المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: الرهن يهلك في يد المرتهن كيف حكمه - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٥

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: بابُ: الرجل يحلف لا يكِّلم الرجل شهرًا كم عدد ذلك الشهر من الأيام

- ‌ص: بابُ: الرجل يُوجب على نفسه أن يصلي في مكان فيصلي في غيره

- ‌ص: بابُ: الرجل يوجب على نفسه المشي إلى بيت الله الحرام

- ‌ص: بابُ: الرجل ينذر وهو مشرك نذرًا ثم يُسلم

- ‌ص: كتاب العتاق

- ‌ص: باب: العبد يكون بين الرجلين فيعتقه أحدهما

- ‌ص: باب: الرجل يملك ذا رحم محرَّم منه هل يعتق عليه أم لا

- ‌ص: باب: المكاتب متى يعتق

- ‌ص: باب: الأَمة يطأها مولاها، ثم يموت وقد جاءت بولد في حياته هل يكون ابنه وتكون له أُمّ ولدٍ أَمْ لا

- ‌ص: كتاب الرهن

- ‌ص: باب: ركوب الرهن واستعماله وشرب لبنه

- ‌ص: باب: الرهن يهلك في يد المرتهن كيف حكمه

- ‌ص: كتاب الشفعة

- ‌ص: باب: الشفعة بالجوار

- ‌ص: كتاب الجنايات

- ‌ص: باب: ما يجب في قتل العمد وجرح العمد

- ‌ص: باب: الرجل يَقتل الرجل كيف يُقتَل

- ‌ص: باب: شبه العمد الذي لا قود فيه، ما هو

- ‌ص: باب: شبه العمد هل يكون فيما دون النفس كما يكون في النفس

- ‌ص: باب: الرجل يقول عند موته: إن مُت ففلان قتلني

- ‌ص: باب: المؤمن يقتل الكافر متعمدًا

- ‌ص: باب: القسامة هل تكون على ساكني الدار الموجود فيها القتيل أو مالكها

- ‌ص: باب: القسامة كيف هى

- ‌ص: باب: ما أصاب البهائم في الليل والنهار

- ‌ص: باب: غرة الجنين المحكوم بها فيه. لمن هي

- ‌ص: كتاب الحدود

- ‌ص: باب: حد البكر في الزنا

- ‌ص: باب: حد الزاني المحصن

- ‌ص: باب: الاعتراف بالزنا الذي يجب به الحد

- ‌ص: باب: الرجل يزني بجارية امرأته

- ‌ص: باب: من تزوج امرأة أبيه أو ذات محرم منه فدخل بها

- ‌ص: باب: حد الخمر

- ‌ص: باب: من سكر أربع مرات ما حده

- ‌ص: باب: المقدار الذي يقطع فيه السارق

الفصل: ‌ص: باب: الرهن يهلك في يد المرتهن كيف حكمه

‌ص: باب: الرهن يهلك في يد المرتهن كيف حكمه

؟

ش: أي هذا باب في بيان حكم الرهن إذا هلك في يد المرتهن.

ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أنه سمع مالكًا ويونس وابن أبي ذئب يحدثون، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، أن رسول الله عليه السلام قال:"لا يغلق الرهن" قال يونس بن يزيد: قال ابن شهاب: وكان ابن المسيب يقول: "الرهن ممن رهنه، له غنمه وعليه غرمه".

حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا عبد الله ابن إدريس، عن ابن جريج، عن عطاء وسليمان بن موسى، قالا: قال رسول الله عليه السلام: "لا يغلق الرهن".

ش: هذان إسنادان منقطعان مرسلان:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس ويونس بن يزيد الأيلي ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، ثلاثتهم عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب.

وأخرجه مالك في "موطأه"(1)، وعبد الرزاق في "مصنفه" (2): عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن، له غنمه وعليه غرمه".

والدارقطني في "سننه"(3): عن أبي بكر النيسابوري، عن أبي الأزهر، عن عبد الرزاق، به.

(1)"موطأ مالك"(2/ 728 رقم 1411).

(2)

"مصنف عبد الرزاق"(8/ 237 رقم 15033).

(3)

"سنن الدارقطني"(3/ 33 رقم 132).

ص: 156

والشافعي في "مسنده"(1): عن محمَّد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن رسول الله عليه السلام قال:"لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه"، وقال الشافعي: غنمه: زيادته، وغرمه: هلاكه ونقصه.

وأخرجه البيهقي في كتاب "الخلافيات": عن محمَّد بن عبد الله الحافظ، عن أبي بكر بن أحمد، عن عبد الله بن يوسف الأصبهاني، عن محمَّد بن يعقوب، عن الربيع بن سليمان، عن الشافعي، به.

الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن عبد الله بن إدريس الحنظلي، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء بن أبي رباح وسليمان بن موسى القرشي الأموي الدمشقي الأشدق، فقيه أهل الشام في زمانه.

قوله: "لا يغلقُ الرهن" برفع القاف على الخبر، أي ليس يغلق الرهن، ومعناه: لا يذهب ويتلف باطلًا، قاله أبو عمر، وقال أيضًا: والأصل في ذلك: الهلاك، والنحويون يقولون: غلق الرهن إذا لم يوجد له تخلص، وقال ابن الأثير: هو من غَلِقَ الرهنُ يَغْلَقُ غُلُوقًا إذا بقي في يد المرتهن لا يقدر راهنه على تخليصه، والمعنى أنه لا يستحقه المرتهن إذا لم يستفكه صاحبه، وكان هذا من فعل الجاهلية: أن الراهن إذا لم يؤد ما عليه في الوقت المعين ملك المرتهن الرهن، فأبطله الإِسلام، وقال الأزهري: يقال: غَلِقَ البابُ وانْغَلَق واسْتَغْلَق إذا عَسُرَ فتحه، والغلق في الرهن ضد الفك، فإذا فك الراهن الرهن فقد أطلقه من وثاقه عند مرتهنه، وقد أَغْلَقْتُ الرهن فَغَلِقَ: أي أوجبته فوجب للمرتهن، وباب هذه المادة من باب عَلِمَ يَعْلَمُ. فافهم.

(1)"مسند الشافعي"(1/ 148).

ص: 157

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فقال قائل: لما قال رسول الله عليه السلام: "لا يغلق الرهن، لصاحبه غنمه وعليه غرمه" ثبت بذلك أن الرهن لا يضيع بالدين، فإن لصاحبه غنمه وهو سلامته، وعليه غرم الدين بعد ضياع الرهن".

ش: أراد بهذا القائل: الشافعي، فإنه قال هذا القول، وفسر الغنم والغرم بما فسره. وبقوله قال أحمد وأبو ثور وابن المنذر، وإليه ذهب الزهري والأوزاعي وعطاء بن أبي رباح.

قال ابن قدامه: الرهن إذا تلف بغير جناية من المرتهن ولا تفريط منه فلا ضمان عليه، وهو من مال الراهن، يروي ذلك عن علي رضي الله عنه، وبه قال الشافعي.

ويروى عن شريح والنخعي والحسن: أن الرهن يُضمن بجميع الدين وإن كان أكثر من قيمته؛ لأنه روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "الرهن بما فيه"، وقال مالك: إن كان تلفه بأمر ظاهر كالموت والحرق فمن ضمان الراهن، وإن أدعى تلفه بأمر خفي لم يقبل قوله وضَمِن.

وقال ابن حزم (1): وأما هلاك الرهن بغير فعل الراهن ولا المرتهن فللناس فيه خمسة أقوال:

قالت طائفة: يترادان الفضل. تفسير ذلك: أن الرهن إن كانت قيمته وقيمة الدين سواء فقد سقط الدين عن الذي كان عليه، ولا ضمان عليه في الرهن، فإن كانت قيمة الرهن أكثر سقط الدين ومقداره من الرهن، وكلف المرتهن أن يؤدي إلى الراهن مقدار ما كان تزيده قيمة الرهن على قيمة الدين، وإن كانت قيمة الرهن أقل، سقط من الدين بمقداره، وأدى الراهن إلى المرتهن فضل ما زاد الدين على قيمة الرهن، وهو قول عبيد الله بن الحسن وأبي عبيد وإسحاق بن راهويه.

(1)"المحلى"(8/ 96 - 98).

ص: 158

وقالت طائفة: ذهب الرهن بما فيه، سواء كان قيمة الدين أو أقل أو أكثر، إذا تلف، سقط الدين، ولا يغرم أحدهما للآخر شيئًا. صحَّ هذا عن الحسن البصري وإبراهيم النخعي وشريح والشعبي والزهري وقتادة.

وصح عن طاوس في الحيوان يرتهن. وروينا عن النخعي والشعبي: "فيمن ارتهن عبدًا فاعوَّر عنده قالا: ذهب بنصف دينه".

وقالت طائفة: إن كان الرهن مما يخفى كالثياب ونحوها، فضمان ما تلف منها على المرتهن بالغة ما بلغت، ويبقى دينه بحسبه حتى يؤدى إليه بكماله.

وإن كان الرهن مما يظهر كالعقار والحيوان فلا ضمان فيه على المرتهن، ودينه باق بكماله حتى يؤدى إليه، وهو قول مالك.

وقالت طائفة: سواء كان مما يخفى أو مما لا يخفى لا ضمان فيه على المرتهن أصلًا، ودينه باق بكماله حتى يؤدى إليه.

وهو قول الشافعي وأبي ثور وأحمد بن حنبل وأبي سليمان، وأصحابهم.

وقالت طائفة: إن كانت قيمة الرهن أكثر من قيمة الدين أو مثلها، فقد بطل الدين كله، ولا غرامة على المرتهن في زيادة قيمة الرهن على قيمة الدين، فإن كانت قيمة الرهن أقل من قيمة الدين سقط من الدين مقدار قيمة الرهن، وأدى الراهن إلى المرتهن ما بقي من دينه.

وهو قول إبراهيم النخعي وقتادة.

وبه يقول أبو حنيفة وأصحابه، ويروى ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم.

ص: وهذا تأويل قد أنكره أهل العلم جميعًا باللغة، وزعموا أنه لا وجه له عندهم، والذي حملنا على أن نأتي بهذا الحديث وإن كان منقطعًا: احتجاج الذي يقول بالمسند علينا، ودعواه أنا خالفناه، وقد كان يلزمه على أصله لو أنصف خصمه أن لا يحتج بمثل هذا، إذ كان منقطعًا، وهو لا تقوم الحجة عنده بالمنقطع.

ص: 159

فإن قال: قبلته وإن كان منقطعًا؛ لأنه عن سعيد بن المسيب، ومنقطع سعيد بن المسيب يقوم مقام المتصل.

قيل له: ومن جعل لك أن تخص سعيدًا بهذا وتمنع منه مثله من أهل المدينة، مثل أبي سلمة والقاسم وسالم وعروة وسليمان بن يسار وأمثالهم من أهل المدينة، والشعبي وإبراهيم النخعي وأمثالهما من أهل الكوفة، والحسن وابن سيرين وأمثالهما من أهل البصرة، وكذلك من كان في عصر من ذكرنا من سائر فقهاء الأمصار، ومن كان فوقهم من الطبقة الأول من التابعين مثل علقمة والأسود وعمرو بن شرحبيل وعَبيدة وشريح رحمهم الله.

لئن كان هذا لك مطلقًا في سعيد بن المسيب، فإنه مطلق لغيرك فيمن ذكرنا، وإن كان غيرك ممنوعًا من ذلك فإنك ممنوع من مثله، لأن هذا تحكم، وليس لأحد أن يحكم في دين الله بالتحكم.

ش: أي التأويل الذي تأوله الشافعي في قول سعيد بن المسيب: "له غنمه وعليه غرمه" تأويل قد أنكره عليه أهل العلم جميعًا باللغة، فحكى عن أبي عمرو غلام ثعلب: أنه أخطأ من قال: الغرم الهلاك، بل الغرم اللزوم ومنه الغريم؛ لأنه لزمه الدين، وقال تعالى:{إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} (1) أي لازما، والصحاح: الغرامة: ما يلزم أداؤه، وكذلك المغرم والغرم، وفي كتاب "الأفعال": غارمت غرما: لزمني ما لا يجب علي.

وقد فسر غير الشافعي الحديث بأشياء موافقة لما قاله أهل اللغة؛ فقال الهروي في "الغريبين": قال ابن عرفة: الغرامة عند العرب: ما كان لازما، والغرم: أداء شيء يلزم، ومنه الحديث:"له غنمه وعليه غرمه".

ففي زيادته: وغرمه: أداء ما يفك به الرهن.

(1) سورة الفرقان، آية:[65].

ص: 160

وقال الجصاص: الغرم: الدين، فيكون تفسيرا لقوله:"لا يغلق الرهن، أي: لا يملك بالشرط عند محل الأصل، ولصاحبه إذا جاء زيادته وعليه دينه الذي هو مرهون به".

وفي "التمهيد": قال أبو عبيد: لا يجوز في كلام العرب أن يقال للرهن إذا ضاع: قد غلق، إنما يقال: غلق، إذا استحقه المرتهن فذهب به، وهذا كان من فعل الجاهلية فأبطله النبي عليه السلام بقوله:"لا يغلق الرهن"، وقال مالك تفسيره بما يرى: أن يرهن شيئًا فيه فضل فيقول للمرتهن: إن جئتك تجعل إلي كذا؛ وإلا فالرهن لك بما فيه، فهذا لا يحل، وهو الذي نهي عنه، وبنحو هذا فسره الزهري والنخعي والثوري وطاوس وشريح.

وفي "القواعد" لابن رشد: أن أبا حنيفة وأصحابه تأولوا غنمه بما فضل منه، وغرمه بما نقص، ومعنى قوله:"وعليه غنمه" عند مالك ومن قال بقوله: أي نفقته.

وحكى صاحب "التمهيد" عن أبي حنيفة، ومالك وأصحابهما في تأويل الحديث كما حكاه ابن رشد.

فالحاصل: أن الشافعي احتج بمرسل سعيد بن المسيب، وأوله بتأويل أنكره عليه أهل العلم جميعًا باللغة.

وأقل الأحوال أنه يجعل غير ما ذكر مما تقدم من التأويلات وترك القول بالتضمين مع أنه منصوص عليه في عدة أحاديث قد تأيد بعضها ببعض، وتأيدت بأقوال السلف والتابعين، على أن مذهب ابن المسيب بخلاف ما تأول الشافعي حديثه به، فقال صاحب "التمهيد": قال شريح والشعبي وغير واحد من الكوفيين: يذهب الرهن بما فيه؛ كانت قيمته مثل الدين أو أكثر منه أو أقل، ولا يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء، وهذا قول الفقهاء السبعة المدنيين إذا هلك وعميت قيمته ولم تقم بينة، فإن قامت بينة يردا الفضل، وهكذا قال الليث، وقال:. . . . (1) بلغني عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه انتهى كلامه.

(1) بياض بالأصل.

ص: 161

وابن المسيب من الفقهاء السبعة بلا خلاف، وروى عبد الرزاق في "مصنفه": عن معمر، عن الحسن والزهري وقتادة وابن طاوس عن أبيه قالوا: من ارتهن حيوانًا فهلك فهو بما فيه.

وقال أبو بكر الجصاص: اتفقت الصحابة على أنه مضمون؛ وإن اختلفوا في كيفية الضمان، فالقول بأنه أمانة خلاف الإجماع.

قوله: "والذي حملنا على أن نأتي بهذا الحديث" أي: حديث سعيد بن المسيب -وإن كان منقطعا- أشار بهذا الكلام إلى الإنكار على الشافعي؛ حيث احتجوا على الشافعية بالمسند إذا احتجوا بالمنقطع، ويدعي أنهم قد خالفوه بكونه قد احتج بالمسند وهم قد احتجوا بالمنقطع، ثم قال: لو أنصف الشافعي خصمه كان ينبغي على أصله الذي يذهب إليه أن لا يحتج بمثل هذا الحديث هاهنا؛ لأنه منقطع، وهو لا يرى الحجة بالمنقطع.

قوله: "فإن قال" أي: فإن قال الشافعي: إنما قبلته -أي: حديث سعيد بن المسيب- وإن كان منقطعا، وهذا جواب الشافعي عما قاله: الحنفية وقد كان يلزمه على أصله. . . ." إلى آخره.

قيل له: "ومن جعلك. . . ." إلى آخره. منع لما أجابه الشافعي، وحاصله: أن تخصيص الشافعي مراسيل سعيد بن المسيب في العمل بها دون مراسيل غيره ممن هم أضرابه وأشكاله من أهل المدينة مثل: أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف والقاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق وسالم بن عبد الله بن الخطاب وعروة بن الزبير بن العوام وسليمان بن يسار مولى ميمونة زوج النبي عليه السلام.

ومثل: عامر بن شراحيل الشعبي وإبراهيم بن يزيد النخعي وأضرابهما من أهل الكوفة.

ومثل: الحسن البصري ومحمد بن سيرين وأضرابهما من أهل البصرة.

ص: 162

وأمثال من كانوا في عصرهم وزمانهم، وأمثال من كان فوقهم من الطبقة الأولى من التابعين مثل: علقمة بن قيس النخعي والأسود بن يزيد بن قيس النخعي وعمرو بن شرحبيل الهمداني وعَبِيدة -بفتح العين وكسر الباء الموحدة- ابن عمرو السلماني وشريح بن الحارث الكندي رحمهم الله.

تحكم وترجيح بلا مرجح، فلا يقبل منه، على أن الشافعي قد خالف مرسل سعيد بن المسيب في بعض المواضع.

فمن ذلك: ما روي عن سعيد بن المسيب بسند صحيح: "فرض رسول الله عليه السلام زكاة الفطر مدين من حنطة"، وقد رده الشافعي وقال: هذا خطأ، وقد نص البيهقي في رسالته إلى أبي محمَّد الجويني أن إسناده صحيح، وذكر فيها أيضًا أن الشافعي خالف مرسل سعيد بن المسيب في بعض المواضع، فكيف رده الشافعي وزعم أنه خطأ وهو صحيح ولاسيما وقد اعتضد بأحاديث وآثار أخرى على ما ذكرناها في موضعها.

فإن قيل: قد روي حديث سعيد بن المسيب هذا مسندًا أيضا فلذلك قامت به الحجة عند الشافعي.

وهو ما رواه الدارقطني (1): ثنا محمَّد بن الحسين بن سعيد الهمذاني [الحياني](2)، ثنا عبد الله بن هشام القواس، ثنا بشر بن يحيى المروزي، ثنا أبو عصمة، عن محمَّد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا يغلق الرهن، له غنمه وعليه غرمه".

ثنا (3) أبو محمَّد بن صاعد، ثنا عبد الله بن عمران العابدي، ثنا سفيان بن

(1)"سنن الدارقطني"(3/ 32 رقم 125).

(2)

كذا في "الأصل، ك" وفي "سنن الدارقطني" المطبوع: الخباز، وفي ترجمته من "تاريخ بغداد"(2/ 239)، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(52/ 342) أثناء سرد أحاديثه، ويعرف بالطَّيان، وكذا ذكره ابن نقطة في "تكملة الإكمال"(4/ 70) فيمن عرف بالطيان.

(3)

"سنن الدارقطني"(3/ 34 رقم 126).

ص: 163

عيينة، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله عليه السلام قال:"لا يغلق الرهن، له غنمه وعليه غرمه".

قال الدارقطني: زياد بن سعد أحد الحفاظ الثقات، وهذا إسناد حسن متصل.

ثنا (1) أبو محمَّد بن صاعد، ثنا محمَّد بن عوف، نا عثمان بن سعيد بن كثير، ثنا إسماعيل بن عياش، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا يغلق الرهن، لصاحبه غنمه وعليه غرمه".

ثئا (2) أبو الطيب محمَّد بن جعفر بن دُران ومحمد بن أحمد بن الصلت الأطروش، قالا: ثنا محمَّد بن خالد بن يزيد الراسبي، ثنا أبو ميسرة أحمد بن عبد الله بن ميسرة، ثنا سليمان بن داود الرقي، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال:"لا يغلق الرهن حتى يكون لك غنمه وعليك غرمه".

ثئا (3) أبو العباس أحمد بن عبد الله بن نصر بن بحير، ثنا عمران بن بكار، نا عبد الله بن عبد الجبار، ثنا إسماعيل بن عياش، ثنا الزبيدي عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال النبي عليه السلام: "لا يغلق الرهن، له غنمه وعليه غرمه".

حدثنا (4) أحمد بن عبد الله، ثنا عمران بن بكار، ثنا عبد الله بن عبد الجبار، ثنا إسماعيل، ثنا محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام، مثله.

حدثنا (5) محمَّد بن أحمد بن زيد الحنائي، ثنا موسى بن زكرياء، ثنا محمَّد بن يزيد الروَّاس، ثنا كريب أبو يحيى، ثنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن

(1)"سنن الدارقطني"(3/ 33 رقم 127).

(2)

"سنن الدارقطني"(3/ 33 رقم 128).

(3)

"سنن الدارقطني"(3/ 33 رقم 129).

(4)

"سنن الدارقطني"(3/ 33 رقم 130).

(5)

"سنن الدارقطني"(3/ 33 رقم 131).

ص: 164

المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا يغلق الرهن، لك غنمه وعليك غرمه".

وأخرجه البيهقي (1): من طريق عبد الله بن عمران، عن سفيان بن عُيينة عن زياد بن سعد، عن الزهري. . . . إلى آخره نحوه.

وأخرجه الحاكم (2): عن الأصم، عن محمَّد بن عوف، عن عثمان بن سعيد ابن كثير، عن إسماعيل بن عياش، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري. . . . إلى آخره.

وأخرجه البيهقي (3) أيضًا من طريق الحاكم.

وأخرجه بن حزم في "المحلى"(4): ثنا أحمد بن قاسم، ثنا أبي قاسم بن محمَّد بن قاسم، ثنا جدي: قاسم بن أصبغ، حدثني محمَّد بن إبراهيم، حدثني يحيى بن طالب الأنطاكي وجماعة من أهل الثقة ثنا نضر بن عاصم الأنطاكي، نا شبابة بن ورقاء، نا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا يغلق الرهن، الرهن لمن رهنه، له غنمه وعليه غرمه".

فهذا مسند من أحسن ما روي في هذا الباب.

قلت: قال أبو عمر: أصل هذا الحديث عند أهل العلم بالنقل مرسل، وإن كان قد وصل من جهات كثيرة فإنهم يعللوها.

والعجب من البيهقي كيف سكت هاهنا عن إسماعيل بن عياش وقال في باب السيف: لا نقضي في مثله، وفي باب أكل الضب: لا يحتج بمثله، وقال في باب ترك الوضوء من الدم: ماروي عن الشاميين صحيح وعن أهل الحجاز ليس بصحيح.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 39 رقم 11002).

(2)

"المستدرك على الصحيحين"(2/ 59 رقم 2317).

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 39 رقم 11000).

(4)

"المحلى"(8/ 99).

ص: 165

وابن أبي ذئب مدني وليس بشامي، على أن إسماعيل لم يسمعه من ابن أبي ذئب وإنما سمعه من عباد بن كثير، وعباد ضعيف عندهم.

ولئن سلمنا أنه حديث مسند صحيح فهو حجة عليه لا علينا، لأن قوله:"لا يغلق الرهن" معناه لا يهلك، إذ الغلق يستعمل في الهلاك، قال الكاساني (1): كذا قال بعض أهل اللغة، وعلى هذا كان الحديث حجة عليه، لأنه يذهب بالدين فلا يكون هالكًا معنىً، وقيل: معناه لا يستحقه المرتهن ولا يملكه عند امتناع الراهن عن قضاء الدين، وهذا كان حكمًا جاهليًّا جاء الإِسلام فأبطله.

وقوله: "عليه غرمه" أي نفقته وكفنه ونحن نقول به. والله أعلم.

ص: وقد قال أهل العلم في تأويل قول رسول الله عليه السلام غير ما ذكرت:

حدثنا علي بن عبد العزيز -فيما أعلم، فإن لم يكن فقد دخل فيما كان إجازةً لي- قال: ثنا أبو عُبيد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم:"في رجل دفع إلى رجل رهنًا وأخذ منه دراهم وقال: إن جئتك بحقك إلى كذا وكذا، وإلا فالرهن لك بحقك. فقال إبراهيم: لا يغلق الرهن". قال أبو عبيد: فجعله جوابًا لمسألته.

وقد روي عن طاوس نحوٌ من هذا، بلغني ذلك عن ابن عيينة، عن عمرو، عن طاوس. قال: وأخبرني عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك بن أنس وسفيان ابن سعيد:"أنهما كانا يفسرانه على هذا التفسير".

حدثنا يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن مالك بن أنس بذلك أيضًا.

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري، قال: سمعت ابن المسيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن".

فبذلك يمنع صاحب الرهن من أن يبتاعه من الذي رهنه عنده حتى يباع من غيره، فذهب الزهري أيضًا في ذلك الغلق إلى أنه في البيع لا في الضياع.

(1)"بدائع الصنائع"(5/ 223).

ص: 166

فهؤلاء المتقدمون يقولون بما ذكرنا.

ش: الخطاب في قوله: "غير ما ذكرت" للشافعي رحمه الله: وأشار بهذا إلى أنه قد جاء عن إبراهيم النخعي وطاوس بن كيسان ومالك بن أنس وسفيان الثوري ومحمد بن مسلم الزهري تأويلات خلاف ما ذهب إليه الشافعي من التأويل المذكور.

أما ما جاء عن إبراهيم فإنه قد رواه إما مشافهة، وإما بطريق الإجازة، عن علي بن عبد العزيز البغدادي الحافظ صاحب المسندات، عن أبي عبيد القاسم بن سلام البغدادي الفقيه الأديب القاضي، عن جرير بن عبد الحميد، عن المغيرة ابن مقسم الضبي، عن إبراهيم النخعي.

وهذا إسناد صحيح.

وأما ما جاء عن طاوس فرواه بطريق البلاغ، عن سفيان بن عُيينة، عن عمرو دينار، عن طاوس بن كيسان، أنه فسر الحديث بما فسر به إبراهيم.

وأما ما جاء عن مالك بن أنس وسفيان الثوري، فرواه أبو عبيد، عن عبد الرحمن بن مهدي عنهما، وأشار إليه بقوله: قال: وأخبرني أبي، قال أبو عبيد: وأخبرني عبد الرحمن.

وأخرج أبو جعفر الطحاوي أيضًا تأويل مالك من طريق: يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك.

وأما ما جاء عن الزهري، فرواه عن فهد بن سليمان، عن أبي اليمان الحكم بن نافع شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن سعيد بن المسيب رحمه الله.

ص: وقد روي عن النبي عليه السلام في هذا أيضًا ما حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا عبيد الله بن محمَّد التَيْمي، قال: أنا عبد الله بن المبارك، قال: ثنا مصعب بن ثابت، عن عطاء بن أبي رباح:"أن رجلًا ارتهن فرسًا، فمات الفرس في يد المرتهن، فقال رسول الله عليه السلام: ذهب حقك".

ص: 167

فدل هذا من قول رسول الله عليه السلام على بطلان الدين بضياع الرهن.

فإن قال: هذا أيضًا منقطع.

قيل له: والذي تأولته أيضًا منقطع، فإن كان المنقطع حجة لك علينا فالمنقطع أيضًا حجة لنا عليك.

ش: أي وقد روي عن النبي عليه السلام في حكم الرهن إذا هلك عند المرتهن أنه يهلك بالدين.

أخرج ذلك بإسناد رجاله كلهم ثقات.

وأخرجه بن أبي شيبة في "مصنفه"(1): نا عبد الله بن المبارك، عن مصعب بن ثابت، قال: سمعت عطاء يحدث: "أن رجلًا رهن رجلًا فرسًا فنفق في يده، فقال رسول الله عليه السلام للمرتهن: ذهب حقك".

فإن قلت: مصعب بن ثابت ضعفه يحيى وأحمد، وقال ابن حزم: هذا مرسل ومصعب ليس بالقوي.

قلت: ابن حبان وثقه وصدَّقه أبو حاتم، وروى عنه مثل عبد الله بن المبارك وزيد بن أسلم -وهو أكبر منه- وعيسى بن يونس وأضرابهم.

قوله: "فإن قال: هذا أيضًا منقطع" أي فإن قال الشافعي: هذا الحديث أيضًا منقطع فلا يكون حجة.

قوله: "قيل له" أي لهذا القائل -وهو الشافعي- وهو ظاهر.

فإن قيل: فقد روى البيهقي (2) هذا الحديث من طريق أبي داود: ثنا محمَّد بن العلاء، ثنا ابن المبارك، عن مصعب بن ثابت، سمعت عطاء:"أن رجلًا رهن فرسًا، فنفق في يده، فقال رسول الله عليه السلام للمرتهن: ذهب حقك"، ثم ذكر أن

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 524 رقم 22803).

(2)

"السنن الكبرى"(6/ 41 رقم 11007).

ص: 168

الشافعي وَهَّنَه فقال: ثنا إبراهيم، عن مصعب، عن عطاء قال:"زعم الحسن. . . ." ثم ذكره فجعله من مرسلات الحسن.

قلت: الراوي من طريق أبي داود عن مصعب هو عبد الله بن المبارك كما صرح به أيضًا من طريق الطحاوي، وهو جبل من الجبال، فكيف تعارض روايته رواية إبراهيم، وأظنه بن أبي يحيى وهو ضعيف جدًّا، وعلى تقدير صحة هذه الرواية، فالمرسل حجة عند خصم الشافعي سواء كان من جهة الحسن أو من جهة عطاء. فافهم.

فإن قيل: ذكر البيهقي عن الشافعي أنه قال: ومما يدلك على وهن هذا عند عطاء -إن كان رواه- أن عطاء كان يفتي بخلافه، ويقول فيما ظهر هلاكه أمانة، وفيما خفي هلاكه: يترادان الفضل، وهذا أثبت الروايات عنه، وروي عنه: يترادان مطلقًا، ولا شك أن عطاء لا يروي عن النبي عليه السلام ويقول بخلافه.

قلت: لم يسند الشافعي قول عطاء حتى ننظر فيه، وقد قال الطحاوي: ثنا ابن مرزوق، ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن عطاء:"في رجل رهن رجلًا جاريةً فهلكت، قال: هي حق المرتهن".

وهذا إسناد جيد يظهر به أن قول عطاء موافق لحديثه المرسل لا مخالف له، ثم لو ثبت أن قوله مخالف لما رواه، فالعبرة عند الشافعي وأكثر المحدثين لما روى لا لما رأى، على ما عرف.

ص: وقد روي عن النبي عليه السلام من جهة أخرى ما يوافق ذلك أيضًا:

حدثنا أبو العوام محمَّد بن عبد الله بن عبد الجبار المرادي، قال: ثنا خالد بن نزار الأيلي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: "أدركت من فقهائنا الذين ينتهى إلى قولهم منهم: سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمَّد وأبو بكر بن عبد الرحمن وخارجه بن زيد وعبيد الله بن عبد الله في مشيخة من نظرائهم، أهل فقه وصلاح وفضل، فذكر جميع ما جُمع من

ص: 169

أقاويلهم في كتابه على هذه الصفة، أنهم قالوا: الرهن بما فيه، إذا هلك وعميت قيمته، ويرفع ذلك منهم الثقة إلى النبي عليه السلام" فهؤلاء أئمة المدينة وفقهاؤها يقولون: إن الرهن يهلك بما فيه، ويرفع الثقة منهم إلى النبي عليه السلام، فأيهم حكاه فهو حجة؛ لأنه فقيه إمام، ثم قولهم جميعًا بذلك واجتماعهم عليه قد ثبت به صحة ذلك أيضًا. ثَمَّ سعيد بن المسيب، وهو المأخوذ منه قول رسول الله عليه السلام:"لا يغلق الرهن".

ش: أي قد روي عن النبي عليه السلام من جهة أخرى ما يوافق ما أوله النخعي وطاوس ومالك والثوري والزهري في حديث سعيد بن المسيب.

وهو ما أخرجه بإسناد جيد عن محمَّد بن عبد الله بن عبد الجبار المرادي المصري، عن خالد بن نزار الأيلي، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد -بالنون- عبد الله بن ذكوان، عن أبيه عبد الله قال:"أدركت. . . ." إلى آخره.

وعبد الرحمن هذا احتج به أبو داود والترمذي وابن ماجه، واستشهد به البخاري وقال ابن المديني: حديثه بالمدينة حديث مقارب. وقد ذكر في حديثه ستة من الأمة الكبار الثقات الأثبات أهل الفقه والصلاح والفضل والأمانة وجلالة القدر:

الأول: سعيد بن المسيب الذي هو سيد التابعين الذي يقال له: فقيه الفقهاء.

الثاني: عروة بن الزبير بن العوام، ذكره محمَّد بن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة، وقال: كان ثقة كثير الحديث فقيهًا عالمًا مأمونًا ثبتًا. روى له الجماعة.

الثالث: القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، ذكره محمَّد بن سعد أيضًا في الطبقة الثانية من أهل المدينة، وقال فيه ما قال في عروة.

الرابع: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله ابن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي المدني، أحد الفقهاء السبعة. قيل: اسمه

ص: 170

محمَّد، وقيل: اسمه أبو بكر، وكنيته أبو عبد الرحمن، والصحيح أن كنيته واسمه واحد، قال ابن خراش: هو أحد أئمة المسلمين. روى له الجماعة.

الخامس: خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري النجاري أبو زيد، أحد الفقهاء السبعة، ذكره محمَّد بن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة، روى له الجماعة.

السادس: عُبيد الله -بتصغير العبد- بن عبد الله -بالتكبير- بن عتبة بن مسعود الهذلي أبو عبد الله المدني الفقيه الأعمى، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، ذكره محمَّد بن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة. قال العجلي: كان أحد فقهاء المدينة، تابعي ثقة، رجل صالح، جامع للعلم، وهو معلم عمر بن عبد العزيز. روى له الجماعة.

قوله: "في مَشِيخة" بفتح الميم وكسر الشين: جمع شيخ، وكذلك أشياخ وشُيُوخ وشِيَخَة وشِيخَان ومَشَايخ ومَشْيُوخَاء.

"الشيخ" في اللغة من استبان فيه السن، والمراد به هاهنا: من كان متقدمًا في العلم إمامًا يقتدى به.

و"النُّظراء" بضم النون: جمع نظير، ونظير الشيء: مثله.

ومحل قوله: "في مَشِيخة" نصب على الحال.

قوله: "الرهن بما فيه" يعني الرهن محبوس بما فيه من الدين، فإذا هلك هلك الدين؛ لأنه في مقابلته.

قوله: "وعميت قيمته" يجوز أن يكون من العلماء وهو السحاب الرقيق، أي حال دونه ما أعمى الأبصار عن معرفة قيمته، ويجوز أن يكون من العمى مقصورًا بمعنى وخفيت قيمته، لأن الأعمى تخفى عليه الأشياء.

ص: وقد زعم هذا المخالف لنا أن من روى حديثًا عن رسول الله عليه السلام فهو أعلم بتأويله، حتى قال في حديث ابن عباس الذي رواه سيف، عن قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس: "أن رسول الله عليه السلام قضى باليمين

ص: 171

مع الشاهد -قال عمرو: في الأموال" فجعل هو قول عمرو بن دينار هذا وتأويله له حجة ودليلًا له أن ذلك الحكم في الأموال دون سائر الأشياء، فلئن كان قول عمرو بن دينار هذا وتأويله تجب به حجة، فإن قول سعيد بن المسيب الذي ذكرنا وتأويله فيما روى أحرى أن يكون حجة.

ش: أراد بالمخالف الشافعي، وأراد بهذا الكلام الرد عليه فيما زعم أن مَن روى حديثًا عن رسول الله عليه السلام فهو أعلم بتأويله، حتى قال في حديث ابن عباس الذي أخرجه الطحاوي في باب القضاء باليمين مع الشاهد: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن زيد بن الحباب، عن سيف بن سليمان المكي، عن قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس:"أن النبي عليه السلام قضى باليمين مع الشاهد -قال عمرو: في الأموال". يعني عمرو أَوَّلَ هذا الحديث في الأموال دون غيرها، فجعل الشافعي قول عمرو هذا حجة ودليلًا له في أن القضاء باليمين مع الشاهد إنما هو في باب الأموال دون غيرها.

وجه ردِّ الطحاوي ذلك: أنه إذا كان قول عمرو في هذا حجة، لكونه أعلم بتأويل حديثه الذي رواه فكون قول سعيد بن المسيب وتأويله أحرى وأولى أن يكون حجة.

ص: وهذا المخالف لنا فقد زعم أنه يقول بالاتباع، فعن مَنْ أخذ قوله هذا؟ أو مَن إمامه فيه؟ وقد روينا عن رسول الله عليه السلام خلافه، وعن تابعي أصحابه خلافه أيضًا.

ش: أي زعم الشافعي أنه يقول بالاتباع للأحاديث والآثار، ولهذا ينقل عنه أنه قال: كل ما صح من الحديث فهو مذهبي، وقد ترك الاتباع في مسألة الرهن إذا هلك عند المرتهن، وذهب إلى قول لا يُدرى عَمَّن أخذه، ولا مَنْ إمامه فيه؟.

فإن قيل: اتبع هاهنا حديث ابن المسيب المخرج مرسلًا وموصلًا كما ذكرناه.

قيل له: قد بَيَّنَا أنه أول الحديث بتأويل أنكره عليه أهل العلم باللغة والنقل، فلم يبق له دليل يُعتمد عليه، ولا برهان يقوم به الحكم.

ص: 172

قوله: "وقد [روينا عن] (1) رسول الله عليه السلام خلافه" أشار به إلى ما رواه عطاء ابن أبي رباح، المذكور عن قريب.

قوله: "وعن تابعي" أي وقد روينا عن التابعين لأصحاب رسول الله عليه السلام خلاف ما ذهب إليه أيضًا، وهو ما رواه عن الفقهاء الستة الذين ذُكروا عن قريب.

ص: وقد روي عن أئمة أصحابه خلاف ذلك أيضًا.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن أبي العوام -يعني عمران بن دَاوَر- عن مطر، عن عطاء، عن عبيد بن عمير:"أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال في الرجل يرتهن الرهن فيضيع، قال: إن كان بأقل ردوا عليه، وإن كان بأفضل فهو أمين في الفضل".

حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب بن ناصح، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن إسرائيل، عن عبد الأعلى الثعلبي، عن محمَّد بن الحنفية، أن عليًّا رضي الله عنه قال:"إذا رهن الرجِلُ الرجلَ رهنًا، فقال له المعطي: لا أقبله إلا بأكثر مما أعطيك، فضاع رَدَّ عليه الفضل، وإن رهنه وهو أكثر مما أعطى بطيب نفس من الراهن فضاع فهو بما فيه".

حدثنا نصر، قال: ثنا الخصِيب، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن خِلاس، أن عليًّا رضي الله عنه قال:"إذا كان في الرهن فضل فأصابته جائحة فهو بما فيه، وإن لم تصبه جائحة واتهم فإنه يرد الفضل".

حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن الحسن وخِلاس بن عمرو، أن عليًّا رضي الله عنه قال في الرهن:"يترادَّان الزيادة والنقصان جميعًا، فإن أصابته جائحة برئ".

فهذا عمر وعلي رضي الله عنهما قد أجمعا أن الرهن الذي قيمته الدين يضيع بالدين، وإنما اختلافهما فيما زاد من قيمة الرهن على مقدار الدين، فقال عمر رضي الله عنه هو أمانة، وقال علي رضي الله عنه ما قد رويناه عنه في حديث نصر وأحمد بن داود.

(1) تكررت في "الأصل".

ص: 173

ش: أي خلاف ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله، وهو ما روي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وهما من كبراء الصحابة رضي الله عنهم.

أما ما روي عن عمر رضي الله عنه فأخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن أبي العوام عمران بن دَاوَر -براء مهملة في آخره- القطان المصري، عن مطر بن طهمان الوراق، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبيد بن عمير بن قتادة الجندعي المكي قاضي أهل مكة، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن عمران القطان، نحوه.

فإن قيل: أخرجه البيهقي (2) ثم قال: وهذا ليس بمشهور عن عمر رضي الله عنه.

وقال ابن حزم (3): لم يصح هذا عن عمر رضي الله عنه لأنه من رواية عبيد بن عمير، وعبيد لم يولد إلا بعد موت عمر رضي الله عنه أو أدركه صغيرًا لم يسمع منه شيئًا.

وقال البيهقي أيضًا في "الخلافيات": عمران بن داود القطان انفرد به، وأكثر أصحاب الحديث لا يحتجون به.

قلت: أما قول البيهقي: هذا ليس بمشهور عن عمر تسليم منه، وهذا ليس بجرح.

وأما قول ابن حزم: وعبيد لم يولد إلا بعد موت عمر رضي الله عنه فغير صحيح، لأن مسلمًا رحمه الله قال: ولد عبيد بن عمير في زمن النبي عليه السلام.

حتى قال بعضهم: إنه رأى النبي عليه السلام، وقال ابن الأثير: ذكر البخاري أنه رأى النبي عليه السلام، وذكر مسلم أنه ولد على عهد النبي عليه السلام، وهو معدود في كبار التابعين، فإذا كان الأمر كذلك فكيف ينكر سماعه من عمر رضي الله عنه؟!.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 525 رقم 22803).

(2)

"السنن الكبرى"(6/ 43 رقم 11010).

(3)

"المحلى"(8/ 98).

ص: 174

وأما قول البيهقي أيضًا: إنه انفرد به عمران القطان فليس بقدح فيه، لأن ابن حبان وثقه، والبخاري استشهد به، واحتجت به الأربعة، وأحسن يحيى عليه الثناء، وكان عبد الرحمن بن مهدي يحدث عنه.

وأما ما روي عن علي رضي الله عنه، فأخرجه من ثلاث طرق:

الأول: عن نصر بن مرزوق، عن الخَصِيب -بفتح الخاء المعجمة وكسر الصاد المهملة- بن ناصح الحارثي، عن يزيد بن هارون الواسطي، عن إسرائيل بن يونس، عن عبد الأعلى بن عامر الثعلبي -بالثاء المثلثة، والعين المهملة- عن محمَّد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفة"(1): عن وكيع، عن علي بن صالح، عن عبد الأعلى بن عامر، عن محمَّد بن الحنفية، عن علي نحوه.

الثاني: عن نصر بن مرزوق، عن الخَصِيب بن ناصح، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن خِلَاس -بكسر الخاء المعجمة، وتخفيف اللام- بن عمرو الهجري البصري، عن علي رضي الله عنه.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(2)، وفي "الخلافيات": أنا عبد العزيز، ثنا عبد الباقي ابن قانع، ثنا علي بن محمَّد، ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن خِلَاس، عن علي رضي الله عنه، نحوه.

الثالث: عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني، عن أبي عمر حفص بن عمر الحوضي البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن الحسن وخِلَاس، كلاهما عن علي رضي الله عنه.

وأخرجه ابن حزم (3): من طريق الحجاج بن منهال، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن خِلَاس، عن علي رضي الله عنه، نحوه.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 525 رقم 22795).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 43 رقم 11011).

(3)

"المحلى"(8/ 97).

ص: 175

فإن قيل: قال البيهقي: اختلفت الرواية في ذلك عن علي وذكر يحيى بن معين وغيره أن ما رواه خلاس عن علي، أخذه من صحيفة.

قلت: الروايات كلها عن علي متفقة صحيحة على التضمين والاختلاف في كيفيته، وذكر ابن حزم في كتاب الجهاد من "المحلى"(1) أن رواية خلاس عن علي صحيحة، وقال أيضًا في كتاب الرهن (2): أما علي فمختلف عنه في ذلك، وأصح الروايات عنه إسقاط التضمين فيما أصابته جائحة.

فهذا يدل على أن رواياته في هذا صحيحة، غير أن بعضها أصح. والله أعلم.

ص: وقد روي أيضًا عن الحسن وشريح في ذلك ما قد حدثنا نصر، قال: ثنا الخَصِيب، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، أن الحسن وشريحًا قالا:"الرهن بما فيه".

حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن أبي حَصِين، قال: سمعت شريحًا يقول: "ذهبت الرهان بما فيها".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن عيسى بن جابان قال:"رهنت حليًّا، وكان أكثر مما فيه، فضاع، فاختصمنا إلى شريح فقال: الرهن بما فيه".

فهذا الحسن وشريح قد رأيا الرهن يُبطل ذهابه الدين.

ش: أي قد روي أيضًا عن الحسن البصري وشريح بن الحارث القاضي في حكم الرهن إذا هلك، أنه يهلك بما فيه من الدين.

أما ما روي عن الحسن وفيه عن شريح أيضًا فأخرجه بإسناد صحيح.

عن نصر بن مرزوق، عن الخَصِيب بن ناصح، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن وشريح.

(1)"المحلى"(7/ 301).

(2)

"المحلى"(8/ 98).

ص: 176

وأخرجه ابن أبي شيبة: عن علي بن مسهر، عن الشيباني، عن الشعبي، عن شريح قال:"الرهن بما فيه".

حدثنا عبد الأعلى (1): عن يونس، عن الحسن قال:"الرهن بما فيه".

وأما ما روي عن شريح خاصة فأخرجه من طريقين:

الأول: إسناده صحيح: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن أبي نعيم الفضل ابن دُكين شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن أبي حَصِين -بفتح الحاء وكسر الصاد- عثمان بن عاصم الأسدي الكوفي.

وأخرجه ابن أبي شيبة (2): عن ابن أبي زائدة، عن إسماعيل، عن الشعبي، عن شريح قال:"ذهبت الرهان بما فيها".

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن يزيد بن أبي زياد القرشي الكوفي، فيه مقال، فعن يحيى: ليس بالقوي. روى له الجماعة مسلم مقرونًا بغيره.

عن عيسى بن جابان (3).

ص: وقد روي ذلك أيضًا عن إبراهيم النخعي:

حدثنا سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن محمَّد بن الحسن، عن أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم أنه قال في الرهن يهلك في يدي المرتهن:"إن كانت قيمته والدين سواء ضاع بالدين، وإن كانت قيمته أقل من الدين ردّ عليه الفضل، وإن كانت قيمته أكثر من الدين فهو أمين في الفضل".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 524 رقم 22788).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 524 رقم 22786) ولكن من طريق شريك، عن أبي حصين، قال: سمعت شريحا يقول، فذكره.

(3)

بيَّض له المصنف: وعيسى بن جابان هذا ذكره ابن حبان في "الثقات"(8/ 491)، وقال: من عباد أهل الكوفة، ممن حفظ لسانه، ليس يروي الأخبار ولا يسمع الآثار، إنما يحكى عنه الرقائق في التعبد، روى عنه الكوفيون.

ص: 177

ش: أي قد روى الحكم المذكور في الرهن -وهو ذهابه بالدين- عن إبراهيم النخعي.

أخرجه بإسناد صحيح، عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن أبيه شعيب بن سليمان، عن محمَّد بن الحسن الشيباني، عن الإِمام أبي حنيفة نعمان بن ثابت، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي.

وأخرجه بن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن القعقاع بن يزيد، عن إبراهيم قال:"إذا كان الرهن أكثر مما رُهن به فهلك فهو بما فيه، لأنه أمين في الفضل، وإذا كان أقل مما رهن به فهلك رد الراهن الفضل".

ص: وروي في ذلك أيضًا عن عطاء بن أبي رباح ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن عطاء في رجل رهن رجلًا جاريةً فهلكت، قال:"هي بحق المرتهن".

فهذا عطاء يقول هذا، وقد روينا عنه عن رسول الله عليه السلام أنه قال:"لا يغلق الرهن".

فهذا أيضًا حجة على مخالفنا إذ كان من أصله أن من روى حديثًا عن رسول الله عليه السلام فتأويله فيه حجة، فقد خالف هذا كله في هذا الباب، وخالف ما قد رويناه عن رسول الله عليه السلام، وعن عمر وعلي، وعمن ذكرنا من التابعين، فَمَنْ إمامه في هذا، وبمن أقتدى؟!

ش: أي قد روي في حكم الرهن أنه إذا هلك هلك بما فيه من الدين عن عطاء بن أبي رباح.

(1) هذا المتن هو في المطبوع من "مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 525 رقم 22795) من طريق وكيع، عن علي بن صالح، عن عبد الأعلى بن عامر، عن محمَّد بن الحنفية، عن علي قال من قوله. وأما هذه الرواية فقد رواها ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4/ 525 رقم 22795) بلفظ آخر، ولعله انتقال نظر من المؤلف.

ص: 178

أخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن عطاء.

وأثر عطاء هذا قد دَلَّ على شيئين:

الأول: أن التأويل الذي أوله الشافعي في حديث ابن المسيب: "لا يغلق الرهن" غير صحيح، لأن عطاء أيضًا روى هذا، وأفتى من رأيه بما ذكرنا.

والثاني: أن فتواه هذه قد وافقت حديثه المرسل الذي رواه عبد الله بن المبارك، عن مصعب بن ثابت، عنه، وقد مَرَّ بيانه مستوفى، فصار هذا أيضًا حجة على الشافعي؛ لأن من أصله: أن من روى حديثًا عن النبي عليه السلام فتأويله فيه حجة، فقد خالف الشافعي هذا كله في هذا الباب، وخالف أيضًا ما روي عن النبي عليه السلام، وعن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وشريح، والحسن، وإبراهيم النخعي؛ فلهذا استبعد الطحاوي هذا الأمر منه فقال: فمن إمامه في هذا -أي فيما ذهب إليه- وبمن اقتدى فيه.

ص: ثم النظر في هذا أيضًا يدفع ما قال وما ذهب إليه، إذ جعل الرهن أمانة تضيع بغير شيء، وقد أجمعوا أن الأمانات لربها أن يأخذها، وحرام على المرتهن منعه منها، والرهن مخالف لذلك، إذا كان للمرتهن حبسه، ومنع مالكه منه حتى يستوفي دينه، فخرج بذلك حكمه من حكم الأمانات.

ورأينا الأشياء المغصوبة حرام على الغاصبين حبسها، وحلال للمغصوبة منهم أخذها، والرهن ليس كذلك؛ لأن المرتهن حلال له حبس الرهن، ومنع الراهن منه حتى يستوفي منه دينه.

ورأينا العواري للمستعير الانتفاع بها، وللمعير أخذها منه متى أحب، والرهن ليس كذلك، لأن المرتهن حرام عليه استعمال الرهن، وليس للراهن أخذه منه حتى يوفيه دينه.

فبان حكم الرهن من حكم الودائع والغصوب والعواري، وثبت أن حكمه بخلاف حكم ذلك كله.

ص: 179

وقد أجمعوا أن للمرتهن حبسه حتى يستوفي الدين وحلال للراهن أخذه إذا بَرئ من الدين.

فلما كان حبس الرهن مضمنًا بحبس الدين، وسقوط حبسه مضمنًا بسقوط حبس الدين، كان كذلك أيضًا ثبوت الدين مضمنًا بثبوت الرهن، فما كان الرهن ثابتًا فالدين ثابت، وما كان الرهن غير ثابت فالدين غير ثابت.

وكذلك رأينا المبيع في قولنا وقول هذا المخالف لنا: للبائع حبسه بالثمن، ومتى ضاع في يده ضاع الثمن، فالنظر على ما اجتمعنا عليه نحن وهو من هذا: أن يكون الرهن كذلك، وأن يكون ضياعه يبطل الدين كما كان ضياع المبيع يُبطل الثمن، فهذا هو النظر في هذا الباب.

ش: أي ثم وجه النظر والقياس أيضًا في هذا الباب يدفع ما قال الشافعي وما ذهب إليه، حيث جعل الرهن أمانة يهلك بغير شيء، والحاصل أن الرهن ليس له مشابهة بالأمانات؛ لأن في الأمانة لصاحبها أن يأخذها ويحرم على المؤتمن منعه منها، والرهن ليس كذلك، ولا له مشابهة للغصب ولا للوديعة ولا للعارية لوجوه قد بينها، وليس له مشابهة إلا بالبيع، وقد أجمعوا أن المبيع إذا هلك في يد البائع هلك بالثمن، فالنظر على ذلك أن يكون الرهن كذلك، إذا هلك هلك بالدين.

هكذا هو وجه القياس في هذا الباب.

فإن قيل: إذا كان الأمر كذلك، كان ينبغي لأبي حنيفة وصاحبيه أن يجروا حكم الرهن على ما يقتضيه القياس المذكور، فأجاب الطحاوي عن ذلك بقوله:

ص: غير أن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا رحمهم الله ذهبوا في الرهن إلى ما قد رويناه في هذا الباب عن عمر بن الخطاب وإبراهيم النخعي.

واحتجوا في ذلك بما قد أجمعوا عليه في الغصب، فقالوا: رأينا الأشياء المغصوبة لا يوجب ضياعها على من غصبها أكثر من ضمان قيمتها، وغصبها حرام، وقالوا: فالأشياء المرهونة التي قد ثبت أنها مضمونة أحرى أن لا يجب بضمانها

ص: 180

على من قد ضمنها أكثر من مقدار قيمتها. وكانوا يذهبون في تفسير قول سعيد ابن المسيب رضي الله عنه: "له غنمه وعليه غرمه" إلى أن ذلك في البيع، يريدون [إذا بيع الرهن وفيه نقص عن الدين، غرم المرتهن ذلك النقص، وهو "غرمه" المذكور في الحديث](1).

وإذا بيع بفضل عن الدين أخذ الراهن ذلك الفضل وهو "غنمه" المذكور في الحديث.

ش: الحاصل أن أبا حنيفة وصاحبيه قد ذهبوا في الرهن إلى ما قد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإلى ما روي عن إبراهيم النخعي رحمه الله ذهبوا أن الرهن إذا هلك وكان أقل من الدين رد الراهن ما فضل من الدين إلى المرتهن، وإن كان الرهن أكثر من الدين يكون الفاضل منه أمانةً، ولم يمشوا هاهنا على سنن القياس، بل تركوه؛ لأثر عمر بن الخطاب وإبراهيم النخعي.

وأما في تشبيهه للمبيع وفي جعله مضمونًا، أجروه على مقتضى القياس الذي ذُكر مفصلًا.

قوله: "وكانوا يذهبون" أي كان أبو حنيفة وصاحباه يذهبون. . . . إلى آخره، وكان هذا جواب عن سؤال مقدار، تقريره أن يقال: كيف ذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى ما ذهبوا إليه، وحديث سعيد بن المسيب يقتضي أن يغرم الراهن الدين عند هلاك الرهن أيضًا؛ لأنه قال:"وعليه غرمه" أي: غرم الدين بعد ضياع الرهن كما فسره الشافعي؟.

فأجاب عن ذلك بقوله: "وكانوا يذهبون. . . ." إلى آخره، وهو ظاهر. والله أعلم.

(1) تكررت في "الأصل، ك".

ص: 181