المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: ركوب الرهن واستعماله وشرب لبنه - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٥

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: بابُ: الرجل يحلف لا يكِّلم الرجل شهرًا كم عدد ذلك الشهر من الأيام

- ‌ص: بابُ: الرجل يُوجب على نفسه أن يصلي في مكان فيصلي في غيره

- ‌ص: بابُ: الرجل يوجب على نفسه المشي إلى بيت الله الحرام

- ‌ص: بابُ: الرجل ينذر وهو مشرك نذرًا ثم يُسلم

- ‌ص: كتاب العتاق

- ‌ص: باب: العبد يكون بين الرجلين فيعتقه أحدهما

- ‌ص: باب: الرجل يملك ذا رحم محرَّم منه هل يعتق عليه أم لا

- ‌ص: باب: المكاتب متى يعتق

- ‌ص: باب: الأَمة يطأها مولاها، ثم يموت وقد جاءت بولد في حياته هل يكون ابنه وتكون له أُمّ ولدٍ أَمْ لا

- ‌ص: كتاب الرهن

- ‌ص: باب: ركوب الرهن واستعماله وشرب لبنه

- ‌ص: باب: الرهن يهلك في يد المرتهن كيف حكمه

- ‌ص: كتاب الشفعة

- ‌ص: باب: الشفعة بالجوار

- ‌ص: كتاب الجنايات

- ‌ص: باب: ما يجب في قتل العمد وجرح العمد

- ‌ص: باب: الرجل يَقتل الرجل كيف يُقتَل

- ‌ص: باب: شبه العمد الذي لا قود فيه، ما هو

- ‌ص: باب: شبه العمد هل يكون فيما دون النفس كما يكون في النفس

- ‌ص: باب: الرجل يقول عند موته: إن مُت ففلان قتلني

- ‌ص: باب: المؤمن يقتل الكافر متعمدًا

- ‌ص: باب: القسامة هل تكون على ساكني الدار الموجود فيها القتيل أو مالكها

- ‌ص: باب: القسامة كيف هى

- ‌ص: باب: ما أصاب البهائم في الليل والنهار

- ‌ص: باب: غرة الجنين المحكوم بها فيه. لمن هي

- ‌ص: كتاب الحدود

- ‌ص: باب: حد البكر في الزنا

- ‌ص: باب: حد الزاني المحصن

- ‌ص: باب: الاعتراف بالزنا الذي يجب به الحد

- ‌ص: باب: الرجل يزني بجارية امرأته

- ‌ص: باب: من تزوج امرأة أبيه أو ذات محرم منه فدخل بها

- ‌ص: باب: حد الخمر

- ‌ص: باب: من سكر أربع مرات ما حده

- ‌ص: باب: المقدار الذي يقطع فيه السارق

الفصل: ‌ص: باب: ركوب الرهن واستعماله وشرب لبنه

‌ص: باب: ركوب الرهن واستعماله وشرب لبنه

ش: أي هذا باب في بيان حكم ركوب المرتهن الرهن، وبيان حكم استعماله، وبيان حكم شرب لبنه.

ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا زكرياء بن أبي زائدة، عن الشعبي، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال:"الظهر يركب بنفقته إذا كان مركوبًا، ولبن الدّرِّ يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا".

ش: إسناده صحيح، والشعبي هو عامر بن شراحيل الهمداني الكوفي.

وأخرجه البخاري (1): عن أبي نعيم، عن زكرياء عن الشعبي، عن أبي هريرة نحوه.

وعن (2) محمد بن مقاتل عن عبد الله بن المبارك، عن زكرياء، نحوه.

وأبو داود (3): عن هناد، عن ابن المبارك، عن زكرياء، عن الشعبي، عن أبي هريرة نحوه.

والترمذي (4): عن أبي كريب ويوسف بن عيسى، عن وكيع، عن زكرياء، عن عامر، به نحوه.

وقال: حسن صحيح، لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث عامر الشعبي.

قال: وقد روى غير واحد هذا الحديث عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة موقوفا.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 888 رقم 2376).

(2)

"صحيح البخاري"(2/ 888 رقم 2377).

(3)

"سنن أبي داود"(2/ 310 رقم 3526).

(4)

"جامع الترمذي"(3/ 555 رقم 1254).

ص: 143

وابن ماجه (1): عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن زكرياء، عن الشعبي به.

قوله: "الظهر يركب الإبل التي يحمل عليها وتركب" يقال: عند فلان ظهر، أي: إبل، ويجمع على ظهران بالضم.

قوله: "ولبن الدر" أي ذوات الدر، أي اللبن.

قال الجوهري: الدر اللبن، يقال في الذم: لا در دره، أي لا كثر خيره، ويقال في المدح: لله دره، أي عمله، ويقال: ناقة درور، أي كثيرة اللبن، ودار أيضًا.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى إن للراهن أن يركب الرهن بحق نفقته عليه، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: إبراهيم النخعي، والشافعي، وجماعة الظاهرية، فإنهم قالوا: للراهن أن يركب الرهن بحق نفقته عليه، ويشرب لبنه كذلك.

وروي ذلك أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال البيهقي (2): قال الشافعي يشبه قول أبي هريرة: أن من رهن ذات درّ وظهر لم يمنع الراهن درّها وظهرها، لأن له رقبتها.

قال: ومنافع الرهن للراهن وليس للمرتهن منها شيء.

قلت: قول أبي هريرة الذي قاله الشافعي هو ما رواه شعبة ووكيع وابن عُيينة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال:"الرهن محلوب ومركوب".

ذكر في كتب الشافعية: أن الراهن يجوز له استيفاء المنافع التي لا تضر بالمرتهن كسكنى الدار، وركوب الدابة، واستكتاب العبد، ولبس الثياب إلا إذا نقص

(1)"سنن ابن ماجه"(2/ 816 رقم 2440).

(2)

"السنن الكبرى"(6/ 38 رقم 10991).

ص: 144

باللبس وإكراء الفحل إلا إذا نقصت قيمته؛ لأن الرهن في ملك الراهن، فلا يمنع التصرف فيه.

وقال ابن حزم في "المحلى"(1): ومنافع الرهن كلها لا تحاشى منها شيئًا لصاحبه الراهن له كما كانت قبل الرهن ولا فرق، حاشى ركوب الدابة المرهونة، وحاشى لبن الحيوان المرهون فإنه لصاحب الرهن كما ذكرنا، إلا أن يُضَيِّعهما فلا ينفق عليهما، وينفق على كل ذلك المرتهن، فيكون له حينئذٍ ركوب الدابة، ولبن الحيوان بما أنفق، لا يحاسب به من دينه، كثر ذلك أم قل، وذلك؛ لأن ملك الراهن باقٍ في الرهن، ولم يخرج عن ملكه، لكن الركوب والاحتلاب خاصة لمن أنفق على المركوب والمحلوب؛ لحديث أبي هريرة:"الظهر يركب. . . . إلى آخره".

ثم قال: وصح عن أبي هريرة قوله مثل قولنا، وهو أنه قال:"وصاحب الرهن يركبه، وصاحب الدَّر يحلبه، وعليهما النفقة" وأنه قال: "الرهن مركوب ومحلوب بعلفه".

ومن طريق حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبرهيم النخعي:"فيمن ارتهن شاة ذات لبن قال: يشرب المرتهن من لبنها بقدر ثمن علفها، فإن استفضل من اللبن بعد ثمن العلف فهو ربًا".

قال علي: هذه الزيادة من إبراهيم لا نقول بها.

وقال الشافعي: جميع منافع الرهن للراهن كما كانت، وقال أبو ثور بذلك، وبقولنا في الركوب والحلب، إلا أنه زاد الاستخدام، ولا نقول بهذا؛ لأنه لم يأت به نص.

وقال ابن قدامة في "المغني"(2): "أما المحلوب والمركوب فللمرتهن أن ينفق

(1)"المحلى"(8/ 89 - 91).

(2)

"المغني"(4/ 251).

ص: 145

عليه ويركب ويحلب بقدر نفقته، متحريًا للعدل في ذلك في إحدى الروايتين، نصّ عليه أحمد في رواية [بكر بن محمد](1) وأحمد بن القاسم، واختاره الخرقي، وهو قول إسحاق، وسواء اتفق مع تعذر النفقة من الراهن لغيبته، أو امتناعه من الإنفاق، أو مع القدرة على أخذ النفقة من الراهن واستئذانه.

والرواية الأخرى: لا يحتسب له بما أنفق وهو متطوع بها، وليس له الانتفاع بالرهن بقدر نفقته.

وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي؛ لقوله عليه السلام: "الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه".

ولأنه ملك غيره لم يأذن له في الانتفاع به، ولا الإنفاق عليه، فلم يكن له ذلك كغير الرهن" (2).

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ليس للراهن أن يركب الرهن ولا يشرب لبنه وهو رهن معه، وليس له أن ينتفع بشيء منه.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا وأحمد في رواية، فإنهم قالوا: ليس للراهن ذلك لأنه ينافي حكم الرهن، وهو الحبس الدائم فلا يملكه.

وقال أصحابنا: ليس للراهن أن ينتفع بالمرهون استخدامًا وركوبًا ولبنًا وسكنى وغير ذلك، لأن حق الحبس ثابت للمرتهن على سبيل اللزوم، وهذا يمنع الاسترداد والانتفاع، وليس له أن يبيعه من غير المرتهن بغير إذنه، ولو باعه يوقف على إجازته فإن أجازه جاز، ويكون الثمن رهنًا سواء شرط المرتهن عند الإجازة أن يكون مرهونًا عنده أو لا.

(1) كذا في "الأصل، ك" وفي "المغني": محمد بن الحكم.

(2)

"المغني"(6/ 511).

ص: 146

وعن أبي يوسف أنه لا يكون رهنًا إلا بالشرط، وكذا ليس للمرتهن أن ينتفع بالمرهون حتى لو كان عبدًا ليس له أن يستخدمه، وإن كان دابة ليس له أن يركبها، وإن كان ثوبًا ليس له أن يلبسه، وإن كان دارًا ليس له أن يسكنها، وإن كان مصحفًا ليس له أن يقرأ فيه، وليس له أن يبيعه إلا بإذن الراهن.

ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى: أن هذا الحديث الذي احتجوا به حديث مجمل، لم يبين فيه من الذي يركب ويشرب اللبن؟ فمن أين جاز لهم أن يجعلوه الراهن دون أن يجعلوه المرتهن؟! هذا لا يكون لأحد إلا بدليل يدله على ذلك إما من كتاب أو سنة أو إجماع، ومع ذلك فقد روى هذا الحديث هشيم فبين فيه ما لم يبين يزيد بن هارون.

حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا إسماعيل بن سالم الصائغ، قال: أنا هشيم، عن زكريا، عن الشعبي، عن أبي هريرة، ذكر أن النبي عليه السلام قال: وإذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب، وعلى الذي يشرب نفقتها ويركب".

فدل هذا الحديث أن المعْني بالركوب وشرب اللبن في الحديث الأول هو المرتهن لا الراهن، فجعل ذلك له، وجُعلت النفقة عليه بدلًا مما يتعوض منه مما ذكرنا، وكان هذا عندنا والله أعلم في وقت ما كان الربا مباحا، ولم يُنه حينئذ عن القرض الذي يجر منفعةً، ولا عن أخذ الشيء بالشيء وإن كانا غير متساويين، ثم حُرِم الربا بعد ذلك، وحرم كل قرض جر منفعة.

وأجمع أهل العلم أن نفقة الرهن على الراهن لا على المرتهن، وأنه ليس للمرتهن استعمال الرهن.

ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية على أهل المقالة الأولى، وأراد بها: الجواب عن الحديث المذكور.

بيانه: أن هذا الحديث -أعني حديث أبي هريرة المذكور- مجمل؛ لأنه لم يبين

ص: 147

فيه مَنْ الراكب والشارب؟ فيحتمل أن يكون هو الراهن، ويحتمل أن يكون المرتهن، فتخصيص الراهن به من غير دليل يدّل عليه ترجيح بلا مرجح، وهو لا يجوز، فإذا كان كذلك فقد بطل الاستدلال به لأهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه، ومع هذا فقد بين هُشَيم بن بشير في روايته هذا الحديث أن المراد من الراكب والشارب هو المرتهن لا الراهن.

وقد أخرج ذلك عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني، عن إسماعيل بن سالم الصائغ، عن هشيم بن بشير، عن زكرياء بن أبي زائدة، عن عامر الشعبي، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وهذا إسناد صحيح.

فإذا كان الأمر كذلك كان ينبغي أن يذهبوا إلى عكس ما ذهبوا إليه، وهو أن يكون جواز الركوب وشرب اللبن للمرتهن بحق نفقته عليه، لا للراهن.

فإن قيل: إذا كان حديث هشيم قد بين أن المراد من الراكب والشارب هو المرتهن، فلم لم تقولوا به، وهو حجة عليكم حيث أطلقتم المنع للراهن والمرتهن جميعًا؟.

قلت: قد كان ذلك جائزًا للمرتهن بهذا الحديث حين كان الربا مباحًا، وحين لم ينه عن القرض الذي يجرّ منفعة، ولا عن إبدال شيء بشيء وإن كانا متفاضلين، فلما حدثت هذه الأشياء، انفسخ الحكم المذكور أيضًا، وأشار إلى ذلك بقوله:"وكان هذا عندنا والله أعلم. . . ." إلى آخره.

فإن قيل: قال ابن حزم (1): حديث هشيم المذكور ليس مسندًا؛ لأنه ليس فيه بيانٌ بأن هذا اللفظ من كلام رسول الله عليه السلام، وأيضًا فإن لفظه مختلط لا يفهم أصلًا، وهو قوله:"ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب نفقتها، ويركب"

(1)"المحلى"(8/ 92).

ص: 148

وهذه الرواية إنما هي من طريق إسماعيل بن سالم الصائغ مولى بني هاشم، عن هشيم، فالتخليط من قبله لا من قبل هشيم فمن فوقه.

قلت: هذا كلام ساقط، لأنه كيف يقول ليس فيه بيان؛ بأن هذا اللفظ من كلام رسول الله عليه السلام، وأيضًا فإن لفظه مختلط لا يفهم أصلًا، وهو قوله:"ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب نفقها ويركب". وقد صرّح فيه بقوله: ذكر أن النبي عليه السلام قال.

والطاعن هذا هو المخلِّط، والتخليط منه لا من إسماعيل بن سالم، فإنه من رجال الصحيح، وروى عنه مسلم.

ص: فمما روي في نسخ الربا: ما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن ابن زياد، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"لما نزلت الآيات التي في آخر سورة البقرة، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأهن على الناس، ثم حرّم التجارة في بيع الخمر".

حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن شعبة، قال: حدثني منصور، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة مثله.

فلما حُرِّم الربا حُرّمت أشكاله، وَرُدَّت الأشياء المأخوذة إلى أبدالها المتساوية لها، وحُرّم بيع اللبن في الضروع، فدخل في ذلك النهي عن النفقة التي يملك بها المنفق لبنًا في الضروع، وتلك النفقة فغير موقوف على مقدارها، واللبن كذلك أيضًا، فارتفع بنسخ الربا أن تجب النفقة على المرتهن بالمنافع التي تجب له عوضًا منها، وباللبن الذي يحتلبه فيشربه.

ش: أي فَمِنَ الذي روي عن النبي عليه السلام في فسخ الربا: حديث عائشة رضي الله عنها.

وأخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، عن شعبة، عن منصور بن المعتمر، وسليمان الأعمش، كلاهما عن أبي الضحى مسلم بن صُبيح، عن مسروق، عن عائشة.

ص: 149

وأخرجه أبو داود (1): عن مسلم، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي الضحى، عن مسروق. . . . إلى آخره نحوه.

الثاني: عن أحمد داود المكي، عن مسدد شيخ البخاري وأبي داود، عن يحيى القطان، عن شعبة، عن منصور، عن مسلم بن صُبيح، عن مسروق.

وأخرجه الترمذي (2): عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق به نحوه.

ص: ويقال لمن صرف ذلك إلى الراهن فجعل له استعمال الرهن: أيجوز للراهن أن يَرهن رجلًا دابةً هو راكبها فلا يجد بدًّا من أن يقول: لا. فيقال له: فإذا كان الرهن لا يجوز إلا أن يكون مخلى بينه وبين المرتهن، فيقبضه ويصير في يده دون الراهن كما وصف الله عز وجل الرهن بقوله {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (3) فيقول: نعم.

فيقال له: فلما لم تجز أن تستقبل الرهن على ما الراهن راكبه، لم يجز ثبوته في يده بعد ذلك رهنًا بحقه إلا كذلك أيضًا؛ لأن دوام القبض لابد منه في الرهن إذ كان الرهن إنما هو المرتهن للشيء المرهون بالدين، وفي ذلك أيضًا ما يمنع استخدام الأمة الرهن؛ لأنها تُرجع بذلك إلى حال لا يجوز عليها استقبال الرهن.

ش: أي يقال لمن صرف قوله عليه السلام: "الظهر يركب بنفقته إذا كان مركوبًا، ولبن الدرِّ يُشرب بنفقته إذا كان مرهونًا" إلى أن ذلك إلى الراهن، والذين

(1)"سنن أبي داود"(3/ 280 رقم 3490)، والحديث متفق عليه، فأخرجه البخاري (2/ 775 رقم 2113) عن مسلم بن إبراهيم أيضًا به مثل رواية أبي داود، وعند مسلم (3/ 1206 رقم 1580) من طريق إسحاق بن إبراهيم وأبي معاوية، عن الأعمش به ومن طريق منصور عن أبي الضحى به.

(2)

ليس في الترمذي إنما هذا الإسناد عند النسائي في "الكبرى"(4/ 53 رقم 6261)، كما في "تحفة الأشراف"(12/ 319 رقم 17636)، ولم يعزه المزي للترمذي في هذا الموضع.

(3)

سورة البقرة، آية:[283].

ص: 150

صرفوا ذلك إلى الراهن هم أهل المقالة الأولى، وتحقيق هذا الكلام: أن هذا إيراد على أهل المقالة الأولى بأن يقال لهم: إذا رهن رجل دابة والحال أنه راكبها، فإن قال لآخر: رهنتك هذه الدابة. فإن هذا لا يجوز، هم أيضًا يقولون: لا يجوز.

فدلَّ هذا أن التخلية بين الرهن والمرتهن شرط حتى يكون في قبضه وفي يده دون يد الراهن، وذلك لأن الله تعالى قال:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (1) فوصف الرهن بالقبض، فدلَّ أنه شرط.

فإذا قيل لهم: هل هذا كذلك؟

فيقولون: نعم. فإذا كان كذلك فكيف يجوز أن يقال: للراهن أن يركب الرهن بحق نفقته عليه، أو يشرب لبنه بحق نفقته عليه؟!.

قوله: "على ما الراهن راكبه" أي على الشيء الذي هو راكبه، وهو الدابة.

قوله: "وفي ذلك أيضًا" أي وفي ما ذكرنا من اشتراط دوام القبض في الرهن ما يمنع أن يستخدم الراهن الأمة التي رهنها؛ لأنه حينئذ يشبه رهن الدابة وهو راكبها.

ص: وحجة أخرى: أنهم قد أجمعوا أن الأَمَة الرهن ليس للراهن أن يطأها، وللمرتهن منعه من ذلك، فلما كان المرتهن يمنع الراهن بحق الرهن من وطئها، كان له أيضًا أن يمنعه بحق الرهن من استخدامها.

ش: أي دليل آخر يدل على عدم استعمال الراهن الرهن بالركوب والوطأ ونحوهما، وهو أن الأخصام كلهم قد أجمعوا على أن الراهن لا يجوز له أن يطأ الأمة المرهونة، وأن للمرتهن أن يمنعه من ذلك، فإذا كان له منعه من ذلك بسبب حق الرهن، كان له أيضًا أن يمنعه بسبب حق الرهن من أن يستخدمها.

(1) سورة البقرة، آية:[283].

ص: 151

ثم اعلم أن الطحاوي أطلق بقوله: "قد أجمعوا. . . ." إلى آخره، ولكن قال بعض أصحاب الشافعي: للراهن وطأ الآيسة والصغيرة؛ لأنه لا ضرر فيه، فإن علة المنع: الخوف من أن تلد منه، فتخرج بذلك من الرهن، وهذا معدوم في حقهما، والجمهور على خلاف ذلك.

ثم إن خالف فوطأ، فلا حدّ عليه لأنها ملكه، ولا مهر عليه، فإذا ولدت صارت أم ولد له، وخرجت من الرهن، وعليه قيمتها حين أحبلها، ولا فرق بين الموسر والمعسر إلا أن الموسر تؤخذ قيمتها منه، والمعسر تكون في زمته قيمتها وهذا قول أصحابنا والشافعي أيضًا، وقال مالك: إن كانت الأمة تخرج إلى الراهن وتأتيه خرجت من الرهن، فيؤخذ ولدها وتباع الجارية.

وقال ابن حزم: قال الشافعي: إن رهن أمة فوطأها فحملت، فإن كان موسرًا خرجت من الرهن، وكُلِّف رهنا آخر مكانها، فإن كان معسرًا، فمرة قال: تخرج من الرهن ولا يُكلف رهنا مكانها ولا تكلف هي شيئًا.

ومرة قال: تباع إذا وضعت، ولا يباع الولد، ويُكلف رهن آخر.

وقال أبو ثور: هي خارجة من الرهن، ولا يتكلف لا هو ولا هي شيئًا، سواء كان موسرًا أو معسرًا.

وعن قتادة: أنها تباع ويتكلف سيدُها أن يُفْتَكَّ ولده منها.

وعن ابن سيرين: أنها استسعيت، وكذلك العبد المرهون إذا أعتق.

وقال مالك: إن كان موسرًا كُلِّف أن يأتي بقيمتها، فتكون القيمة رهنًا، وتخرج هي من الرهن، وإن كان معسرًا، فإن كانت تخرج إليه وتأتيه فهي خارجة من الرهن، ولا تتبع بغرامة، ولا يتكلف هو رهنًا مكانها، لكن يتبع بالدين الذي عليه، وإن كان تَسَور عليها، بيعت هي وأُعطي هو ولده منها.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن حملت وأقر بحملها فإن كان موسرًا خرجت من الرهن، وكُلِّف قضاء الدين إن كان حالًا، أو كلف رهنًا بقيمتها إن كان إلى

ص: 152

أجل، فإن كان معسرًا كلفت أن تستسعى في الدين الحال بالغًا ما بلغ، ولا ترجع به على سيدها، ولا يتكلف ولدها سعاية، فإن كان الدين إلى أجل كلفت أن تسعى في قيمتها فقط، فجعلت رهنًا مكانها، فإذا حلّ أجل الدين كلفت من قبل أن تستسعى في باقي الدين إن كان أكثر من قيمتها، وإن كان السيد استلحق ولدها بعد وضعها له وهو معسر، قُسِّمَ الدين على قيمتها يوم ارتهنها، وعلى قيمة ولدها يوم استلحقه مما أصاب الأمَّ سَعَت فيه بالغًا ما بلغ للمرتهن، ولم ترجع به على سيدها، وما أصاب الولد سعى في الأقل من الدين أو من قيمته، ورجع به على أبيه، ويأخذ المرتهن كل ذلك.

ص: وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أي وهذا الذي ذكرنا من عدم جواز استعمال الراهن الرهن بالركوب والاستخدام والوطأ، هو قول أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله.

ص: وقد حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا الحسن بن صالح، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال:"لا ينتفع من الرهن بشيء".

فهذا الشعبي يقول هذا، وقد روى عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام ما ذكرنا، أفيجوز عليه أن يكون أبو هريرة يحدثه عن النبي عليه السلام بذلك، ثم يقول هو بخلافه ولم يثبت النسخ عنده؟! لئن كان ذلك كذلك فلقد صار متهمًا في رأيه، وإذا كان متهمًا في رأيه كان متهمًا في روايته، وإذا ثبتت له العدالة في روايته ثبتت له العدالة في ترك خلافها، فإن وجب سقوط أحد الأمرين وجب سقوط الآخر، والمحتج علينا بحديث أبي هريرة هذا يقول: من روى حديثًا عن النبي عليه السلام فهو أعلم بتأويله، فكان يجيء على أصله، ويلزمه في قوله أن يقول لمَّا قال الشعبي ما ذكرنا مما يخالف ما روى عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام: كان ذلك دليلًا على نسخه.

ش: ذكر أثر الشعبي بإسناد صحيح.

ص: 153

عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن الحسن بن صالح بن حيّ الكوفي العابد؛ شاهدًا لما ذكره فيما مضى من عدم جواز انتفاع الراهن بالركوب والاستخدام وشرب اللبن ونحو ذلك؛ لأن عامرًا الشعبي قال من رأيه:"لا يُنتفع من الرهن بشيء".

وهذا بعمومه يتناول الراهن والمرتهن، والحال أنه هو الذي روى عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال:"الظهر يُركب بنفقته إذا كان مركوبًا، ولبن الدرّ يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا" ولا يجوز لمثل الشعبي أن يروي عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام حديثًا ثم يقول هو من رأيه بخلاف ذلك بدون ثبوت نسخ ذلك عنده، وذلك لأنه قد عُلِمَ أن الراوي إذا ظهرت منه المخالفة قولًا أو عملًا، فإن كان ذلك بتاريخ قبل الرواية فإنه لا يقدح في الخبر، ويحمل على أنه كان ذلك مذهبه قبل أن يسمع الحديث، فلما سمع الحديث رجع إليه، وكذلك إن لم يُعْلم التاريخ؛ لأن الحمل على أحسن الوجهين واجب ما لم يتبين خلافه، وهو أن يكون ذلك منه قبل أن يبلغه الحديث ثم رجع إلى الحديث، وأما إذا عُلم ذلك منه بتاريخ بعد الحديث، فإن الحديث يخرج به من أن يكون حجةً؛ لأن فتواه بخلاف الحديث أو عمله من أبين الدلائل على الانقطاع، وأنه لا أصل للحديث، فإن الحال لا يخلو إما أن تكون الرواية تقولًا منه لا عن سماع، فتكون واجب الرد، أو تكون فتواه وعمله بخلاف الحديث على وجه قلة المبالاة والتهاون بالحديث فيصير به فاسقًا لا تقبل روايته أصلًا، أو يكون ذلك عن غفلة ونسيان، وشهادة المغفل لا تجوز فلا يكون حجة فكذلك خبره، أو يكون ذلك منه على أن علم انتساخ حكم الحديث، وهذا أحسن الوجوه، فيجب الحمل؛ عليه تحسينًا للظن بروايته وعمله، فإنه روى على طريق إبقاء الإسناد، وعلم أنه منسوخ، فأفتى بخلافه.

قوله: "أفيجوز عليه" أي على الشعبي، والهمزة في "أفيجوز" للاستفهام.

ص: 154

قوله: "لئن كان ذلك كذلك" أي لئن كان جاز للراوي عن الصحابي، عن النبي عليه السلام بحديث أن يقول قولًا بخلاف حديثه الذي رواه، فلقد صار متهمًا. . . . إلى آخره.

قوله: "والمحتج علينا. . . ." إلى آخره إشارة إلى بيان إلزام هذا القائل بقوله، وكونه محجوجًا بما قاله؛ لأنه لما قال: الراوي للحديث عن النبي عليه السلام أعلم بتأويل هذا الحديث. كان يلزمه أن يقول: حديث الشعبي، عن أبي هريرة هذا منسوخ لا يعمل به، لأنه لو لم يعلم بحاله لما قال بخلافه، إذْ لا يجوز عليه أن يقول بخلافه بدون علمه بانتساخه، كما ذكرنا، فافهم. والله أعلم.

ص: 155