المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: من تزوج امرأة أبيه أو ذات محرم منه فدخل بها - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٥

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: بابُ: الرجل يحلف لا يكِّلم الرجل شهرًا كم عدد ذلك الشهر من الأيام

- ‌ص: بابُ: الرجل يُوجب على نفسه أن يصلي في مكان فيصلي في غيره

- ‌ص: بابُ: الرجل يوجب على نفسه المشي إلى بيت الله الحرام

- ‌ص: بابُ: الرجل ينذر وهو مشرك نذرًا ثم يُسلم

- ‌ص: كتاب العتاق

- ‌ص: باب: العبد يكون بين الرجلين فيعتقه أحدهما

- ‌ص: باب: الرجل يملك ذا رحم محرَّم منه هل يعتق عليه أم لا

- ‌ص: باب: المكاتب متى يعتق

- ‌ص: باب: الأَمة يطأها مولاها، ثم يموت وقد جاءت بولد في حياته هل يكون ابنه وتكون له أُمّ ولدٍ أَمْ لا

- ‌ص: كتاب الرهن

- ‌ص: باب: ركوب الرهن واستعماله وشرب لبنه

- ‌ص: باب: الرهن يهلك في يد المرتهن كيف حكمه

- ‌ص: كتاب الشفعة

- ‌ص: باب: الشفعة بالجوار

- ‌ص: كتاب الجنايات

- ‌ص: باب: ما يجب في قتل العمد وجرح العمد

- ‌ص: باب: الرجل يَقتل الرجل كيف يُقتَل

- ‌ص: باب: شبه العمد الذي لا قود فيه، ما هو

- ‌ص: باب: شبه العمد هل يكون فيما دون النفس كما يكون في النفس

- ‌ص: باب: الرجل يقول عند موته: إن مُت ففلان قتلني

- ‌ص: باب: المؤمن يقتل الكافر متعمدًا

- ‌ص: باب: القسامة هل تكون على ساكني الدار الموجود فيها القتيل أو مالكها

- ‌ص: باب: القسامة كيف هى

- ‌ص: باب: ما أصاب البهائم في الليل والنهار

- ‌ص: باب: غرة الجنين المحكوم بها فيه. لمن هي

- ‌ص: كتاب الحدود

- ‌ص: باب: حد البكر في الزنا

- ‌ص: باب: حد الزاني المحصن

- ‌ص: باب: الاعتراف بالزنا الذي يجب به الحد

- ‌ص: باب: الرجل يزني بجارية امرأته

- ‌ص: باب: من تزوج امرأة أبيه أو ذات محرم منه فدخل بها

- ‌ص: باب: حد الخمر

- ‌ص: باب: من سكر أربع مرات ما حده

- ‌ص: باب: المقدار الذي يقطع فيه السارق

الفصل: ‌ص: باب: من تزوج امرأة أبيه أو ذات محرم منه فدخل بها

‌ص: باب: من تزوج امرأة أبيه أو ذات محرم منه فدخل بها

ش: أي هذا باب في بيان حكم من تزوج امرأة أبيه فدخل بها، كيف يكون حكمه؟ أو تزوج امرأة من ذوات الرحم والمحرم منه؟

ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا الحسن بن صالح، عن السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال:"لقيت خالي ومعه الراية، فقلت: أين تذهب؟ فقال: أرسلني رسول الله عليه السلام إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده، أن أضرب عنقه أو أقتله".

حدثنا فهد، قال: ثنا يوسف -هو ابن منازل- وأبو سعيد الأشج، قالا: ثنا حفص بن غياث، عن أشعث، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال:"مر بي خالي أبو بردة بن نيار ومعه اللواء. . . . فذكر مثله، إلا أنه قال: "آتيه برأسه".

حدثنا محمَّد بن علي بن داود، قال:[ثنا](1) سعيد بن يعقوب الطالقاني، قال: ثنا هشيم، قال: أنا الأشعث، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال:"مر بي الحارث بن عمرو ومعه لواء قد عقده له رسول الله عليه السلام. فقلت: إلى أي شيء بعثك؟ قال: إلى رجل تزوج امرأة أبيه، أن أضرب عنقه".

حدثنا فهد قال: ثنا يوسف بن منازل، قال: ثنا حفص بن غياث، عن أشعث. . . . فذكر بإسناده مثله.

حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن مطرف، عن أبي الجهم، عن البراء بن عازب قال: "ضلت إبل لي، فخرجت في طلبها، فإذا الخيل قد أقبلت، فلما رأى أهل الماء الخيل انضموا إليَّ، وجاءوا إلى خباء من تلك الأخبية فاستخرجوا منه رجلًا، فضربوا عنقه، فقالوا: هذا رجل عرَّس بامرأة أبيه، فبعث إليه رسول الله عليه السلام فقتله.

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "ش".

ص: 501

ش: هذه خمس طرق:

الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن الحسن بن صالح بن صالح بن حي الكوفي العابد أحد الأئمة الحنفية، روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح".

عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكوفي الأعور، كان يقعد في سُدة باب الجامع بالكوفة، فسمي السدي، وهو من التابعين الثقات، روى له الجماعة سوى البخاري.

عن عدي بن ثابت الأنصاري الكوفي.

وهذا إسناد صحيح.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، عن حسن بن صالح، عن السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال:"لقيت خالي ومعه الراية، فقلت له، فقال: بعثني النبي عليه السلام إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن أقتله أو أضرب عنقه". انتهى.

وخاله هو أبو بردة هانئ بن نيار بن عمرو البلوي المدني حليف بني الخارج بن الخزرج، شهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله عليه السلام.

الثاني: عن فهد أيضًا، عن يوسف بن منازل -بفتح الميم- التميمي الكوفي، وعن أبي سعيد عبد الله بن سعيد الأشج شيخ الجماعة كلها.

كلاهما عن حفص بن غياث، عن أشعث بن سوار الكندي الكوفي فيه اختلاف، عن عدي بن ثابت، عن البراء.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): عن حفص بن غياث، عن أشعث. . . . إلى آخره نحوه.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 549 رقم 28867).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 549 رقم 28866).

ص: 502

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث أبي خالد الأحمر، عن أشعث، عن عدي بن ثابت، عن يزيد بن البراء، عن البراء، عن خاله: "أن رجلًا تزوج امرأة أبيه -أو امرأة ابنه كذا قال أبو خالد الأحمر عن أشعث- فأرسل إليه النبي عليه السلام فقتله.

وأخرج عبد الرزاق (2): عن معمر، عن أشعث، عن عدي بن ثابت، عن يزيد بن البراء، عن أبيه قال:"لقيني عمي ومعه راية، فقلت: أين تريد؟ فقال: بعثني النبي عليه السلام إلى رجل تزوج امرأة أبيه، فأمرني أن أقتله".

وأخرجه أحمد في "مسنده"(3): عن عبد الرزاق.

وهذا كما ترى فيه اضطراب.

الثالث: عن محمَّد بن علي بن داود البغدادي، عن سعيد بن يعقوب الطالقاني شيخ أبي داود والترمذي والنسائي، عن هشيم بن بشير، عن الأشعث بن سوَّار، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال:"مرَّ بي الحارث بن عمرو. . . ." إلى آخره.

والحارث بن عمرو الأنصاري هذا خال البراء بن عازب، وقيل: عمه، كذا في "معرفة الصحابة".

وأخرجه أحمد في "مسنده"(4): ثنا هشيم، عن أشعث بن سوَّار، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال:"مرَّ بي الحارث بن عمرو وقد عقد له رسول الله عليه السلام لواء، فقلت: أي عم، إلى أين بعثك رسول الله عليه السلام؟ فقال: بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه، فأمرني أن أضرب عنقه".

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(8/ 237 رقم 16832).

(2)

"مصنف عبد الرزاق"(6/ 271 رقم 10804).

(3)

"مسند أحمد"(4/ 297 رقم 18649).

(4)

"مسند أحمد"(4/ 292 رقم 18602).

ص: 503

الرابع: عن فهد بن سليمان، عن يوسف بن منازل، عن حفص بن غياث، عن أشعث بن سوار، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب وهذا مثل الطريق الثاني، ولكن فيه:"مرَّ بي الحارث بن عمرو"، وفي ذاك:"مر بي خالي أبو بردة بن نيار".

وأخرجه ابن حزم (1): من حديث هشيم، عن أشعث بن سوار، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال:"مرَّ بي عمي الحارث بن عمرو وقد عقد له رسول الله عليه السلام، فقلت له: أي عمي، أين بعثك رسول الله عليه السلام؟ قال: بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه، فأمرني أن أضرب عنقه".

الخامس: عن فهد أيضًا، عن أحمد بن عبد الله بن يونس التميمي الكوفي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن أبي بكر بن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة، وبالشين المعجمة- بن سالم الأسدي الكوفي الحناط -بالنون- المقرئ قيل: اسمه محمَّد، وقيل: عبد الله، وقيل غير ذلك، والصحيح أن اسمه وكنيته، روى له الجماعة مسلم في "مقدمة كتابه".

وهو يروي عن مطرف بن طريف الحارثي الكوفي، روى له الجماعة، عن أبي الجهم سليمان بن الجهم الجوزجاني مولى البراء بن عازب، وثقه ابن حبان.

وأخرجه أبو داود (2): ثنا مسدد، قال: ثنا خالد بن عبد الله، قال: ثنا مطرف، عن أبي الجهم، عن البراء بن عازب قال:"بينما أنا أطوف على إبل لي ضلت إذ أقبل ركب أو فوارس معهم لواء -فجعل الأعراب يطيفون بي لمنزلتي من النبي عليه السلام إذ أتوا قبة، فاستخرجوا منها رجلًا فضربوا عنقه، فسألت عنه، فذكروا أنه أعرس بامرأة أبيه".

(1)"المحلى"(11/ 252).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 562 رقم 4456).

ص: 504

قوله: "فإذا الخيل" الخيل: الفرسان، قال الله تعالى:{وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ} (1) أي فرسانك، ويجوز أن يكون المضاف محذوفًا، أي: فإذا أصحاب الخيل قد أقبلت.

قوله: "عرَّس بامرأة أبيه" كذا هو في رواية الطحاوي، وفي رواية أبي داود:"أعرس" من الإعراس، يقال: أعرس الرجل إذا دخل بامرأته عند بنائها.

قال ابن الأثير في "النهاية": لا يقال فيه: عَرَّس، وقال الجوهري: أعرس بأهله إذا بنى بها، وكذلك إذا غشيها، ولا يقال: عرَّس والعامة تقوله.

ص: فذهب قوم إلى أن من تزوج ذات محرم منه وهو عالم بحرمتها عليه فدخل بها، أن حكمه حكم الزاني، ويقام عليه حد الزنا الرجم أو الجلد، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار، وممن قال بهذا القول أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله-.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري ومالكًا والشافعي وأحمد وأبا ثور، فإنهم قالوا: مَن تزوج ذات محرم منه. . . . إلى آخره، وبهذا قال أبو يوسف ومحمد، قالوا: ولا يلحق الولد في العقد إلا أن مالكًا فرق بين الوطء في ذلك بعقد النكاح وبين الوطء في بعض ذلك بملك اليمين، فقال فيمن ملك بنت أخيه أو بنت أخته أو عمته أو خالته أو امرأة أبيه أو امرأة ابنه بالولادة، أو أمه من الرضاعة، أو ابنته من الرضاعة، أو أخته من الرضاعة وهو عارف بتحريمهن وعارف بقرابتهن منه ثم وطئهن كلهن عائد فإن الولد لاحق به ولا حدَّ عليه لكن يعاقب.

وقال الخطابي: اختلف فيمن نكح ذات محرم، فقال الشافعي ومالك وجماعة: يحد، وقال أحمد: يقتل ويؤخذ ماله، وقال ابن حزم: قال جابر بن زيد أبو الشعثاء وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه: كل من وطئ حريمته عالم بالتحريم بقرابتها منه، فسواء وطئها باسم نكاح أو بملك يمين أو بغير ذلك فإنه يقتل ولابد، محصنًا كان أو غير محصن.

(1) سورة الإسراء، آية:[64].

ص: 505

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يجب في هذا حد الزنا، ولكن يجب فيه التعزير والعقوبة البليغة، وممن قال بذلك أبو حنيفة وسفيان الثوري:

حدثنا سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن محمَّد، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة بذلك.

وحدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم قال: "سمعت سفيان يقول في رجل تزوج ذات محرم منه ودخل بها قال: لا حدَّ عليه".

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم فقهاء الكوفة منهم: أبو حنيفة وسفيان الثوري، فإنهم قالوا: لا يجب في الصورة المذكورة حد الزنا، ولكن يجب فيها التعزير البالغ والعقوبة البليغة.

وأخرج قولي أبي حنيفة وسفيان مسندًا:

أما قول أبي حنيفة فأخرجه عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن أبيه شعيب ابن سليمان، عن محمَّد بن الحسن، عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري القاضي، عن الإِمام أبي حنيفة.

وأما قول سفيان فأخرجه عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين -شيخ البخاري- عن سفيان.

وقال ابن حزم في "المحلى": قال أبو حنيفة: لا حدَّ عليه في كل ذلك، ولا حد على من تزوج أمه التي ولدته وابنته وأخته وجدته وعمته وخالته وبنت أخيه بنت أخته عالمًا بقرابتهن منه، عالمًا بتحريمهن عليه، ووطئهن كلهن، والولد لاحق به، والمهر واجب لهن عليه، وليس عليه إلا التعزير دون الأربعين فقط، وهو قول سفيان الثوري.

قالا: فإن وطئهن بغير عقد النكاح فهو زنى، عليه ما على الزاني من الحد.

ص: وكان من الحجة على الذين احتجوا عليهما بما ذكرنا؛ أن في تلك الآثار أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتل، وليس فيه ذكر الرجم، ولا ذكر إقامة الحد، وقد

ص: 506

أجمعوا جميعًا أن فاعل ذلك لا يجب عليه قتل، إنما يجب عليه في قول من يوجب الحد على الرجم إن كان محصنًا، فلما لم يأمر رسول الله عليه السلام بالرجم وإنما أمره بالقتل؛ ثبت بذلك أن ذلك القتل ليس لحد الزنى، ولكن المعنى خلاف ذلك، وهو أن المتزوج فعل ما فعل من ذلك على الاستحلال كما كانوا يفعلون في الجاهلية، فصار بذلك مرتدًّا، فأمر رسول الله عليه السلام أن يفعل به ما يفعل بالمرتد، وهكذا كان أبو حنيفة وسفيان يقولان في هذا المتزوج: إن كان أتى ذلك على الاستحلال أنه يقتل.

فإذا كان ليس في الحديث ما ينفي قول أبي حنيفة وسفيان لم يكن فيه حجة عليهما؛ لأن مخالفهما ليس بالتأويل أولى منهما.

ش: أي: وكان من الدليل والبرهان على القوم الذين احتجوا على أبي حنيفة وسفيان بحديث البراء بن عازب المذكور.

ملخص هذا: أن الأحاديث المذكورة ليست بحجة على أبي حنيفة وسفيان؛ لأن المأمور فيها هو القتل دون الرجم، وكان ذلك لأجل الاستحلال، فصار حكمه حكم المرتد، فلذلك أمر عليه السلام بالقتل دون الرجم، وكلامه ظاهر لا يحتاج إلى البسط.

ص: وفي ذلك الحديث أيضًا أن رسول الله عليه السلام عقد لأبي بردة الراية، ولم تكن الرايات تعقد إلا لمن أمر بالمحاربة، والمبعوث على إقامة حد الزنى غير مأمور بالمحاربة.

ش: هذا جواب آخر في دفع كون الأحاديث المذكورة حجة على أبي حنيفة وسفيان، وهو ظاهر لا يخفى.

ص: وفي الحديث أيضًا أنه بعثه إلى رجل تزوج بامرأة أبيه، وليس فيه أنه دخل بها، فإن كانت هذه العقوبة وهي القتل مقصودًا بها إلى المتزوج لتزوجه، دل ذلك أنها عقوبة وجبت بنفس العقد لا بالدخول، ولا يكون ذلك إلا والعاقد مستحل لذلك.

ص: 507

ش: هذا جواب آخر، وهو أيضًا ظاهر، وقد غمز الخطابي هاهنا على الطحاوي فقال: وقد زعم بعضهم أن النبي عليه السلام إنما أمر بقتله لاستحلال نكاح امرأة أبيه، وكان ذلك من مذهب أهل الجاهلية؛ كان الرجل منهم يرى أنه أولى بامرأة أبيه من الأجنبي، فيرثها كما ترث ماله، وفاعل هذا على الاستباحة يرتد عن الدين، فكان جزاؤه القتل لردته، وهذا تأويل فاسد، ولو جاز أن يتأول ذلك في قتله لجاز أن يتوهم في رجم من رجم رسول الله عليه السلام من الزناة، فيقال: إنما قتله بالرجم لاستحلاله الزنى، فقد كان أهل الجاهلية يستحلون الزنا، فلا يجب على من زنى الرجم حتى يعتقد هذا الزاني، وهذا ما لا خفاء بفساده.

قلت: هذا الذي قاله فاسد، وقياسه باطل؛ لأن الحكم المتنازع فيه لا يشبه حكم الرجم الذي فعله رسول الله عليه السلام في الذين زنوا؛ لأن الذين رجمهم رسول الله عليه السلام لم يستحلوا الزنى أصلًا حتى يتوهم فيه ما توهم في المتنازع فيه، وهذا من المعلوم الذي لا يشتبه، إذ لو استحلوا ذلك لأمر النبي عليه السلام بقتلهم دون رجمهم، ولما أمر أصحابه أن يفعلوا بهم مثل ما يفعلون بموتاهم من مراعاة سنن الغسل والتكفين والصلاة عليهم ودفنهم في مقابر المسلمين، فافهم.

ص: فإن قال قائل: فهذا عندنا على أنه قد تزوج ودخل، قيل له: وهو عند مخالفك على أنه تزوج واستحل.

فإن قال: ليس للاستحلال ذكر في الحديث.

قيل: ولا للدخول ذكر في الحديث؛ فإن جاز لك أن تحمل معنى الحديث على الدخول غير مذكور في الحديث جاز لخصمك أن يحمله على استحلال غير مذكور في الحديث.

ش: هذا السؤال وارد على الجواب الأخير، بيانه أن يقال: لا نسلم قولك: ليس في الحديث أنه دخل بها، بل هو عندنا محمول على أنه دخل بها، وتقرير الجواب: أنك إذا ادعيت أنه دخل بها، فندعي نحن أيضًا أنه تزوج واستحل هذا التزوج.

ص: 508

فإن قلت: ليس في الحديث ذكر الاستحلال ولا ما يدل عليه.

فنجاريك نحن أيضًا ونقول: كذلك ليس فيه ذكر للدخول.

فإن قلت: أنا أحمله على الدخول وإن كان غير مذكور.

فنقول: نحن أيضًا نحمله على الاستحلال وإن كان غير مذكور، وليس حملك على ما أردت بأولى من حملنا على ما أردنا، والله أعلم.

ص: وقد روي في ذلك حرف زائد على ما في الآثار الأول: حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن جابر الجعفي، عن يزيد بن البراء، عن أبيه، قال:"أتى خاله ومعه راية، فقلت له: إلى أين تذهب؟ قال: بعثني رسول الله عليه السلام إلى رجل نكح امرأة أبيه، أن أقتله، وآخذ ماله".

ش: أي: قد روي فيمن تزوج بامرأة أبيه حرف زائد، وأراد بها كلمة على ما في هذه الآثار الأول، وهي قوله:"وآخذ ماله"، فإن هذه اللفظة ليست في الأحاديث الأول.

وأخرجه عن: حسين بن نصر بن المعارك، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن عبيد الله بن عمرو الرقي، عن زيد بن أبي أنيسة الجزري الرهاوي، عن جابر بن زيد الجعفي: فيه مقال، عن يزيد بن البراء الثقة، عن أبيه البراء بن عازب.

وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" بإسناد أصح منه: ثنا عبيد بن جناد الحلبي: نا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عدي بن ثابت الأنصاري، عن يزيد بن البراء، عن أبيه، قال:"لقيت عمي وقد اعتقد راية، فقلت له: أين تريد؟ قال: إلى رجل نكح امرأة أبيه، أضرب عنقه وآخذ ماله".

ص: وقد روي نحو ذلك عن غير البراء أيضًا.

ص: 509

حدثنا محمَّد بن علي بن داود وفهد ومحمد بن الورد، قالوا: ثنا يوسف بن منازل الكوفي، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، عن خالد بن أبي كريمة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه:"أن النبي عليه السلام بعث جد معاوية إلى رجل عرس بامرأة أبيه، أن يضرب عنقه ويخمس ماله".

ش: أي قد روي نحو ما روي بالحرف الزائد عن غير البراء بن عازب.

وأخرجه بإسناد صحيح: عن محمَّد بن علي وفهد بن سليمان ومحمد بن الورد ابن زنجويه البغدادي ثلاثتهم، عن يوسف بن منازل بفتح الميم والنون، عن عبد الله بن إدريس الزعافري، عن خالد بن أبي كريمة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه:"أن النبي عليه السلام بعث أباه -جد معاوية- إلى رجل عرس بامرأة أبيه، فضرب عنقه وخمس ماله".

وأخرجه ابن ماجه (1): عن محمَّد بن عبد الرحمن الجعفي، عن يوسف بن منازل. . . . إلى آخره نحوه.

قوله: "بعث جد معاوية" وهو: إياس بن هلال بن رباب المزني.

قوله: "عرَّس" بتشديد الراء، أي بني بامرأة أبيه، وقد مر أن اللغة العليا: أعرس من الإعراس.

قوله: "ويخمس" من التخميس، وهو أن يأخذ خمس ماله.

ص: فلما أمر رسول الله عليه السلام في هذين الحديثين بأخذ مال المتزوج وتخميسه؛ دل ذلك أن المتزوج كان بتزوجه مرتدًّا محاربًا؛ فوجب أن يقتل لردته، وكان ماله كمال الحربيين؛ لأن المرتد الذي لم يحارب كل قد أجمع في ماله على خلاف التخميس، فقال قوم وهم: أبو حنيفة وأصحابه ومن قال بقولهم: ماله لورثته من المسلمين، وقال مخالفوهم: ماله كله فيء، ففي تخميس النبي عليه السلام مال المتزوج الذي ذكرنا دليل على

(1)"سنن ابن ماجه"(2/ 869 رقم 2608).

ص: 510

أنَّه قد كانت منه الردة والمحاربة جميعًا، فانتفى بما ذكرنا أن يكون على أبي حنيفة وسفيان -رحمهما الله- في ذلك الحديث حجة.

ش: أراد بهذين الحديثين حديث البراء بن عازب الذي فيه تلك الحرف الزائدة، وحديث جدّ معاوية بن قرة، ودلالة هذين الحديثين على كون ذلك المتزوج مرتدًّا من أهل المحاربة ظاهرة، ولهذا كان ماله مثل مال الحربيين، وكان قتله كقتل المرتدين.

قوله: "وقال مخالفوهم" أي مخالفوا أبي حنيفة وأصحابه، وأراد بهم: ربيعة ومالكًا وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد.

وقال الأوزاعي: إن قتل في أرض الإِسلام فماله لورثته من المسلمين. وقالت طائفة: ميراثه لأهل دينه. وإليه ذهب النخعي والحكم بن عتيبة.

وقالت طائفة: إن كان له وارث على دينه فهو أحق به، وإلا فماله لورثته من المسلمين.

قوله: "لأنه لم يوجف عليه" أي لم يعمل عليه بخيل ولا ركاب، وأصله من الوجيف، وهو ضرب من سير الإبل والخيل.

ص: فإن قال قائل: قد رأينا ذلك النكاح نكاحًا لا يثبت، فكان ينبغي إذا لم يثبت أن يكون في حكم ما لم يُعقد، فيكون الواطئ عليه كالواطئ لا على نكاح، فيُحد.

قيل له: فإن كان ذلك كذلك فلِمَ كان في سؤالك إيانا ما ذكرتَ ذكر التزويج؟ كان ينبغي أن تقول رجل زنى بذات محرم منه.

فإن قلت، كان جوابنا لك أن نقول: عليه الحد، وإن أطلقت اسم التزويج وسميت ذلك النكاح نكاحًا، وإن لم يكن ثابتا فلا حد على واطئ [على نكاح](1) جائز ولا فاسد.

(1) سقط من "الأصل، ك" والمثبت من "ش".

ص: 511

ش: تقرير السؤال أن يقال: هذا النكاح ليس بشيء في الحقيقة؛ لأنه في غير محله، فكان حكمه حكم العدم، فحينئذ يكون الواطئ في مثل هذا النكاح كالواطئ بلا نكاح فيجب عليه حد الزنا.

وتقرير الجواب أن يقال: فعل ما ذكرت كان ينبغي أن لا تذكر في سؤالك لفظ التزويج، وجوابنا نحن مبني على التزويج حتى إذا قلت: رجل زنى بذات محرم منه، نقول: يجب عليه الحد لارتكابه الزنا المحرم. وإذا قلت: رجل تزوج بذات محرم منه ووطئها نقول: لا حدَّ عليه للشبهة؛ لأن الحد لا يجب في النكاح مطلقًا سواء كان نكاحًا حلالًا أو حرامًا.

قوله: "إيانا" ضمير منصوب وقع مفعولًا للمصدر المضاف إلى فاعله وهو قوله: "سؤالك". وقوله: "ما ذكرت" في محل النصب أيضًا على المفعولية، وقوله:"ذكر التزويج" كلام إضافي مرفوع؛ لأنه اسم كان في قوله: "فلم كان".

قوله: "فإن قلت" أي فإن قلت: رجل زنى بذات محرم منه كان جوابنا لك. . . . إلى آخره.

قوله: "وإن أطلقت اسم التزويج" يعني وإن ذكرت لفظ التزويج ونحوه. . . . إلى آخره.

ص: وقد رأينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في المتزوج في العدة التي لا يثبت فيها نكاح الواطئ على ذلك ما يدل على خلاف مذهبك؛ وذلك أن إبراهيم بن مرزوق قد حدثنا، قال: ثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، قال: ثنا مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار:"أن طُليحة نكحت في عدتها، فأتي بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فضربها ضربات بالمخفقة، وضرب زوجها، وفرَّق بينهما، وقال: أيما امرأة نكحت في عدتها فرق بينها وبين زوجها الذي نكحت ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم اعتدت من الآخر إن كان دخل بها الآخر، ثم لم ينكحها أبدًا، وان لم يكن دخل بها اعتدت من الأول، وكان الآخر خاطبًا من الخطَّاب".

ص: 512

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب. . . . فذكر بإسناده مثله.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب:"أن رجلًا تزوج امرأة في عدتها، فرفع إلى عمر بن الخطاب فضربهما دون الحد، وجعل لها الصداق، وفرَّق بينهما وقال: لا يجتمعان". قال: وقال علي رضي الله عنه: "إن تابا وأصلحا؛ خطبها مع الخُطَّاب".

أفلا ترى أن عمر رضي الله عنه قد ضرب المرأة والزوج بالمخفقة، فاستحال أن يضربهما وهما جاهلان بتحريم ما فعلا؛ لأنه كان أعرف بالله من أن يعاقب مَن لم تقم عليه الحجة، فلما ضربهما دلَّ ذلك أن الحجة قد كانت قامت عليهما بالتحريم قبل أن يقتلا، ثم هو فلم يقم عليهما الحد وقد حضره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتابعوه على ذلك ولم يخالفوه فيه، فهذا دليل صحيح أن عقد النكاح إذا كان وإن كان لا يثبت وجب له حكم النكاح في وجوب المهر بالدخول الذي يكون بعده، وفي العدة منه، وفي ثبوت النسب، وما كان يوجب ما ذكرنا من ذلك، فيستحيل أن يجب به حد؛ لأن الذي يوجب الحد هو الزنا، والزنا لا يوجب ثبوت نسب ولا عدة ولا مهر.

ش: ذكر هذا الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تأييدًا لما ذكره من أن النكاح وإن لم يكن ثابتًا فلا حدَّ على فاعله؛ وذلك لأن عمر رضي الله عنه قد حكم فيمن تزوج في العدة التي لا يثبت فيها نكاح الواطئ ما يدل على ذلك، حيث ضرب الزوجين فيه بالمخفقة، ولم يقم عليهما الحد، وحكم لها بالصداق، وفرَّق بينهما، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد في ذلك. فهذا دليل صريح صحيح أن عقد النكاح مطلقًا إذا وُجد وإن لم يكن ثابتًا فإنه يصير له حكم النكاح في وجوب المهر بالدخول، ووجوب العدة منه بالتفريق، وثبوت النسب إن حصل ولد، فمثل ذلك يستحيل أن يجب به الحد؛ لأن موجب الحد هو

ص: 513

الزنا، والزنا لا يثبت به النسب، ولا تثبت العدة ولا المهر، فإذا كان كذلك يسقط الحد لعدم سببه ويجب التعزير، لارتكابه المحرَّم.

وأخرج الأثر المذكور من ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن مالك بن أنس، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار المدني.

وأخرجه مالك في "موطإه"(1).

الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن الزهري. . . . إلى آخره.

والثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2) مختصرًا: ثنا وكيع، عن هشام، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب:"أن امرأة تزوجت في عدتها، فضربها عمر رضي الله عنه تعزيرًا دون الحد".

وقال ابن حزم (3): الإسناد إلى عمر منقطع؛ لأن سعيدًا لم يحلق عمر رضي الله عنه إلا نعيه النعمان بن مقرن على المنبر.

قلت: سعيدٌ وُلِدَ لسنتين مضتا من خلافة عمر رضي الله عنه، وكانت خلافة عمر عشر سنين وستة أشهر، فيكون عُمْر سعيد حين توفي عمر رضي الله عنه ثمان سنين وستة أشهر، فكيف لا يحلق عمر ولا يسمعه وهو في المدينة عنده؟!.

قوله: "أن طليحة نكحت" هي طليحة بنت عبيد الله، وكانت تحت رشيق

(1)"موطأ مالك"(2/ 536 رقم 1115).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 517 رقم 28553).

(3)

"المحلى"(11/ 247).

ص: 514

الثقفي فطلقها، ونكحت في عدتها، ووقع في "الموطأ":"أن طليحة الأسدية كانت تحت رشيد الثقفي" وقال ابن وضاح: هي تيمية، وقيل: إنها أخت طلحة بن عبيد الله التيمي صاحب رسول الله عليه السلام وأحد العشرة، وقد ذكرها ابن الأثير في الصحابيات.

قوله: "بالمِخْفَقة" بكسر الميم وسكونا لخاء المعجمة، وهي الدرة.

قوله: "مِن الخُطَّاب" بضم الخاء: جمع خاطب، مِن خَطَبَ المرأة، يَخْطِبُ، خِطْبَة بالكسر، فهو خاطب: إذا طلبها ليتزوجها.

ويستفاد منه أحكام:

فيه: أن نكاح المعتدة فاسد، وأنها إذا دخل بها من تزوجها يجب عليهما التعزير دون الحد، وكذا روي عن الشعبي وحماد بن أبي سُليمان وإبراهيم النخعي:

قال ابن أبي شيبة (1): ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر، وعن حماد، عن إبراهيم "في امرأة نكحت في عدتها فقالا: ليس عليهما حد".

وكذا روي عن الزهري، عن مروان.

أخرجه ابن أبي شيبة (2): عن عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري:"أن مروان جلدهما أربعين أربعين، وفرَّق بينهما".

وفيه: وجوب التفريق بينهما؛ لفساد العقد، ووجوب العدة، لشبهة النكاح، وثبوت النسب؛ لأنه حصل من عقد نكاح وإن كان لا يثبت وليس هو بزنا؛ لأن اسم الزنا اسم غير النكاح، فوجب أن يكون له حكم غير حكمه.

وفيه: وجوب المهر بالدخول، وقال مالك في "موطأه" عقيب الأثر المذكور، قال سعيد بن المسيب:"ولها مهرها بما استحل منها".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 517 رقم 28556).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 517 رقم 28555).

ص: 515

ص: فإن قال قائل: إن هذا الذي ذكرت من وطء ذات المحرم منه، على النكاح الذي وصفت، وإن لم يكن زنا فهو أغلظ من الزنا وأحرى أن يجب فيه ما يجب في الزنا.

قيل له: قد أخرجته بقولك هذا من أن يكون زنا، وزعمت أنه أغلظ من الزنا، وليس ما كان مثل الزنا أو ما كان أعظم من الزنا من الأشياء المحرمة يجب في انتهاكها من العقوبات ما يجب في الزنا؛ لأن العقوبات إنما تؤخذ من جهة التوقيف لا مِن جهة القياس، ألا ترى أن الله عز وجل قد حرَّم الميتة والدم ولحم الخنزير كما حرَّم الخمر، وقد جعل على شارب الخمر حدًّا لم يجعل مثله على آكل لحم الخنزير. ولا على آكل لحم الميتة؟ وإن كان تحريم ما أتى به هذان كتحريم ما أتى ذلك.

وكذلك قذف المحصنة جعل الله عز وجل فيه جلد ثمانين، وسقوط شهادة القاذف، وإلزامه اسم الفسق، ولم يجعل ذلك فيمن رَمى رجلًا بالكفر، والكفرُ في نفسه أعظم وأغلظ من القذف، وكانت العقوبات قد جعلت في أشياء خاصة ولم تجعل في أمثالها ولا في أشياء هي أعظم منها وأغلظ، فكذلك ما جعل الله عز وجل من الحد في الزنا لا يجب به أن يكون واجبًا فيما هو أغلظ من الزنا.

فهذا الذي ذكرنا في هذا الباب هو النظر، وهو قول أبي حنيفة وسفيان -رحمهما الله-.

ش: تقرير السؤال أن يقال: إن وطئ ذات المحرم منه بالنكاح وإن لم يكن زنا على ما ذكرت، ولكنه أغلظ من الزنا في الحرمة، وكان الحد في الزنا الذي هو أدنى درجة منه واجبًا، فوجوبه فيما هو أعلى منه بالطريق الأولى.

وملخص الجواب أن يقال: إن باب العقوبات توقيفي لا مجال للقياس فيه، ولو كان هذا الباب يؤخذ بالقياس لكان يجب الحد على آكل لحم الخنزير أو الميتة كما يجب على شارب الخمر، مع وجود التساوي في الحرمة في هذه الأشياء، ومع هذا أوجب الشارع الحد على شارب الخمر ولم يجعل مثله على آكل لحم الخنزير أو

ص: 516

الميتة، وكذلك أوجب الحد على قاذف المحصنة وأسقط شهادته وألزمه اسم الفسوق، ولم يوجب شيئًا من ذلك على مَن رمى رجلًا بالكفر، والحال أن الكفر في نفسه أعظم وأغلظ من القذف بالزنا، فعلمنا أن القياس لا يجري في باب العقوبات.

قوله: "فهذا الذي ذكرنا" أشار به إلى ما ذكره فيما مضى من الاستدلالات لأبي حنيفة وسفيان "هو النظر" أي القياس، وأراد أن القياس الصحيح هو قولهما مع ورود الآثار الدالة على ما ذهبنا إليه، والله أعلم.

ص: 517