرض.

وإلى هذا ذهب أهل الظاهر أيضًا.

وقال ابن حزم: صح هذا عن ابن عباس، ورُوِيَ عن عمر بن عبد العزيز وقتادة.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ليس له أن يأخذ الديَة إلا برضى القاتل.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: إبراهيم النخعي، وعبد الله بن ذكوان، وسفيان الثوري، وعبد الله بن شبرمة، والحسن بن حَيّ، وأبا حنيفة، وأبا يوسف ومحمدًا رحمهم الله فإنهم قالوا: ليس لولي المقتول أن يأخذ الديَة إلا برضى القاتل، وليس له إلا القود أو العفو.

ص: وكان من الحجة لهم أن قوله: "أو يأخذ" الدية، قد يجوز أن يكون على ما قال أهل المقالة الأولى، ويجوز أن يأخذ الدية إن أعطيها كما يقال للرجل: خُذ بديتك إن شئت دراهم وإن شئت دنانير وإن شئت عروضًا، وليس المراد بذلك أنه يأخذ ذلك رضي الذي عليه الدين أو كره، ولكن يراد إباحة ذلك له إن أعطيه.

ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية، وأراد بها الجواب عما احتجت به أهل المقالة الأولى من حديث أبي هريرة وأبي شريح الخزاعي، بيانه أن قوله عليه السلام:"أو يأخذ الدية" يحتمل معنيين:

أحدهما: ما قاله أهل المقالة الأولى، وهو أن يأخذها، رضي بذلك القاتل أو لم يرض.

والآخر: يحتمل معناه أن يكون يأخذها إن أعطيها يعني له ذلك إن أعطي، ومثل هذا له نظير في الكلام، وذلك كما يقال للرجل الذي له دين على آخر: خذ بدينك إن شئت دراهم، وإن شئت دنانير، وإن شئت عروضًا فإن معناه إباحة

ص: 222

ذلك له إن أُعطيه، وليس معناه أن يأخذ ذلك سواء رضي الذي عليه الدين أو لم يرض، وكما قال عليه السلام لبلال حين أتاه بتمر:"أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا، ولكن نأخذ الصالح منه بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال عليه السلام: لا تفعل، ولكن بع تمرًا بعرض ثم خذ بالعرض هذا" ومعلوم أنه لم يرد يعني بأخذ التمر بالعرض بغير رضا الآخر، فإذا كان الأمر كذلك لم يجز لأحد الفريقين أن يحمل الحديث على أحد الاحتمالين إلا بدليل من خارج يدل على ذلك، فيترجح به أحد الاحتمالين، ويبقى الاحتمال الآخر في حكم الساقط.

ص: فإن قال قائل: فما حاجتهم إلى ذكر هذا؟

قيل له: لما قد رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما.

حدثنا يونس، قال: سفيان، عن عمرو بن دينار، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال:"كان القصاص في بني إسرائيل ولم يكن فيهم دية. فقال الله عز وجل لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ في الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} (1) إلى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} والعفو في أن يقبل الديَّة في العمد {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} مما كان كتب على من كان قبلكم".

فأخبر ابن عباس رضي الله عنهما أن بني إسرائيل لم يكن فيهم دية، أي: إن ذلك كان حرامًا عليهم أن يأخذوه أو يتعرضوا بالدم بدلًا أو يتركوه حتى يسفكوه وأن ذلك مما كان كتب عليهم، فخفف الله تعالى عن هذه الأمة ونسخ ذلك الحكم بقوله:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (1)، إذا وجب الأداء.

وسنبين ما قيل في ذلك في موضعه من هذا الباب إن شاء الله تعالى. فبين لهم رسول الله عليه السلام أيضًا على هذه الجهة فقال: "مَن قتل له ولي فهو بالخيار بين أن يقتص أو يعفو أو يأخذ الديَّة" التي أبيحت لهذه الأمة وجعل لهم أخذها إذا

(1) سورة البقرة، آية:[178].

ص: 223

اعطوها. هذا وجه يحتمله هذا الحديث. وليس لأحد إذا كان حديث مثل هذا يحتمل وجهين متكافئين أن يعطفه على أحدهما دون الآخر إلا بدليل من غيره يدل أن معناه ما عطفه عليه.

ش: تقرير السؤال أن يقال: إذا كان ولي المقتول ليس له أن يأخذ الديَّة. إلا برضا، فما كانت حاجتهم إلى ذكره عليه السلام. بقوله:"أو يأخذ الدية".

وتقرير الجواب أن يقال: إن أخذ الدية من القاتل كان حرامًا على بني إسرائيل، ولم يكن لهم إلا سفك الدم، وهو القصاص، فخفف الله تعالى على هذه الأمة فأنزل قوله:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ. . . .} (1) الآية، وأطلق لهم أخذ الدية، ونسخ ذلك الحكم تخفيفًا ورحمة، ثم بين لهم رسول الله عليه السلام على هذه الجهة فقال:"من قتل له قتيلٌ فوليه بالخيار؛ إن شاء اقتص، وإن شاء عفى، وإن شاء أخذ الدية التي أبيحت لهم، وجعل لهم أخذها إذا أعطوها"، فأخبر ابن عباس أن الآية كانت ناسخة لما كان على بني إسرائيل من حظر قبول الدية، وأباح للولي قبولها إذا بذلها القاتل تخفيفًا من الله علينا ورحمة بنا، فلو كان الأمر على ما ادعاه أهل المقالة الأولى من إيجاب التخيير لما قال ابن عباس: فالعفو أن يقبل الدية؛ لأن القبول لا يطلق إلا فيما بذل له من غيره، ولو لم يكن أراد بذلك لقال: إذا اختار الولي؛ فثبت بذلك أن المعنى عنده جواز تراضيهما على أخذ الدية.

ثم إسناد حديث ابن عباس صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة.

وأخرجه البخاري (2): ثنا قتيبة بن سعيد: نا سفيان، عن عمرو، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "كان في بني إسرائيل قصاص ولم تكن فيهم الدية، فقال الله

(1) سورة البقرة، آية:[178].

(2)

"صحيح البخاري"(6/ 2523 رقم 6487).

ص: 224

لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ في الْقَتْلَى} (1) إلى هذه الآية {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} (1)، قال ابن عباس: فالعفو أن يقبل الدية في العمد، قال:{فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} (1)، أي: يطلب بمعروف ويؤدي بإحسان.

قوله: "فالعفو أن يقبل الدية في العمد" قد فسر ابن عباس العفو: بقبول الدية في العمد. وهذا ينافي أخذ الدية من غير رضي القاتل كما ذكرنا، وقد ذكر بعضهم أن العفو له في اللغة خمس موارد:

الأول: العطاء، يقال: جاد بالمال عفوًا صفوًا، أي مبذولًا من غير عوض.

الثاني: الإسقاط ونحوه، فاعف عنا، وعفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق.

الثالث: الكثرة، ومنه قوله تعالى:{حَتَّى عَفَواْ} ، أي كثروا، ويقال: عفى الزرع أي: طاب.

الرابع: الذهاب، ومنه قوله: عفت الديار.

الخامس: الطلب يقال: عفوته واعتفيته، ومنه قوله: ما أكلت العافية فهو صدقة، ومنه قول الشاعر:

يطوف العفاة بأبوابه

وإذا كان مشتركًا بين هذه المعاني المتعددة وجب عرضها على مساق الآية ومقتضى الأدلة، فالذي يليق بذلك منها العطاء والإسقاط، فرجح الشافعي الإسقاط؛ لأنه ذكر قبله القصاص، وإذا ذكر العفو بعد العقوبة كان في الإسقاط أظهر.

ورجح مالك وأصحابه العطاء؛ لأن العفو إذا كان بمعنى الإسقاط وصل بكلمة "عن" كقوله: {وَاعْفُ عَنَّا} (2)، وكقوله:"عفوت لكم عن صدقة الخيل"، وإذا كان بمعنى العطاء كانت صلة "له" فيرجح ذلك بهذا.

(1) سورة البقرة، آية:[178].

(2)

سورة البقرة، آية:[286].

ص: 225

وبوجه ثان وهو: أن تأويل مالك هو اختيار حبر القرآن ومن تابعه.

وبوجه ثالث وهو: أن الظاهر في الجزاء هو أن يعود على مَن يعود عليه الشرط، والجزاء عائد إلى الولي، فليعد إليه الشرط، ويكون المراد بـ "مَنْ": مَن كان المراد بالأمر بالاتباع.

الرابع: أنه قال "شيء" مُنَكَّر، ولو كان المراد القصاص لأنكره؛ لأنه مُعَرَّف، وإنما يتحقق التنكير في جانب الدية وما دونه.

وقال ابن العربي في قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ. . . .} (1) إلى آخره: هذا قول مشكل تبلدت فيه ألباب العلماء، واختلفوا في مقتضاه.

فقال مالك -في رواية ابن القاسم: يوجب العمد القود خاصة، ولا سبيل إلى الدية إلا برضا من القاتل، وبه قال أبو حنيفة، وروى أشهب عنه أن الولي مخير بين أحد أمرين: إن شاء قتل، وإن شاء أخذ الدية، وبه قال الشافعي.

وكاختلافهم اختلف مَن مضى من السلف قبلهم. ورُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما: "العفو": أن يقبل الديّة في العمد فيتبع بمعروف ويؤدي إليه بإحسان، يعني يحسن في الطلب من غير تضييق ولا عنف، ويحسن في الأداء من غير مطل ولا تسويف، ونحوه عن قتادة ومجاهد وعطاء والسدِّي، ثم قال ابن العربي: هذا يدور على حرف، وهو معرفة تفسير العفو، وقد ذكرنا الآن ما قالوا في تفسيره ويظهر من ذلك الصحيح من الفاسد مما قاله العلماء في هذا الباب.

قوله: "وجهين متكافئين" أي متماثلين.

ص: فنظرنا في ذلك، هل نجد من ذلك شيئًا يدل على شيء من ذلك؟

فقال أهل المقالة الأول: فقد قال الله عز وجل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} الآية (1).

فأخبر الله عز وجل في هذه الآية أن للولي أن يعفو ويتبع القاتل بإحسان.

(1) سورة البقرة، آية:[178].

ص: 226

فاستدلوا بذلك أن للولي إذا عفى أن يأخذ الدية من القاتل وإن لم يكن اشترط ذلك عليه في عفوه عنه.

ش: أي فنظرنا في الحكم المذكور، هل نجد من دليل يدل على ترجيح أحد الوجهين المتكافئين؟ فقال أهل المقالة الأولى: فقد قال الله عز وجل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} الآية (1)، وقد أخبر الله تعالى في هذه الآية أن الولي له العفو، واتباع القاتل بإحسان، فيدل ذلك أن للولي أن يعفو، فإذا عفى، له أن يأخذ الدية من غير شرط في العفو.

ص: قيل لهم: ما في هذا دليل على ما ذكرتم، وقد يحتمل ذلك وجوهًا: أحدها: ما وصفتم.

ويحتمل أيضًا: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} (2) على الجهة التي قلنا برضا القاتل أن يُعتفى عنه على مال يؤخذ منه.

وقد يحتمل أيضًا أن يكون ذلك في الدم الذي يكون بين جماعة، فيعفو أحدهم، فيتبع الباقون القاتل بحصصهم من الدية بالمعروف، ويؤدي ذلك إليهم بإحسان.

هذه تأويلات قد تأولت العلماء هذه الآية عليها، فلا حجّة فيها لبعض على بعض إلا بدليل آخر في آية أخرى متفق على تأويلها، أو سُنَّة، أو إجماع.

وفي حديث أبي شريح عن النبي عليه السلام: "فهو بالخيار بين أن يعفو أو يقتص أو يأخذ. . . ." الحديث، فجعل عفوه غير أخذه الدية، فثبت بذلك أنه إذا عفى فلا دية له، وإذا كان لا دية له إذا عفى عن الدم، ثبت بذلك أن الذي كان وجب له هو الدم، وأن أخذه الدية التي أبيحت له هو بمعنى أخذها بدلًا من القتل، والإبدال من الأشياء لم نجدها تجب إلا برضى مَن تجب

(1) المرجع السابق.

(2)

سورة البقرة، آية:[178].

ص: 227

عليه ورضى من تجب له، فإذا ثبت ذلك في القتل، ثبت ما ذكرنا، وانتفى ما قال المخالف لنا.

ش: هذا جواب عن استدلال أهل المقالة الأولى المذكور، حاصله: أن قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} الآية (1) يحتمل وجوهًا:

الأول: ما ذكره هؤلاء.

الثاني: يحتمل أن يكون معناه: فعفى عنه على مال يرضاه يؤخذ منه.

الثالث: يحتمل أن يكون ذلك في الدم بين جماعة، إذا عفى بعضهم تحول نصيب الآخرين مالًا، وقد رُوِيَ عن علي وعمر وعبد الله رضي الله عنهم ذلك؛ لأنه قال:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} (1) وهذا يقتضى وقوع العفو عن شيء من الدم، لا عن جميعه، فيتحول نصيب الشركاء مالًا، وعليهم اتباع القاتل بالمعروف، وعليه آداؤه بإحسان.

فهذه تأويلات قد تأولوا هذه الآية عليها، فلا حجة فيها لبعض على بعض إلا بدليل آخر.

قلت: إذا سقط تأويل أهل المقالة الأولى، يتعين الباقي للعمل، ولا شك أن تأويلهم ساقط.

بيان ذلك: أن ظاهر الآية يدفعه ويرده؛ لأن العفو لا يكون مع أخذ الديّة؛ لأن النبي عليه السلام قال: "العمد قود إلا أن يعفو الأولياء" فأثبت له أحد الشيئين: قتل، أو عفو، ولم يثبت له مالًا.

فإن قلت: إذا عفى عن الدم بأخذ المال كان عافيًا، ويتناوله لفظ الآية.

قلت: إن كان الواجب أحد الشيئين فجائز أيضًا أن يكون عافيًا بترك المال، وأخذ القود، فعلى هذا لا يخلو الولي من عفو قتل، أو أخذ المال، وهذا فاسد لا يطلقه أحد. ومن جهة أخرى ينفيه ظاهر الآية، وهو أنه إن كان الولي هو العافي

(1) سورة البقرة، آية:[178].

ص: 228

بترك القود وأخذ المال؛ فإنه لا يقال له: عُفي له، وإنما يقال له: عفي عنه فتقام "اللام" مقام "عن"، أو بحمله على أنه عفي له عن الدم، فينضم حرفًا غير مذكور، ونحن متى استغنينا بالمذكور عن المحذوف، لم يجز لنا إثبات الحذف.

وهَاهنا وجه آخر يَرُدُّ تأويلهم: وهو أن قوله: {مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} (1) كلمة "مِن" تقتضي التبعيض؛ لأن ذلك حقيقتها وبابها، إلا أن تقوم الدلالة على غيره، فيوجب هذا أن يكون العفو عن بعض دم أخيه، وعندهم هو عفو عن جميع الدم وتركه إلى الدية، وفيه إسقاط حكم "مِن"، ومن وجه آخر وهو قوله:{شَيْءٌ} (1) وهذا أيضًا يوجب العفو عن شيء من الدم لا عن جميعه، فمن حمله على الجميع لم يوف الكلام حظه من مقتضاه وموجبه؛ لأنه يجعله بمنزلة ما لو قال: فمن عفي له عن الدم وطولب بالدية فأسقط حكم قوله: "من" وقوله: "شيء"، ولا يجوز لأحد تأويل الآية على وجه يؤدي إلى إلغاء شيء من لفظها ما أمكن استعماله على حقيقته، ومتى استعمل على ما ذكره أهل المقالة الثانية كان موافقًا لظاهر الآية.

وأيضًا فتأويلهم أشد ملاءمة لرواية ابن عباس بنسخ ما كان على بني إسرائيل من إيجاب حكم القود ومنع أخذ البدل، فأبيح لنا بالآية أخذ قليل المال وكثيره، ويكون الولي مندوبًا إلى القبول -إذا سهل له القاتل بإعطائه المال- وموعودًا عليه بالثواب، ويكون السبب الذي نزلت عليه الآية حصول الفضل من بعض على بعض في الديات وأُمِرُوا فيه بالاتباع بالمعروف، وأُمِرَ القاتل بالأداء إليهم بإحسان.

فإن قيل: ما تأوله أهل المقالة الأولى في إيجاب الديّة للولي باختياره من غير رضا القاتل تحتمله الآية، فوجب أن يكون مرادًا؛ إذ ليس فيه نفي لتأويلات غيرهم، ويكون قوله:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} (1) معناه ترك لهم، من قوله: عفت

(1) سورة البقرة، آية:[178].

ص: 229

المنازل إذا تركت حتى درست، والعفو عن الذنوب ترك العقوبة عليها، فيفيد ذلك ترك القود إلى الدية.

قلت: إن كان ذلك كذلك فينبغي أن يكون لو ترك الدية وأخذ القود أن يكون عافيًا؛ لأنه تارك لأخذ الدية وقد سمي ترك المال وإسقاطه: عفوًا، قال الله تعالى:{فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (1) فأطلق اسم العفو على الإبراء من المال، ومعلوم عند الجميع امتناع إطلاق العفو على مَن آثر أخذ القود وترك أخذ الدية فكذلك العادل عن القود إلى أخذ الدية لا يستحق اسم العافي، إذ كان إنما اختار أحد شيئين كان مخيرًا في اختيار أيهما شاء؛ لأن مَن كان مخيرًا بين أحد شيئين فاختار أحدهما، كان الذي اختاره هو حقه الواجب له قد تعين عليه حكمه عند فعله كأنه لم يكن غيره، ألا ترى أن مَن اختار التكفير بالعتق في كفارة اليمين كان العتق هو كفارته؟ كأنه لم يكن غيره، وسقط عنه حكم ما عداه أن يكون من فرضه؟ كذلك هذا الولي لو كان مخيرًا في أحد شيئين من قود أو مال، ثم اختار أحدهما، لم يستحق اسم العافي لتركه أحدهما إلى الآخر، فلما كان اسم العافي منتفيًا عمن ذكرنا حاله؛ لم يجز تأويل الآية عليه. والله أعلم.

قوله: "وفي حديث أبي شريح. . . ." إلى آخره إشارة إلى أن استدلال أهل المقالة الأولى به أيضًا غير صحيح؛ لأن المذكور فيه: "فهو بالخيار بين أن يعفو أو يقتص أو يأخذ الدية" فجعل الشارع عفوه غير أخذه الديّة، فظهر من ذلك أنه إذا عفى لا تكون له دية، وإذا لم تكن له دية بعفوه عن الدم، يثبت بذلك أن الذي كان قد وجب له هو الدم، وأن أخذه الدية التي أباحها الله لهذه الأمّة رحمةً وتخفيفًا، هو الذي يأخذها بدلًا عن ذلك الدم، وأخذ البدل من الشيء لم نجده يجب ألا برضا من يجب عليه، ورضا من يجب له، يعني بالتراضي من الجانبين، وذلك كمتلف المال الذي له مثل لا يعدل عنه إلى غيره إلا بالتراضي، لقوله

(1) سورة البقرة، آية:[237].

ص: 230

تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (1) وقد طعن بعضهم في هذا الكلام، وقال: يرد عليكم ما قلتم فيمن كسر قلب فضة لغيره، فصاحب القلب مخير بين أخذ قلبه المكسور كما هو ولا شيء له، وإن شاء ضمنه قيمته مصوغًا غير مكسور من الذهب، أحب الكاسر أم أبى، وما قلتم فيمن غصب ثوبًا لآخر فقطعه قطعًا يستهلكه به كخرق أو خرق في بعضه، فإن صاحب الثوب مخير بين أن يأخذ ثوبه وقيمة نقصانه، وإن شاء أعطاه للغاصب وألزمه قيمته صحيحًا، فهذه أبدال أوجبتموها بغير رضا الذي ألزمتموها إياه، ولا طيب نفسه.

قلت: لا نسلم أن هذه أبدال أوجبناها بغير التراضي؛ لأن المأخوذ في المسألة الأولى هو القلب مصوغًا غير مكسور من الذهب، وهي مثله في الشرع، قال الله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (1) والمِثْل ينقسم إلى وجهين:

أحدهما: مثله في صفته، وذلك في المكيل والموزون والمعدود.

والآخر: مثله في قيمته؛ لأنه عليه السلام: "قضى في عبد بين رجلين أعتقه أحدهما وهو موسر، أن عليه ضمان نصف قيمته" فجعل المثل اللازم بالاعتداء هو القيمة، فصار أصلًا في هذا الباب، وفي أن المثل قد يقع على القمية ويكون اسمًا لها ويدل على أن المثل قد يكون اسمًا لما ليس هو في صفته إذا كان وزانه وعروضه في القدر المستحق من الجزاء أن مَن اعتدى على غيره بقذف لم يكن المثل المستحق عليه أن يقذف بمثل قذفه؛ بل يكون المثل المستحق عليه هو جلد ثمانين، فإذا كان كذلك فالمأخوذ هاهنا هو المثل بمقتضى النص لا البدل عنه والبدل عنه هو أن يأخذ شيئًا آخر غير القيمة المذكورة، فإذا أراد أن يأخذ شيئًا آخر، ليس له ذلك إلا برضى المأخوذ منه، ورضا الآخذ، وكذلك المأخوذ في

(1) سورة البقرة، آية:[194].

ص: 231

المسألة الثانية هو مثل الثوب وهو القيمة وإذا أراد أن يأخذ شيئًا آخر غير القيمة ليس له ذلك إلا بالتراضي. فافهم.

قوله: "ثبت بذلك أن الذي كان وجب له هو الدم" أي ثبت بما ذكرنا أن الواجب للولي هو القود وأن المال بدل منه، وقد تكلموا فيه أن الواجب للولي بنفس القتل هو القود والدية جميعًا، أو القود دون الدية، أو إحداهما على وجه التخيير، فلا يجوز أن يكون حقه الأمرين جميعًا بالاتفاق، ولا أن يكون أحدهما على حسب ما يختاره الولي كما في كفارة اليمين ونحوها، وذلك لأن الذي أوجبه الله تعالى في الآية هو القصاص، وفي إثبات التخيير بينه وبين غيره زيادة في النص ونفي لإيجاب القصاص، ومثله عندنا يوجب النسخ، فإذا الواجب هو القود لا غير، فلا يجوز له أخذ المال إلا برضى القاتل.

فإن قلت: سلمنا أن الواجب هو القصاص ولهما جميعًا نقله إلى المال بالتراضي إذ ليس في ذلك إسقاط لوجب حكم الآية من القصاص.

قلت: القصاص حق للولي على القاتل من غير إثبات تخيير بين القود وغيره، وتراضيهما على نقله إلى المال لا يخرجه من أن يكون هو الواجب دون غيره؛ لأن ما تعلق حكمه بتراضيهما لا يؤثر في الأصل الذي كان واجبًا من غير خيار، ألا ترى أن الرجل يملك طلاق امرأته ويملك الخلع وأخذ البدل عن الطلاق، وليس في ذلك إثبات ملك الطلاق له ندبًا، على أنه مخير في نقله إلى المال من غير رضي المرأة، وأنه لو كان له أن يطلق ويأخذ المال ندبًا من غير رضاها لكان ذلك موجبًا كونه كونه مالكًا أحد شيئين من طلاق أو مال.

ص: ولما لم يكن فيما احتج به أهل المقالة الأولى لقولهم ما يدل عليه؛ نظرنا هل للآخرين خبر يدل على ما قالوا؛ فإذا أبو بكرة وإبراهيم بن مرزوق قد حدثانا قالا: ثنا عبد الله بن بكر السهمي (ح).

وحدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله الأنصاري، قالا: ثنا

ص: 232

حميد الطويل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه:"أن عمته الربيع لطمت جارية فكسرت ثنيتها، وطلبوا إليهم العفو فأبوا، والأرش، فأبوا إلا القصاص، فاختصموا إلى رسول الله عليه السلام؛ فأمر رسول الله عليه السلام بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله أتكسر ثنية الربيع؟! لا والذي بعثك بالحق؛ لا تكسر ثنيتها، فقال رسول الله عليه السلام: يا أنس كتاب الله عز وجل القصاص، فرضي القوم فعفوا، فقال رسول الله عليه السلام: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره، يزيد بعضهم على بعض".

فلما كان الحكم الذي حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم على الربيع للمنزوعة ثنيتها هو القصاص ولم يخيرها بين القصاص وأخذ الدية.

وحاج أنس بن النضر حين أبى ذلك، فقال:"يا أنس كتاب الله عز وجل القصاص" فعفا القوم فلم يقض لهم بالدية.

ثبت بذلك أن الذي يجب بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه السلام في العمد هو القصاص؛ لأنه لو كان يجب للمجني عليه الخيار بين القصاص وبين العفو، فما يأخذ به الجاني إذًا لخيرها رسول الله عليه السلام ولا علمها بما لها أن تختاره من ذلك، ألا ترى أن حاكمًا لو تقدم إليه رجل في شيء يجب له فيه أخذ شيئين فثبت عنده أنه لا يحكم له بأحد الشيئين دون الآخر؛ وإنما يحكم له بأن يختار ما أحب من كذا ومن كذا، فإن تعدى ذلك فقد قصَّر عن فهم الحكم، ورسول الله عليه السلام أحكم الحكماء، فلما حكم بالقصاص، وأخبر أن كتاب الله عز وجل القصاص؛ ثبت بذلك أن الذي في مثل ذلك هو القصاص لا غيره.

فلما ثبت هذا الحديث على ما ذكرنا، وجب أن نعطف عليه حديث أبي شريح وأبي هريرة، فنجعل قول رسول الله عليه السلام فيهما:"فهو بالخيار بين أن يعفو أو يقتص أو يأخذ الدية" على الرضا من الجاني بغرم الدية، حتى يتفق معنى هذين الحديثين، ومعنى حديث أنس رضي الله عنه.

ش: لما أبطل ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى وبيّن أن حججهم غير دالة على

ص: 233

دعواهم، شرع في بيان دليل يدل على صحة ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية، من أن موجب القتل العمد هو القود لا المال، وأن المال بدل عنه، فلا يصار إليه إلا بالتراضي، وهو حديث أنس رضي الله عنه.

أخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن أبي بكرة بكّار القاضي، وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن عبد الله بن بكر السهمي، عن حُميد الطويل، عن أنس رضي الله عنه.

وأخرجه البخاري (1): نا محمد [بن سلام، أخبرنا](2) الفزاري، عن حميد الطويل، عن أنس، قال:"كَسَرت الرُّبيِّع -وهي عمة أنس بن مالك- ثنية جارية من الأنصار، فطلب القوم القصاص، فأتوا النبي عليه السلام، فأمر رسول الله عليه السلام بالقصاص، فقال أنس بن النضر -عم أنس بن مالك-: والله لا تكسر ثنيتها، فقال رسول الله عليه السلام: يا أنس كتاب الله القصاص، فرضي القوم وقبلوا الأرش، فقال رسول الله عليه السلام: إن من عباد الله مَن لو أقسم على الله لأبرَّه".

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن محمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري البصري القاضي، عن حميد الطويل، عن أنس رضي الله عنه.

وأخرجه أبو داود (3): نا مسدد، نا معتمر بن سليمان، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال:"كسرت الرُّبيِّع أخت أنس بن النضر ثنية امرأة، فأتوا النبي عليه السلام، فقضى بكتاب الله القصاص، فقال أنس بن النضر: والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنيتها اليوم، فقال: يا أنس، كتاب الله القصاص، فرضوا بأرش أخذوه، فعجب النبي عليه السلام فقال: إن مِن عباد الله مَن لو أقسم على الله لأبره".

قال أبو داود: سألت أحمد بن حنبل: كيف يقتص من السن؟ قال: يبرد.

(1)"صحيح البخاري"(4/ 1685 رقم 4325).

(2)

ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "صحيح البخاري".

(3)

"سنن أبي داود"(2/ 607 رقم 4595).

ص: 234

وأخرجه النسائي (1): أنا حميد بن مسعدة وإسماعيل بن مسعود، قالا: نا بشر بن المفضل، عن حُميد .. إلى آخره نحوه.

وابن ماجه (2): نا ابن مثنى، عن خالد وابن أبي عدي، عن حميد .. إلى آخره نحوه.

وأخرجه مسلم (3): نا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا عفان، نا حماد بن سلمة، نا ثابت، عن أنس:"أن أخت الربيع -أم حارثة- جرحت إنسانًا، فاختصموا إلى النبي عليه السلام، فقال رسول الله عليه السلام: القصاص، القصاص، فقالت أم الرُّبيِّع: يا رسول الله أيقتص من فلانة؟! والله لا يقتص منها أبدًا، فما زالت حتى قبلوا منها الدية، فقال رسول الله عليه السلام: إن من عباد الله مَن لو أقسم على الله لأبره".

قوله: "أن عمته الرُّبيِّع" بضم الراء وفتح الباء الموحدة وتشديد الياء آخر الحروف، وهي بنت النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر ابن غنم بن عدي بن الجار، وهي أخت أنس عم أنس بن مالك خادم النبي عليه السلام وهي أم حارثة بن سراقة، الذي استشهد بين يدي النبي عليه السلام ببدر.

وفي الصحابيات ربيع أخرى، وهي بنت معوذ بن عفراء، وعفراء أمه وهو: معوذ بن الحارث بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاري، وهي من المبايعات تحت الشجرة.

وقد وقع في رواية مسلم: أن التي لطمت الجارية هي أخت الربيع كما قال ابن أخت الربيع أم حارثة: جرحت إنسانًا. . . . الحديث"، كما ذكره آنفًا.

قوله: "فقال أنس بن النضر" ابن ضمضم، وهو عم أنس بن مالك خادم النبي عليه السلام.

(1)"المجتبى"(8/ 27 رقم 4756).

(2)

"سنن ابن ماجه"(2/ 884 رقم 2649).

(3)

"صحيح مسلم"(3/ 1302 رقم 1675).

ص: 235

قوله: "أتكسر ثنية الربيع" استفهام على سبيل الإنكار.

قوله: "كتاب الله القصاص" أراد قول الله تعالى: {السِّنَّ بِالسِّنِّ} .

قوله: "إن من عباد الله .. إلى آخره" قاله رسول الله عليه السلام تعجبًا من قسم أنس بن النضر.

وإبرار الله تعالى قسمه يستفاد منه أحكام:

الأول: فيه جواز العفو للولي عن القصاص؛ وأخذ الدية بالتراضي.

الثاني: فيه أن السن بالسن، لقوله عليه السلام:"كتاب الله القصاص" فتأخذ الثنية بالثنية، والناب بالناب، والضرس بالضرس، والأعلى بالأعلى، والأسفل بالأسفل؛ وسواء في ذلك كسر السن أو قلعها، وكيفية ذلك أن يؤخذ في الكسر من سن الكاسر مثل ما كسر بالمبرد، وفي القلع يؤخذ سنه بالمبرد إلى أن ينتهي إلى اللحم ويسقط ما سوى ذلك.

وقيل في القلع: تقلع سنهُ؛ لأن تحقيق المماثلة فيه، والأولى الاستيفاء على وجه النقصان؛ إلا أن في القطع احتمال الزيادة؛ لأنه لا يؤمن فيه أن يفعل المقلوع أكثر مما فعل القالع.

الثالث: فيه إشارة إلى أفضلية العفو عن القصاص وتركه بالكلية، أو أخذه الأرش بالتراضي.

الرابع: فيه أن وجوب القصاص هو العمد.

الخامس: فيه أنه لا خيار للولي بين القصاص وأخذ المال، إذ لو كان له الخيار؛ لكان رسول الله عليه السلام خير المنزوعة ثنيتها بين القصاص وأخذ المال، فلما حكم بالقصاص وأخبر أنه كتاب الله القصاص؛ ثبت بذلك أن الواجب هو القصاص في مثل هذه الصورة، لا المال؛ فإذا اختار الولي المال ليس له ذلك إلا بالتراضي، ولا يجوز لأحد إثبات شيء معه ولا نقله إلى غيره إلا بمثل ما يجوز نسخ الكتاب، وهذا معنى قوله:"فلما كان الحكم الذي حكم به رسول الله عليه السلام. . . . إلى آخره".

ص: 236

فإن قيل: قد ذكرت فيما مضى أن قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} (1) أن أحد التأويلات فيه تحتمل جواز أخذ المال من غير رضي القاتل، فيعمل بذلك التأويل.

قلت: لما كثرت التأويلات في الآية المذكورة صارت مثل المتشابه؛ لكونها مشتركة محتملة للمعاني، ومعلوم أن قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} (1) بحكم ظاهر المعنى بين المراد، لا اشتراك في لفظه، ولا احتمال في تأويله، وحكم المتشابه أن يحمل على المعنى المحكم ويرد إليه بقوله تعالى:{مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (2) إلى قوله: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (2) فأمر الله عز وجل برد المتشابه إلى المحكم؛ لأن وصفه بالمحكم بأنه أم الكتاب يقتضي أن يكون غيره محمولًا عليه، ومعناه معطوفًا عليه؛ إذ كان أم الشيء ما منه ابتداؤه وإليه مرجعه، ثم ذم من اتبع المتشابه واكتفى بما احتمله اللفظ من تأويله، غير رد له إلى المحكم، وحمله على موافقته في معناه، وحكم عليهم بالزيغ في قلوبهم.

وإذا ثبت هذا، أو ثبت أن قوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} (1) محكم، وقوله:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} (1) متشابه، وجب حمل معناه على معنى المحكم من غير مخالفة له ولا إزالة لشيء من حكمه، وهو أن يكون على الوجه الذي ذكرنا من التأويلات وهو وجوب القصاص من غير معنى آخر يُضَم إليه، ولا عدول عنه إلى غيره.

قوله: "إذًا لخيرها" أي حينئذٍ لخير رسول الله عليه السلام المنزوعة ثنيتها.

قوله: "ألا ترى. . . . إلى آخره" توضيح لما قبله.

قوله: "ورسول الله عليه السلام أحكم الحكماء". بمعنى أحكم الناس الحاكمين وأدراهم بالحكم.

(1) سورة البقرة، آية:[178].

(2)

سورة آل عمران، آية:[7].

ص: 237

والحكماء: جمع حكيم، وليس جمع حاكم، ولم يقل: أحكم الحاكمين -وإن كان المعنى على هذا- تأدبًا؛ لأن أحكم الحاكمين هو الله تعالى.

قوله: "فلما ثبت هذا الحديث". يعني حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وجب أن يُعطف عليه بمعنىً يُضَم إليه ويقرن بينه، وبين حديثي أبي شريح الخزاعي وأبي هريرة لتتفق معاني الأحاديث ولا تختلف.

ص: فإن قال قائل: فإن النظر يدل على ما قال أهل المقالة الأولى، وذلك أن على الناس أن يستحيوا أنفسهم، فإذا قال الذي له سفك الدم: قد رضيت بأخذ الدية وتركت سفك الدم؛ وجب على القاتل استحياء نفسه، فإذا وجب ذلك عليه؛ أُخِذَ من ماله وإن كره، فالحجة عليه في ذلك أن على الناس استحياء أنفسهم -كما ذكر- بالدية، وبما جاوز الدية وبجميع ما يملكون.

وقد رأيناهم أجمعوا أن الولي لو قال للقاتل: قد رضيت أن آخذ دارك هذه على ألا أقتلك، أن الواجب على القاتل فيما بينه وبين الله عز وجل تسليم ذلك وحقن دم نفسه، فإن أبى، لم يجبر عليه باتفاقهم، ولم يؤخذ منه كرهًا فَيُدْفع إلى الولي، فكذلك الدية إذا طلبها الولي فإنه يجب على القاتل فيما بينه وبين ربه أن يستحيي نفسه بها، وإن أبى لم يجبر عليه، ولم يؤخذ منه كرهًا.

ش: تقرير السؤال أن يقال: إن وجه النظر والقياس يقتضي صحة ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى؛ وذلك لأنه يجب على الناس أن يستحيوا أنفسهم، يعني يجب عليهم أن يسعوا في إبقاء أنفسهم وإحيائها، فإذا قال الولي الذي له سفك دم القاتل فقد رضيت بأخذ المال وتركت سفك الدم، وجب على القاتل إحياء نفسه وإبقاؤها، فإذا كان هذا واجبًا عليه، يؤخذ منه المال رضي أم لم يرض.

وتقرير الجواب: هو ما أشار إليه بقوله: "فالحجة عليه في ذلك". أي فالدليل والبرهان على هذا القائل فيما قاله.

ص: 238

وأراد بها الجواب عن سؤاله، بيانه أن يقال: يجب على كل أحد إحياء نفسه بدفع الديّة وبدفع أكثر منها وبدفع جميع ما يملكه لإبقاء نفسه، وقد أجمعوا أن الولي إذا طلب من القاتل شيئًا مُعَيَّنًا ليترك قتله؛ فإنه يجب عليه فيما بينه وبين الله أن يدفع إليه ذلك الشيء لحقن دمه، ومع هذا لو أبى وامتنع من ذلك لا يجبر عليه ولا يؤخذ منه كرهًا، فكذلك الدية إذا طلبها ولي المقتول يجب على القاتل فيما بينه وبين الله تعالى أن يدفعها إليه؛ حقنًا لدمه، فإن أبى وامتنع لم يجبر عليه ولا يؤخذ منه كرهًا، وكذلك يجب على كل أحد إحياء غيره إذا خاف التلف عليه، مثل أن يرى إنسانًا قصد بالقتل أو خاف عليه الغرق يجب عليه تخليصُه، أو كان معه طعام وخاف عليه أن يموت من الجوع، فعليه إحياؤه بطعامه وإن كثرت قيمته، فإن كان على القاتل إعطاء المال لإحياء نفسه، فعلى الولي إحياؤه إذا أمكنه ذلك، فوجب على هذه القضية إجبار الولي على أخذ المال إذا بَذل القاتل، وهذا يؤدي إلى بطلان القصاص أصلًا؛ لأنه إذا كان على واحد منهما إحياء نفس القاتل فعليهما التراضي على أخذ المال وإسقاط القود، فينبغي إذا طلب الولي داره أو عبده أو ديات كثيرة؛ كان عليه أن يعطيه؛ لأنه لا يختلف فيما يلزمه إحياء نفسه حكم القليل والكثير.

فلما لم يلزمه إعطاء أكثر من الدية عند القائلين بهذه المقالة؛ كان بذلك انتقاض هذا الاعتلال وفساده ..

فإن قيل: احتج المزني للشافعي ومن تبعه في هذه المسألة، وقال: لو صالح في حد القذف على مال أو كفالة نفس؛ لبطل الحد والكفالة، ولم يستحق شيئًا، ولو صالح في دم عمد على مالٍ، صح باتفاق الجميع.

فدل ذلك على أن دم العمد مالٌ في الأصل، لولا ذلك لما صح الصلح، كما لم يصح عن حد القذف والكفالة.

ص: 239

قلت: فيما قاله المزني خطأ ومناقضة، أما الخطأ: فهو أن من أصل أهل المقالة الثانية: أن الحد لا يبطل بالصلح ويبطل بالمال، والكفالة بالنفس فيها روايتان:

إحداهما: لا تبطل أيضًا.

والأخرى: أنها تبطل.

وأما المناقضة: فهي اتفاق الجميع على جواز أخذ المال على الإطلاق، ولا خلاف أن الطلاق في الأصل ليس بمال، وأنه ليس للزوج أن يلزمها مالًا عن طلاق بغير رضاها، على أن الشافعي: قد قال -فيما حكاه المزني عنه: إن عفو المحجور عليه عن الدم جائز وليس لأصحاب الوصايا والديون منعه من ذلك؛ لأن المال لا يملك مع العمد إلا باختيار المجني عليه، فلو كان الدم مالًا في الأصل؛ لثبت فيه الغرماء وأصحاب الوصايا، وهذا يدل على أن موجب العمد عنده هو القود لا غير، وإن لم يوجب له خيارًا من القتل والدية.

فإن قلت: قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} (1) يوجب لوليه الخيار بين أخذ القود والمال إذْ كان اسم السلطان يقع عليهما.

والدليل عليه أن بعض المقتولين ظلمًا ثبت فيه الدية نحو قتل شبه العمد، والأب إذا قتل ابنه، وبعضهم يُجِبْ فيه القود، وذلك يقتضي أن يكون جميع ذلك مرادًا بالآية؛ لاحتمال اللفظ لهما، وقد تأوله الضحاك بن مزاحم على ذلك فقال في معنى قوله:{فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} (1) أنه إن شاء قتل، وإن شاء عفى، وإن شاء أخذ الدية.

فلما احتمل السلطان ما وصفنا؛ وجب إثبات سلطانه في أخذ المال كهو في أخذ القود؛ لوقوع الاسم عليهما.

قلت: حَمْله على القود أولى من حمله على الدية؛ لأنه لما كان "السلطان" لفظًا مشتركًا محتملًا للمعاني، كان متشابهًا فيجب رده إلى الحكم، وحمله على

(1) سورة الإسراء، آية:[33].

ص: 240

معناه، وهي آية محكمة في وجوب القصاص وهو قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ في الْقَتْلَى الْحُرُّ} (1) فوجب أن يكون من حيث ثبت أن القود مراد بالسلطان المذكور في هذه الآية، أن يكون مقطوعًا حتمًا في الآية المحكمة من ذكر إيجاب القصاص، وليس معك آية محكمة في إيجاب المال على قاتل العمد، فيكون معنى المتشابه محمولًا عليه؛ فلذلك وجب الاقتصار بمعنى الاسم على القود دون المال وغيره، لموافقته المعنى المحكم الذي لا اشتراك فيه، على أن في الآية ما يدل على أن المراد القود دون ما سواه؛ لأنه قال:{فَلَا يُسْرِفْ في الْقَتْلِ} (2) والسرف فيه: أن يقتل غير قاتله، أو أن يمثل بالقاتل فيقتله على غير الوجه المستحق للقتل، وفي ذلك دليل على أن المراد بقوله:{سُلْطَانًا} (2) القود. والله أعلم.

ص: ثم رجعنا إلى أهل المقالة الأولى في قولهم: "إن للولي أن يأخذ الدية وإن كره ذلك الجاني".

فنقول لهم: ليس يخلو ذلك من أحد وجوه ثلاثة:

إما أن يكون ذلك؛ لأن الذي له على القاتل هو القصاص والدية جميعًا، فإذا عفى عن القصاص فأبطله بعفوه، كان له أخذ الدية.

وإما أن يكون الذي وجب له هو القصاص خاصة، ولكن له أن يأخذ الدية بدلًا من ذلك القصاص.

وإما أن يكون الذي وجب له هو أحد أمرين: إما القصاص، وإما الدية، يختار من ذلك ما شاء.

ليس يخلو ذلك من أحد هذه الوجوه الثلاثة، فإن قلتم: الذي وجب له هو القصاص والدية جميعًا فهذا فاسد؛ لأن الله عز وجل لم يوجب على أحد فَعل فعْلًا أكثر مما فعل، وقد قال الله عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ

(1) سورة البقرة، آية:[178].

(2)

سورة الإسراء، آية:[33].

ص: 241

بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (1) فلم يوجب الله عز وجل على أحد بفعله أكثر مما فعل، ولو كان كذلك لوجب أن يقتل ويأخذ الدية، فلما لم يكن له بعد قتله أخذ الدية، دلَّ ذلك على أن الذي كان وجب له هو خلاف ما قلتم.

وإن قلتم: إن الذي وجب له هو القصاص خاصة، ولكن له أن يأخذ الدية بدلًا من ذلك القصاص فإنَّا لا نجد حقًّا لرجل يكون له أن يأخذ به بدلًا بغير رضا مَن عليه ذلك الحق؛ فبطل هذا المعنى أيضًا.

وإن قلتم: إن الذي وجب له هو أحد أمرين: إما القصاص، وإما الدية، يأخذ منهما ما أحب، ولم يجب له أن يأخذ واحدًا منهما دون الآخر، فإنه ينبغي إذا عفى عن أحدهما بعينه ألا يجوز عفوه؛ لأن حقه لم يكن هو المعفو عنه بعينه، فيكون له إبطاله، إنما كان له أن يختاره فيكون هو حقه، أو يختار غيره فيكون هو حقه، فإذا عَفَى عن أحدهما قبل اختياره إياه، وقبل وجوبه له بعينه، فعفوه باطل، ألا ترى أن رجلًا لو جرح أبوه عمدًا، فعفى عن جارح أبيه، ثم مات أبوه من تلك الجراحة ولا وارث له غيره، أن عفوه باطل؛ لأنه إنما عفى قبل وجوب العفو عنه له؟

فلما كان ما ذكرنا كذلك، وكان العفو عن القاتل قبل اختياره القصاص أو الدية جائزًا؛ ثبت بذلك أن القصاص قد كان وجب له بعينه قبل عفوه عنه، ولولا وجوبه له إذًا لما كان له إبطاله بعفوه، كما لم يجز عفو الابن عن دم أبيه قبل وجوبه له.

ففي ثبوت ما ذكرنا وانتفاء هذه الوجوه التي وصفنا؛ ما يدل على أن الواجب على القاتل عمدًا أو الجارح عمدًا هو القصاص لا غير ذلك من دية ولا غيرها؛

(1) سورة المائدة، آية:[45].

ص: 242

إلا أن يصطلح هو إن كان حيًّا، أو وارثه إن كان ميتًا، والذي وجب ذلك عليه على شيء، فيكون الصلح جائزًا على ما اصطلحا عليه من دية أو غيرها.

وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد رحمهم الله.

ش: أشار بهذا إلى الجواب عن قول أهل المقالة الأولى: "أن للولي أن يأخذ الدية، وإن كره ذلك الجاني" وبيَّن أن هذا فاسد؛ لأن هذا لا يخلو عن أحد الوجوه الثلاثة: وهي أن يكون الواجب على القاتل هو القصاص والدية جميعًا، أو القصاص وحده ولكن له أخذ الدية بدلًا منه، أو يكون الولي مخيرًا بينهما؛ فلا سبيل إلى الأول لفساده بالنص، وهو قوله تعالى:{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (1)، ولا سبيل إلى الثاني أيضًا على الوجه الذي ذكرتم؛ لأن الرضا شرط، ولا نجد حقًّا لرجل يكون له أخذ بدله بغير رضا مَن عليه ذلك الحق.

فإن اعترض معترض بمسألة القلب إذا كسره رجل، وبالثوب الذي غصبه رجل فقطعه قطعًا استهلك به؛ فجوابه ما ذكرنا فيما مضى من هذا الباب.

ولا سبيل إلى الثالث أيضًا على الوجه الذي ذكرتم، وبَيَّن فساده بقوله:"وإن قلتم: إن الذي وجب له هو أحد أمرين. . . ." إلى آخره.

فإذا بطلت هذه الوجوه، ثبت أن الواجب على القاتل عمدًا أو الجارح عمدًا هو القصاص لا غير؛ إلا أن يأخذ المال بالتراضي كما ذكرنا. والله أعلم.

(1) سورة المائدة، آية:[45].

ص: 243