المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: المقدار الذي يقطع فيه السارق - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٥

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: بابُ: الرجل يحلف لا يكِّلم الرجل شهرًا كم عدد ذلك الشهر من الأيام

- ‌ص: بابُ: الرجل يُوجب على نفسه أن يصلي في مكان فيصلي في غيره

- ‌ص: بابُ: الرجل يوجب على نفسه المشي إلى بيت الله الحرام

- ‌ص: بابُ: الرجل ينذر وهو مشرك نذرًا ثم يُسلم

- ‌ص: كتاب العتاق

- ‌ص: باب: العبد يكون بين الرجلين فيعتقه أحدهما

- ‌ص: باب: الرجل يملك ذا رحم محرَّم منه هل يعتق عليه أم لا

- ‌ص: باب: المكاتب متى يعتق

- ‌ص: باب: الأَمة يطأها مولاها، ثم يموت وقد جاءت بولد في حياته هل يكون ابنه وتكون له أُمّ ولدٍ أَمْ لا

- ‌ص: كتاب الرهن

- ‌ص: باب: ركوب الرهن واستعماله وشرب لبنه

- ‌ص: باب: الرهن يهلك في يد المرتهن كيف حكمه

- ‌ص: كتاب الشفعة

- ‌ص: باب: الشفعة بالجوار

- ‌ص: كتاب الجنايات

- ‌ص: باب: ما يجب في قتل العمد وجرح العمد

- ‌ص: باب: الرجل يَقتل الرجل كيف يُقتَل

- ‌ص: باب: شبه العمد الذي لا قود فيه، ما هو

- ‌ص: باب: شبه العمد هل يكون فيما دون النفس كما يكون في النفس

- ‌ص: باب: الرجل يقول عند موته: إن مُت ففلان قتلني

- ‌ص: باب: المؤمن يقتل الكافر متعمدًا

- ‌ص: باب: القسامة هل تكون على ساكني الدار الموجود فيها القتيل أو مالكها

- ‌ص: باب: القسامة كيف هى

- ‌ص: باب: ما أصاب البهائم في الليل والنهار

- ‌ص: باب: غرة الجنين المحكوم بها فيه. لمن هي

- ‌ص: كتاب الحدود

- ‌ص: باب: حد البكر في الزنا

- ‌ص: باب: حد الزاني المحصن

- ‌ص: باب: الاعتراف بالزنا الذي يجب به الحد

- ‌ص: باب: الرجل يزني بجارية امرأته

- ‌ص: باب: من تزوج امرأة أبيه أو ذات محرم منه فدخل بها

- ‌ص: باب: حد الخمر

- ‌ص: باب: من سكر أربع مرات ما حده

- ‌ص: باب: المقدار الذي يقطع فيه السارق

الفصل: ‌ص: باب: المقدار الذي يقطع فيه السارق

‌ص: باب: المقدار الذي يقطع فيه السارق

ش: أي هذا باب في بيان المقدار الذي يجب فيه قطع يد السارق إذا سرقه.

ص: حدثنا محمد بن عمرو بن يونس، قال: ثنا عبد الله بن نمير، قال: ثنا عبيد الله العمري، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجنٍّ قيمته ثلاثة دراهم".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا شعبة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه. . . . فذكر بإسناده مثله.

حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال:"أتي النبي عليه السلام برجل قد سرق حجفة ثمنه ثلاثة دراهم، فقطعه".

ش: هذه خمس طرق صحاح:

الأول: عن محمد بن عمرو بن يونس الثعلبي، عن عبد الله بن نمير الهمداني الكوفي، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عمر بن الخطاب القرشي العمري العدوي المدني، عن نافع، عن عبد الله بن عمر.

وأخرجه البخاري (1): عن مسدد، عن يحيى، عن عبيد الله، حدثني نافع، عن عبد الله قال:"قطع النبي عليه السلام في مجن ثمنه ثلاثة دراهم".

(1)"صحيح البخاري"(6/ 2493 رقم 6412).

ص: 569

ومسلم (1): عن ابن نمير، عن أبيه، عن عبيد الله، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، نحوه.

الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن سعيد بن عامر الضبعي، عن شعبة، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر.

وأخرجه مسلم (1): عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن سفيان، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام.

الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ الشيخين، عن مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام.

وأخرجه أبو داود (2): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك. . . . نحوه.

أخرجه البخاري (3): عن إسماعيل، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رسول الله عليه السلام قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم".

الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس.

وأخرجه مسلم (4): عن يحيى بن يحيى، عن مالك.

والنسائي (5): عن قتيبة، عن مالك نحوه.

الخامس: عن علي بن معبد، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن محمد بن إسحاق المدني، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام.

(1)"صحيح مسلم"(3/ 1314 رقم 1686).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 541 رقم 4385).

(3)

"صحيح البخاري"(6/ 2493 رقم 6411).

(4)

"صحيح مسلم"(3/ 1313 رقم 1686).

(5)

"المجتبى"(8/ 76 رقم 4908).

ص: 570

وأخرجه الدارقطني (1): ثنا ابن صاعد، ثنا خلاد بن أسلم، ثنا عبد الله بن إدريس، عن يحيى بن سعيد ومحمد بن إسحاق ومالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رسول الله عليه السلام قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم".

قوله: "في مجن" بكسر الميم، وهو الترس، والميم فيه زائدة، وأصله من جَنَّ يُجن إذا ستر، سمي به لأنه يواري حامله أي يستره، والحجفة -بفتح الحاء المهملة والجيم- الترس أيضًا.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فكان الذي في هذه الآثار: أن رسول الله قطع في حجفة قيمتها ثلاثة دراهم، وليس فيها أنه لا يقطع فيما هو أقل من ذلك.

فنظرنا في ذلك فإذا أحمد بن داود قد حدثنا، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا وهيب بن خالد، قال: ثنا صالح أبو واقد، عن عامر بن سعد، عن أبيه، أن رسول الله عليه السلام قال:"لا يقطع السارق إلا في ثمن المجن".

فعلمنا بهذا أن رسول الله عليه السلام وقفهم عند قطعه في المجن، على أنه لا يقطع فيما قيمته أقل من قيمة المجن.

ش: أراد بهذا الكلام: أن أحاديث عبد الله بن عمر مجرد أخبار عن رسول الله عليه السلام أنه قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم، وهذا لا يدل على أنه لا يقطع فيما هو أقل من ذلك؛ لأنه ليس فيه ما يستلزم نفي ذلك.

فإذا كان كذلك، لا تقوم بها حجة لمن يقول: إن شرط القطع أن يكون شيء يساوي ثلاثة دراهم؛ لأن هذا ليس فيه أن لا قطع في أقل من ذلك ولكن حديث سعد بن أبي وقاص يدل على أنه لا يقطع في أقل من قيمة المجن؛ لأنه روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "لا يقطع السارق إلا في ثمن المجن".

(1)"سنن الدارقطني"(3/ 190 رقم 318).

ص: 571

أخرجه عن أحمد بن داود المكي، عن سليمان بن حرب شيخ البخاري، عن وهيب بن خالد، عن أبي واقد صالح بن محمد بن زائدة الليثي المدني -ضعفه يحيى والدارقطني- عن عامر بن سعد، عن أبيه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

وأخرجه ابن ماجه (1): ثنا محمد بن بشار، ثنا أبو هشام المخزومي، ثنا وهيب، ثنا أبو واقد، عن عامر بن سعد، عن أبيه، عن النبي عليه السلام قال:"يقطع السارق في ثمن المجن".

وهذا الحديث يُعلم أنه عليه السلام وقف أصحابه عند قطعه في المجن، على أنه لا يقطع فيما قيمته أقل من قيمة المجن.

ص: فذهب قوم إلى أن السارق يقطع في هذا المقدار الذي قَدَّره ابن عمر في ثمن المجن، وهو ثلاثة دراهم، ولا يقطع فيما هو أقل من ذلك، واحتجوا في ذلك بما رووه عن ابن عمر.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي، والليث، ومالكًا، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبا ثور؛ فإنهم قالوا: تقطع يد السارق في ثمن المجن، وهو ثلاثة دراهم، ولا تقطع في أقل من ذلك.

واستدلوا على ذلك بحديث ابن عمر المذكور، وبيان مذاهبهم: ما قاله أبو عمر بن عبد البر: وعلى حديث ابن عمر عوّل مالك وأهل المدينة وفقهاء الحجاز وجماعة أصحاب الحديث، فيمن سرق ربع دينار من الذهب أنه يقطع، لكن الشافعي جعل هذا الحديث أصلا رد إليه تقويم العروض لا بالثلاثة دراهم على غلاء الذهب ورخصه، فإن بلغ العَرْض المسروق ربع دينار بالتقويم قطع سارقه، وهو قول إسحاق وأبي ثور وجماعة من التابعين.

وقال الشافعي: ومن سرق فضة وزنها ثلاثة دراهم ليلًا فعليه القطع إذا كانت قيمته ربع دينار؛ لأن الثلاثة دراهم التي قوم بها المجن في حديث ابن عمر،

(1)"سنن ابن ماجه"(2/ 862 رقم 2586).

ص: 572

وقوَّم بها عثمان إلا تريجة كانت عندهم في ذلك الوقت من صرف اثني عشر درهمًا بدينار.

وكذلك قال أبو داود: القطع في ربع دينار فصاعدًا.

والذي عول عليه مالك وجعله أصلًا ترد إليه قيمة العروض المسروقة كلها في هذا الباب هو حديث ابن عمر، فإن كان المسروق ذهبًا عينًا أو تبرًا أو مصوغًا أو غير مصوغ لم ينظر فيه إلى قيمة الثلاثة دراهم، وروعي فيه ربع دينار واعتبر ذلك؛ فإن بلغ ربع دينار وزنًا قطع يد سارقه، وإن كان المسروق فضة اعتبر فيه وزن ثلاثة دراهم كيلًا من وَرِق طيب لا دلسة فيها، وما عدا الذهب والورق فالاعتبار في تقويمه عند مالك وأصحابه الثلاثة دراهم المذكورة دون مراعاة ربع دينار فقف عل هذا فافهمه. وبه قال أحمد بن حنبل. انتهى (1).

وقال ابن حزم في "المحلى": اختلف الناس في مقدار ما يجب فيه قطع يد السارق، فقالت طائفة: يقطع في كل ما له قيمة، قل أو كثر.

وقالت طائفة: أما في الذهب فلا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدًا، وأما في غير الذهب ففي كل ما له قيمة، قلت أو كثرت.

وقالت طائفة: لا تقطع اليد إلا في ربع دينار، درهم أو ما يساوي درهمًا.

قلت: هذا روي عن الحسن البصري، وهو قول شاذ.

وقالت طائفة: لا تقطع إلا في درهمين أو ما يساوي درهمين فصاعدًا.

وقالت طائفة: لا تقطع إلا في أربعة دراهم أو ما يساويها فصاعدًا.

وقالت طائفة: لا يقطع إلا في ثلث دينار أو ما يساويه فصاعدًا.

وقالت طائفة: لا يقطع إلا في خمسة دراهم أو ما يساويها فصاعدًا.

وقالت طائفة: لا يقطع إلا في دينار ذهب أو ما يساويه فصاعدًا.

(1) انظر "التمهيد"(14/ 376 - 379).

ص: 573

وقالت طائفة: لا يقطع إلا في دينار ذهب أو عشرة دراهم أو ما يساوي أحد العددين فصاعدًا، فإن لم يساو لا دينارًا ولا عشرة دراهم لم يقطع.

وقالت طائفة: لا يقطع إلا في عشرة دراهم مضروبة أو ما يساويها فصاعدًا، ولا يقطع في أقل من ذلك. انتهى.

وقال الجصاص في "أحكامه": وقال مالك، والأوزاعي، والليث، والشافعي: لا يقطع إلا في ربع دينار فصاعدًا.

قال الشافعي: فلو غلت الدراهم حتى يكون الدرهمان بدينار قطع في ربع دينار، وإن كان ذلك نصف درهم، وإن رخصت الدنانير حتى يكون الدينار بمائة درهم قطع في ربع دينار، وذلك خمسة وعشرون درهما.

وقال أنس بن مالك وعروة والزهري وسليمان بن يسار: لا يقطع في خمسة دراهم، وروي نحوه عن علي وعمر رضي الله عنه قالا: لا يقطع إلا في خمسة دراهم. والله أعلم.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يقطع السارق إلا فيما يساوي عشرة دراهم فصاعدًا.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وأيمن الحبشي وحماد بن أبي سليمان وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وزفر؛ فإنهم قالوا: لا يقطع السارق إلا فيما يساوي عشرة دراهم فصاعدًا.

وروي عن أبي يوسف ومحمد: أنه لا يقطع حتى تكون قيمة السرقة عشرة دراهم مضروبة، وروي عن الحسن بن زياد، عن أبي حنيفة: أنه إذا سرق ما يساوي عشرة دراهم مما يجوز بين الناس قطع.

ص: 574

وقال أبو عمر: قال الثوري، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد: لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم كيلًا، أو دينارًا، أو ذهبًا عينًا أو وزنًا، ولا يقطع حتى يخرج بالمتاع من ملك الرجل.

وقال الكاساني: وروي عن عمر، وعثمان، وعلي، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم مثل مذهبنا.

وقال أيضًا: يشترط أن تكون الدراهم المسروقة جياد، حتى لو سرق عشرة دراهم زيوفًا أو نبهرجة أو ستوقة لا يقطع إلا أن تكون كثيرة تبلغ قيمتها عشرة دراهم جيادًا، ويشترط أيضا أن تعتبر عشرة دراهم وزن سبعة مثاقيل، وهل يعتبر أن تكون مضروبة؟

ذكر الكرخي أنه يعتبر عشرة دراهم مضروبة، وهكذا روى بشر، عن أبي يوسف، وابن سماعة، عن محمد: حتى لو كان تبرًا قيمته عشرة دراهم مضروبة لا يقطع، وعن أبي حنيفة: المضروبة وغيرها سواء إذا كانت رائجة.

ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن أبي داود وعبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، قالا: ثنا أحمد بن خالد الوهبي، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"كان قيمة المجن الذي قطع فيه رسول الله عليه السلام عشرة دراهم".

حدثنا ابن أبي داود وعبد الرحمن بن عمرو، قالا: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مثله.

حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد بن الأصبهاني، قال: أنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد وعطاء، عن أيمن الحبشي قال: قال رسول الله عليه السلام: "أدنى ما يقطع فيه السارق ثمن المجن" قال: وكان يقوم يومئذ دينارًا.

ص: 575

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، قال: ثنا شريك، عن منصور، عن عطاء، عن أيمن بن أم أيمن، عن أم أيمن قالت: قال رسول الله عليه السلام: "لا تقطع يد السارق إلا في حجفة"، وقومت يومئذ على عهد رسول الله عليه السلام دينارًا أو عشرة دراهم.

فلما اختلف في قيمة المجن التي قطع فيه رسول الله عليه السلام، احتيط في ذلك، فلم يقطع إلا فيما قد أجمع أن فيه وفاء قيمة المجن التي جعلها رسول الله عليه السلام مقدارًا أن لا يقطع فيما هو أقل منها، وهي عشرة دراهم.

ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث ابن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأيمن الحبشي، وأم أيمن؛ فإن في أحاديثهم أن قيمة المجن التي قطع فيها رسول الله عليه السلام كانت يومئذ دينارًا أو عشرة دراهم، فهذه تخالف ما روي عن ابن عمر أن قيمته كانت ثلاثة دراهم.

وروي عن قتادة، عن أنس مرفوعًا أن ثمنه كان ثلاثة دراهم أو خمسة دراهم أو أربعة دراهم، فلما وقع هذا الاختلاف وكان طريق إثبات هذا الضرب من المقادير التوقيف أو الاتفاق، ولم يثبت الاتفاق فيما دون العشرة، وثبت الاتفاق في العشرة أثبتناها، ولم نثبت ما دونها لعدم الاتفاق فيه.

أما حديث ابن عباس فأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، وعبد الرحمن بن عمرو الدمشقي الحافظ إمام أهل الشام، كلاهما عن أحمد بن خالد الوهبي شيخ البخاري في غير "الصحيح"، عن محمد بن إسحاق المدني، عن أيوب بن موسى بن عمرو بن العاص المكي، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس.

وأخرجه أبو داود (1): ثنا عثمان بن أبي شيبة، ومحمد بن السري العسقلاني -

(1)"سنن أبي داود"(4/ 136 رقم 4387).

ص: 576

وهذا لفظه وهو أتم- قالا: ثنا ابن نمير، عن محمد بن إسحاق، عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس قال:"قطع رسول الله عليه السلام يد رجل في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم".

فأن قلت: روى البيهقي هذا الحديث في "سننه"(1) وفي كتابه "الخلافيات" من طريق أبي داود، ثم خالفه الحكم، فرواه عن عطاء، ومجاهد، عن أيمن الحبشي، ثم أسنده عن أيمن.

فإن كان لا يقطع السارق إلا في ثمن المجن وأكثر، وكان ثمن المجن يومئذ دينارًا، ثم حكى البيهقي عن البخاري قال: أيمن الحبشي من أهل مكة، مولى ابن أبي عمرة المكي، سمع عائشة، روى عنه ابنه عبد الواحد ثم قال: روايته عن النبي عليه السلام منقطعه.

قلت: هذان حديثان رواهما عطاء: أحدهما عن ابن عباس، والآخر عن أيمن، فلا يعلل أحدهما بالآخر.

ولهذا أخرج الحاكم في "المستدرك"(2): حديث ابن عباس وقال: صحيح على شرط مسلم، وشاهده حديث أيمن، ثم أخرجه من طريق سفيان، عن منصور، عن الحكم، عن مجاهد، عن أيمن. . . . الحديث.

وذكر عبد الرزاق (3): عن إبراهيم، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"ثمن المجن الذي يقطع فيه: دينار".

قال: وأخبرنيه داود بن الحصين، عن ابن المسيب مثله.

وإبراهيم هو ابن أبي يحيى، والشافعي حسَّن الظن فيه.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(8/ 257 رقم 16950).

(2)

"مستدرك الحاكم"(4/ 420 رقم 8142، 81432).

(3)

"مصنف عبد الرزاق"(10/ 234 رقم 18956).

ص: 577

وقال صاحب "التمهيد"(1): ثنا عبد الوارث، ثنا قاسم، ثنا محمد، ثنا يوسف، ثنا ابن إدريس، ثنا محمد بن إسحاق، عن عطاء، عن ابن عباس قال:"قوِّم المجن الذي قطع فيه النبي عليه السلام عشرة دراهم".

وقال النسائي (2): ثنا عبيد الله بن سعيد، أنا عمي، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني عمرو بن شعيب، أن عطاء بن أبي رباح حدثه، أن عبد الله بن عباس كان يقول:"ثمنه عشرة دراهم".

وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص فأخرجه: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، وعبد الرحمن بن عمرو الدمشقي الحافظ، كلاهما عن أحمد بن خالد الوهبي، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.

وأخرجه النسائي (3): أنا خلاد بن أسلم، عن عبد الله -هو ابن إدريس- عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال:"كان ثمن المجن على عهد رسول الله عليه السلام عشرة دراهم".

فإن قلت: قد أخرج البيهقي هذا الحديث في "سننه"(4) ثم قال: قال الشافعي: هذا رأي من عبد الله بن عمرو.

قلت: إذا ذكر الصحابي شيئًا وأضافه إلى زمن النبي عليه السلام كان مرفوعًا عندهم، فليس هذا برأي بل هو خبر أخبر به، وهو محمول عندهم على أنه سمعه.

وقد أخرج الدارقطني (5): من حديث الحجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقطع يد السارق في أقل من عشرة دراهم".

(1)"التمهيد لابن عبد البر"(14/ 380).

(2)

"المجتبى"(8/ 83 رقم 4951).

(3)

"المجتبى"(8/ 84 رقم 4956).

(4)

"سنن البيهقي"(8/ 259 رقم 16955).

(5)

"سنن الدارقطني"(3/ 192 رقم 326).

ص: 578

وفي كتاب "الحجج" لعيسى بن أبان: ثنا موسى بن داود، قال: ثنا ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب قال:"مَضَت السنة أن لا تقطع يد السارق إلا في دينار أو عشرة دراهم، ومضت السنة بأن قيمة المجن دينار أو عشرة دراهم".

وفي "الحجج" أيضًا: ثنا علي بن عاصم، عن المثنى بن الصباح، عن عمرو ابن شعيب، عن سعيد بن المسيب قال:"مضت السنة من رسول الله عليه السلام أن لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم".

فإن قلت: حكى البيهقي عن الشافعي أنه قال لخصمه: أنت تزعم أن عمرو بن شعيب ليس ممن تقبل روايته.

قلت: الحنفية يعملون بروايته ولا يردون شيئًا منها إذا لم يعارضه ما هو أقوى منه، وقد قال البيهقي في "سننه" في باب: مَن قال: يرث قاتل الخطأ: الشافعي كالمتوقف في روايات عمرو بن شعيب إذا لم ينضم إليها ما يؤكدها.

وأما حديث أيمن الحبشي فأخرجه: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن معاوية بن هشام القصار الكوفي، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن عطاء بن أبي رباح ومجاهد المكي، كلاهما عن أيمن الحبشي المكي.

وهؤلاء كلهم ثقات.

وأخرجه النسائي (1): أنا محمود بن غيلان، ثنا معاوية، ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن عطاء، عن أيمن قال:"لم يقطع النبي عليه السلام السارق إلا في ثمن المجن، قال: وثمن المجن يومئذ دينار".

أخبرنا محمد بن بشار (2)، ثنا عبد الرحمن، ثنا سفيان، عن منصور، عن

(1)"المجتبى"(8/ 82 رقم 4943).

(2)

"المجتبى"(8/ 82 رقم 4944).

ص: 579

مجاهد، عن أيمن قال:"لم تكن تقطع اليد على عهد رسول الله عليه السلام إلا في ثمن المجن، وقيمته يومئذ دينار".

حدثنا محمد بن بشار (1)، ثنا عبد الله بن داود، عن علي بن صالح، عن منصور، عن الحكم، عن مجاهد وعطاء، عن أيمن قال:"لم تقطع اليد في عهد رسول الله عليه السلام إلا في ثمن المجن، قال: وثمن المجن يومئذ دينار".

وأخرجه النسائي من طرق متعددة (2).

فإن قيل: حكى البيهقي عن الشافعي أنه قال: أيمن الذي رواه عنه عطاء رجل حَدَث لعله أصغر من عطاء، روى عنه عطاء حديثًا عن نفيع، عن كعب، فهذا منقطع، فقال خصمه: روى شريك عن مجاهد، عن أيمن ابن أم أيمن، فقال له الشافعي: أخو أسامة، قتل يوم حنين قبل أن يولد مجاهد، ولم يبق بعده عليه السلام فيحدث عنه.

ثم ذكر البيهقي حديث عطاء عن أيمن مولى ابن الزبير، عن نفيع، عن كعب، ثم قال: وقد أشار البخاري إليه في "التاريخ" واستدل هو وغيره بذلك عل أن حديثه في المجن منقطع.

قلت: كلام الشافعي يعطي أن أيمن الذي روى عنه عطاء غير ابن أخي أسامة، وأنهما رجلان.

وقد حكاه صاحب "المستدرك"(3): عن الشافعي ما صرَّح من هذا، فذكر ما حكيناه عنه من حديث الحكم، عن مجاهد، عن أيمن، ثم قال: سمعت أبا العباس، سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: أيمن هذا هو ابن

(1)"المجتبى"(8/ 83 رقم 4946).

(2)

"المجتبى"(8/ 83 رقم 9447، 9450).

(3)

"مستدرك الحاكم"(4/ 420 رقم 8143).

ص: 580

امرأة كعب وليس بابن أم أيمن، ثم قال الحاكم: والدليل على صحة قول الشافعي ما حدثنا أبو بكر بن إسحاق، أنا إسماعيل بن قتيبة، ثنا يحيى، أنا جرير، عن منصور، عن عطاء ومجاهد، عن أيمن -قال: وكان أيمن رجلًا يذكر منه خيرٌ- قال: "لا تقطع يد السارق في أقل من ثمن المجن، وكان ثمن المجن يومئذ دينارًا".

فأيمن بن أم أيمن الصحابي أخو أسامة لأمه أجل وأنبل من أن ينسب إلى الجهالة فيقال: كان رجلًا يذكر منه خير إنما تقال مثل هذه اللفظة لمجهول لا يعرف بالصحبة. انتهى كلامه.

وظاهر كلام البيهقي أنهما رجل واحد، وقد صرَّح بذلك جماعة، فقال أبو حاتم بن حبان في "الثقات": أيمن بن عبيد الحبشي هو الذي يقال له: أيمن بن أم أيمن مولى النبي عليه السلام، نسب إلى أمه، وكان أخًا لأسامة لأمه، ومن زعم أن له صحبة فقد وهم، وحديثه في "القطع" مرسل.

وفي "معرفة الصحابة" لابن منده: أيمن بن أم أيمن، وهو ابن عبيد بن عمرو أخو أسامة لأمه، أمهما أم أيمن حاضنة النبي عليه السلام ثم ذكر ابن منده عن ابن إسحاق قال: وممن شهد مع رسول الله عليه السلام حنينًا من أهل بيته أيمن بن عبيد، وكانت أمه أم أيمن مولاة رسول الله عليه السلام، وكان أخًا لأسامة لأمه.

وفي كتاب ابن أبي حاتم: أيمن الحبشي مولى أبي عمرو، روى عن عائشة وجابر ونفيع، روى عنه مجاهد، وعطاء، وابنه عبد الواحد.

وقال البخاري: روى منصور، عن مجاهد وعطاء، عن أيمن بن أم أيمن، قال: وأيمن رجل من التابعين لم يدرك النبي عليه السلام.

ذكر ذلك ابن أبي حاتم في ترجمة واحدة، فهو تصريح بأنهما واحد.

وفي "الاستيعاب" لابن عبد البر: أيمن بن عبيد الحبشي هو أيمن بن أم أيمن

ص: 581

مولاة رسول الله عليه السلام، أخو أسامة لأمه، كان ممن بقي مع رسول الله عليه السلام يوم حنين ولم ينهزم، وذكره ابن إسحاق فيمن استشهد يوم حنين.

وذكر الطحاوي أنه صحابي معروف الصحبة، وقال في "أحكام القرآن": ولد في عهده عليه السلام، وعاش بعد وفاته عليه السلام، وإذا ثبت أنهما واحد وأن أيمن بن أم أيمن من الصحابة، كما عده جماعة منهم، وأنه بقي بعد النبي عليه السلام كما ذكره الطحاوي، تحمل رواية مجاهد عنه على الاتصال.

فإن قيل: هو صحابي كما زعم الشافعي وغيره فرواية مجاهد عنه مرسلة، وإن كان من التابعين كما زعم البخاري وغيره فروايته مرسلة، والقائل بهذا الحديث يحتج بالمرسل كيف وقد تأيد بحديث ابن عباس الذي صححه صاحب "المستدرك"، وأخرجه عبد الرزاق من وجه ثان، وصاحب "التمهيد" من وجه ثالث، والنسائي من وجه رابع على ما ذكرناه، وتأيد أيضًا بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما المذكور، وبما ذكرنا عن سعيد بن المسيب.

وأما حديث أم أيمن مولاة النبي عليه السلام فأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم ابن أبي داود البرلسي، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن منصور بن المعتمر، عن عطاء بن أبي رباح المكي، عن أيمن بن أم أيمن، عن أم أيمن -حاضنة النبي عليه السلام يقال: اسمها بركة- عن النبي عليه السلام.

وأخرجه البيهقي في كتابه "الخلافيات": أنا عبد الواحد بن محمد بن إسحاق بالكوفة، نا أبو هاشم بن عمر -هو الأعمش- نا أبو حفص، نا شريك، عن منصور، عن عطاء، عن أيمن بن أم أيمن، عن أم أيمن قالت: قال رسول الله عليه السلام: "لا تقطع يد السارق إلا في حجفة، وقومت يومئذ على عهد النبي عليه السلام دينارًا أو عشرة دراهم".

فإن قيل: أيمن هذا عده جماعة من الصحابة، وقالوا: إنه قتل يوم حنين ولم يدركه عطاء، فيكون الحديث منقطعًا.

ص: 582

قلت: قد بسطنا الكلام فيه في الحديث السابق، وملخصه وهاهنا أيضًا: أن أيمن إن كان من الصحابة رضي الله عنهم ومات يوم حنين على ما قاله ابن إسحاق يكون الحديث منقطعًا، ولكن تأيد بحديث ابن عباس وعبد الله بن عمرو، وإن كان تأخر وفاته إلى ما بعد النبي عليه السلام كما زعمه الطحاوي يكون الحديث متصلًا، وإن كان من التابعين على زعم الشافعي وغيره، فيكون أيضًا متصلًا لا محالة، فافهم.

ص: وذهب آخرون إلى أنه لا يقطع إلا في ربع دينار فصاعدًا.

ش: أي ذهب قوم آخرون إلى أن السارق لا تقطع يده إلا في ربع دينار فصاعدًا، وأراد بهم: الشافعي، وأحمد، وإسحاق.

ولما أخرج الترمذي (1) حديث عائشة هذا قال: والعمل على هذا عند بعض فقهاء التابعين، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، رأوا أن القطع في ربع دينار فصاعدًا.

فإن قلت: ما ذهب إليه هؤلاء هو بعينه ما ذكره الطحاوي من مذهب أهل المقالة الأولى، فلم ذكر هاهنا أيضًا بقوله وذهب آخرون؟.

قلت: لفائدة خفية لا يفهمها إلا مَن له دقة نظر، وهو أن هؤلاء وأصحاب المقالة الأولى لا شك أنهم كلهم يخالفون أصحاب المقالة الثانية، وأنهم كلهم يحتجون بحديث عبد الله بن عمر المذكور في أول الباب، وبحديث عائشة هذا كما يأتي الآن، ولكن لما كان الشافعي وأحمد وإسحاق اعتبروا تقويم الفضة والعروض بربع دينار في وجوب القطع، حتى أن مَن سرق فضة وزنها ثلاثة دراهم لا يجب عليه القطع عندهم إلا إذا كانت قيمتها ربع دينار، أفرد ذكر خلافهم هاهنا أيضًا لذلك المعنى بعد أن كانوا داخلين في أهل المقالة الأولى.

(1)"جامع الترمذي"(4/ 50 رقم 1445).

ص: 583

ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: أنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنه قالت: كان النبي عليه السلام يقطع في ربع دينار فصاعدًا".

قيل لهم: ليس في هذا أيضًا حجة على مَن ذهب إلى أنه لا يقطع إلا في عشرة دراهم؛ لأن عائشة رضي الله عنها إنما أخبرت عما قطع فيه رسول الله عليه السلام، فيحتمل أن يكون ذلك لأنها قومت ما قطع فيه، فكانت قيمته عندها ربع دينار، فجعلت ذلك مقدار ما كان النبي عليه السلام يقطع فيه.

ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث عائشة.

أخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري. . . . إلى آخره.

وأخرجه الجماعة، فالبخاري (1): عن إسماعيل بن أبي أويس، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة، عن عائشة عن النبي عليه السلام قال:"تقطع يد السارق في ربع دينار".

ومسلم (2): عن يحيى بن يحيى، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي عليه السلام نحوه.

وأبو داود (3): عن ابن السرح، عن ابن وهيب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة، عن عائشة، عن النبي عليه السلام.

والترمذي (4): عن علي بن حُجر، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي عليه السلام.

(1)"صحيح البخاري"(6/ 2492 رقم 6407).

(2)

"صحيح مسلم"(3/ 1312 رقم 1684).

(3)

"سنن أبي داود"(4/ 136 رقم 4384).

(4)

"جامع الترمذي"(4/ 50 رقم 1445).

ص: 584

والنسائي (1): عن أبي صالح، عن ابن أبي حازم، عن يزيد بن عبد الله، عن أبي بكر بن محمد، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وابن ماجه (2): عن أبي مروان، عن إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي عليه السلام.

قوله: "قيل لهم. . . . إلى آخره" جواب عن حديث عائشة المذكور، وملخصه: أن ذلك إخبار عن عائشة عن قطع رسول الله عليه السلام بتقدير منها لثمن المجن اجتهادًا، ولا حظ للاجتهاد مع النص، والدليل عل ذلك أن حماد بن زيد روى هذا الحديث عن أيوب، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن عمرة، عن عائشة موقوفًا.

وجواب آخر أنه تعارضه الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الثانية، والعمل بها أولى من حديث عائشة؛ لأن في حديث عائشة يُبيح القطع فيما دون العشرة، وفي أحاديثهم لا يبيح ذلك بل فيه الحظر عما دون العشرة، وخبر الحظر أولى من خبر الإباحة، فافهم.

ص: واحتجوا في ذلك أيضًا بما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا".

فقالوا: هذا إخبار من عائشة عن قول النبي عليه السلام، فدل ذلك أن ما ذكر عنها في الحديث الأول من قطع النبي عليه السلام في ربع دينار فصاعدًا أنها إنما أخذت ذلك عن رسول الله عليه السلام مما وقفها عليه على ما في هذا الحديث لا من جهة تقويمها لما كان قطع فيه.

ش: أي احتج أهل المقالة الثالثة أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث عائشة المذكور آنفًا الذي أجاب عنه أهل المقالة الثانية بما أجابوا بحديث عائشة الآخر الذي

(1)"المجتبى"(8/ 79 رقم 4928).

(2)

"سنن ابن ماجه"(2/ 862 رقم 2585).

ص: 585

أخرجه عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، كلاهما عن عائشة.

وأخرجه البخاري (1) هكذا كما ذكرنا عن قريب فقالوا: هذا الحديث فيه إخبار عن عائشة عن قول النبي عليه السلام أنه قال: "تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا" فدل حديثها هذا أن ما ذكرت في حديثها الأول إنما كان عن رسول الله عليه السلام مما وقفها عليه، ولم يكن من جهة اجتهادها في التقويم لما كان يقطع فيه.

ص: قيل لهم: هذا كما ذكرتم لو لم يختلف في ذلك عنها، فقد روى ابن عيينة عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة ما قد ذكرنا في الفصل الأول، فكان ذلك إخبارًا منها عن فعل النبي عليه السلام لا عن قوله.

ويونس بن يزيد عندكم لا يقارب ابن عيينة، فكيف تحتجون بما روى وتدعون ما روى ابن عيينة؟!

ش: أي قيل لهؤلاء في جواب ما ذكروا من قولهم: "فدل ذلك أن ما ذكر عنها في الحديث الأول. . . ." إلى آخره.

وتقريره أن يقال: كنا نسلم ما ذكرتم من ذلك لو لم يختلف في ذلك عن عائشة رضي الله عنها، وقد اختلف كما ذكرنا، ففي رواية سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عمرة عنها إخبار منها عن فعل النبي عليه السلام لا عن قوله، وتعيين المقدار اجتهاد منها كما قد ذكرنا، وفي رواية يونس بن يزيد الأيلي إخبار عن قوله عليه السلام، ويونس هذا لا يقارب عندكم ولا عند غيركم سفيان بن عيينة، فكيف تحتجون بقول يونس وتتركون قول سفيان؟!

فإن قيل: لا نسلم أن يونس لا يقارب سفيان بن عيينة، وقد قال يحيى:

(1)"تقدم ذكره".

ص: 586

أثبت أصحاب الزهري معمر ويونس، وقال أحمد بن صالح المصري: نحن لا نقدم في الزهري على يونس أحدًا.

قلت: سفيان إمام، عالم، ورع، زاهد، حجة، ثقة، ثبت، مجمع على صحة حديثه، وكيف يقاربه يونس بن يزيد، وقد قال ابن سعد: كان يونس حلو الحديث وكثيره، وليس بحجة ربما جاء بالشيء المنكر.

ص: قالوا: فقد روي هذا الحديث أيضًا من غير هذا الوجه عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها كما رواه يونس بن يزيد، فذكروا ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن سليمان بن يسار، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا".

قيل لهم: فكيف تحتجون بهذا وأنتم تزعمون أن مخرمة لم يسمع من أبيه حرفًا، وإنما روى عنه مرسلًا، وأنتم لا تحتجون بالمرسل، فمما يذكرون مما ينفون به سماع مخرمة من أبيه: ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، عن خاله، قال: سألت مخرمة بن بكير: هل سمعت من أبيك شيئًا؟ فقال: لا.

ش: هذا اعتراض آخر من أهل المقالة الثالثة، بيانه أن يقال: سلمنا أن يونس بن يزيد لا يقارب سفيان بن عيينة، ولكن قد روي هذا الحديث من غير الوجه المذكور عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة على نظير ما رواه يونس بن يزيد، وهو ما أخرجه عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مخرمة بن بُكير، عن أبيه بكير بن الأشج، عن سليمان بن يسار، عن عمرة، عن عائشة.

وأخرجه النسائي (1): عن أحمد بن عمرو بن السرح، عن ابن وهب، عن مخرمة، عن أبيه، عن سليمان بن يسار، عن عروة، عن عائشة نحوه.

(1)"المجتبى"(8/ 81 رقم 4936).

ص: 587

فأجاب عنه بقوله: "قيل لهم:. . . ." إلى آخره؛ بيانه أن يقال: إن مخرمة لم يسمع من أبيه شيئًا -وأنتم قائلون به- فيكون حديثه منقطعًا، وأنتم لا تحتجون بمثله، فكيف توردونه حجة على خصمكم؟

قوله: "فمما يذكرون" أي فمن الذي يذكرون ما ينفي سماع مخرمة من أبيه: ما رواه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن خاله موسى بن سلمة المصري، أنه قال: سألت مخرمة بن بكير: هل سمعت من أبيك شيئًا؟ فقال: لا. وقال أحمد بن حنبل: مخرمة بن بكير ثقة ولم يسمع من أبيه شيئًا، إنما يروي من كتاب أبيه. وقال يحيى بن معين: مخرمة بن بكير يقال: وقع إليه كتاب أبيه ولم يسمع منه شيئًا. وعنه: ضعيف.

وقال أبو داود: لم يسمع من أبيه إلا حديثًا واحدًا وهو حديث الوتر.

وقال ابن يونس في "تاريخ مصر" في ترجمة موسى بن سلمة: حدثني الحسن بن محمد بن الضحاك الفارسي، ثنا أحمد بن، سعد، ثنا عمي سعيد بن أبي مريم، قال: سمعت خالي موسى بن سلمة يقول: أتيت عبد الله بن يزيد بن هرمز فسألته أن يحدثني، فقال: ليس ذاك عندي، ولكن إن أردت الحديث فعليك بمحمد بن عمرو بن علقمة، قال: وسمعت خالي موسى بن سلمة يقول: أتيت مخرمة بن بكير فقلت له: أخرج إليَّ بعض كتب أبيك، فأخرج إليَّ منها، فقلت له: سمعت من أبيك؟ فقال: لا، لم أسمع من أبي شيئًا، قال: وسمعت خالي موسى بن سلمة يقول: أتيت سفيان الثوري فسألته عن بعض الحديث، قال: فقال لي: من أين أنت؟ فقلت: من مصر، قال: فقال: ما لأهل مصر وللحديث.

ص: قالوا: فإنه قد روي هذا الحديث عن عمرة كما رواه يونس بن يزيد، عن الزهري، عن يحيى بن سعيد أيضًا.

ص: 588

وذكروا في ذلك ما حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا أبان بن يزيد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام قال:"تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا".

قيل لهم: قد روى هذا الحديث عن يحيى مَن هو أثبت من أبان فأوقفه على عائشة ولم يرفعه إلى رسول الله عليه السلام.

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن، أن عائشة زوج النبي عليه السلام قالت:"ما طال عَليَّ ولا نسيت، القطعُ في ربع دينار فصاعدًا".

حدثنا محمد بن إدريس المكي، قال: ثنا الحميدي، عن سفيان، قال: ثنا أربعة، عن عمرة، عن عائشة لم يرفعوه: عبد الله بن أبي بكر، ورزيق بن حُكيم الأيلي، ويحيى وعبد ربه ابنا سعيد، والزهري أحفظهم كلهم، إلا أن في حديث يحيى ما قد دل على الرفع:"ما نسيت ولا طال علي، القطع في ربع دينار فصاعدًا".

حدثنا يونس، قال: ثنا أنس بن عياض، عن يحيى بن سعيد، قال: أخبرتني عمرة، أنها سمعت عائشة رضي الله عنها تقول:"القطع في ريع دينار فصاعدًا".

فكان أصل حديث يحيى عن عمرة هو ما ذكرنا مما رواه عنه أهل الحفظ والإتقان مالك وابن عيينة، لا كما رواه أبان بن يزيد، فقد عاد حديث يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة إلى نفسها إما لتقويمها ما قد خولفت في تقويمه، وإما لتوقيتها ما قد خولفت في توقيته، ولم يثبت فيه عنها عن النبي عليه السلام شيء.

وأما ما استدل به ابن عيينة على أن حديث عائشة مما رواه يحيى بن سعيد، عن عمرة عنها مرفوع بقولها:"ما طال عليَّ ولا نسيت" فإن ذلك عندنا لا دلالة فيه على ما قد ذكرتم، وقد يجوز أن يكون معناها في ذلك: ما طال عليَّ ولا نسيت ما قطع فيه رسول الله عليه السلام مما كانت قيمته عندها ربع دينار، وقيمته عند غيرها أكثر

ص: 589

من ذلك، فيعود معنى حديثها هذا إلى معنى ما قد رويناه عنها قبل هذا، من ذكرها ما كان النبي عليه السلام يقطع فيه، ومن تقويمها إياه بربع دينار.

ش: هذه معارضة أخرى من أهل المقالة الثالثة، بيانها أنهم قالوا: قد قلتم في رواية يونس بن يزيد ما قلتم، وقد رواه أيضًا أبان بن يزيد العطار كما رواه يونس بن يزيد الأيلي؛ فإنه روى عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة، أن النبي عليه السلام قال:"تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا".

فهذا أيضًا إخبار عن عائشة من قول النبي عليه السلام.

أخرجه عن محمد بن خزيمة، عن مسلم بن إبراهيم القصاب، عن أبان بن يزيد العطار. . . . إلى آخره.

وأخرجه النسائي (1): أخبرني يزيد بن محمد بن فضيل، أنا مسلم بن إبراهيم، ثنا أبان، نا يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، أن النبي عليه السلام قال:"تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا".

فأجاب عن ذلك بقوله: "قيل له" بيانه أن يقال: إن هذا الحديث قد رواه عن يحيى بن سعيد مَن هو أثبت من أبان بن يزيد، فأوقفه على عائشة ولم يرفعه إلى رسول الله عليه السلام، وهو ما أخرجه عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن يحيى بن سعيد. . . . إلى آخره.

ولا شك أن مالكًا أثبت وأتقن من أبان بن يزيد، ووافقه على ذلك سفيان بن عيينة أيضًا فإنه قال: ثنا أربعة، عن عمرة، عن عائشة لم يرفعوه، وهم: عبد الله ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني، روى له الجماعة.

(1)"المجتبى"(8/ 79 رقم 4923).

ص: 590

ورُزيق -بضم الراء المهملة وفتح الزاي المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره قاف- ابن حُكيم -بضم الحاء المهملة وفتح الكاف- الأيلي، عامل عمر بن عبد العزيز على أيلة، وثقه النسائي.

ويحيى بن سعيد الأنصاري قاضي المدينة، روى له الجماعة.

وأخوه عبد ربه بن سعيد، وثقه يحيى، روى له الجماعة.

أخرجه عن محمد بن إدريس المكي وراق الحميدي، عن الحميدي وهو عبد الله بن الزبير بن عيسى شيخ البخاري، عن سفيان بن عيينة. . . . إلى آخره.

وأخرجه النسائي (1): أنا قتيبة، ثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد وعبد ربه، ورزيق -صاحب أيلة- أنهم سمعوا عمرة، عن عائشة قالت:"القطع في ربع دينار فصاعدًا".

قوله: "والزهري أحفظهم كلهم" من تتمة حديث ابن عيينة أن محمد بن مسلم الزهري أحفظ الأربعة المذكورين.

وقوله: "كُلِّهم" بالجر على ما لا يخفى.

فإن قلت: هذا الكلام من ابن عيينة يدل على أن رفع الحديث المذكور أصح وأثبت؛ لأنه من رواية الزهري، وهو أتقن من الأربعة الذين رووه موقوفًا.

قلت: والزهري وإن كان قد رواه مرفوعًا فقد رواه موقوفًا أيضًا.

أخرجه النسائي (2): من حديث ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة قالت:"تقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا".

وهذا يرد على مَن يقول: لا يختلف على الزهري في رفع هذا الحديث، فافهم.

(1)"المجتبى"(8/ 79 رقم 4926).

(2)

"المجتبى"(8/ 78 رقم 4920).

ص: 591

قوله: "إلا أن في حديث يحيى ما قد دل على الرفع" يعني قول عائشة: "ما نسيت ولا طال عليَّ"، يدل على أنها سمعت قولها:"القطع في ربع دينار فصاعدًا"، عن النبي عليه السلام، وهذه دلالة غير صريحة، فلا يحتج بها على الخصم.

قوله: "حدثنا يونس، قال: ثنا أنس بن عياض. . . . إلى آخره" إشارة إلى أن أنس بن عياض بن حمزة المدني أيضًا وافق مالكًا على الوقف.

أخرجه عن يونس بن عبد الأعلى، عن أنس بن عياض، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة. . . . إلى آخره.

ووافقه أيضًا ابن إدريس على ذلك.

فقال النسائي (1): أنا محمد بن العلاء، ثنا ابن إدريس، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة قالت:"القطع في ربع دينار فصاعدًا".

قال النسائي: هذا الصواب من حديث يحيى، فإذا كان كذلك يكون أصل حديث يحيى: عن عمرة، عن عائشة موقوفًا، كما رواه هؤلاء الأثبات لا كما رواه أبان بن يزيد العطار، فعاد الحديث إلى نفس عائشة إما لكونها قد قومت ما قد خولفت في تقويمه، وإما لكونها وقتت ما قد خولفت في توقيته، ولم يثبت فيه عنها عن النبي عليه السلام شيء.

وقال بعض المحققين: إذا فتش أصل هذا الحديث فظهر فيه الوقف والرفع والإرسال ويتبين فيه الاضطراب في متنه وفي سنده.

قوله: "وأما ما استدل به ابن عيينة. . . . إلى آخره" جواب عن سؤال مقدر تقريره أن يقال: إنكم قلتم: إن أصل حديث يحيى عن عمرة: هو ما ذكرنا، يعني أنه موقوف كما رواه أهل الحفظ والإتقان مالك وابن عيينة، لا كما رواه أبان بن يزيد عن يحيى مرفوعًا، وكيف يكون ابن عيينة مع مالك في

(1)"المجتبى"(8/ 79 رقم 4925).

ص: 592

الوقف، وقد قال في حديث يحيى ما يدل على الرفع وهو قول عائشة:"ما نسيت وما طال عليَّ، القطع في ربع دينار فصاعدًا".

وتقرير الجواب أن يقال: إنه لا دلالة فيه عل ما قد ذكرتم، لأنه يحتمل أن يكون معنى كلامها هذا: ما طال عليَّ ولا نسيت ما قطع فيه رسول الله عليه السلام فما كانت قيمة ذلك المسروق عندها باجتهادها ربع دينار ويكون عند غيرها أكثر من ربع دينار؛ لأن تقويم المقومين يختلف في القيمة، فحينئذ يعود معنى حديثها هذا إلى معنى الحديث الذي مَرَّ ذكره قبل ذلك عند قوله: "ليس لهم في هذا أيضًا حجة على مَن ذهب إلى أنه لا يقطع إلا في عشرة دراهم.

ص: فإن قالوا: فقد رواه أبو بكر بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة مثل ما رواه أبان بن يزيد، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها، وذكروا في ذلك ما حدثنا محمد بن إدريس، قال: ثنا الحميدي، قال: ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، قال: حدثني ابن الهاد، عن أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة، عن النبي عليه السلام قال:"لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا عبد الله بن جعفر، عن يزيد بن الهاد. . . . فذكر بإسناده مثله.

حدثنا محمد بن خزيمة وفهد، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني ابن الهاد. . . . فذكر بإسناده مثله.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أنا هشيم، عن محمد بن إسحاق، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي عليه السلام مثله.

ش: هذه معارضة أخرى من أهل المقالة الثالثة، توجيهها أن يقال: قد قلتم ما قلتم فيما رواه أبان بن يزيد العطار، عن يحيى، عن عمرة، عن عائشة.

ص: 593

فهذا أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قد روى عن عمرة، عن عائشة، عن النبي عليه السلام أنه قال:"لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا".

فهذا أيضًا مثل ما رواه أبان، وهو إخبار من عائشة رضي الله عنها عن قول النبي عليه السلام.

أخرجه من أربع طرق صحاح:

الأول: عن محمد بن إدريس المكي، عن عبد الله بن الزبير الحميدي شيخ البخاري، عن عبد العزيز بن أبي حازم سلمة بن دينار المدني، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة، عن النبي عليه السلام.

وأخرجه مسلم (1): حدثني بشر بن الحكم العبدي، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن أبي بكر بن محمد، عن عمرة، عن عائشة أنها سمعت النبي عليه السلام يقول:"لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا".

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن القرشي الزهري المدني، عن يزيد بن الهاد، عن أبي بكر بن محمد، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي عليه السلام.

وأخرجه مسلم (2) أيضًا: ثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن مثنى وإسحاق ابن منصور، جميعًا عن أبي عامر العقدي، قال: ثنا عبد الله بن جعفر -من ولد المسور بن مخرمة- عن يزيد بن عبد الله بن الهاد. . . . بهذا الإسناد مثله.

الثالث: عن محمد بن خزيمة وفهد بن سليمان، كلاهما عن عبد الله بن صالح المصري وراق الليث، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن أبي بكر بن محمد، عن عمرة، عن عائشة مثله.

(1)"صحيح مسلم"(3/ 1313 رقم 1684).

(2)

"صحيح مسلم"(3/ 1313 رقم 1684).

ص: 594

الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن عون الواسطي البزاز شيخ البخاري في غير "الصحيح"، عن هشيم بن بشير، عن محمد بن إسحاق، عن أبي بكر بن محمد عن عمرة، عن عائشة.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث محمد بن إسحاق، عن أبي بكر ابن محمد، عن عمرة، عن عائشة نحوه.

ص: قيل لهم: قد روي هذا كما ذكرتم، ولكنه لا يجب على أصولكم أن تعارضوا بهذا الحديث ما روى الزهري ولا ما روى يحيى وعبد ربه ابنا سعيد؛ لأن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ليس له من الإتقان ولا من الحفظ ما لأحد من هؤلاء، ولا لمن روى هذا الحديث أيضًا عن أبي بكر بن محمد -وهو ابن الهاد- ومحمد بن إسحاق عندكم من الإتقان للرواية والحفظ ما لمن روى حديث الزهري ويحيى وعبد ربه ابني سعيد عنهم.

ش: هذا جواب المعارضة المذكورة، وبيانه أن يقال: سلمنا ما رويتم من حديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه كذلك، ولكن هذه المعارضة لا تمشي -على قاعدتكم- بهذا الحديث ما رواه الزهري، عن عمرة، عن عائشة. . . . إلى آخره، وهو ظاهر.

ص: وقد خالف أيضًا أبا بكر بن محمد -فيما روى عن عمرة من هذا- ابنه عبد الله بن أبي بكر.

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة قالت: قالت عائشة رضي الله عنها: "القطع في ربع دينار فصاعدًا".

ش: هذا جواب آخر، وهو أن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وإن كان روى هذا الحديث عن عمرة، عن عائشة مرفوعًا، فقد خالفه ابنه عبد الله بن أبي بكر هذا، ورواه عن عمرة، عن عائشة موقوفًا.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(8/ 255 رقم 16940).

ص: 595

أخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة قالت: قالت عائشة: "القطع في ربع دينار فصاعدًا".

وأخرجه النسائى (1): عن الحارث بن مسكين قراءة عليه وهو يسمع، عن ابن القاسم، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة قالت: قالت عائشة: "القطع في ربع دينار فصاعدًا".

ص: وقد خالفه في ذلك رزيق بن حكيم، فرواه عن عمرة مثل ما رواه عبد الله بن أبي بكر، ويحيى، وعبد ربه، عنها.

ش: أي وقد خالف أبا بكر بن محمد أيضًا في رفعه هذا الحديث رُزَيق -بالراء المهملة المضمومة ثم الزاي المعجمة المفتوحة- ابن حُكَيم -بضم الحاء- الأيلي، فإنه روى هذا الحديث عن عمرة، عن عائشة موقوفًا، مثل ما رواه عبد الله بن أبي بكر بن محمد ويحيى وعبد ربه ابنا سعيد، عن عائشة.

ص: فإن كان هذا الأمر يؤخذ من جهة كثرة الرواية؛ فإن من روى حديث عمرة بخلاف ما روى عنها أبو بكر بن محمد أكثر عددًا، وإن كان يؤخذ من جهة الإتقان في الرواية والحفظ؛ فإن لمن روى حديث عمرة عنها -من يحيى وعبد ربه- من الإتقان في الرواية والضبط لها ما ليس لأبي بكر بن محمد.

ش: أشار بهذا أن الحديث إذا روي مرفوعًا وموقوفًا لا يخلو إما أن يكون ترجيح أحد النوعين على الآخر من حيث كثرة عدد رواته، أو من حيث إتقان رواته وضبطهم، فإن كان من حيث الكثرة فإن من روى عن عمرة، عن عائشة موقوفًا أكثر عددًا ممن رواه عن عمرة عنها مرفوعًا، وإن كان من حيث ضبط الرواة وإتقانهم فلا شك أن يحيى وعبد ربه ابني سعيد لهما من الضبط والإتقان

(1)"المجتبى"(8/ 80 رقم 4930).

ص: 596

ما ليس لأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، فإذًا لم يقم لهؤلاء المعارضين ما يحتجون به على أهل المقالة الثالثة.

ص: فإن قالوا: فقد رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن وغيره عن عمرة مثل ما رواه عنها أبو بكر بن محمد، فذكروا في ذلك ما حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني يحيى بن أيوب، عن جعفر بن ربيعة، عن العلاء بن الأسود بن جارية وأبي سلمة بن عبد الرحمن وكثير بن خُنَيْس:"أنهم تنازعوا في القطع، فدخلوا على عمرة يسألونها، فقالت: قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله عليه السلام: "لا قطع إلا في ربع دينار".

قيل لهم: أما أبو سلمة فلا نعلم لجعفر بن ربيعة منه سماعًا، ولا نعلمه لقيه أصلًا، فكيف يجوز أن تحتجوا بمثل هذا على مخالفكم وتعارضون به ما رواه عن عمرة مَن قد ذكرناهم؟!

ش: هذه معارضة أخرى، وتوجيهها أن يقال: قد روى هذا الحديث أبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف وغيره، عن عمرة، عن عائشة مرفوعًا، كما رواه أبو بكر بن محمد عن عمرة عنها مرفوعًا، وكفى بأبي سلمة حجة.

وأخرجه عن علي بن شيبة بن الصلت، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن جعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة الكندي المصري، عن العلاء بن الأسود بن جارية وأبي سلمة عبد الله، وكثير بن خُنيس -بضم الخاء المعجمة وفتح النون وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره سين مهملة- كذا ذكره البخاري في "تاريخه" في باب الخاء المعجمة، وكذا ابن أبي حاتم في "كتاب الجرح والتعديل".

والجواب هو أن يقال: لا نسلم صحة رواية جعفر بن ربيعة، عن أبي سلمة عبد الله، فإنه لم يثبت سماعه منه، ولا علم لقيه إياه أصلًا.

ص: 597

فإذا كان كذلك فكيف يجوز الاحتجاج بمثل هذا الحديث على الخصم؟ أم كيف تجوز به المعارضة لما قد رواه عن عمرة مَن قد مضى ذكرهم من الأثبات.

وأما العلاء بن الأسود فقد قال أبو زرعة: شيخ ليس بالمشهور ويقال له: الأسود بن العلاء. قال ابن أبي حاتم: العلاء بن الأسود والأسود بن العلاء كلاهما واحد. وقال ابن ماكولا: وكثير بن خُنَيس سمع عمرة بنت عبد الرحمن، روى عنه الأسود بن العلاء أو العلاء بن الأسود، قاله البخاري.

وجارية -بالجيم- وقد وقع في كثير من نسخ الطحاوي: العلاء بن الأسود، والله أعلم.

ص: وإن احتجوا في ذلك أيضًا بحديث الزهري، فإنه حدثنا محمد بن إدريس، قال: ثنا الحميدي، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا الزهري، قال: أخبرتني عمرة بنت عبد الرحمن أنها سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: إن رسول الله عليه السلام قال: "يقطع السارق في ربع دينار فصاعدًا".

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج بن منهال، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة قالت: قال رسول الله عليه السلام: "السارق إذا سرق ربع دينار قطع".

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله عليه السلام: "تقطع اليد في ربع دينار".

ش: أي وإن احتج أهل المقالة الثالثة أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث محمد بن مسلم الزهري، وهذه معارضة أخرى فوجهها أن يقال: قد روى الزهري، عن عمرة، عن عائشة هذا الحديث مرفوعًا وكفى به حجة.

وأخرجه من ثلاث طرق:

الأول: عن محمد بن إدريس المكي، عن عبد الله بن الزبير الحميدي، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري. . . . إلى آخره.

ص: 598

وأخرجه مسلم (1): عن يحيى بن يحيى، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري. . . . إلى آخره نحوه.

وأبو داود (2): عن أحمد بن حنبل، عن سفيان، عن ابن شهاب، عن عمرة، عن عائشة:"أن النبي عليه السلام كان يقطع في ربع دينار فصاعدًا".

الثاني: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن الحجاج بن منهال شيخ البخاري، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري. . . . إلى آخره.

وأخرجه النسائي (3): عن إسحاق بن إبراهيم وقتيبة، عن سفيان، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة قالت:"كان رسول الله عليه السلام-قال قتيبة: كان النبي عليه السلام يقطع في ربع دينار فصاعدًا".

الثالث: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري. . . . إلى آخره.

وأخرجه البخاري (4): ثنا عبد الله بن مسلمة، عن إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عمرة، عن عائشة، قال النبي عليه السلام:"تقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا" تابعه عبد الرحمن بن خالد وابن أخي الزهري ومعمر، عن الزهري.

ص: قيل لهم: قد روينا هذا الحديث عن الزهري في هذا الباب من حديث ابن عيينة على غير هذا اللفظ، مما معناه خلاف هذا المعنى، وهو:"كان رسول الله عليه السلام يقطع في ربع دينار فصاعدًا".

(1)"صحيح مسلم"(3/ 1312 رقم 1684).

(2)

"سنن أبي داود"(4/ 136 رقم 4383).

(3)

"المجتبى"(8/ 78 رقم 4921).

(4)

"صحيح البخاري"(6/ 2492 رقم 6407).

ص: 599

فلما اضطرب حديث الزهري على ما ذكرنا، واختلف عن غيره عن عمرة على ما وصفنا، ارتفع ذلك كله، فلم تجب الحجة بشيء منه إذ كان ينفي بعضه بعضًا، ورجعنا إلى أن الله عز وجل قال في كتابه العزيز:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} (1) فأجمعوا أن الله تعالى لم يعن بذلك كل سارق، وإنما عنى به خاصًّا من السرَّاق لمقدار من المال معلوم، فلا يدخل فيما قد أجمعوا أن الله عز وجل عنى به خاصًّا إلا من قد أجمعوا أن الله عز وجل عناه، وقد أجمعوا أن الله عز وجل قد عنى سارق العشرة دراهم واختلفوا في سارق ما هو دونها، فقال قوم: هو ممن عنى الله عز وجل. وقال قوم: ليس هو منهم، فلم يجز لنا -لما اختلفوا في ذلك- أن نشهد على الله تعالى أنه عنى ما لم يجمعوا أنه عناه، وجاز لنا أن نشهد فيما أجمعوا أن الله عز وجل عناه، فجعلنا سارق العشرة دراهم فما فوقها داخلًا في الآية فقطعناه، وجعلنا سارق ما دون العشرة خارجًا من الآية فلم نقطعه، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أي قيل لهؤلاء المعارضين من أهل المقالة الثالثة في جواب معارضتهم، وملخصه: أن حديث الزهري مضطرب سندًا ومتنًا.

أما سندًا فظاهر، وأما متنًا فإنه قد روي عنه فيما مضى بمعنى يدل على خلاف ما روي عنه هاهنا، وهو أن فيما مضى إخبار عن فعل رسول الله عليه السلام وهو:"كان رسول الله عليه السلام يقطع في ربع دينار فصاعدًا"، وهاهنا إخبار عن قوله وهو: قال رسول الله عليه السلام: "تقطع اليد في ربع دينار".

فلما حصل هذا الاضطراب سندًا ومتنًا، واختلف أيضًا عن غير الزهري، عن عمرة، عن عائشة بالوقف والرفع على ما مرَّ بيانه، ارتفع ذلك كله فلا تجب به الحجة بعد ذلك؛ لأن بعضه ينفي بعضًا وهو معنى قوله: إذ كان ينفي بعضه بعضًا.

(1) سورة المائدة، آية:[38].

ص: 600

وكلمة "إذ" هاهنا للتعليل، ومنافاة بعضه بعضًا ظاهرة؛ لأن الرفع يخالف الوقف، والإخبار عن الفعل يخالف الإخبار عن القول.

فإن قلت: أعمل بالقول والفعل جميعًا فإنه أكد في الفعل بواحد منهما، وإنما تتحقق للمنافاة بين القول والفعل إذا كان الخلاف بينهما في نفس الحكم، وهاهنا ليس كذلك.

قلت: هذا إنما يمشي إذا سَلِمَ الحديث من الاضطراب، فافهم.

قوله: "ورجعنا إلى أن الله. . . . إلى آخره" تحقيق هذا الكلام أن العمل بعموم اللفظ في آية السرقة غير ممكن بالإجماع؛ لأن اسم السارق يطلق على سارق الصلاة، قال عليه السلام:"إن أسوأ الناس سرقة هو الذي يسرق صلاته. . . . الحديث"(1)، وأيضًا فهو مجمل من حيث المقدار يحتاج إلى بيان من غيره في إتيانه، فلا يصح من أجل ذلك اعتبار عمومه في إيجاب القطع في كل مقدار، وقد علمنا أن الله عز وجل لم يعن بذلك كل سارق، بل إنما عنى به سارقًا خاصًّا لمقدار معلوم من المال، ثم اختلفوا في هذا المقدار الذي يتعلق به قطع يد السارق، فقال قوم: هو العشرة دراهم فما فوقها، وهم أهل المقالة الثانية.

وقال قوم: هو ربع دينار، وهم أهل المقالة الثالثة، وقال قوم: هو ثلاثة دراهم، وهم أهل المقالة الأولى، وهذه الأقوال الثلاثة هي التي عمل الناس عليها، وكلهم مجمعون على أن الله عنى سارق العشرة دراهم من هذه الآية، ولكن اختلفوا في سارق ما دون العشرة، فمنهم من قال: هو ممن عنى الله عز وجل، ومنهم من يقول: ليس هو منهم.

فإذا كان الأمر كذلك لم يجز لنا أن نشهد على الله أنه عنى ما لم يجمعوا أنه عناه، ويجوز لنا أن نشهد فيما أجمعوا عليه أنه عز وجل عناه، فلما كان الأمر كذلك، كان سارق العشرة دراهم فما فوقها داخلًا في الآية لتيقننا بإجماعهم على أنه ممن

(1) تقدم.

ص: 601

عناهم الله فحكمنا عليه بوجوب القطع، وأما سارق ما دون العشرة فجعلناه خارجًا من الآية لوجود الاختلاف فيه هل هو ممن عناهم الله أم لا؟ فلم يترتب عليه حكم القطع، والله أعلم.

ص: وقد روي ذلك عن ابن مسعود وعطاء وعمرو بن شعيب رضي الله عنهم.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، عن المسعودي، عن القاسم بن عبد الرحمن، أن عبد الله بن مسعود قال:"لا تقطع اليد إلا في الدينار أو عشرة دراهم".

حدثنا ابن مرزوق، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: كان قول عطاء مثل قول عمرو بن شعيب: "لا تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم".

ش: أي قد روي ما ذكرنا أن سارق العشرة هو الذي يقطع دون سارق ما دونها عن عبد الله بن مسعود، وعطاء بن أبي رباح المكي، وعمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص.

أما ما روي عن عبد الله فأخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن عثمان بن عمر بن فارس، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي الكوفي، عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، أن عبد الله بن مسعود .. إلى آخره.

وهؤلاء كلهم أئمة ثقات.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا ابن مبارك ووكيع، عن المسعودي، عن القاسم، عن ابن مسعود أنه قال:"لا يقطع إلا في دينار أو عشرة دراهم".

فإن قلت: هذا منقطع؛ لأن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود لم يُدرك جده.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 476 رقم 28106).

ص: 602

قلت: قد روى ذلك أبو حنيفة عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن مسعود:"لا قطع إلا في عشرة".

أخرجه الدارقطني في "سننه"(1).

فإن قلت: قال البيهقي: قال الشافعي: فقال -يعني خصمه: قد روينا عن ابن مسعود قال: "لا يقطع إلا في عشرة دراهم".

قلنا: روى الثوري، عن عيسى بن أبي عزة، عن الشعبي، عن ابن مسعود:"أنه عليه السلام قطع سارقًا في خمسة دراهم".

وهذا أقرب أن يكون صحيحًا عن عبد الله من حديث المسعودي، عن القاسم، عن عبد الله.

وقال البيهقي: حديث ابن مسعود منقطع. يعني حديث المسعودي. قال: وروي عن أبي حنيفة، عن القاسم، عن أبيه، عن ابن مسعود.

ورواه المسعودي مرسلًا. والذي في معارضته ليس بأضعف منه -يعني حديث ابن أبي عزة.

قلت: حديث المسعودي رواه عنه وكيع والثوري وابن المبارك وغيرهم. والمسعودي ثقة احتجت به الأربعة، واستشهد به البخاري. وهو وإن اختلط فقد ذكر أحمد بن حنبل أن سماع وكيع منه قديم، وأن من سمع منه بالكوفة والبصرة فسماعه جيد.

وحديث ابن أبي عزة فيه ثلاث علل: الثوري مدلس، وقد عنعن، وابن أبي عزة ضعفه القطان وذكره الذهبي في كتابه "الضعفاء". والشعبي عن ابن مسعود منقطع ذكره البيهقي في "سننه" في باب: الزنا لا يحرم الحلال، وسكت عنه في باب: ما جاء عن الصحابة فيما يجب فيه القطع، وظهر بهذا أن هذا السند

(1)"سنن الدارقطني"(3/ 193 رقم 330).

ص: 603

أضعف من سند المسعودي خلافًا لقول البيهقي، والذي روي في معارضته ليس بأضعف منه، وأن سند المسعودي أقرب أن يكون صحيحًا خلافًا لما قاله الشافعي.

وأما ما روي عن عطاء فأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج المكي. . . . إلى آخره.

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء قال:"أدنى ما يقطع فيه السارق ثمن المجن. وكان يقوم في زمانهم دينارًا أو عشرة دراهم".

وأخرجه النسائي (2): عن حميد بن مسعدة، عن سفيان، عن العرزمي، عن عطاء قال:"أدنى ما يقطع فيه: ثمن المجن، وثمن المجن عشرة دراهم".

وممن روى في هذا الباب من الصحابة: عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم.

أما ما روي عن ابن عباس فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): ثنا عبد الأعلى، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس:"لا يقطع السارق فيما دون ثمن المجن، وثمن المجن عشرة دراهم".

وأما ما روي عن علي فأخرجه البيهقي في "سننه"(4): من حديث الدارقطني (5): ثنا عمر بن الحسن، ثنا جعفر بن محمد بن مروان، ثنا أبي، ثنا عاصم -أظنه ابن عمر-

(1)"مصنف ابن أبي شيبة": (5/ 476 رقم 28108).

(2)

"المجتبى"(8/ 83 رقم 4953).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 476 رقم 28104).

(4)

"سنن البيهقي الكبرى"(8/ 261 رقم 16971).

(5)

"سنن الدارقطني"(3/ 200 رقم 349).

ص: 604

ثنا إسماعيل بن اليسع، عن جويبر، عن الضحاك، عن النزال، عن علي رضي الله عنه:"لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم، ولا يكون المهر أقل من عشرة دراهم".

فإن قلت: قال البيهقي: فيه ضعفاء مجهولون.

قلت: روى عبد الرزاق (1): عن الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتبة، عن يحيى بن الجزار، عن علي رضي الله عنه قال:"لا يقطع في أقل من دينار أو عشرة دراهم".

فهذه الرواية أجود من التي قبلها، فيتعاضدان. واللَّه أعلم.

(1)"مصنف عبد الرزاق"(10/ 233 رقم 18952).

ص: 605