المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: شبه العمد الذي لا قود فيه، ما هو - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٥

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: بابُ: الرجل يحلف لا يكِّلم الرجل شهرًا كم عدد ذلك الشهر من الأيام

- ‌ص: بابُ: الرجل يُوجب على نفسه أن يصلي في مكان فيصلي في غيره

- ‌ص: بابُ: الرجل يوجب على نفسه المشي إلى بيت الله الحرام

- ‌ص: بابُ: الرجل ينذر وهو مشرك نذرًا ثم يُسلم

- ‌ص: كتاب العتاق

- ‌ص: باب: العبد يكون بين الرجلين فيعتقه أحدهما

- ‌ص: باب: الرجل يملك ذا رحم محرَّم منه هل يعتق عليه أم لا

- ‌ص: باب: المكاتب متى يعتق

- ‌ص: باب: الأَمة يطأها مولاها، ثم يموت وقد جاءت بولد في حياته هل يكون ابنه وتكون له أُمّ ولدٍ أَمْ لا

- ‌ص: كتاب الرهن

- ‌ص: باب: ركوب الرهن واستعماله وشرب لبنه

- ‌ص: باب: الرهن يهلك في يد المرتهن كيف حكمه

- ‌ص: كتاب الشفعة

- ‌ص: باب: الشفعة بالجوار

- ‌ص: كتاب الجنايات

- ‌ص: باب: ما يجب في قتل العمد وجرح العمد

- ‌ص: باب: الرجل يَقتل الرجل كيف يُقتَل

- ‌ص: باب: شبه العمد الذي لا قود فيه، ما هو

- ‌ص: باب: شبه العمد هل يكون فيما دون النفس كما يكون في النفس

- ‌ص: باب: الرجل يقول عند موته: إن مُت ففلان قتلني

- ‌ص: باب: المؤمن يقتل الكافر متعمدًا

- ‌ص: باب: القسامة هل تكون على ساكني الدار الموجود فيها القتيل أو مالكها

- ‌ص: باب: القسامة كيف هى

- ‌ص: باب: ما أصاب البهائم في الليل والنهار

- ‌ص: باب: غرة الجنين المحكوم بها فيه. لمن هي

- ‌ص: كتاب الحدود

- ‌ص: باب: حد البكر في الزنا

- ‌ص: باب: حد الزاني المحصن

- ‌ص: باب: الاعتراف بالزنا الذي يجب به الحد

- ‌ص: باب: الرجل يزني بجارية امرأته

- ‌ص: باب: من تزوج امرأة أبيه أو ذات محرم منه فدخل بها

- ‌ص: باب: حد الخمر

- ‌ص: باب: من سكر أربع مرات ما حده

- ‌ص: باب: المقدار الذي يقطع فيه السارق

الفصل: ‌ص: باب: شبه العمد الذي لا قود فيه، ما هو

‌ص: باب: شبه العمد الذي لا قود فيه، ما هو

؟

ش: أي هذا باب في بيان حكم شبه العمد الذي لا يجب فيه القصاص، ما هو؟

ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: أنا هشيم، عن خالد الحذاء، عن القاسم بن ربيعة بن جوشن، عن عقبة بن أوس السدوسي، عن رجل من أصحاب النبي عليه السلام:"أن رسول الله عليه السلام خطب يوم فتح مكة فقال في خطبته: أما إن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر، فيه دية مغلظة مائة من الإبل، منها أربعون خَلِفة، في بطونها أولادها".

ش: إسناده صحيح.

ويحيى بن يحيى النيسابوري شيخ مسلم والبخاري.

والقاسم بن ربيعة بن جوشن -بالنون في آخره- الغطفاني الجوشني، وثقه ابن المديني.

وعقبة بن أوس -ويقال: يعقوب بن أو- السدوسي البصري، قال العجلي: بصري ثقة تابعي.

وأخرجه الدارقطني في "سننه"(1): ثنا الحسين بن إسماعيل القاضي، ثنا العباس بن يزيد البحراني، ثنا يزيد بن زريع وبشر بن المفضل، قالا: ثنا خالد الحذاء، عن القاسم بن ربيعة، عن يعقوب بن أوس -قال بشر: وهو الذي كان يقول محمَّد بن عقبة بن أوس- عن رجل من أصحاب النبي عليه السلام: "أن رسول الله عليه السلام لما دخل مكة عام الفتح قال: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا إن كل مأثرة تعد وتدعى ودم ومال تحت قدمي هاتين، غير سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وإن في قتيل الخطأ العمد -قتيل السوط والعصا- مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها".

(1)"سنن الدارقطني"(3/ 103 رقم 76).

ص: 289

وهذا الحديث اختلفت الرواية فيه، وساقه البخاري في "التاريخ الكبير" (1) وكذا الدارقطني في "سننه" وقال بعد أن أخرجه بالطريق المذكور: ثنا (2) الحسين بن إسماعيل، ثنا العباس بن يزيد، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا شعبة، عن أيوب السختياني، عن القاسم بن ربيعة، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي عليه السلام، مثله في أسنان الإبل ولم يذكر غير ذلك، كذا رواه أيوب، عن القاسم بن ربيعة لم يذكر يعقوب بن أوس، وأسنده عن عبد الله بن عمرو.

ورواه علي بن زيد بن جدعان، عن القاسم بن ربيعة، عن عبد الله بن عمر ابن الخطاب.

كذلك رواه عنه ابن عيينة ومعمر، وخالفهما حماد بن سلمة فرواه عن علي بن زيد، عن يعقوب السدوسي، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي عليه السلام.

لم يذكر القاسم بن ربيعة، وأسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

ورواه حميد الطويل، عن القاسم بن ربيعة، عن النبي عليه السلام قاله حماد بن سلمة عنه.

حدثنا (3) عثمان بن أحمد الدقاق: ثنا حنبل بن إسحاق، ثنا أبو سلمة، ثنا وهيب، عن خالد، عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو:"أن النبي عليه السلام لما فتح مكة قال: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا إن كل مأثرة كانت تُعدّ أو تدعى تحت قدمي هاتين إلا السدانة والسقاية، ألا وإن قتيل الخطأ شبه العمد -قتيل السوط والعصا- دية مغلظة منها أربعون في بطونها أولادها، يعني مائة من الإبل".

حدثنا (4) أحمد بن عيسى بن السكين، ثنا إسحاق بن زريق، ثنا إبراهيم بن

(1)"التاريخ الكبير"(6/ 434).

(2)

"سنن الدارقطني"(3/ 104 رقم 77).

(3)

"سنن الدارقطني"(3/ 104 رقم 78).

(4)

"سنن الدارقطني"(3/ 105 رقم 79).

ص: 290

خالد، ثنا الثوري، عن خالد الحذاء، عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عن رجل من أصحاب النبي عليه السلام قال: "لما قدم النبي عليه السلام مكة. . . . فذكر نحوه.

قال ابن سكين: "ألا إن قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا. . . ." نحوه.

حدثنا (1) أبو حامد محمَّد بن هارون، ثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، ثنا سفيان بن عُيينة، عن علي بن زيد، عن القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"قام النبي عليه السلام على درج الكعبة يوم الفتح فقال: الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ألا إن قتيل العمد الخطأ -بالسوط أو العصا- مائة من الإبل مغلظة منها أربعون خَلِفَة في بطونها أولادها، ألا إن كل مأثرة في الجاهلية -دم ومال- تحت قدمي هاتين إلا ما كان من سدانة البيت أو سقاية الحاج، فإني أمضيتها لأهلها كما كانت".

حدثنا (2) محمَّد بن إسماعيل الفارسي، ثنا إسحاق بن إبراهيم، ابنا عبد الرزاق، عن معمر، عن علي بن زيد، عن القاسم، عن ابن عمر قال:"سمعت النبي عليه السلام يقول على درج الكعبة .. ثم ذكر نحوه".

وأخرجه أبو داود (3): نا سليمان بن حرب ومسدد، قالا: ثنا حماد، عن خالد، عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو:"أن رسول الله عليه السلام-قال مسدد: خطب يوم الفتح بمكة فكبر ثلاثًا ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده -إلى هاهنا حفظته من مسدد، ثم اتفقا- فقال: ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية تذكر وتدعى من دم أو مال تحت قدميّ، إلا ما كان من سقاية الحاج وسدانة البيت، ثم قال: ألا إن دية الخطأ شبه العمد -ما كان بالسوط والعصا- مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها" حديث مسدد أتم.

(1)"سنن الدارقطني"(3/ 105 رقم 80).

(2)

"سنن الدارقطني"(3/ 105 رقم 81).

(3)

"سنن أبي داود"(2/ 593 رقم 4547).

ص: 291

قال: ثنا مسدد، قال: ثنا عبد الوارث، عن علي بن زيد، عن القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام.

ورواه أيوب عن القاسم بن ربيعة، عن عبد الله بن عمرو، مثل حديث خالد.

ورواه حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يعقوب السدوسي، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي عليه السلام. وهو قول زيد وأبي موسى وعمر مثل حديث النبي عليه السلام.

وأخرجه النسائي (1): أنا محمَّد بن بشار، ثنا عبد الرحمن، نا شعبة، عن أيوب السختياني، عن القاسم بن ربيعة، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي عليه السلام قال:"قتيل الخطأ شبه العمد -بالسوط أو العصا- مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادها".

أخبرني (2) محمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم، نا يونس، نا حماد، عن أيوب، عن القاسم بن ربيعة:"أن رسول الله عليه السلام خطب يوم الفتح. ." مرسل.

أخبرني (3) يحيى بن حبيب بن عربي، ثنا حماد، عن خالد -يعني الحذاء- عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله:"أن رسول الله عليه السلام قال: "ألا وإن قتيل الخطأ شبه العمد -ما كان بالسوط والعصا- مائة من الإبل، أربعون في بطونها أولادها".

ثنا (4) محمد بن كامل، ثنا هشيم، عن خالد، عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عن رجل من أصحاب النبي عليه السلام قال:"خطب النبي عليه السلام يوم فتح مكة فقال: ألا وإن قتيل الخطأ العمد -بالسوط والعصا والحجر- مائة من الإبل منها أربعون ثنية إلى بازل عامها، كلهن خَلِفَة".

(1)"المجتبى"(8/ 40 رقم 4791).

(2)

"المجتبى"(8/ 40 رقم 4792).

(3)

"المجتبى"(8/ 41 رقم 4793).

(4)

"المجتبى"(8/ 41 رقم 4794).

ص: 292

أنا (1) محمَّد بن بشار، عن ابن أبي عدي، عن خالد، عن القاسم، عن عقبة ابن أوس، أن رسول الله عليه السلام قال:"ألا إن قتيل الخطأ -قتيل السوط والعصا- فيه مائة من الإبل مغلظة، أربعون منها في بطونها أولادها".

أنا (2) إسماعيل بن مسعود، نا بشر بن المفضل، عن خالد الحذاء، عن القاسم بن ربيعة، عن يعقوب بن أوس، عن رجل من أصحاب النبي عليه السلام:"أن رسول الله عليه السلام لما دخل مكة يوم الفتح قال: ألا وإن كل قتيل خطأ العمد -أو شبه العمد قتيل السوط والعصا- منها أربعون في بطونها أولادها".

أخبرنا (3) محمَّد بن عبد الله بن بزيع، ثنا يزيد، نا خالد، عن القاسم بن ربيعة، عن يعقوب بن أوس، أن رجلًا من أصحاب النبي عليه السلام حدثه:"أن رسول الله عليه السلام لما قدم مكة عام الفتح قال: ألا وإن قتيل الخطأ العمد -قتيل السوط والعصا- منها أربعون في بطونها أولادها".

أنا (4) محمَّد بن عبد الله بن بزيع، ثنا يزيد، عن خالد، عن القاسم بن ربيعة، عن يعقوب بن أوس أن رجلًا من أصحاب النبي عليه السلام حدثه:"أن النبي عليه السلام دخل مكة عام الفتح قال: ألا إن قتيل الخطأ العمد -قتيل السوط والعصا- منها أربعون في بطونها أولادها".

أنا (5) محمَّد بن منصور، ثنا سفيان، ثنا ابن جدعان، سمعه من القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"قام رسول الله عليه السلام يوم فتح مكة على درجة الكعبة، فحمد الله وأثنى عليه وقال: الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا إن قتيل العمد الخطأ -بالسوط والعصا شبه العمد- فيه مائة من الإبل مغلظة منها أربعون خَلِفَة في بطونها أولادها".

(1)"المجتبى"(8/ 41 رقم 4795).

(2)

"المجتبى"(8/ 41 رقم 4796).

(3)

"المجتبى"(8/ 42 رقم 4797).

(4)

"المجتبى"(8/ 42 رقم 4798).

(5)

"المجتبى"(8/ 42 رقم 4799).

ص: 293

ثنا (1) محمَّد بن المثنى، ثنا سهل بن يوسف، ثنا حميد، عن القاسم بن ربيعة، أن النبي عليه السلام قال:"الخطأ شبه العمد -يعني بالعصا والسوط- مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها".

وأخرجه ابن ماجه (2): ثنا محمَّد بن بشار، ثنا عبد الرحمن بن مهدي ومحمد ابن جعفر، قالا: ثنا شعبة، عن أيوب، قال: سمعت القاسم بن ربيعة، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي عليه السلام قال:"قتيل الخطأ شبه العمد -قتيل السوط والعصا- مائة من الإبل، أربعون منها خَلِفَة، في بطونها أولادها".

حدثنا محمَّد بن يحيى، نا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن خالد الحذاء، عن قاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي عليه السلام نحوه.

ثنا (3) عبد الله بن محمَّد الزهري، ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن جُدْعان، سمعه من القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر رضي الله عنهما:"أن رسول الله عليه السلام قام يوم فتح مكة وهو على درج الكعبة، فحمد الله وأثنى عليه وقال: الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا إن قتيل الخطأ -قتيل السوط والعصا- فيه مائة من الإبل، منها أربعون خَلِفَة في بطونها أولادها، ألا إن كل مأثرة في الجاهلية ودم، تحت قدمي هاتين، إلا ما كان من سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا إني قد أمضيتها لأهلهما كما كانا".

واعلم أن هذا الحديث كما رأيته قد روي عن رجل من أصحاب النبي عليه السلام، وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، وروي مرسلًا أيضًا.

(1)"المجتبى"(8/ 42 رقم 4800).

(2)

"سنن ابن ماجه"(2/ 877 رقم 2627).

(3)

"سنن ابن ماجه"(2/ 878 رقم 2628).

ص: 294

وقال ابن حزم (1) في رواية القاسم بن ربيعة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص: هذا خبر مدلس أسقط منه بين القاسم بن ربيعة وبين عبد الله بن عمرو رجل، ثم بَيَّن ذلك بروايته عن طريق النسائي، عن يحيى بن حبيب بن عدي، عن حماد بن زيد، عن خالد الحذاء، عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي عليه السلام. . . . فذكر الخبر.

وعقبة بن أوس مجهول لا يدرى مَن هو، ولا يصح للقاسم بن ربيعة سماع من عبد الله بن عمرو.

وقال أيضًا في رواية يعقوب بن أوس عن رجل من أصحاب النبي عليه السلام: إن يعقوب بن أوس مجهول.

ورواه أيضًا عن حمام، عن عباس بن أصبغ، عن محمَّد بن عبد الملك بن أيمن، عن أحمد بن زهير بن حرب، عن أبيه، عن ابن علية، عن خالد الحذاء، عن القاسم بن ربيعة، عن يعقوب بن أوس رجل من أصحاب النبي عليه السلام قال:"خطب رسول الله عليه السلام. . . . الحديث" وقال: يعقوب بن أوس لا صحبة له وهو مجهول.

وقال أيضًا (2) في رواية ابن جدعان عن يعقوب السدوسي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص: إن ابن جدعان هو علي بن زيد بن جدعان ضعيف جدًّا، ويعقوب السدوسي مجهول، وقال في رواية القاسم بن ربيعة عن عبد الله بن عمرو: إن القاسم هذا لم يلق عبد الله بن عمرو قط.

قلت: خبر القاسم بن ربيعة عن عبد الله بن عمرو بن العاص ليس مدلس؛ لأنه يروى عن عبد الله بن عمرو تارة، ويروى عن عقبة بن أوس عن عبد الله بن عمرو تارةً، وقال الحافظ المنذري: رواية خالد الحذاء عن القاسم بن

(1)"المحلى"(10/ 381).

(2)

"المحلى"(10/ 382).

ص: 295

ربيعة عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو يحتمل أن يكون القاسم بن ربيعة سمعه من عقبة بن أوس عن عبد الله بن عمرو، وسمعه عن عبد الله بن عمرو، فرواه مرةً عن عقبة، ومرة عن عبد الله بن عمرو.

وأما القاسم هذا فإنه ثقة، وثقه ابن المديني وغيره.

وقول ابن حزم وعقبة بن أوس: مجهول لا يدرى من هو غير صحيح؛ لأن العجلي قال فيه: بصري تابعي ثقة، ووثقه ابن حبان وابن سعد، ويقال له: يعقوب بن أوس أيضًا، فسقط جميع ما قاله.

قوله: "ألا" للتنبيه، كأنه ينبه المخاطب على أمر يأتيه ليكون على تيقظ منه، والمراد بـ"خطأ العمد": هو شبه العمد.

قوله: "بالسوط" في محل الرفع؛ لأنه خبر "إن" والمتعلق بمحذوف، والتقدير: ألا إن قتل شبه العمد حاصل بالسوط والحجر، أي بالقتل بالسوط والقتل بالحجر، والمراد بالحجر الحجر الصغير بقرينة السوط، فافهم.

قوله: "فيه دية مغلظة" أي الواجب في هذا القتيل الموصوف بهذا الوصف دية مغلظة، وإنما غلظت الدية فيه لأنه زاد صفة على الخطأ فزيدت صفة في الدية، والدية المغلظة هي مائة من الإبل منها أربعون خَلِفَة -بفتح الخاء المعجمة، وكسر اللام وفتح الفاء- وهي الحامل من النوق، وتجمع على خَلِفَات، وخَلَائِفَ، وقد خَلِفَت إذا حملت، وأَخْلَفْت إذا حالت.

قوله: "المأثرة" بضم الثاء المثلثة، وهي كل ما يؤثر ويذكر من مكارم الجاهلية ومفاخرتهم التي تُؤْثر عنهم، أي تذكر وتروى.

قوله: "تحت قدميَّ" معناه إبطالها وإسقاطها.

قوله: "وسقاية الحاج" يعني سقي الناس من زمزم.

قوله: "والسِّدَانة" بكسر السين المهملة، وهي خدمة البيت شرفه الله والقيام بأمره، والسَّادن: خادم الكعبة، والجمع السَّدَنَة، وقد سَدَنَ يَسْدُن -بالضم-

ص: 296

سَدْنًا وسِدانة، وكانت السدانة لبني عبد الدار في الجاهلية، والسقاية في بني هاشم، فأقرها رسول الله عليه السلام لهم في الإِسلام.

ويستنبط منه أحكام:

الأول: فيه إثبات شبه العمد، وذهب إليه النخعي والشعبي وعطاء وطاوس ومسروق والحكم بن عتيبة وعمر بن عبد العزيز والحسن البصري وسعيد بن المسيب وقتادة والزهري وأبو الزناد وحماد بن أبي سليمان والثوري والأوزاعي وعبد الله بن شبرمة وعثمان البتي والحسن بن حي وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والشافعي وأحمد.

وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الله ابن مسعود وزيد بن ثابت وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم.

وقال مالك: ليس في كتاب الله عز وجل إلا الخطأ والعمد، وأما شبه العمد فلا نعرفه. وهو مذهب الظاهرية أيضًا.

وقال ابن حزم: القتل قسمان: عمد وخطأ؛ برهان ذلك الآيتان في القرآن، فلم يجعل عز وجل في القتل قسمًا ثالثًا.

قلت: الحديث المذكور حجة عليهم.

الثاني: فيه أن دية شبه العمد مغلظة، وهي مائة كما ذكرنا.

الثالث: استدل بظاهر الحديث محمَّد بن الحسن والشافعي: أن الدية في شبه العمد مائة: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خَلِفَة.

وروي ذلك عن عطاء وطاوس والحسن والزهري.

وعند أبي حنيفة: دية شبه العمد أرباع: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة.

وبه قال أبو يوسف، وهو مذهب عبد الله بن مسعود.

ص: 297

روى سعيد بن منصور: عن أبي عوانة، عن منصور بن المعتمر، عن النخعي، أن ابن مسعود رضي الله عنه قال في دية العمد:"أرباعًا: خمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنات لبون".

الرابع: مسألة الكتاب، ويجيء بيانه عن قريب إن شاء الله تعالى.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى هذا الحديث، فقالوا: لا قود على من قتل رجلًا بعصا أو حجر. وممن قال بذلك: أبو حنيفة رحمه الله.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: عبد الله بن ذكوان وسفيان الثوري وآخرين؛ فإنهم قالوا: لا قصاص على مَن قتل رجلًا بعصا أو حجر.

وممن قال بذلك أبو حنيفة. قال أبو بكر الرازي: قال أبو حنيفة: القتل بالعصا والحجر صغيرًا كان أو كبيرًا فهو شبه العمد، وكذلك التفريق في الماء، وفيه الدية المغلظة على العاقلة وعليه الكفارة. وقال الأشجعي: عن الثوري: شبه العمد أن يضربه بعصًا أو بحجر أو بيده فيموت، ففيه الدية المغلظة، فلا قود فيه.

وروى الفضل بن دُكين عن الثوري قال: إن أخذ عودًا أو عصًا فجرح به بطن حُرٍّ فهذا شبه العمد، ليس فيه قود.

وقال أبو بكر: هذا قول شاذ وأهل العلم على خلافه.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، منهم: أبو يوسف ومحمد، فقالوا: إذا كانت الخشبة مثلها يَقْتل، فعلى القاتل بها القصاص؛ وذلك عمد، وإن كان مثلها لا يقتل ففي ذلك الدية، وذلك شبه العمد.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عامرًا الشعبي وعطاء بن أبي رباح والنخعي والشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: إذا كانت الخشبة مثلها يقتل فعلى القاتل بها القصاص، وإلا فالدية، فالأول عمد والثاني شبه عمد، وبه قال أبو يوسف ومحمد.

ص: 298

وقال أبو بكر الرازي أصل أبي يوسف ومحمد أن شبه العمد ما لا يقتل مثله كاللطمة الواحدة والضربة الواحدة بالسوط، ولو كرر ذلك حتى صارت جملته مما يقتل كان عمدًا وفيه القصاص، وهو قول عثمان البتي إلا أنه يجعل دية شبه العمد في ماله.

وقال ابن شبرمة: وما كان من شبه العمد فهو عليه في ماله يبدأ بماله فيؤخذ حتى لا يترك له شيء، فإن لم يتم كان ما بقي من الدية على عاقلته.

وقال ابن وهب: عن مالك: إذا ضربه بالعصا أو رماه بحجر أو ضربه عمدًا فهو عمد وفيه القصاص، ومن العمد أن يضربه في نائرة تكون بينهما وينصرف عنه وهو حي ثم يموت فيكون فيه القسامة.

وقال الأوزاعي: في شبه العمد الدية في ماله، فإن لم يكن تمامًا فعلى العاقلة، وشبه العمد أن يضربه بعصا أو سوط ضربة واحدة فيموت، فإن ثنَّى بالعصا ثم مات بمكانه فهو عمد يقتل به، والخطأ على العاقلة.

وقال الحسن بن صالح: إذا ضربه بعصا ثم علا فقتله مكانه من الضربة الثانية فعليه القصاص، وإن علا الثانية ولم يمت منها، ثم مات بعد فهو شبه العمد لا قصاص فيه وفيه الدية على العاقلة، والخطأ على العاقلة.

وقال الليث: العمد ما تعمده إنسان، فإن ضربه بأصبعه فمات من ذلك دفع إلى ولي المقتول، والخطأ فيه على العاقلة، وهذا يدل على أن الليث كان لا يرى شبه العمد وإنما يكون خطأ أو عمد.

وقال المزني في "مختصره" عن الشافعي: إذا عمد رجل بسيف أو حجر أو سنان رمح أو مما يشق بحده إذا ضرب به أو رمي به، الجلد واللحم فجرحه جرحًا كبيرًا أو صغيرًا فمات فعليه القود، وإن شدخه بحجر أو تابع عليه الخنق، أو والى عليه بالسوط حتى يموت، أو طبق عليه مطبقًا بغير طعام ولا شراب، أو ضربه بسوط في شدة حر أو برد فيما الأغلب أنه يموت منه فمات منه فعليه

ص: 299

القود، وإن ضربه بعمود أو بحجر لا يشدخ أو بحد سيف ولم يجرح، أو ألقاه في البحر قرب اليم وهو يُحسن العوم، أو ما الأغلب أنه لا يموت مثله فمات، فلا قود، وفيه الدية مغلظة على العاقلة.

ص: وقالوا: ليس فيما احتج به علينا أهل المقالة الأولى من قوله عليه السلام: "ألا إن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر فيه مائة من الإبل" دليل على ما قالوا؛ لأنه قد يجوز أن يكون النبي عليه السلام أراد بذلك العصا التي لا يقتل مثلها التي هي كالسوط الذي لا يقتل مثله. فإن كان أراد ذلك فهو الذي قلنا، وإن لم يكن أراد ذلك وأراد ما قلتم أنتم فقد تركنا الحديث وخالفناه، فنحن بعد لم نثبت خلافنا لهذا الحديث إذ كنا نقول: إن من العصا ما إذا قتل به لم يجب على القاتل قود، وهذا المعنى الذي حملنا عليه معنى هذا الحديث أولى مما حمله عليه أهل المقالة الأولى؛ لأن ما حملناه لا يضاد حديث أنس رضي الله عنه عن النبي عليه السلام في إيجابه القود على اليهودي الذي رضخ رأس الجارية بحجر، وما حمله عليه أهل المقالة الأولى يضاد ذلك وينفيه، فلأن يحمل الحديث على ما يوافق بعضه بعضًا أولى من أن يُحمل على ما يضاد بعضه بعضًا.

ش: أي قال أهل المقالة الثانية، حاصل هذا أنهم يقولون: إن قوله عليه السلام: "ألا إن قتيل خطأ العمد. ." الحديث لا يدل على ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى.

بيانه: أن العصا المذكور في الحديث لا يخلو إما أن يراد به العصا التي لا يقتل مثلها كالسوط الذي لا يقتل مثله، أو لم يكن ذلك فإن كان الأول فهو ما ذهب إليه؛ لأنا نقول: إذا كانت العصا مثلها لا يقتل فقتل بها ففيه الدية دون القصاص؛ لأنه شبه عمد.

وإن كان الثاني الذي ذهبتم إليه، فقد نكون حينئذٍ تاركين للحديث المذكور ومخالفين إياه، على زعمكم ولكن لا نقول بذلك، ولا نثبت الخلاف المذكور؛ لأنا نقول: إن من العصا ما إذا قتل به لم يجب على القاتل به قصاص، بل تجب دية، كما إذا كانت العصا لا يقتل مثلها.

ص: 300

وحمل الحديث المذكور على هذا المعنى أولى مما حملتم عليه؛ لأن فيما ذهبتم إليه يقع التضاد بين هذا الحديث وحديث أنس بن مالك المذكور في الباب السابق الذي فيه إيجاب القود على ذاك اليهودي الذي رضَّ رأس تلك الجارية بحجر.

ووجه وقوع التعارض بين الحديثين ظاهر؛ لأن الحديث الذي فيه: "ألا إن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر" يُخبر أن القتل بالحجر لا يوجب القصاص.

وحديث أنس رضي الله عنه يُخبر أنه يوجب القصاص، وبينهما منافاة، فإذا حملنا الحديث الأول على المعنى الذي ذهبنا إليه، يتفق حينئذٍ مع حديث أنس ولا يعارضه، فحمل الأحاديث التي يعارض بعضها بعضًا على التوافق أولى من إبقائها على التعارض والتضاد. فهذا حاصل ما ذكره الطحاوي نصرةً لأهل المقالة الثانية.

ولقائل أن يقول: لا نُسلم وقوع التعارض بين الحديثين حتى نحتاج إلى التوفيق؛ لأن حديث أنس رضي الله عنه يجوز أن يكون أمر النبي عليه السلام فيه بالقود لكون الحجر الذي قتل به اليهودي تلك الجارية مروة وهي التي لها حدّ، وهي التي تعمل عمل السكين، فلذلك أوجب عليه السلام قتله.

وأيضًا فقد روي في وجه آخر في حديث أنس رضي الله عنه: "أنه عليه السلام أمر اليهودي أن يرجم حتى يموت، فرجم حتى مات" على ما مضى ذكره، ولا خلاف أن الرجم لا يجب على القود.

ووجه آخر: وهو أن يقال: يجوز أن يكون اليهودي مستأمنًا، فقتل الجارية ولحق بأرضه لقربه من المدينة، فأخذ وهو حربي، فقتله على أنه محارب حربي ورجمه، كما سمل أعين العرنيين الذين استاقوا إبله عليه السلام وقتلوا راعيه، وقطع أيديهم وأرجلهم حتى ماتوا، ثم نسخ القتل على وجه المثلة.

ووجه آخر: وهو أن يقال: يجوز أن يكون قتل النبي عليه السلام اليهودي حقًّا لله تعالى، حيث جعله لقاطع الطريق الذي يكون الواجب عليه حدًّا من حدود الله

ص: 301

تعالى، وإلى هذا أشار الطحاوي بقوله: فكان من حجة الذين قالوا: "إن القتل بالحجر لا يوجب القود. . . ." إلى آخره على ما يجيء عن قريب إن شاء الله تعالى.

ص: فإن قال قائل: فإنك قد قلت: إن حديث أنس هذا منسوخ في الباب الأول، فكيف أثبت العمل به؟

قيل له: لم نقل: إن حديث أنس هذا منسوخ من جهة ما ذكرت، وقد ثبت وجوب القود في القتل بالحجر في حديث أنس، وإنما قلت: إن القصاص بالحجر قد يجوز أن يكون منسوخًا لما قد ذكرت من الحجة في ذلك، فحديث أنس في إيجاب القود عندنا غير منسوخ، وفي كيفية القود الواجب به يحتمل أن يكون منسوخًا على ما فسرنا وثبتنا في الباب الذي قبل هذا الباب.

ش: تقرير السؤال أن يقال: إنك قد قلت في الباب السابق: إن حديث أنس منسوخ، والمنسوخ لا يبقى له حكم، فكيف تقول في هذا الباب: إنه معمول به؟! وحاصل الجواب: أن حديث أنس له جهتان: جهة النسخ، وجهة الثبوت: أما جهة الثبوت فهو وجوب القود في القتل بالحجر.

وأما جهة النسخ فهي في كيفية القود الواجب به، ونحن لم نقل إنه منسوخ إلا من الجهة الثانية على ما مَرَّ مستقصٍ في الباب السابق.

ص: فكان من حجة الدين قالوا: إن القتل بالحجر لا يوجب القود في دفع حديث أنس: أنه قد يحتمل أن يكون ما أوجب النبي عليه السلام من القتل في ذلك عليه حقًّا لله عز وجل، وجعل اليهودي كقاطع الطريق الذي يكون ما وجب عليه حدًّا من حدود الله عز وجل، فإن كان ذلك كذلك؛ فإن قاطع الطريق إذا قتل بحجر أو بعصا وجب عليه القتل في قول الذين قالوا إنه لا قود على من قتل بعصا، وقد قال بهذا القول جماعة من أهل النظر.

وقد قال أبو حنيفة رضي الله عنه في الخناق أن عليه الدية، وأنه لا يقتل إلا أن يفعل ذلك غير مرة فيقتل، ويكون ذلك حدًّا من حدود الله عز وجل، فقد يجوز أن يكون

ص: 302

النبي عليه السلام قتل اليهودي على ما في حديث أنس؛ لأنه وجب عليه القتل لله عز وجل كما يجب على قاطع الطريق، فإن كان ذلك كذلك فإن أبا حنيفة رحمه الله يقول: كل من قطع الطريق فقتل بعصًا أو حجر، أو فعل ذلك في المصر يكون حكمه فيما فعل حكم قاطع الطريق، وكذلك الخناق الذي فعل ذلك غير مرة أنه يقتل، وقد كان ينبغي في القياس على قوله أن يكون يجب على من فعل ذلك مرةً واحدةً القتل، ويكون ذلك حدًّا من حدود الله عز وجل، كما يجب إذا فعله مرارًا؛ لأنا رأينا الحدود يوجبها انتهاك الحرمة مرة واحدةً، ثم لا يجب على من انتهك تلك الحرمة ثانية إلا ما كان وجب عليه في انتهاكها في البدء، فكان النظر فيما وصفنا أن يكون الخناق كذلك أيضًا، وأن يكون حكمه في أول مرة هو حكمه في آخر مرة.

هذا هو النظر في هذا الباب، وفي ثبوت ما ذكرنا ما يدفع أن يكون في حديث أنس حجةً على مَن يقول: من قتل رجلًا بحجر فلا قود عليه.

ش: لما قال أهل المقالة الثانية لأهل المقالة الأولى: أنتم محجوجون بحديث أنس المذكور في الباب السابق؛ أشار الطحاوي إلى الجواب عن ذلك بقوله: فكان من حجة الذين قالوا: إن القتل بالحجر لا يوجب القود في دفع حديث أنس، أي: فكان من دليلهم وبرهانهم في دفع هذا الاعتراض. وهو ظاهر.

قوله: "جماعة من أهل النظر" أي القياس.

قوله: "وقد قال أبو حنيفة. . . . إلى آخره" ذكره تفريعًا على ما قاله من جعل ذلك اليهودي كقاطع الطريق حتى قتل حدًّا لله تعالى، فكذلك أبو حنيفة جعل الخناق الذي يفعل الخنق غير مرة كقاطع الطريق، حيث يأمر بقتله حدًّا.

قوله: "وقد كان ينبغي في القياس على قوله" أي على قول أبي حنيفة، وهذا اعتراض على ما ذهب إليه أبو حنيفة حيث لم يوجب القود على الخناق في أول مرة حدًّا لله تعالى، وإنما أوجبه فيما إذا اعتاد ذلك، وبيَّن وجه الاعتراض بقوله:"لأنا رأينا الحدود. ." إلى آخره، وهو ظاهر.

ص: 303

ويمكن أن يجاب عنه بأن الخناق في أول مرة لا يعلم قصده إعدام المخنوق، فلا يجب فيه القود، كما إذا صاح على وجه إنسان فمات من صيحته، بخلاف ما إذا اعتاد الخنق فإنه يصير حينئذٍ طالبًا لإزهاق النفس فيجب عليه القصاص؛ ولأن قياس أبي حنيفة هاهنا وجوب الدية أيضًا، ولكنه لما ألحقه بقاطع الطريق أوجب فيه القصاص حقًّا لله تعالى، وعند أبي يوسف ومحمد: يجب القصاص في الخنق مطلقًا، وكذلك الخلاف بينهم إذا غَرَّقه بالماء أو ألقاه من جبل أو سطح فمات، لا قصاص فيه عند أبي حنيفة خلافًا لهما.

ص: وكان من حجة أبي حنيفة رضي الله عنه أيضًا في قوله هذا:

ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "اقتتلت امرأتان من هذيل، فضربت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله عليه السلام، فقضى أن دية جنينها عبدًا أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معهم.

فقال حمل بن مالك بن النابغة الهذلي: يا رسول الله، أغرم مَن لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل؟! فمثل ذلك يُطَل، فقال رسول الله عليه السلام: هذا مِن إخوان الكهان، من أجل سجعه الذي سجعه".

وحدثنا الحسين بن نصر، قال: ثنا الفريايى، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيد بن نضلة الخزاعي، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه:"أن امرأتين ضربت إحداهما الأخرى بعمود الفسطاط فقتلها، فقضى رسول الله عليه السلام بالدية على عصبة القاتلة وقضى فيما في بطنها بغرة، والغرة: عبد أو أمة، فقال الأعرابي: أغريم من لا طعم ولا شرب ولا صاح فاستهل ومثل ذلك يُطَل، فقال: سجع كسجع الأعراب".

حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا زائدة، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيد بن نضلة، عن المغيرة عن النبي عليه السلام مثله.

ص: 304

قالوا: فهذه الآثار تخبر أن النبي عليه السلام لم يقتل المرأة القاتلة بالحجر ولا بعمود الفسطاط، وعمود الفسطاط يقتل مثله، فدل ذلك على أنه لا قود على من قتل بخشبة وإن كان مثلها يقتل.

ش: أي: وكان من دليل أبي حنيفة ومَن معه في قولهم: إن القاتل بعصًا أو حجر لا قود عليه: ما روي عن أبي هريرة والمغيرة بن شعبة، ودلالة حديثيهما على ما قالوا ظاهرة لا تحتاج إلى البيان.

أما حديث أبي هريرة فأخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، كلاهما عن أبي هريرة.

وأخرجه مسلم (1): نا حرملة بن يحيى التميمي، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس .. إلى آخره نحوه.

وأخرجه البخاري (2): ثنا أحمد بن صالح، نا ابن وهب، نا يونس، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة قال:"اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي عليه السلام فقضى أن دية جنينها: غرة عبد أو وليدة، وقضى دية المرأة على عاقلتها".

وأخرجه أبو داود (3): عن قتيبة، عن الليث، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة. ولم يذكر أبا سلمة.

(1)"صحيح مسلم"(3/ 1309 رقم 1681).

(2)

"صحيح البخاري"(6/ 2532 رقم 6512).

(3)

"سنن أبي داود"(2/ 602 رقم 4577).

ص: 305

وأخرجه أيضًا (1) عن وهب بن بيان وابن السرح، عن ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة قال:"اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، فاختصموا إلى رسول الله عليه السلام فقضى رسول الله عليه السلام دية جنينها: غرةً عبدٍ أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معهم، فقال حمل بن النابغة الهذلي: يا رسول الله، كيف أغرم من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يُطل، فقال رسول الله عليه السلام: إنما هذا من إخوان الكهان، من أجل سجعه الذي سجع".

وأخرجه النسائي أيضًا (2).

وأخرجه الترمذي (3): عن قتيبة، عن ليث، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب وحده.

وقال: وروى يونس هذا الحديث عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة.

وروى مالك، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

وعن الزهري، عن سعيد، عن النبي عليه السلام.

وأما حديث المغيرة بن شعبة فأخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن حسين بن نصر، عن محمَّد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن عبيد بن نضلة الخزاعي الكوفي، عن المغيرة بن شعبة.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 601 رقم 4576).

(2)

"المجتبى"(8/ 48 رقم 4818).

(3)

"جامع الترمذي"(4/ 426 رقم 2111).

ص: 306

وأخرجه مسلم (1) والنسائي (2): كلاهما عن ابن بشار، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عُبيد بن نضلة، عن المغيرة، نحوه.

الثاني: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن عبد الله بن رجاء الغُداني شيخ البخاري، عن زائدة بن قدامة، عن منصور بن المعتمر .. إلى آخره.

وأخرجه النسائي (3): عن علي بن محمَّد بن علي، عن خلف بن تميم، عن زائدة، عن منصور. . . . إلى آخره.

وأخرجه مسلم (4) عن إسحاق، عن جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيد. . . . إلى آخره.

وعن محمد بن رافع (4)، عن يحيى بن آدم، عن مفضل، عن منصور، عن إبراهيم. . . . إلى آخره.

وأخرجه أبو داود (5): عن حفص، عن شعبة، عن منصور، عن إبراهيم.

وعن عثمان (6)، عن جرير، عن منصور، عن إبراهيم.

وأخرجه الترمذي (7): عن الحسن بن علي الخلال، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن منصور.

وعن الحسن، عن زيد بن حباب، عن سفيان، عن منصور نحوه.

وقال: حسن صحيح.

(1)"صحيح مسلم"(3/ 1310 رقم 1682).

(2)

"المجتبى"(8/ 50 رقم 4823).

(3)

"المجتبى"(8/ 49 رقم 4821).

(4)

"صحيح مسلم"(3/ 1310 رقم 1682).

(5)

"سنن أبي داود"(2/ 599 رقم 4568).

(6)

"سنن أبي داود"(2/ 599 رقم 4569).

(7)

"جامع الترمذي"(4/ 24 رقم 1411).

ص: 307

وأخرجه ابن ماجه (1): عن علي بن محمَّد، عن وكيع، عن أبيه، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيد به مختصرًا:"قضى بالدية على العاقلة".

قوله: "اقتتلت امرأتان من هذيل" وفي رواية: "أن امرأتين من بني كنانة" وهما واحد؛ لأن كنان قبيل من هذيل، وهو هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وأكثر وادي محلة بالقرب من مكة من هذيل، ولحيان -بكسر اللام وفتحها، وسكون الحاء المهملة، وبعدها ياء آخر الحروف ساكنة، وبعد الألف نون- وهو كنان بن هذيل بن مدركة.

وكانت المرأتان تحت حَمَل بن النابغة، والدليل عليه ما جاء في رواية:"إن امرأتين لي" فدل هذا على أنهما زوجتاه.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "كان اسم إحداهما مُليكة والأخرى أم غطيف.

قلت: مُليكة -بضم الميم وفتح اللام وسكون الياء آخر الحروف، وكاف مفتوحة وتاء تأنيث- وهي مليكة بنت عويمر الهذلية. قاله أبو عمر.

وقال أبو موسى: عويمر بغير راء.

وغطيف -بضم الغين المعجمة، وفتح الطاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره فاء- ويقال: أم عفيف بنت مروج وهي التي ضربت مليكة في سطح بيتها فقتلتها.

قوله: "فقضى أن دية جنينها عبد أو وليدة" الجنين: الولد ما دام في البطن سمي جنينًا؛ لأنه مُوارى في بطن أمه، والمجنة الموضع الذي يُستتر فيه، ومنه سمي الجن لأنهم متوارون، وجنه الليل وأجنه: ستره، وسمي القبر جنينًا لأنه يواري صاحبه، وسمي الترس مجنًّا لأنه يُوارى به، وسمي القلب جنانًا لأن الصدر يواريه، وسمي المجنون بذلك لأنه مستور الفهم، وكل شجر متكاثف يستر بعضه بعضًا فهو جنة، والإمام جُنة لأنه يقي المأموم الزلل والسهو، كما يقي الترس صاحبه من وقع السلاح.

(1)"سنن ابن ماجه"(2/ 879 رقم 2633).

ص: 308

والوليدة في اللغة: الصبية، وأراد بها هاهنا الجارية وهي الأمة.

قوله: "فقال حَمَل بن النابغة" وهو حمل بن مالك بن النابغة بن جابر بن ربيعة الهذلي، وهو بفتح الحاء المهملة والميم وفي آخره لام، وقد ينسب إلى جده، وكذا وقع في رواية مسلم، فقال: حَمَل بن النابغة.

قوله: "ولا استهل" بفتح التاء المثناة، أي: ولا رفع صوته، وكل من رفع صوته فقد استهل، وبه سمي الهلال؛ لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه، يريد أنه لم تعلم حياته بصوت نطق أو بكاء أو نحو ذلك.

قوله: "يُطَل" بضم الياء آخر الحروف، وفتح الطاء المهملة، من طَلَّ دمه إذا أُهدر ولم يطلب به، قال: طُل دمه، وأطله الله، ولا يقال: طله، وعن الكسائي جوازه، وقال الجوهري: قال أبو زيد: طُلَّ دمه، فهو مَطْلُول، قال الشاعر (1):

دماؤهم ليس لها طالبٌ

مَطْلُولَةٌ مثل دَم العُذْره

وأُطِلَّ دمه وطَلّه الله وأَطَلَّه: أهدره، قال: ولا يقال: طَلَّ دمه بالفتح، وأبو عبيدة والكسائي يقولانه، قال أبو عبيدة: فيه ثلاث لغات: طَلَّ دمه، وأُطِل دمه، وأَطَلَّ عليه أي أشرف.

قال المنذري: أكثر الروايات بالباء الموحدة يعني من البطلان، يقال: بَطل الشيء: ذهب.

وكذلك الدم إذا لم يؤخذ به القاتل. ورجح الخطابي الرواية الأولى.

قوله: "هذا من إخوان الكهان" بضم الكاف: جمع كاهن، ويجمع على كهنة أيضًا من كَهَنَ يَكْهُن كَهِانة مثل كَتَبَ يَكْتُبُ كِتَابةً، إذا تكهن، وإذا أردت أنه صار كاهنًا قلت: كَهُنَ بالضم، كَهَانة -بالفتح- وقيل: الكهنة قوم لهم أذهان حادة، ونفوس شهرة وطباع نارية، فألفتهم الشياطين لما بينهم من التناسب، وساعدتهم بما في

(1) هو: دعبل بن علي بن رزين الخزاعي، شاعر هجَّاء أصله من الكوفة أقام ببغداد.

ص: 309

وسعها من القدرة، وفرق بعضهم بين الكاهن والعراف بأن الكاهن: الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويدَّعي معرفة الأسرار.

والعراف الذي يدعي معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة، وقد كان في العرب كهنة منهم مَن يزعم أن له صاحبًا من الجن يلقي إليه الأخبار، ومنهم من يدعي أنه يعرف الأمور بمقدمات أسبابها، ومنهم من سمى المنجم كاهنًا.

وفي قوله عليه السلام: "هذا من إخوان الكهان" دليل على أن الكهان كانوا يسجعون أو كان الأغلب منهم السجع، وهذا معروف عن كهان الأعراب يعني عن الاستشهاد عليه.

قوله: "من أجل سجعه" كلمة "مِن" هاهنا للتعليل، و"السجع": أصله من سَجَعَت الحمامة أي هدرت، وسَجَعَت الناقة: أي مدَّت حنينها على جهة واحدة، قال الجوهري: السجع: الكلام المقفى، والجمع: أسجاع وأساجيع، وقد سجع الرجل سجعًا، وسجَع تسجيعًا، وكلام مسجَّع، وبينهم أسجوعة، وعند أهل البديع: السجع: تواطؤ الفاصلتين من النثر على حرف واحد، والفاصلة في النثر كالقافية في النظم، والسجع في النثر كالقافية في الشعر، فإن اختلفت الفاصلتان في الوزن سمي سجعًا مطرفًا، نحو قوله تعالى:{مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} (1) وإن لم يختلفا فلا يخلو إما أن يكون ما في إحدى القرينتين كلمة أو أكثر مثل ما يقابله من القرينة الأخرى في الوزن والتقفية، أو لم يكن؛ فالأول يسمى سجعًا مرصعًا، نحو قول الحريري: فهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه.

والثاني يسمى سجعًا متوازنًا نحو قوله تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} (2)(3).

(1) سورة نوح، آية:[13، 14].

(2)

سورة الغاشية، آية:[13، 14].

(3)

انظر "خزانة الأدب"(2/ 411 - 413) فقد ذكر هناك أنواع السجع وأمثلته.

ص: 310

قوله: "على عصبة القاتلة" أي المرأة القاتلة، والعصبة: بنو الرجل وقرابته لأبيه، وسموا عصبة لأنهم عصبوا به، أي أحاطوا به، فالأب طرف، والابن طرف، والعم جانب، والأخ جانب، والجمع العصبات.

قوله: "بغرة" الغرة عند العرب أنفس شيء يملك، وتطلق الغرة على الإنسان ذكرًا كان أو أنثى، والغرة هاهنا النَّسْمَة من الرقيق ذكرًا كان أو أنثى؛ وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: الغرة: عبد أبيض أو أمة بيضاء، وإنما سميت غرة لبياضها، ولا يقبل في الدية عبد أسود أو جارية سوداء، قال: ولولا أن رسول الله عليه السلام أراد بالغرة معنىً زائدًا على شخص العبد والأمة لما ذكرها، وليس ذلك بشرط عند الفقهاء؛ لعموم الحديث.

وقيل: إطلاق الغرة على العبد والأمة على طريق التوسع والمجاز، فإن الغرة اسم للوجه؛ لأن الوجه أشرف الأعضاء فسمي الجبار من المماليك غرة؛ لأنه في المماليك كالوجه في الأعضاء.

قوله: "عبد أو أمة" عطف بيان من الغرة، وحمله غير واحد من العلماء على التفسير لا على الشك؛ فافهم.

ويستنبط منه أحكام:

الأول: إذا ضرب بطن امرأة فألقت جنينًا حيًّا ثم مات بقرب خروجه، وعلم أن موته كان من أجل الضربة ففيه الدية كاملة، وأنه يعتبر فيه الذكر والأنثى، وفي إجماعهم على ما ذكرنا دليل واضح على أن الجنين الذي قضى فيه رسول الله عليه السلام بغرة عبد أو أمة، كانت أمه قد ألقته ميتًا، وأجمع الفقهاء أن الجنين إذا خرج حيًا ثم مات كانت فيه الدية والكفارة.

واختلفوا في الكفارة إذا خرج ميتًا، فقال مالك: فيه الغرة والكفارة، وقال أبو حنيفة والشافعي: فيه الغرة ولا كفارة. وهو قول داود بن علي.

وإذا ألقت جنينين، قال أصحابنا: إن كانا ميتين ففي كل منهما غرة، وإن كانا

ص: 311

حيين ثم ماتا ففي كل منهما دية، فإن ألقت أحدهما ميتًا والآخر حيًّا ثم مات، فعليه في الميت الغرة وفي الحي الدية.

فإن ماتت الأم من الضربة وخرج الجنين بعد ذلك حيًّا ثم مات فعليه ديتان: دية في الأم، ودية في الجنين.

وإن خرج جنينان بالحياة ثم ماتا ففيه ثلاث ديات، وقال الزهري: إن أسقطت ثلاثة ففي كل واحد غرة، تَبَيَّن خلقه أو لم يتبين أنه حمل، وبه قال ابن وهب والليث بن سعد.

واختلفوا في جنين الأمة، فقال مالك والشافعي وأهل المدينة: جنين الأمة إن وقع ميتًا من ضرب الضارب لأمه، ففيه عشر قيمة أمه ذكرًا كان الجنين أو أنثى.

وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: إن كان غلامًا ففيه نصف عشر قيمة نفسه لا قيمة أمه، وإن كان أنثى فعشر قيمة نفسها لو كانت حيةً.

وقال داود: لا شيء في جنين الأمة.

وقال ابن حزم: لا خلاف في أن جنين الأمة من سيدها الحر مثل جنين الحرة ولا فرق.

ثم اختلفوا في جنين الأمة من غير سيدها الحر.

فقالت طائفة: فيه عشر قيمة أمه، وبه قال الحسن البصري ومالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وأصحابهم.

وقالت طائفة: من ثمن أمه كقدر ما في جنين الحرة من دية أمه، وهو قول الزهري.

وقالت طائفة: فيه نصف عشر ثمن أمه، وهو قول إبراهيم النخعي وقتادة وابن أبي ليلى والحجاج بن أرطاة.

وقالت طائفة: فيه نصف عشر ثمنه إن خرج ميتًا، فإن خرج حيًّا فثمنه كله. وهو قول سفيان الثوري والحسن بن حي.

ص: 312

وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن وزفر بن الهذيل: إن كان جنين الأمة ذكرًا ففيه نصف عشر قيمته لو كان حيًّا، فإن كانت أنثى ففيها عشر قيمتها لو كانت حية. قال زفر: وعليه مع ذلك نقص أمه. وقال أبو يوسف: لا شيء في جنين الأمة إلا أن يكون نقص أمه، ففيه ما نقصها.

وقالت طائفة: فيه عشرة دنانير. وهو قول سعيد بن المسيب.

وقالت طائفة: حكومة. وهو قول حماد بن أبي سليمان، فإنه قال: ينظر ما بلغ ثمن جنين الحرة من جميع ثمنها، فإن كانت عشرًا أعطيت الأمة عشرة، وإن كانت خمسًا وإن كان سبعًا وإن كان ثمانيًا فكذلك.

وقالت طائفة: في جنين الأمة غرة عبد أو أمة كما في جنين الحرة ولا فرق. وهو قول ابن سيرين وعروة ومجاهد وطاوس وشريح والشعبي. انتهى.

واختلفوا في صفة الجنين الذي تجب فيه الغرة ما هو؟

فقال مالك: ما طرحته من مضغة أو علقة أو ما يعلم أنه ولد ففيه الغرة. قاله أبو عمر.

وقال ابن حزم (1): إن قتلت حامل بينة الحمل فسواء طرحت جنينها ميتًا أو لم تطرحه فيه غرة، ولابد لما ذكرنا من أنه جنين أهلك، وهذا قد اختلف الناس فيه كما ثنا حمام، ثنا عبد الله بن محمَّد بن علي الباجي، ثنا عبد الله بن يونس، ثنا بقي بن مخلد، نا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري أنه كان يقول:"إذا قتلت المرأة وهي حامل قال: ليس في جنينها شيء حتى تقذفه" وبه قال مالك.

وقال أبو عمر: قال الشافعي: لا شيء فيه حتى يتبين من خلقه شيء. وقال مالك: إذا سقط الجنين فلم يستهل صارخًا ففيه الغرة أبدًا حتى يستهل صارخًا فيه الدية كاملة. وقال الشافعي وسائر الفقهاء: إذا عُلمت حياته بحركة أو

(1)"المحلى"(11/ 29).

ص: 313

بعطاس أو باستهلال أو بغير ذلك مما يستيقن به حياته، ثم مات ففيه الدية، وجماعة فقهاء الأمصار يقولون في المرأة إذا ماتت من ضرب بطنها ثم خرج الجنين ميتًا بعد موتها؛ أنه لا يحكم فيه شيء فإنه هدر إلا الليث بن سعد وداود فإنهما قالا: فيه الغرة، وسواء رمته قبل موتها أو بعد موتها، المعتبر.

حياة أمه في وقت ضربها لا غير.

ومما يلحق بهذا الباب إسقاط المرأة ولدها، فعن إبراهيم النخعي: إذا أسقطت ولدها فعليها عتق رقبة ولزوجها عليها غرة عبد أو أمة.

وقال ابن حزم: إن كان لم ينفخ فيه الروح فالغرة عليها، وإن كانت قد نفخ فيه الروح فإن كانت لم تعمد قتله فالغرة أيضًا على عاقلتها والكفارة عليها، وإن كانت عمدت قتله فالقود عليها أو المفاداة في مالها، فإن ماتت هي في كل ذلك قبل إلقاء الجنين ثم ألقته فالغرة واجبة في كل ذلك في الخطأ على عاقلة الجاني هي كانت أو غيرها، وكذلك في العمد قبل أن ينفخ فيه الروح، وأما إن كان قد نفخ فيه الروح فالقود على الجاني إن كان غيرها، وأما إن كانت هي فلا قود ولا غرة ولا شيء؛ لأنه لا حكم على ميت، وماله قد صار لغيره. انتهى.

واختلف في الغرة وقيمتها، فقال مالك: تُقَوَّم الغرة بخمسين دينارًا أو ستمائة درهم نصف عشر دية الحر المسلم الذكر، وعشر دية أُمُّهُ الحرة.

وهو قول الزهري وربيعة وسائر أهل المدينة.

وقال أبو حنيفة وأصحابه وسائر الكوفيين: قيمة الغرة خمسمائة درهم. وبه قال إبراهيم والشعبي. وقال مغيرة: خمسون دينارًا. وقال الشافعي: سن الغرة سبع سنين أو ثمان سنين، وليس عليه أن يقبلها معيبةً. وقال داود: كل ما وقع عليه اسم غرة.

واختلفوا أيضًا فيمن يرث الغرة، فقال مالك والشافعي وأصحابهما: الغرة في الجنين موروثة عن الجنين على كتاب الله لأنها دية.

ص: 314

وقال أبو حنيفة وأصحابه: الغرة للأم ليس لأحد معها فيها شيء وليست ديةً، وبه قال داود وأهل الظاهر.

وقال ابن حزم: اختلف الناس فيمن تجب له الغرة الواجبة في الجنين، فعن الزهري: أنه سئل في رجل ضرب امرأته فأسقطت، لمن دية السقط؟ قال: بلغنا في السنة أن القاتل لا يرث من الدية شيئًا، فديته على فرائض الله ليس للذي قتله من ذلك شيء.

وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة وأبي حنيفة ومالك والشافعي.

وقال الكاساني في "بدائعه": الغرة ميراث بين ورثة الجنين على فرائض الله عند عامة العلماء.

وقال مالك: إنها لا تورث وهي للأم خاصةً.

قلت: هذا هو مذهب أبي حنيفة، والذي نقله أبو عمر عن أبي حنيفة ليس مذهبه. والله أعلم.

الثاني: أن في الحديث ما يدل على أن الغرة تجب على العاقلة، وهو مذهب الشافعي أيضًا. وقال مالك وأصحابه والحسن بن حي: هي في مال الجاني.

والحديث حجة عليهم.

الثالث: فيه حجة لأبي حنيفة ومن معه لما ذهبوا إليه من أن القاتل بالعصا لا يجب عليه القصاص، ألا ترى أن إحدى المرأتين قتلت الأخرى بعمود الفسطاط ولم يقض رسول الله عليه السلام عليها بالقصاص، بل قضى بديتها على عاقلة القاتلة.

الرابع: فيه أن الدية في شبه العمد على العاقلة، أما وجوب الدية فلامتناع القصاص للشبهة فتجب الدية، وأما الوجوب على العاقلة فلأن العاقلة إنما تعقل الخطأ تخفيفًا على القاتل؛ نظرًا له لوقوعه فيه لا عن قصد، وكذلك في شبه العمد، شبه عدم القصد لحصوله بآلة لا يقصد بها القتل عادةً كان مستحقًا لهذا النوع من التخفيف. والله أعلم.

ص: 315

ص: فكان من حجة مَن خالفهم في ذلك أن قال: فقد روى حَمَلٌ عن النبي عليه السلام خلاف هذا، فذكروا ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نشد الناس قضاء رسول الله عليه السلام في الجنين، فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: إني بين امرأتين، وان إحداهما ضربت الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، فقضى رسول الله عليه السلام في الجنين بغرة، وأن تقتل مكانها".

حدثنا محمد بن النعمان، قال: ثنا الحميدي، قال: ثنا هشام بن سليمان المخزومي، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس مثله. غير أنه لم يذكر قوله:"وأن تقتل مكانها".

قال أبو جعفر رحمه الله: فهذا حَمَل بن مالك يروي عن النبي عليه السلام أنه قتل المرأة بالتي قتلتها بالمسطح، فقد خالف أبا هريرة والمغيرة فيما رويا عن النبي عليه السلام من قضائه بالدية في ذلك، فقد تكافأت الأخبار في ذلك، فلما تكافأت واختلفت وجب النظر في ذلك؛ لنستخرج من القولين قولًا صحيحًا، فاعتبرنا ذلك، فرأينا الأصل المجتمع عليه: أن من قتل رجلًا بحديدة عمدًا فعليه القود، وهو آثم في ذلك ولا كفارة عليه، في قول أكثر العلماء، وإذا قتله خطأ فالدية على عاقلته والكفارة عليه، ولا إثم عليه، فكانت الكفارة تجب حيث يرتفع الإثم، وترتفع الكفارة حيث يجب الإثم.

ورأينا شبه العمد قد أجمعوا أن الدية فيه وأن الكفارة فيه واجبة.

واختلفوا في كيفيتها ما هي؟ فقال قائلون: هو الرجل يقتل رجلًا متعمدًا بغير سلاح.

وقال آخرون: هو الرجل يقتل الرجل بالشيء الذي لا يرى أنه يقتله، كأنه يتعمد ضرب رجل بسوط أو بشيء لا يقتل مثله، فيموت من ذلك، فهذا شبه العمد عندهم، فإن كرر عليه الضرب بالسوط مرارًا حتى كان ذلك مما قد يقتل

ص: 316

جملته، كان ذلك عمدًا ووجب عليه القود، فكل مَن جعل منهم شبه العمد على جنس من هذين الجنسين أوجب فيه الكفارة.

ولقد رأينا الكفارة فيما قد أجمع عليه الفريقان تجب حيث لا يجب الإثم، وتنتفي حيث يكون الإثم، وكان القاتل بحجر أو بعصًا -ومثل ذلك يقتل- عليه إثم النفس، وهو فيما بينه وبين ربه كمن قتل رجلًا بحديدة، وكان من قتل رجلًا بسوط -ليس مثله يقتل- غير آثم إثم القتل، ولكنه آثم إثم الضرب، فكان إثم القتل في هذا عنه مرفوعًا؛ لأنه لم يُرده، وإثم الضرب عليه مكتوب؛ لأنه قصده وأراده.

فكان النظر أن يكون شبه العمد الذي قد أجمع أن فيه الكفارة في النفس هو ما لا إثم فيه، وهو القتل بما ليس مثله يقتل، الذي يتعمد به الضرب ولا يراد به تلف النفس، فيأتي ذلك على تلف النفس.

فقد ثبت بذلك قول أهل هذه المقالة، وهو قول أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله-.

ش: أي فكان من دليل من خالف أهل المقالة الأولى -وهم: أبو حنيفة ومن معه- فيما ذهبوا إليه؛ بيان ذلك أن يقال: إن استدلال أبي حنيفة ومن معه بحديث أبي هريرة والمغيرة بن شعبة المذكور على أن القاتل بعصًا ونحوها ليس عليه القصاص، غير تام، ولا مطابق لدعواهم؛ وذلك لأن حديثهما قد رواه حَمَل بن مالك حين نشد عمر الناس قضاء رسول الله عليه السلام في الجنين، وأخبر في حديثه أنه عليه السلام قتل تلك المرأة القاتلة التي قتلت صاحبتها بالمِسْطح -وهو بكسر الميم- عود من أعواد الخِبَاء، فقد خالف حَمَل في ذلك أبا هريرة والمغيرة فيما روياه عن النبي عليه السلام من قضائه بالدية في ذلك على عاقلتها، فإذا كان كذلك فقد تكافأت الأخبار -أي تساوت- في وجه الاستدلال، بمعنى أن كل واحد من الفريقين إذا احتج بأحد الحديثين، احتج عليه الآخر بالحديث الآخر، فحينئذٍ يجب الرجوع إلى وجه النظر والقياس، فمن شهد له وجه النظر من ذلك بشيء

ص: 317

يحكم له، فاعتبرنا ذلك، ورأينا الأصل المجتمع عليه أن من قتل رجلًا بحديدة حال كونه عامدًا فعليه القود، أي القصاص، ومع ذلك هو آثم في ذلك؛ لأنه تعمد القتل ولا كفارة عليه في قول أكثر العلماء، وأراد بهم أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأحمد -في رواية- وسائر أهل الظاهر.

وقال الشافعي: تجب عليه الكفارة كما تجب على القاتل خطأ. وهو قول الحكم بن عتيبة.

وقال مالك والليث بن سعد: يعتق رقبةً، أو يصوم شهرين ويتقرب إلى الله تعالى بما أمكنه من الخير.

واحتج الشافعي بما رواه النسائي (1): أنا محمَّد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، ثنا أبي، نا ابن المبارك نا إبراهيم بن أبي عبلة، عن الغريف بن عياش، عن واثلة بن الأسقع قال:"أتى النبي عليه السلام نفر من بني سُليم، فقالوا: إن صاحبًا لنا قد أوجب، قال: فليعتق رقبة، يفك الله بكل عضو منها عضوًا منه من النار".

وبما رواه البزار (2): ثنا الحسين بن مهدي، ثنا عبد الرزاق، أنا إسرائيل، عن النعمان، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:"جاء قيس بن عاصم إلى رسول الله عليه السلام فقال: يا رسول الله، إني وأدت بناتٍ لي في الجاهلية، فقال: أعتق على كل واحدة منهن بدنة".

قلت: قال ابن حزم: حديث واثلة غير صحيح؛ لأن الغريف مجهول.

فإن قلت: قد أخرج الحاكم (3) هذا الحديث وصححه وقال: ثنا الأصم، ثنا أبو عتبة أحمد بن الفرج، ثنا ضمرة، عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن الغريف بن

(1)"السنن الكبرى"(3/ 173 رقم 4891).

(2)

"مسند البزار"(1/ 355 رقم 238).

(3)

"المستدرك"(2/ 230 رقم 2843).

ص: 318

الديلمي قال: "أتينا واثلة، فقال: أتينا رسول الله عليه السلام في صاحب لنا قد أوجب النار، فقال: أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوًا منه من النار".

وأخرجه البيهقي (1) من طريقه ثم قال: رواه الحكم بن موسى، عن ضمرة نحوه، وزاد "قد أوجب -يعني- ألنار بالقتل".

قلت: رواه ابن المبارك عن ابن أبي عبلة فلم يذكر أنه أوجب النار بالقتل، وهو أثبت وأضبط وأتقن من ضمرة بن ربيعة. ولئن سلمنا أنه صحيح، فالحديث لا يدل على دعواه من وجوه:

الأول: تأويل من الراوي في قوله: "أوجب النار بالقتل"؛ لأنه قال: يعني بالقتل.

والثاني: أنه لو أراد رقبة القتل لذكر رقبة مؤمنةً، فلما لم يشترط لهم الأيمان فيها، دل على أنها ليست من كفارة القتل.

والثالث: أنه إنما أمرهم بأن يعتقوا عنه، ولا خلاف أنه ليس عليهم عتقها عنه.

والرابع: أن عتق الغير عن القاتل لا يجزئه عن الكفارة.

والخامس: ما قاله ابن حزم: إنما فيه أن صاحبًا لنا قد أوجب، ولا نعرف في اللغة أن "أوجب" بمعنى قتل عمدًا فصار هذا التأويل كذبًا مجردًا، ودعوى على اللغة بما لا يعرف، وقد يكون معنى "أوجب" أي أوجب لنفسه النار بكثرة معاصيه، وقد يكون معنى أوجب أي قد حضرت منيته، وقد يقال: قد أوجب فلان بمعنى مات.

وأما حديث البزار فقد قال ابن حزم: إنه غير صحيح؛ لأن في طريقه إسرائيل وهو ليس بالقوي، وكان يقبل التلقين، وأيضًا فكان يكون في إيجاب ذلك على مَن قتل نفسًا في جاهليته وهو كافر حربي كما كان قيس بن عاصم المأمور بهذه الكفارة في هذا الحديث، وهم لا يقولون بهذا أصلًا؛ فبطل تعلقهم بهذا الخبر.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(8/ 132 رقم 16257).

ص: 319

فإن قلت: لما وجبت الكفارة على الخاطئ، فهي على العامد أوجب؛ لأنه أغلظ.

قلت: ليست هذه الكفارة مستحقة بالمأثم فيها؛ لأن المخطئ غير آثم باعتبار المأثم فيه ساقط، ألا ترى أنه عليه السلام أوجب سجود السهو على الساهي ولم يوجب على العامد؟.

قوله: واختلفوا في كيفيتها ما هي؟ " أي في كيفية شبه العمد، ويمكن أن يكون لما ثبت باعتبار الكيفية.

قوله: "قال قائلون" وأراد بهم: الثوري والأوزاعي وأبا حنيفة، فأبو حنيفة يقول: القتل بالعصا والحجر صغيرًا كان أو كبيرًا: شبه العمد، وكذلك التفريق في الماء.

وقال الثوري: شبه العمد أن يضربه بعصًا أو بحجر أو بيده فيموت، ففيه الدية مغلظة، ولا قود فيه، والعمد ما كان بسلاح.

وقال الأوزاعي: شبه العمد أن يضربه بعصًا أو سوط ضربةً واحدة، فإن ثَنَّى بالعصا، ثم مات مكانه، فهو عمد يقتل به.

قوله: "وقال آخرون" أي جماعة آخرون، وأراد بهم: عثمان البتي والشافعي وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: شبه العمد: القتل بما لا يقتل مثله، كاللطمة الواحدة، والضربة الواحدة بالسوط، ولو كرر ذلك حتى صارت جملته مما يقتل؛ كان عمدًا وفيه القصاص.

وقال الكاساني: أما شبه العمد فثلاثة أنواع، بعضها متفق على كونه شبه عمد، وبعضها مختلف فيه.

أما المتفق عليه: فهو أن يقصد القتل بعصًا صغيرة أو بحجر صغير أو لطمة أو نحو ذلك مما لا يكون الغالب فيه الهلاك، كالسوط ونحوه إذا ضرب ضربةً أو ضربتين ولم يوال في الضربات.

ص: 320

وأما المختلف فيه: فهو أن يضرب بالسوط الصغير ويوالي في الضربات إلى أن يموت، وهذا شبه عمد بلا خلاف بين أصحابنا، وعند الشافعي هو عمد، وإن قصد قتله بما يغلب فيه الهلاك مما ليس بجارح ولا طاعن، كمدقة القصارين، والحجر الكبير، والعصا الكبيرة، ونحوهما، فهو شبه عمد عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي: هو عمد.

قوله: "فقد ثبت بذلك". أي بما ذكرنا من وجه النظر والقياس قول أهل هذه المقالة وهم أهل المقالة الثانية، ومنهم: أبو يوسف ومحمد.

والذي يفهم من كلامه أن هذا هو مختاره أيضًا.

ولقائل أن يقول: وجه هذا النظر الذي ذكره إنما يرجع إليه عند تكافؤ الأخبار، كما ذكره بقوله:"فلما تكافأت واختلفت وجب النظر. . . ." إلى آخره.

وهاهنا ليس كذلك؛ لأن خبر حَمَل بن مالك بن النابغة الذي رواه ابن عباس مشتمل على تناقض وتعارض، وذلك لأن رواية أبي عاصم، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار تخبر أن رسول الله عليه السلام قضى بأن تقتل تلك المرأة القاتلة مكان تلك المرأة المقتولة، وكذلك جاء في رواية الحجاج، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، ورواية هشام بن سليمان، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار لم تخبر إلا قضاء رسول الله عليه السلام بالغرة في الجنين، وكذلك جاء في رواية سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار ولم يذكر في روايتهما عن عمرو بن دينار قتل المرأة، وروى سعيد، عن قتادة، عن أبي المليح، عن حَمَل بن مالك قال:"كانت له امرأتان، فرجمت إحداهما الأخرى بحجر، فأصاب قلبها وهي حامل، فألقت جنينًا وماتت، فرفع ذلك إلى رسول الله عليه السلام، فقضى رسول الله عليه السلام بالدية على عاقلة القاتلة، وقضى في الجنين بغرة عبد أو أمة".

وهذا مرسل أخرجه البيهقي في "سننه"(1) معلقًا، فهذا كما رأيت أخبار مختلفة ومتضادة فسقطت، وبقي حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري ومسلم،

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(8/ 43).

ص: 321

وحديث المغيرة بن شعبة الذي أخرجه مسلم والأربعة، في نفي القصاص، غير مُعَارَض، والعمل به أولى، فافهم.

ثم إنه أخرج حديث حمل بن النابغة من طريقين:

الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، عن عمرو بن دينار، عن طاوس بن كيسان، عن عبد الله بن عباس.

وأخرجه أبو داود (1): نا محمَّد بن مسعود، قال: نا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، سمع طاوسًا، عن ابن عباس، عن عمر:"أنه سأله عن قضية النبي عليه السلام في ذلك، فقال: قام إليه حمل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين امرأتين، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، فقضى رسول الله عليه السلام في جنينها بغرة، وأن تقتل" قال النضر بن شميل: المسطح: العود يرقق به الخبز. وقال أبو عبيد: المسطح عود من العيدان.

وأخرجه النسائي (2) وابن ماجه (3).

الثاني: عن محمَّد بن النعمان السقطي، عن عبد الله بن الزبير الحميدي شيخ البخاري عن هشام بن سليمان بن عكرمة بن خالد بن العاص القرشي المخزومي، عن عبد الملك بن جريج، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس.

ولم يذكر فيه "وأن تقتل مكانها".

وقال الحافظ المنذري: لم يذكر: "وأن تقتل" في غير هذه الرواية -يعني في رواية أبي عاصم عن ابن جريج عن عمرو بن دينار- وقد روي عن عمرو بن دينار أنه شك في قتل المرأة بالمرأة.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 600 رقم 4572).

(2)

"المجتبى"(8/ 21 رقم 4739).

(3)

"سنن ابن ماجه"(2/ 882 رقم 2641).

ص: 322

وقال البيهقي: شك فيه عمرو بن دينار، والمحفوظ أنه قضى بديتها على عاقلة القاتلة.

وقد قيل: إن ابن جريج أخطأ فيه؛ لأن سفيان بن عُيينة روى هذا الخبر عن عمرو بن دينار ولم يذكر فيه ما ذكر ابن جريج من قوله: "وأن تقتل".

قلت: يؤيد هذا أيضًا ما رواه أبو داود (1): ثنا عبد الله بن محمَّد الزهري قال: ثنا سفيان، عن عمرو، عن طاوس قال:"قام عمر رضي الله عنه على المنبر. . . .".

فذكر معناه، أي معنى حديث ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس المذكور، ولم يذكر:"أن تقتل" زادَ: "بغرة عبد أو أمة، فقال عمر: الله أكبر، لو لم أسمع بهذا لقضينا بغير هذا".

وأخرجه النسائي (2) نحوه، ولكن هذا منقطع؛ لأن طاوسًا لم يسمع عمر رضي الله عنه.

وهذا الحديث روي أيضًا عن جابر وبريدة رضي الله عنهما:

أما حديث جابر فأخرجه أبو داود (3): ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: نا يونس بن محمَّد، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: نا المجالد، قال: نا الشعبي، عن جابر بن عبد الله:"أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى، ولكل واحدة منهما زوج وولدها، قال: فجعل رسول الله عليه السلام دية المقتول على عاقلة القاتلة، وبرأ زوجها وولدها، قال: فقال: عاقلة المقتولة ميراثها لنا، فقال رسول الله عليه السلام: لا، ميراثها لزوجها وولدها".

وأخرجه ابن ماجه (4) مختصرًا.

وأما حديث بريدة فأخرجه أبو داود (5) أيضًا: ثنا عباس بن عبد العظيم،

(1)"سنن أبي داود"(2/ 601 رقم 4573).

(2)

"المجتبى"(8/ 47 رقم 4816).

(3)

"سنن أبي داود"(2/ 601 رقم 4575).

(4)

"سنن ابن ماجه"(2/ 884 رقم 2648).

(5)

"سنن أبي داود"(2/ 602 رقم 4578).

ص: 323

قال: نا عبيد الله بن موسى، قال: نا يوسف بن صهيب، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه:"أن امرأة خذفت أخرى، فأُسقطت، فرفع ذلك إلى النبي عليه السلام، فجعل في ولدها خمسمائة شاة، ونهى يومئذٍ عن الخذف". قال أبو داود: هكذا قال عباس، وهو وهم، والصواب:"مائة شاة".

وأخرجه النسائي مسندًا (1) ومرسلًا (2).

فإن قيل: ما وجه الاختلاف في ألفاظ هذا الحديث، حيث وقع في رواية أبي هريرة "فرمت إحداهما الأخرى بحجر" وفي حديث المغيرة بن شعبة "بعمود" وفي رواية عنه:"بعمود فسطاط" وفي حديث عبد الله بن عباس: "بمسطح" وفي رواية عنه: "بحجر" وفي حديث بريدة: "خذفت""بالخاء والذال المعجمتين" والقصة واحدة.

قلت: يحتمل أن يكون الضرب وقع بالعمود والحجر، فذكر بعض الرواة أحدهما، وذكر الآخرُ الآخرَ، ووقع في حديث ابن عباس اللفظان، ورواية "الخذف" موافقة لرواية "الحجر". والله أعلم.

ص: وقد روي ذلك أيضًا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عيسى بن إبراهيم البركي، قال: ثنا عبد الواحد، قال: ثنا الحجاج، قال: حدثني زيد بن جبير الجشمي، عن جروة بن حُميل، عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يعمد أحدكم فيضرب أخاه بمثل آكلة اللحم -قال الحجاج: يعني العصا- ثم يقول: لا قود عليّ، لا أوتى بأحدٍ فعل ذلك إلا أقدته".

ش: أي قد روي وجوب القود على مَن قتل بعصًا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(1)"المجتبى"(8/ 46 رقم 4813).

(2)

"المجتبى"(8/ 47 رقم 4814).

ص: 324

أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عيسى بن إبراهيم بن سيار الشعيري البصري المعروف بالبِرَكي -بكسر الباء الموحدة وفتح الراء- كان ينزل سكة البِرَك بالبصرة، فنُسب إليها، روى عنه أبو داود وأبو زرعة والبخاري في غير الصحيح.

يروي عن عبد الواحد بن زياد العبدي البصري، روى له الجماعة.

عن الحجاج بن أرطاة فيه مقال.

عن زيد بن جبير -بضم الجيم وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء- بن حرمل الطائي الكوفي الجُشَمي -بضم الجيم وفتح الشين المعجمة- نسبة إلى بني جُشم بن معاوية، روى له الجماعة.

وهو يروي عن جروة -بالجيم- بن حُمَيل -بضم الحاء المهملة، وفتح الميم، وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره لام- وقيل: جَميل -بالجيم المفتوحة- والأول أصح، وثقه ابن حبان.

عن أبيه حميل بن شبيب بن إساف بن هذيم القضاعي، وثقه ابن حبان، وقال: شيخ يروي عن عمر رضي الله عنه روى عنه ابنه جروة.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا شريك، عن زيد بن جبير، عن جروة بن حميل، عن أبيه، قال: قال عمر رضي الله عنه: "يعمد أحدكم إلى أخيه فيضربه بمثل آكلة اللحم، لا أوتى برجل فعل ذلك فقتل، إلا أقدته منه".

وأخرجه البيهقي في "سننه"(2): من حديث ابن أرطاة، عن زيد بن جبير، عن جروة بن حُميل، عن عمر رضي الله عنه قال:"ليضربن أحدكم أخاه بمثل آكلة اللحم ثم يرى أني لا أقيده، والله لأقيدنه منه".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 428 رقم 27686).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(8/ 44 رقم 15773).

ص: 325

وقال البيهقي: رواه إسرائيل، عن زيد بن جبير، وقال عن أبيه، عن عمر رضي الله عنه قال حجاج: آكلة اللحم محدودة، قال أبو عبيد: يعني أنه يرى القود بغير حديد، وذلك إذا كان مثله يقتل.

قوله: "إلا أقدته" مِن أقاد: إذا اقتص منه، وثلاثيه: قاد، من القود، وهو القصاص.

ص: وقد روي عن علي رضي الله عنه خلاف ذلك:

حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي رضي الله عنه قال:"شبه العمد بالعصا والحجر الثقيل، وليس فيهما قود".

ش: أي قد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خلاف ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ وذلك لأن عمر كان يرى القود بالعصا، وعليٌّ لا يراه، وهو الذي ذهب إليه أبو حنيفة رضي الله عنه ومَن معه.

أخرجه بإسناد صحيح، عن محمَّد بن خزيمة، عن يوسف بن عدي بن زُريق شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عاصم بن ضمرة السلولي الكوفي، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي قال:"شبه العمد: بالعصا والحجر العظيم".

وأخرج ابن حزم (2) من طريق وكيع، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق السبيعي، عن عاصم بن ضمرة، عن علي رضي الله عنه قال:"شبه العمد: الضربة بالخشبة، والقذفة بالحجر العظيم".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 428 رقم 27688).

(2)

"المحلى"(10/ 385).

ص: 326

ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق السبيعي، عن عاصم بن ضمرة، عن علي رضي الله عنه:"قال: في الخطأ شبه العمد -الضرب بالخشبة، والحجر الضخم- ثلاث حقاق، وثلاث جذاع، وثلاث ما بين ثنية إلى بازل عامها".

قلت: في هذا حجتان:

الأول للجمهور: أن شبه العمد من أقسام القتل، وهو حجة على مالك والظاهرية في إنكارهم شبه العمد.

والحجة الثانية: لأبي حنيفة على مَن خالفه في أن القاتل بالعصا والحجر لا قود عليه، وهو مذهب الحكم بن عتيبة أيضًا.

قال ابن أبي شيبة (1): ثنا وكيع، قال: ثنا شعبة، عن الحكم وحماد:"عن الرجل يضرب الرجل بالعصا فيقتله، قال الحكم: ليس عليه قود. وقال حماد: يقتل". والله أعلم.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 429 رقم 2790).

ص: 327