الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: كتاب الحدود
ش: أي هذا كتاب في بيان أحكام الحدود، وهو جمع حد وهو المنع لغة ولهذا قيل للبواب حدادًا لمنعه الناس عن الدخول.
وفي الشرع: الحد عقوبة مقدرة لله تعالى، وإنما جمعه لاشتماله على أنواع الحدود وهي: حد الزنا، وحد القذف، وحد الشرب.
…
ص: باب: حد البكر في الزنا
ش: أي هذا باب في بيان حد البكر في الزنا.
البكر: بكسر الباء في اللغة: العذباء، وتجمع على أبكار، والبكر أيضًا المرأة التي ولدت بطنًا واحدًا، وبكرها ولدها، الذكر والأنثى فيه سواء.
قال ابن الأثير: بكر الرجل -بالكسر: أول ولده.
ولكن المراد هاهنا من البكر: خلاف الثيب، فلما كان الثيب يطلق على الرجل والمرأة، فكذلك البكر الذي هو ضده يطلق عليهما جميعًا.
"والزنا": من زنى يزني زناء يمد ويقصر، فالقصر لأهل الحجاز، قال الله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} (1)، والمد لأهل نجد، قال الفرزدق:
أبا حاضرٍ من يَزنِ يُعْرَفُ زناؤه
…
ومَنْ يَشْرَبِ الخُرطومَ يصْبح مُسَكّرًا
وفي الشرع: الزنا: وطء من قُبل خالٍ، عن ملك وشبهة.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: أنا شعبة، عن قتادة،
(1) سورة الإسراء، آية:[3].
عن الحسن، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا، عني، خذوا، عني، فقد جعل الله لهن سبيلًا؛ البكر بالبكر، والثيب بالثيب، البكر يجلد وينفى، والثيب يجلد ويرجم".
ش: إسناده صحيح على شرط مسلم.
والحسن هو البصري.
وحطان -بكسر الحاء المهملة وتشديد الطاء- ونسبته إلى رقاش -بفتح الراء والقاف المخففة- بنت ربيعة بن قيس بن ثعلبة، من بني بكر بن وائل.
وأخرجه مسلم (1): ثنا يحيى بن يحيى التميمي، قال: ثنا هشيم، عن منصور، عن الحسن، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني، خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم".
وأخرجه أبو داود (2) والترمذي (3) والنسائي (4) أيضًا.
قوله: "خذوا عني" إشارة إلى قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (5) ثم فسر السبب بقوله: "البكر بالبكر" يراد إذا زنى البكر بالبكر، وكذا قوله:"الثيب بالثيب" يعني إذا زنى الثيب بالثيب.
وقال الخطابي: اختلف العلماء في تنزيل هذا الكلام ووجه ترتيبه على الآية، وهل هو ناسخ للآية أو مبيِّن لها؟ فذهب بعضهم إلى أن معناه النسخ، وهذا على قول مَن يرى نسخ الكتاب بالسنة.
(1)"صحيح مسلم"(3/ 1316 رقم 1690).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 549 رقم 4415).
(3)
"جامع الترمذي "(4/ 41 رقم 1434).
(4)
"سنن النسائي الكبرى"(4/ 270 رقم 7144).
(5)
سورة النساء، آية:[15].
وقال آخرون: بل هو مبين للحكم الموعود بيانه في الآية فكأنه قال: عقوبتهن الحبس إلى أن يجعل الله لهن سبيلًا، فوقع الأمر بحبسهن إلى غاية، فلما انتهت مدة الحبس وحان وقت مجيء السبيل قال صلى الله عليه وسلم: خذوا، عني تفسير السبيل وبيانه، ولم يكن ذلك ابتداء حكم منه، وإنما هو بيان أمر كان ذكر السبيل منطويًا عليه، فأبان المبهم منه وفسَّر المجمل من لفظه، فكان نسخ الكتاب بالكتاب لا بالسنة، وهذا أصوب القولين. والله أعلم.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يحيى الحماني، قال: ثنا وكيع، عن الفضل بن دلهم، عن الحسن، عن قبيصة بن حريث، عن سلمة بن المحبق، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا، عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم".
ش: ابن أبي داود: هو إبراهيم البرلسي.
ويحيى بن عبد الحميد: أبو زكريا الكوفي، عن يحيى: صدوق مشهور، ما بالكوفة مثله، ما يقال فيه إلا من حسد. وعن النسائي: ضعيف. ونسبته إلى حِمان -بكسر الحاء المهملة وتشديد الميم وبعد الألف نون- قبيل من تميم.
والفضل بن دلهم الواسطي ثم البصري القصاب، قال أحمد: ليس به بأس. وقال يحيى: صالح. وقال أبو داود: ليس بالقوي ولا بالحافظ. روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه.
وقبيصة بن حريث، ويقال له: حريث بن قبيصة الأنصاري البصري، قال البخاري: في حديثه نظر. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وروى له الأربعة.
وسلمة بن المحبق -بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر الباء الموحدة وقيل بفتحها، والأول أصح، وفي آخره قاف- له صحبة، سكن البصرة.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا وكيع، ثنا الفضل بن دلهم. . . . إلى آخره نحوه سواء.
ص: حدثنا يونس وعيسى بن إبراهيم الغافقي، قالا: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة وزيد بن خالد وشبل رضي الله عنهم، قالوا:"كنا قعودًا عند النبي عليه السلام، فقام إليه رجل فقال: أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله عز وجل، فقام خصمه وكان أفقه منه، فقال: صدق، اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي، قال: قل، قال: إن ابني كان عسيفًا على هذا، فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادمٍ، ثم سألت رجالًا من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأة هذا الرجم، فقال: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: المائة شاة والخادم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها، فاعترفت فرجمها".
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس ومالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما قالا:"كنا جلوسًا عند النبي عليه السلام. . . ." ثم ذكر مثله.
ش: هذان طريقان صحيحان، ورجالهما كلهم رجال "الصحيح" ما خلا عيسى بن إبراهيم شيخ أبي داود.
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، وعيسى بن إبراهيم بن عيسى المروزي الغافقي المصري، كلاهما عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الفقيه المدني، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني الصحابي وشبل بن خالد ويقال: خليد.
(1)"مسند أحمد"(3/ 476 رقم 15951).
قال الطبري: شبل بن معبد البجلي، ويقال: شبل بن خليد، ويقال: شبل بن حامد، فصوب بعضهم ابن معبد، وقيل: إن شبل هذا لا صحبة له، وعن هذا أخرج البخاري ومسلم هذا الحديث، ولم يذكرا في روايتهما شبلًا، ويقال: لا ذكر له في الصحابة إلا في رواية ابن عيينة ولم يتابع عليها، وقال يحيى بن معين: ليست لشبل صحبة. وقال أبو حاتم الرازي: ليس لشبل معنى في حديث الزهري.
وأخرجه الجماعة:
فالبخاري (1): عن علي بن عبد الله، ثنا سفيان، قال: حفظناه من في الزهري، قال: أخبرني عبيد الله، أنه سمع أبا هريرة وزيد بن خالد قالا:"كنا عند النبي عليه السلام، فقام رجل فقال: أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه وكان أفقه منه. . . ." إلى آخره نحوه.
وأخرجه في مواضع متعددة في "جامعه":
في كتاب الصلح (2) وفي الأحكام (3): عن آدم، عن ابن أبي ذئب.
وفى كتاب المحاربين (4): عن عاصم بن علي، عن ابن أبي ذئب.
وفي الشروط (5): عن قتيبة، عن الليث.
وفي النذور (6): عن إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك.
(1)"صحيح البخاري"(6/ 2502 رقم 6440).
(2)
"صحيح البخاري"(2/ 959 رقم 2549).
(3)
"صحيح البخاري"(6/ 2631 رقم 6770).
(4)
"صحيح البخاري"(6/ 2508 رقم 6446).
(5)
"صحيح البخاري"(2/ 971 رقم 2575).
(6)
"صحيح البخاري"(6/ 2446 رقم 6258).
وفي كتاب المحاربين أيضًا (1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك.
وفيه أيضًا: عن علي (2)، وعن محمَّد بن يوسف (3)، عن سفيان بن عيينة.
وفي الاعتصام: عن مسدد (4)، عن سفيان.
وفي خبر الواحد: عن زهير بن حرب (5)، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح.
وعن أبي اليمان، عن شعيب، كلهم عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة وزيد بن خالد.
وفي الشهادات: عن يحيى بن بكير (6)، عن الليث، عن عقيل.
وفي كتاب المحاربين أيضًا: عن مالك بن إسماعيل (7)، عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، كلاهما عن الزهري، عن عبيد الله، عن زيد وحده، بهذا مختصرًا.
ومسلم (8): عن قتيبة، قال: نا ليث (ح).
ونا محمَّد بن رمح، قال: أنا الليث، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أنهما قالا:"إن رجلًا من الأعراب أتى رسول الله عليه السلام فقال: يا رسول الله، أنشدك الله إلَّا قد قضيت بكتاب الله. . . ." إلى آخره.
(1)"صحيح البخاري"(6/ 2510 رقم 6451).
(2)
"صحيح البخاري"(6/ 2502 رقم 6440).
(3)
"صحيح البخاري"(6/ 2515 رقم 6467).
(4)
"صحيح البخاري"(6/ 2655 رقم 6850).
(5)
"صحيح البخاري"(6/ 2650 رقم 6831، 6832).
(6)
"صحيح البخاري"(2/ 937 رقم 2506).
(7)
"صحيح البخاري"(6/ 2507 رقم 6443).
(8)
"صحيح مسلم"(3/ 1324 رقم 1697).
وأخرجه أيضًا (1): عن أبي الطاهر وحرملة، عن ابن وهب، عن يونس، وعن عمرو الناقد، عن يعقوب، عن أبيه، عن صالح، وعن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن معمر، كلهم عن الزهري، عن عبيد الله، عن أبي هريرة وزيد، عن النبي عليه السلام.
وهذا كما ترى لم يذكر البخاري ولا مسلم شبلًا في روايتهما.
وأبو داود (2): عن عبد الله بن مسلمة القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أنهما أخبراه:"أن رجلين اختصما إلى رسول الله عليه السلام، فقال أحدهما: يا رسول الله، اقض بيننا بكتاب الله، وقال الآخر -وكان أفقه: أجل يا رسول الله، اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم، قال: تكلم، فقال: إن ابني كان عسيفا على هذا -والعسيف: الأجير- فزنى بامرأته، فأخبروني أنما على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة وجارية لي، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وإنما الرجم على امرأته، فقال رسول الله عليه السلام: أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، أما غنمك وجاريتك فرد إليك، وجلد ابنه مائة وغربه عامًا، وأمر أنيسًا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر، فإن اعترفت رجمها، فاعترفت فرجمها".
وهذا أبو داود أيضًا لم يذكر شبلا في روايته.
والترمذي (3): عن نصر بن علي وغير واحد، قالوا: نا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله سمعه من أبي هريرة وزيد بن خالد وشبل: "أنهم كانوا عند النبي عليه السلام فأتاه رجلان يختصمان، فقام إليه أحدهما فقال:
(1)"صحيح مسلم"(3/ 1326 رقم 1698).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 558 رقم 4445).
(3)
"جامع الترمذي"(4/ 39 رقم 1433).
أنشدك الله يا رسول الله لما قضيت بيننا بكتاب الله، فقال خصمه -وكان أفقه منه: أجل يا رسول الله، اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي. . . ." إلى آخره، نحوه.
وهذا الترمذي قد ذكر في روايته شبلًا كالطحاوي.
والنسائي (1): عن قتيبة، عن سفيان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة وزيد بن خالد وشبل، قالوا:"كنا قعودًا عند النبي عليه السلام، فأتاه رجل فقال: أنشدك بالله إلَّا قضيت بيننا بكتاب الله. . . ." إلى آخره.
وأخرجه أيضًا (2): عن محمد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة وزيد بن خالد أنهما أخبراه:"أن رجلين اختصما إلى رسول الله عليه السلام، فقال أحدهما: اقض بيننا بكتاب الله. . . ." إلى آخره.
فهذا النسائي ذكر شبلًا في روايته عن قتيبة، ولم يذكره في حديث مالك.
وابن ماجه (3): عن أبي بكر بن أبي شيبة، وهشام بن عمار ومحمد بن الصباح، قالوا: ثنا سفيان. . . . إلى آخره نحو رواية الطحاوي.
الطريق الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي ومالك بن أنس، كلاهما عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني.
وأخرجه مالك في "موطإه"(4).
(1)"المجتبى"(8/ 241 رقم 5411).
(2)
"المجتبى"(8/ 240 رقم 5410).
(3)
"سنن ابن ماجه"(2/ 852 رقم 2549).
(4)
"الموطأ"(2/ 822 رقم 1502).
والبخاري (1): عن إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك.
والترمذي (2): عن إسحاق بن موسى، عن معن بن عيسى، عن مالك.
والنسائي (3): عن محمَّد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك.
قوله: "كنا قعودًا" أي قاعدين، كالركوع والسجود جمع الراكع والساجد.
قوله: "أنشدك الله" أي سألتك بالله، يقال: نشدتك الله، وأنشدك الله وبالله، وناشدتك الله وبالله، أي: سألتك وأقسمت عليك، ونشدته نشدة ونشدانا ومناشدة، وَتَعْدِيتُهُ إلى مفعولين إما لأنه بمنزلة دعوت، حيث قالوا: نشدتك الله وبالله كما قالوا: دعوت زيدًا وبزيد إلا أنهم ضمنوه معنى ذكرت، فأما أنشدتك بالله فخطأ.
قوله: "إلَّا قضيت بيننا بكتاب الله" فيه تأويلات:
أحدها: أن يكون معنى الكتاب الفرض والإيجاب تقول: لأقضين بينكما بما فرضه الله عز وجل وأوجبه، وقد جاء الكتاب بمعنى الفرض؛ كقوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} (4) أي فرضنا.
الثاني: أن الرجم وإن لم يكن منصوصًا عليه باسمه الخاص فإنه مذكور في الكتاب على سبيل الإجمال، وهو قوله عز وجل:{فَآذُوهُمَا} (5) والأذى يقع في معناه الرجم وغيره من العقوبة، الغالب أن الأصل في ذلك قوله تعالى {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (6)، وقد جاء في بيانه في السنة: مائة جلدة والرجم.
(1)"صحيح البخاري"(6/ 2446 رقم 6258).
(2)
"جامع الترمذي"(4/ 39 رقم 1433).
(3)
"المجتبى"(8/ 240 رقم 5410).
(4)
سورة المائدة، آية:[45].
(5)
سورة النساء، آية:[16].
(6)
سورة النساء، آية:[15].
الرابع: أنه مما رفعت تلاوته وبقي حكمه.
قوله: "وكان أفقه" أي أفهم وأزكى منه، والفقه معناه: الفهم، قال الله تعالى:{يَفْقَهُوا قَوْلِي} (1) وذلك لأنه تأدب في سؤاله النبي عليه السلام بقوله: "وائذن لي" وخاف من الوقوع في النهي عن التقدم بين يديه، ومخاطبته بخطاب بعضهم بعضًا، وهذا ضد ما فعله الآخر من قوله:"أنشدك الله" وكلامه له بجفاء الأعراب.
أو كان أفقه منه، لأنه بيَّن القصة على وجهها.
قوله: "كان عسيفا" قد فسر أبو داود في روايته وقال: العسيف: الأجير.
والعسيف أيضًا: العبد المستهان به، قال الزمخشري: لا يخلو من أن يكون فعيلًا بمعنى فاعل، كعليم بمعنى عالم، أو بمعنى مفعول كأسير، فهو على الأول من قولهم: هو يعسُف ضيعته أي يرعاها، ويقال: لم أعسِفْ عليك، أي لم أعمل لك. وعلى الثاني من العَسف؛ لأن مولاه يعسفه على ما يريده، ويجمع على عسفاء في الوجهين، نحو قولهم: علماء وأسراء.
قوله: "وخادم" أراد بها الجارية كما وقع هكذا في رواية أبي داود، والخادم يقع على الذكر والأنثى لإجرائه مجرى الأسماء غير المأخوذة من الأفعال، كحائض وعاتق.
قوله: "المائة شاة" بالإضافة، و"الخادمُ" بالرفع عطفًا على المائة.
قوله: "ردّ" مصدر، ولهذا وقع خبرًا، عن اثنين، والمعنى مردودان إليك.
قوله: "واغد يا أنيس" من غدا يغدو غدوًّا، وهو الذهاب، وهو بالغين المعجمة.
و"أنيس" بضم الهمزة وفتح النون وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره سين مهملة، قيل هو ابن الضحاك الأسلمي يعد في الشاميين، ومخرج الحديث عليهم، وقد حدث، عن النبي عليه السلام.
(1) سورة طه، آية:[28].
قوله: "فاعترفت فرجمها" فيه حذف، أي: فسألها فاعترفت، فرجمها باعترافها.
ويستنبط منه أحكام:
فيه: أن أولى الناس بالقضاء بينهم: الخليفة إذا كان عالمًا بوجوه القضاء.
وفيه: أن المدعي أولى بالقول، والمطالب أحق أن يتقدم بالكلام، وإن بدأ المطلوب.
وفيه: أن الباطل من القضاء مردود، وما خالف السنة الواضحة من ذلك فباطل.
وفيه: أن قبض مَن قضى له بما قضي له به، إذا كان خطأ وجورًا وخلافًا للسنة لا يُدخله قبضه في ملكه، ولا يصح ذلك له، وعليه رده.
وفيه: أن للعالم أن يُفتي في مصر فيه مَن هو أعلم منه إذا أفتى بعلم.
قال القاسم بن محمَّد: كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم يفتون على عهد رسول الله عليه السلام.
وفيه: أن يمين رسول الله عليه السلام كانت: والذي نفسي بيده، وفي ذلك رد على الخوارج والمعتزلة.
وفيه: أنه لم يجمع بين الرجم والجلد على المحصن.
وفيه: أنه لم يوقع بينهما الفرقة بالزنا.
وفيه: أنه لا يجب على الإمام حضور المرجوم بنفسه.
وفيه: إثبات الإجارة والحديث فيها قليل.
وفيه: دليل على وجوب قبول خبر الواحد.
وفيه: أدب السائل في طلب الإذن.
وفيه: أن الرجم إنما يجب على المحصن.
وفيه: إثبات النفي والتغريب سنةً، وفيه خلاف سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفيه: أنه لم يجعله قاذفًا بقوله: زنى بامرأته.
وفيه: أنه لم يشترط في الاعتراف التكرار، وهو حجة على الشافعي، واحتج أصحابنا بحديث ماعز على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
وفيه: أن للإمام أن يسأل المقذوف، فإن اعترف حكم عليه بالواجب، وإن لم يعترف وطالب القاذف أخذ له بحقه، وهذا موضع اختلف فيه الفقهاء؛
فقال مالك: لا يحدّ الإمام القاذف حتى يطالبه المقذوف إلا أن يكون الإمام سمعه، فيحده إن كان معه شهود غيره عدول.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والأوزاعي والشافعي: لا يحد القاذف إلا بمطالبة المقذوف.
وقال ابن أبي ليلى: يحده الإِمام وإن لم يطلبه المقذوف.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن البكر إذا زنى فعليه جلد مائة وتغريب، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى والحسن بن حيّ والشافعي وأحمد وإسحاق، فإنهم قالوا: الرجل إذا لم يكن محصنًا وزنى يجلد مائة جلدة ويغرب عامًا.
قال أبو عمر رحمه الله: لا خلاف بين المسلمين أن البكر إذا زنى فإنه يجلد مائة جلدة، واختلفوا في التغريب، فقال مالك: ينفى الرجل ولا تُنفى المرأة ولا العبد.
وقال الأوزاعي: ينفى الرجل ولا تُنفى المرأة.
وقال الثوري والشافعي والحسن بن حي: ينُفى الزانى إذا جلد، امرأة كان أو رجلًا.
واختلف قول الشافعي في العبد، فقال مرةً: أستحي الله في تغريب العبد، وقال مرةً: يُنفى العبد نصف سنةٍ. وقال مرة: ينفى سنةً إلى غير بلده، وبه قال الطبري.
وقال الترمذي: وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النفي، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي عليه السلام منهم: أبو بكر وعمر وعلي وأبي كعب وعبد الله بن مسعود وأبو ذر وغيرهم، وكذلك روي عن غير واحد من فقهاء التابعين، وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس وعبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: حد البكر إذا زنى مائة جلدة، ولا نفي عليه مع الجلد إلا أن يرى الإمام أن ينفيه للدعارة التي كانت منه، فينفيه إلى حيث أحب كما يُنفى الدعار غير الزناة.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: إبراهيم النخعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وزفر؛ فإنهم قالوا: البكر إذا زنى جُلد مائة جلدة ولا يُنفي، اللهم إلا إذا كان داعرًا فإن الإِمام ينفيه إلى حيث شاء إن أحب ذلك، وهو معنى قوله:"أن ينفيه للدَّعارة" بفتح الدال والعين المهملتين، والفاعل منه داعر وهو المفسد الخبيث.
وقال ابن الأثير: الدعارة الفساد والشر.
وقال الجوهري: الدَّعَر -بالتحريك-: الفساد، والدعر أيضًا مصدر، قولك: دَعِرَ العود -بالكسر- يدعر دَعَرًا فهو عودٌ دَعِر: أي رديء كثير الدخان، ومنه أخذت الدعارة وهي الفسق والخبث، يقال: هو خبيث داعْر بيِّن الدعر، والمرأة داعرة.
وإنما يجوز للإمام نفي الزاني الداعر لفشو فساده وكثرة فسقه، فينفيه قطعًا لشره وحسمًا لفساده، ومكان النفي ومدته موكولان إلى رأي الإمام.
قوله: "كما يُنفي الدُّعَّار غير الزناة" الدُّعَّار بضم الدال وتشديد العين جمع داعر، والزناة جمع زاني، أراد أنه كما يجوز للإمام نفي الداعرين الذين يُفسدون في الأرض من غير ثبوت الزنا عليهم، وذلك لما روي عن بعض السلف التغريب في الخمر والسرقة. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه غرَّب في الخمر، وكان عمر رضي الله عنه -
إذا غضب على رجل نفاه إلى الشام، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قطع يد سارق ونفاه إلى زرارة وهي قرية قريبة من الكوفة، وكذا جاء النفي في المخنثين كما رواه البخاري بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"لعن رسول الله عليه السلام المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء وقال: أخرجوهم من بيوتكم وأخرج فلانًا وأخرج فلانًا" فهذا هو حدهم.
قال ابن حزم: وبنفي المخنثين يقول يحيى بن سعيد الأنصاري ومالك بن أنس. روى ذلك عنه ابن وهب، فنفيهم واجب إلى مكان لا يتمكنون به من أذى الرجال والنساء.
ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال: إذا زنت ولم تحصن فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير". قال مالك: قال ابن شهاب: لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة".
ش: أي احتج أهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه بحديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني.
أخرجه بإسناد صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح.
عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود.
وأخرجه مالك في "موطإه"(1).
والبخاري (2): عن إسماعيل، عن مالك.
(1)"الموطأ"(2/ 826 رقم 1510).
(2)
"صحيح البخاري"(2/ 756 رقم 2046).
وعن (1) عبد الله بن يوسف، عن مالك.
ومسلم (2): عن يحيى بن يحيى.
والقعنبي (2): عن مالك.
وعن (3) أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن مالك.
قال أبو عمر: هكذا روى هذا الحديث مالك عن ابن شهاب بهذا الإسناد، وتابعه يونس بن يزيد ويحيى بن سعيد.
ورواه عُقيل والزبيدي وابن أخي الزهري، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله أن شبلًا أو شُبيل بن خالد المزني أخبره، أن عبد الله بن مالك الأوسي أخبره:"أن رسول الله عليه السلام سئل عن الأمة. . . ." وذكروا الحديث إلا أن عقيلًا وحده، قال: مالك بن عبد الله الأويسي، وقال الزبيدي وابن أخي الزهري: عبد الله بن مالك. وكذلك قال يونس بن يزيد: عن ابن شهاب، عن شبل بن خالد المزني، عن عبد الله بن مالك الأوسي، فجمع يونس بن يزيد الإسنادين جميعًا في هذا الحديث، وانفرد مالك ومعمر بحديث أبي هريرة وزيد بن خالد.
ثم وجه الاستدلال به من وجهين:
الأول: أن النفي لو كان ثابتًا لذكره عليه السلام مع الجلد.
والثاني: أن الله تعالى، قال:{فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (4)، فلما كان حد الأمة نصف حد الحرة، وأخبر النبي عليه السلام أن حدها الجلد دون النفي، دل ذلك على أن حد الحرة هو الجلد ولا نفي فيه.
(1)"صحيح البخاري"(6/ 2509 رقم 6447).
(2)
"صحيح مسلم"(3/ 1328 رقم 1703).
(3)
"صحيح مسلم"(3/ 1329 رقم 1704).
(4)
سورة النساء، آية:[25].
فإن قلت: إنما أراد بذلك التأديب دون الحد، وقد روي عن ابن عباس أن الأمة إذا زنت قبل أن تحصن أنه لا حد عليها.
قلت: قوله عليه السلام: "ثم بيعوها ولو بضفير" يدل على أنها لا تُنفى؛ لأنها لو وجب نفيها لما جاز بيعها، إذ لا يمكن للمشتري تسلمها؛ لأن حكمها أن تُنفى.
قوله: "ولو بضفير" أي حبل مفتول من شعر، وهو فعيل بمعنى مفعول.
قال أبو عمر: هذا على وجه الاختيار والحض على مباعدة الزانية لما في ذلك من الاطلاع بها على المنكر والمكروه، وأجمع العلماء أن بيع الأمة الزانية ليس بواجب لازم على ربها، وقال أهل الظاهر بوجوب بيعها إذا زنت في الرابعة، منهم داود.
قال الحافظ المنذري: في هذا الحديث مجانبة أهل المعاصى، وجواز التغابن وبيع الحقير باليسير، وقال بعضهم: ليس فيه عندي ما يستدل على المسألة به، وإنما هو على طريق المبالغة في بيعها بما أمكن ولا يحبس ليرصد بها ما يرضى من الثمن.
وقال أبو عمر: فيه دليل على التغابن في البيع، وأن المالك الصحيح الملك جائز له أن يبيع ماله القدر الكبير بالتافه اليسير، وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء إذا عرف قدر ذلك، واختلفوا فيه إذا لم يعرف قدر ذلك، فقال قوم: إذا عرف قدر ذلك جاز كما تجوز الهبة لو وهب.
وقال آخرون: عرف قدر ذلك أو لم يعرف فهو جائز إذا كان رشيدًا حرًّا بالغًا.
ومن الحجة لمن ذهب إلى هذا القول قوله عليه السلام: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض".
ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن شبل بن خالد المزني أخبره، أن عبد الله بن مالك الأوسي أخبره، أن رسول الله عليه السلام قال:"الوليدة إذا زنت. . . ." مثله. إلا أنه قال في الثالثة أو الرابعة: البيع.
وأخبره زيد بن خالد صاحب رسول الله عليه السلام مثل ذلك.
قال أبو جعفر: هذا خطأ، شبل هذا ابن خليد المزني.
حدثنا فهد، قال: ثنا حيوة بن شريح، قال: ثنا بقية، عن الزبيدي، عن عبيد الله بن عبد الله، أن شبل بن خليد المزني أخبره، أن عبد الله بن مالك الأوسي أخبره، أن رسول الله عليه السلام قال:"الوليدة إذا زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير، والضفير: الحبل".
ش: هذان طريقان:
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود، عن شبل بن خالد قال البخاري فيه: شبل بن خليد، وهذا هو الصحيح؛ ولهذا، قال الطحاوي:"هذا خطأ" أي شبل بن خالد خطأ، وإنما شبل هذا وابن خليد المزني، على ما ذكره الزبيدي عن الزهري في روايته على ما يأتي الآن.
وأخرجه مسلم (1): عن أبي الطاهر بن السرح، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، أن شبل بن خليد المزني أخبره أن عبد الله بن مالك الأوسي أخبره أن رسول الله عليه السلام قال:"الوليدة إذا زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير. والضفير: الحبل".
الطريق الثاني: عن فهد بن سليمان، عن حيوة بن شريح بن يزيد الحمصي شيخ البخاري وأبي داود، عن بقية بن الوليد الحميري الحمصي فيه مقال، عن محمَّد بن الوليد الزُّبَيْدي -بضم الزاي وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف- عن محمَّد بن مسلم الزهري.
(1) هذا وهم من المؤلف رحمه الله، فالحديث بهذا السند تفرد به النسائي في "الكبرى"(4/ 302 رقم 7261) ولم يعزه المزي في "تحفة الأشراف"(8/ 270 رقم 9158) إلا للنسائي في "الكبرى".
وأخرجه الطبراني (1): نا عبدان بن أحمد، ثنا محمَّد بن مصفى، ثنا بقية، عن الزبيدي، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، أن شبل بن خليد أخبره، أن عبد الله بن مالك الأوسي، أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"الوليدة إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوه، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير. والضفير الحبل".
ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: حدثني أسامة بن زيد الليثي، عن مكحول، عن عراك بن مالك، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال:"إذا زنت أمة أحدهم فليجلدها الحد ولا يُثرِّب عليها، قال ذلك ثلاث مرات، ثم قال في الثالثة أو الرابعة: ثم ليبعها ولو بضفير".
حدثنا بحر بن نصر، عن شعيب بن الليث، أن أباه أخبره، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة أنه سمعه يقول: سمعت رسول الله عليه السلام يقول. . . . فذكر مثله.
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني أسامة، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام نحوه.
ش: هذه ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب. . . . إلى آخره.
وأخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والبخاري تعليقًا (2).
الثاني: عن بحر بن نصر بن سابق الخولاني المصري، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه أبي سعيد كيسان، عن أبي هريرة.
(1) وأخرجه في "مسند الشاميين"(3/ 36 رقم 1757) من طريق محمَّد بن مصفى به.
(2)
هذا وهم أيضًا من المؤلف: فإن الجماعة لم يخرجوا هذا الحديث من طريق عراك بن مالك عن أبي هريرة، ولم يذكره المزي في "تحفة الأشراف" في ترجمة عراك عن أبي هريرة. والحديث رواه الطبراني في "مسند الشاميين"(4/ 385 رقم 3622).
وأخرجه مسلم (1): حدثني عيسى بن حماد المصري، قال: نا الليث، عن سعيد ابن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، أنه سمعه يقول: سمعت النبي عليه السلام يقول: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبيَّن زناها فليبعها ولو بحبل من شعر".
الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن أسامة بن زيد، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة. ولم يذكر، عن أبيه.
وأخرجه مسلم (1): عن هارون بن سعيد الأيلي، عن ابن وهب، عن أسامة بن زيد، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة. ولم يذكر، عن أبيه.
وكذا رواه إسماعيل بن أمية، عن سعيد، عن أبي هريرة، رواه البيهقي.
قوله: "ولا يثرب عليها" أي لا يوبخها ولا يقرعها بالزنا بعد الضرب، وقيل: أراد لا يقنع في عقوبتها بالتثريب بل يضربها الحد؛ فإن زنا الإماء لم يكن عند العرب مكروهًا ولا منكرًا، فأمرهم بحد الإماء كما أمرهم بحد الحرائر.
وقال أبو ثور: في هذا الحديث إيجاب البيع وإيجاب الحد، ولا يمسكها إذا زنت أربعًا، حكى ذلك الخطابي.
وقال أبو عمر: اختلف العلماء في القول بهذا الحديث، فقال مالك: يحد المولى عبده وأمته في الزنا وشرب الخمر والقذف إذا شهد عنده الشهود، ولا يقطعه في السرقة وإنما يقطعه الإمام، وهو قول الليث، وروي عن جماعة من الصحابة أنهم أقاموا الحدود على عبيدهم، منهم ابن عمر وابن مسعود وأنس رضي الله عنهم، ولا مخالف لهم من الصحابة.
وقال ابن أبي ليلى: أدركت بقايا الأنصار يضربون الوليدة من ولائدهم إذا زنت في مجالسهم.
(1)"صحيح مسلم"(3/ 1328 رقم 1703).
وقال أبو حنيفة وأصحابه: يقيم الحدود على العبيد والإماء السلطان دون المولى في الزنا وسائر الحدود. وهو قول الحسن بن حي.
وقال الثوري في رواية الأشجعي: يحده المولى في الزنا. وبه قال الأوزاعي. وقال الشافعي: يحده الولي في كل حد ويقطعه.
ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا معلى بن منصور، قال: أنا أبو أويس، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عباد بن تميم، عن عمه -وكانت له صحبة- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا زنت الأمة فاجلدوها، ثم إذا زنت فاجلدوها، ثم إذا زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير".
ش: أبو أويس اسمه عبد الله بن عبد الله بن أويس ابن ابن عم مالك بن أنس، عن أحمد: صالح. وعنه: ثقة. وعن يحيى: ضعيف. وعنه: صدوق وليس بحجة. روى له الجماعة سوى البخاري.
وعبد الله بن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم الأنصاري، روى له الجماعة.
وعباد بن تميم بن غزية الأنصاري المدني، روى له الجماعة.
وعمه عبد الله بن عاصم الأنصاري الصحابي رضي الله عنه.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن معلى بن منصور، عن أبي أويس. . . . إلى آخره نحوه.
والطبراني في "الكبير": عن محمَّد بن علي الصائغ المكي، عن محمَّد بن معاوية النيسابوري، عن أبي أويس. . . . إلى آخره نحوه.
ص: حدثنا علي، قال: ثنا معلى، عن أبي أويس، عن صالح بن كيسان، عن عبيد الله بن عبد الله، عن زيد بن خالد مثله.
ش: علي هو ابن معبد المذكور، ومعلى وابن منصور المذكور، وأبو أويس هو عبد الله المذكور.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(7/ 281 رقم 36091).
وهذا إسناد صحيح.
وأخرجه النسائي (1): عن أبي داود الحراني، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عبيد الله، عن أبي هريرة وزيد جميعًا.
وأبو داود (2): عن القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الله، عن أبي هريرة وزيد بن خالد جميعًا نحوه.
وأخرجه الطبراني (3): عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أحمد بن إبراهيم الموصلي، نا عبد الله بن جعفر، عن صالح بن كيسان، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن زيد بن خالد الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها، ثم إن زنت فليجلدها، ثم إن زنت فليجلدها، ثم إن زنت فليبعها، ولو بضفير".
ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، عن زيد بن أبي حبيب، عن عمارة بن أبي فروة، أن محمَّد بن مسلم، حدثه أن عروة، حدثه أن عمرة بنت عبد الرحمن، حدثته أن عائشة رضي الله عنها، حدثتها أن رسول الله عليه السلام قال. . . . ثم ذكر مثله.
ش: رجاله كلهم ثقات غير أن عمارة بن أبي فروة لم أر أحدًا ذكره بشيء (4).
(1)"السنن الكبرى"(4/ 302 رقم 7258).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 566 رقم 4469).
(3)
"المعجم الكبير"(5/ 240 رقم 5207).
(4)
كذا قال، والصواب أنه عمار بن أبي فروة كما نبه عليه المزي في "تهذيب الكمال"(21/ 262) وعدَّه من أوهام صاحب "الكمال". وعمار بن أبي فروة هذا هو القرشي أبو عمر الأموي المدني مولى عثمان بن عفان، قال البخاري: لا يتابع عليه. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكره العقيلي في "الضعفاء"، وقال ابن عدي في "الكامل" (5/ 74): وعمار بن أبي فروة ما أقل ما له من الحديث ومقدار ما يرويه، لا أعرف له شيئًا منكرًا.
وأخرجه ابن ماجه (1): نا محمَّد بن رمح، أنا الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمارة بن أبي فروة، أن محمَّد بن مسلم، حدثه أن عروة، حدثه أن عمرة بنت عبد الرحمن، حدثته أن عائشة رضي الله عنها، حدثتها أن رسول الله عليه السلام قال:"إن زنت الأمة فاجلدوها، فإن زنت فاجلدوها، فإن زنت فاجلدوها، فإن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير".
ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن عبد الأعلى الثعلبي، عن أبي جميلة، عن علي رضي الله عنه قال:"أُخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأمة فجرت، فأرسلني إليها فقال: اذهب فأقم عليها الحد، فانطلقت فوجدتها لم تجف من دمها، فرجعت إليه، فقال لي: فرغت؟ فقلت: وجدتها لم تجف من دمها، فقال: إذا هي جفت من دمها فاجلدها، قال علي رضي الله عنه: قال رسول الله عليه السلام: أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم".
ش: يوسف بن عدي، شيخ البخاري.
وأبو الأحوص سلام بن سُليم الحنفي، روى له الجماعة.
وعبد الأعلى بن عامر الثعلبي -بالثاء المثلثة- فيه مقال، ضعفه أبو زرعة، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. روى له الأربعة.
وأبو جميلة الطهوي اسمه ميسرة، وثقه ابن حبان.
وأخرجه أبو داود (2): عن محمَّد بن كثير، عن إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن أبي جميلة، عن علي بنحوه.
والنسائي (3): عن قتيبة، عن أبي الأحوص، عن عبد الأعلى، عن أبي جميلة به.
(1)"سنن ابن ماجه"(2/ 758 رقم 2566).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 567 رقم 4473).
(3)
"السنن الكبرى"(4/ 304 رقم 7269).
واحتج الشافعي ومالك بهذا الحديث على أن للمولى أن يقيم الحد على مملوكه، وهو قول الثوري والأوزاعي، وقد ذكرناه.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يقيم الحد على أحد إلا الإمام.
والجواب عن هذا الحديث أنه ضعيف؛ لأن فيه عبد الأعلى الثعلبي وهو لا يحتج به.
فإن قيل: أخرج مسلم في "صحيحه"(1): من حديث أبى عبد الرحمن السلمي عبد الله بن حبيب قال: "خطب علي رضي الله عنه فقال: يا أيها الناس، أقيموا على أرقائكم الحد، من أحصن منهم ومن لم يحصن؛ فإن أمة لرسول الله عليه السلام زنت فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديث عهد بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك لرسول الله عليه السلام فقال: أحسنت".
وأخرجه الترمذي (2).
قلت: هذا حجة لنا لا علينا؛ لأن عليًّا رضي الله عنه يخبر أن رسول الله عليه السلام أمره أن يقيم الحد على تلك الأمة التي زنت فكان الحد بأمر الإمام، وأما قول علي رضي الله عنه:"أقيموا على أرقائكم الحد"، فمعناه كمعنى قوله عز وجل:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (3)، وقوله:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (4) ومعلوم أن المراد رفعه إلى الإمام لإقامة الحد، فالمخاطبون بإقامة الحد الأئمة، وسائر الناس مخاطبون برفعهم إليهم حتى يقيموا عليهم الحدود، وكذا معنى قوله عليه السلام في الحديث الذي رواه أبو جميلة، عن علي، عن النبي عليه السلام:
(1)"صحيح مسلم"(3/ 1330 رقم 1705).
(2)
"جامع الترمذي"(4/ 47 رقم 1441).
(3)
سورة المائدة، آية:[38].
(4)
سورة النور، آية:[2].
"أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم"(1) أي ارفعوا إلى الأئمة ليقيموا الحدود عليهم.
ص: قالوا: فلما أمر رسول الله عليه السلام في الأمة إذا زنت أن تجلد، ولم يأمر مع الجلد بنفي، وقد قال الله عز وجل:{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (2) فأعلمنا بذلك أن ما يجب على الإماء إذا زنين هو نصف ما يجب على الحرائر إذا زنين، ثم ثبت أن لا نفي على الأمة إذا زنت كان كذلك أيضًا لا نفي على الحرة إذا زنت.
ش: أي قال أهل المقالة الثانية: لما أمر رسول الله عليه السلام في الأحاديث المذكورة في الأمة إذا زنت أن تجلد ولم يأمر مع ذلك بالنفي، فدل على أنه لا نفي على الأمة مع الحد، فإذا لم يثبت النفي على الأمة إذا زنت، لم يثبت على الحرة أيضًا إذا زنت؛ لأن ما يجب على الإماء نصف ما يجب على الحرائر، فإذا ثبت النفي في ذلك النصف لم يثبت في الكل. فافهم.
ص: وقد روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما تقدم من كتابنا أنه نهى عن أن تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع محرم، فدل ذلك أيضًا أن لا تسافر المرأة ثلاثة أيام في حد الزنا بغير محرم، وفي ذلك إبطال النفي عن النساء في الزنا.
فإذا انتفى أن يكون يجب على النساء اللاتي غير المحصنات نفي في الزنا، انتفى ذلك أيضًا عن الرجال أيضًا، وكان درء النبي عليه السلام إياه عن الإماء فيما ذكرنا درءًا عن الحرائر، وفي درئه إياه عن الحرائر دليل على درئه إياه عن الأحرار.
وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
(1) تقدم.
(2)
سورة النساء، آية:[25].
ش: حديث النهي عن مسافرة المرأة ثلاثة أيام إلا مع محرم قد مرَّ في. . . . (1) وباقي الكلام ظاهر.
فإن قيل: يلزم الحنفية على ما ذكروا أن لا يمنعوا من تغريب المرأة إلى ما دون ثلاثة أيام.
قلت: لا يلزم ذلك؛ لأن النفي ليس من الحد، حتى يستعملوه فيما يمكنهم، وإنما هو من باب التعزير، ومن الدليل على ذلك: أن الحدود معلومة المقادير والنهايات؛ ولذلك سميت حدودًا، لا يجوز الزيادة عليها ولا النقصان منها، فلما لم يذكر النبي عليه السلام للنفي مكانًا معلومًا ولا مقدارًا من المسافة والبعد، علمنا أنه ليس بحد، وأنه موكول إلى رأي الإِمام، والإمام لا يرى بالنفي في النساء خوفًا عليهن من الفتنة.
وقال إبراهيم النخعي: كفى بالنفي فتنة (2)، وروى عبيد الله، عن نافع، عن [أبي بكر] (3):"أن أمة له زنت فجلدها ولم ينفها"، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (4)"أنه غرَّب ربيعة بن أمية في الخمر إلى خيبر، فلحق بهرقل فتنصر، فقال عمر رضي الله عنه: "لا أغرب بعدها أحدًا". ولم يستثن الزنا.
ص: فإن قال قائل: إني أنفي الأمة إذا زنت ستة أشهر مثل نصف ما تنفى الحرة، وقال: لم ينف النبي عليه السلام النفي فيما ذكرتموه عنه من جلد الأمة إذا زنت، ولا بقوله:"ثم بيعوها" في المرة الرابعة.
فكفى بهذا القائل المخالف جهلًا إذ قد خالف كل من تقدمه من أهل العلم وخرج من أقاويلهم، ويقال له: بل فيما روينا عن النبي عليه السلام من
(1) بيض له المؤلف:.
(2)
انظر "نصب الراية"(3/ 330).
(3)
في "الأصل، ك": "إبراهيم"، وهو تحريف، والحديث أخرجه عبد الرزاق بنحو (7/ 204 رقم 12796) من طريق عبيد الله عن نافع أن رجلًا جاء إلى أبي بكر. . . . إلى آخره، وفيه قصة.
(4)
رواه النسائي (8/ 319 رقم 5676)، وعبد الرزاق في "مصنفه"(7/ 314 رقم 13320).
قوله: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها"، ثم قال في الرابعة:"فليبعها"، دليل على أن لا نفي عليها؛ لأنه إنما علمهم في ذلك ما يفعلون بإمائهم إذا زنين، فمحال أن يكون يقصر في ذلك عن جميع ما يجب عليهن، ومحال أن يأمر ببيع مَن لا يقدر مبتاعه على قبضه من بائعه ولا يصل إلى ذلك إلا بعد مضي ستة أشهر.
ويقال له أيضًا: أنت زعمت أن قول النبي عليه السلام لأنيس: "اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" دليل على أن لا جلد عليها مع ذلك، وإن كان إبطال الجلد لم يذكر في هذا الحديث، وجعلت ذلك معارضًا لما قد روي عن رسول الله عليه السلام من قوله:"الثيب بالثيب جلد مائة والرجم" فإذا كان هذا عندك دليلًا على ما ذكرنا، فما تنكر على خصمك أن يكون قول النبي عليه السلام:"إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها" عنده دليلًا على إبطاله النفي عن الأمة، فإن كان ما ذكرنا في السكوت عن نفي الأمة ليس يرفع النفي عنها، فما ذكرت أنت أيضًا في السكوت عن الجلد مع الرجم لا يرفع الجلد عن الثيب الزاني مع الرجم، فما يلزم خصمك من قول النبي عليه السلام:"إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها" شيء إلا لزمك مثله في قول النبي عليه السلام لأنيس: "فإن اعترفت فارجمها".
ويقال له: قد روي عن النبي عليه السلام في النفي في غير الزنا:
ما قد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن عبد العزيز الواسطي، قال: ثنا إسماعيل بن عياش، قال: ثنا الأوزاعي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده:"أن رجلًا قتل عبده عمدًا، فجلده النبي عليه السلام مائة ونفاه سنة ومحى سهمه من المسلمين، وأمره أن يعتق أمته".
فلم يكن ما فعله رسول الله عليه السلام في هذا من نفيه القاتل سنة دليلًا عندنا ولا عندك على أن ذلك حد واجب لا ينبغي تركه، وإنما كان على أنه للدعارة، لا لأنه حد واجب، فما تُنكر أيضًا أن يكون ما روي عن النبي عليه السلام مما أمر به من نفي الزاني على أنه للدعارة لا لأنه حد واجب لوجوب الجلد والرجم.
ش: تقرير السؤال أن يقال: إن نفي الأمة عندنا قدر نصف نفي الحرة؛ لأن حد الأمة نصف حد الحرة، والحديث الذي احتججتم به من جلد الأمة إذا زنت لا ينافي النفي، وكذا قوله عليه السلام:"ثم بيعوها" لا ينافي ذلك حتى قال بعض من يتعصب لهم: إنه يبيعها في مكان ينفيها إليه.
وأجاب الطحاوي عن ذلك بثلاثة أجوبة بعد أن جنى على هذا القائل بقوله: فكفى بهذا القائل المخالف جهلًا. . . . إلى آخره.
الجواب الأول: هو قوله: "ويقال له بل فيما روينا. . . ." إلى آخره، بيانه أن يقال: الذي ذكرتم غير صحيح، بل الحديث يدل على أن لا نفي عليها؛ وذلك لأنه عليه السلام مأمور بالبيان وتعليم الأحكام الشرعية لأمته، منزه عن التقصير في ذلك، وقد علم بهذا الحديث أُمتَّه ماذا يفعلون بالإماء إذا زنين، ولو كان النفي واجبًا كما ذكر هؤلاء لما ترك النبي عليه السلام بيانه هاهنا، فمن المحال أن يقصر النبي عليه السلام في بيان ذلك عن جميع ما يجب عليهن.
وأيضًا من المحال أن يأمر النبي عليه السلام ببيع من لا يقدر المشتري على قبضه من البائع ولا يصل إلى ذلك إلا بعد ستة أشهر.
الجواب الثاني: هو قوله: "ويقال له أيضًا: أنت زعمت. . . ." إلى آخره.
وحاصل هذا: أنه معارضة بالمثل، وإلزام للخصم بمثل ما يُلزم هو خصمه، وهو ظاهر.
الجواب الثالث: هو قوله: "ويقال له: قد روي عن النبي عليه السلام في النفي في غير الزنا"، بيانه أن يقال: ما ورد في هذا الباب من النفي محمول على أنه كان تأديبًا لرفع الفساد لا حدًّا كما ينفي الإمام أهل الدعارة، ونظير ذلك نفيه عليه السلام في غير الزنا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن عبد العزيز الواسطي شيخ البخاري، عن إسماعيل بن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة وفي
آخره شين معجمة- عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.
وأخرجه ابن ماجه (1): عن محمَّد بن يحيى، عن ابن الطباع، عن إسماعيل بن عياش، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده نحوه.
فهذه الأشياء التي فعلها رسول الله عليه السلام لم تكن حدًّا باتفاق الخصوم، وإنما كان عليه السلام فعلها لأجل دعارة الرجل -أي فساده وشره- وكذلك ما روي عنه عليه السلام من النفي يكون على هذا المعنى، لا لأنه حد واجب كوجوب الجلد والرجم.
وقد طعن البيهقي في كتابه "الخلافيات" على الطحاوي لذكره هذا الحديث في هذا المقام فقال: وهو يحتج بما هو أضعف من هذا الإسناد فيما يوافق هواه، فأما نحن فإنما تركناه لضعف إسناده.
وهذا لا يقبل من البيهقي؛ لأن الطحاوي لم يحتج هاهنا بهذا الحديث على شيء، وإنما ذكره شاهدًا لما قاله من أن النفي الذي أمر به عليه السلام في الزاني ليس لكونه حدًّا لا يجوز تركه، وإنما هو لأجل الدعارة كما ذكرناه، فسبحان الله هل بلغ حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده إلى حد لا يجوز الاستشهاد به ولئن سلمنا أنه احتج به فماذا يقال فيه؟
فإن قيل: فيه أن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: ليس بحجة.
فيقال: كيف كان حجة في مواضع من "سننه" وغيره فيما وافق هواه على أنا قد ذكرنا غير مرة أن حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده صحيح متصل إذا صح الإسناد إليه.
(1)"سنن ابن ماجه"(2/ 888 رقم 2664).
وقال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وإسحاق بن راهويه وأبا عبيد وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، ما تركه أحد من المسلمين. قال البخاري: من الناس بعدهم.
وإن قيل: لأجل إسماعيل بن عياش بن سُليم الشامي.
فيقال: ما لإسماعيل؟! فإن دُحيمًا قال: هو في الشاميين غاية. وقال الفسوي: تكلم قوم في إسماعيل وهو ثقة عدل، أعلم الناس بحديث أهل الشام أكثر ما تكلموا فيه، قالوا: يغرب عن ثقات الحجازيين. وقال البخاري: إذا حدَّث عن أهل بلده فصحيح. ولا شك أن حديثه هذا عن إمام أهل الشام وهو الأوزاعي، فافهم.