الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: الرجل يَقتل الرجل كيف يُقتَل
ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجل الذي يقتل الرجل كيف يُقتل قصاصًا عن قتله إياه؟
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه:"أن يهوديًّا رضَّ رأس صبي بين حجرين، فأمر النبي عليه السلام أن يُرَضَّ رأسه بين حجرين".
ش: إسناده صحيح.
وأبو بكرة بكّار القاضي، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي، وهمام هو ابن يحيى.
وأخرجه البخاري (1): حدثني إسحاق، أنا حبان، ثنا همام، عن قتادة، ثنا أنس بن مالك:"أن يهوديًّا رض [رأس] (2) جارية بين حجرين، فقيل لها: مَن فعل بك هذا؟ أفلان؟ أفلان؟ حتى سمى اليهودي، فأومأت برأسها، فجيء باليهودي فاعترف، فأمر به النبي عليه السلام، فَرُضّ رأسه بالحجارة -وقد قال همام: بالحجرين-".
وأخرجه مسلم (3): عن هداب بن خالد، عن همام، عن قتادة، عن أنس، نحوه.
وأبو داود (4): عن ابن كثير، عن همام، عن قتادة.
والترمذي (5): عن علي بن حجر، عن يزيد بن هارون، عن همام، عن قتادة بمعناه، وقال: حسن صحيح.
(1)"صحيح البخاري"(6/ 2524 رقم 6490).
(2)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح البخاري".
(3)
"صحيح مسلم"(3/ 1299 رقم 1672).
(4)
"سنن أبي داود"(2/ 590 رقم 4535).
(5)
"جامع الترمذي"(4/ 15 رقم 1394).
والنسائي (1): عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبدة، عن سعيد، عن قتادة، نحوه.
وعن (2) علي بن حجر، عن يزيد بن هارون، عن همام، عن قتادة.
وابن ماجه (3): عن علي بن محمد الطنافسي، عن وكيع، عن همام، عن قتادة نحوه.
قوله: "رضَّ" من الرضِّ، وهو الدق الجريش وقد رضضت الشيء، فهو رضيض ومرضوض.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى هذا الحديث فقلدوه، وقالوا: يُقتل كل قاتل بما قتل به.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: عمر بن عبد العزيز، وقتادة، والحسن، وابن سيرين، ومالكًا، والشافعي، وأحمد، وأبا ثور، وإسحاق، وابن المنذر، وجماعة الظاهرية؛ فإنهم قالوا: يقتل القاتل بما قتل به.
وقال ابن حزم: قال مالك: إن قتله بحجر أو بعصا أو بالنار أو بالتغريق؛ قُتل بمثل ذلك، يكرر عليه أبدًا حتى يموت.
وقال الشافعي: إن ضربه بحجر أو بعصا حتى مات، ضُرب بحجر أو بعصا أبدًا حتى يموت، فإن حبسه بلا طعام ولا شراب حتى يموت، حُبس مثل المدة حتى يموت، فإن لم يمت قتل بالسيف، وهكذا إن غرقه، وهكذا إن ألقاه من مهواة عالية.
فإن قطع يديه ورجليه فمات؛ قطعت يد القاتل ورجلاه، فإن مات وإلا قتل بالسيف.
(1)"المجتبى"(8/ 22 رقم 4740).
(2)
"المجتبى"(8/ 22 رقم 4742).
(3)
"سنن ابن ماجه"(2/ 889 رقم 2665).
قال أبو محمد: إن لم يمت ترك كما هو حتى يموت، لا يطعم ولا يسقى، وكذلك إن قتله جوعًا أو عطشًا؛ عُطِّش أو جُوِّع حتى يموت ولابُدَّ، ولا تراعى المدة أصلًا.
وقال ابن شبرمة: إن غمسه في الماء حتى مات، غمسه حتى يموت، وإن ضربه ضربًا، ضربه مثل ضربه لا أكثر من ذلك.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: كل من وجب عليه القود لم يقتل إلا بالسيف.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عامرًا الشعبي، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري، وسفيان الثوري، وأبا حنيفة، وأبا يوسف ومحمدًا رحمهم الله فإنهم قالوا: لا يقتل القاتل في جميع الصور إلا بالسيف.
قال ابن حزم: وهو قول أبي سليمان، وظاهر ما روينا عن الشعبي والحسن: إيجاب القود بالسيف والرمح والسكين والمطرقة.
ص: وقالوا: هذا الحديث الذي رويتموه يحتمل أن يكون النبي عليه السلام رأى أن ذلك القاتل يجب قتله لله إذْ كان إنما قتل على مال، قد بيّن ذلك في بعض الحديث.
حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، قال: ثنا إبراهيم بن سعد، عن شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس بن مالك، قال:"عدى يهودي في عهد رسول الله عليه السلام على جارية فأخذ أوضاحًا كانت عليها، ورضخ رأسها، فأتى بها أهلُها رسولَ الله عليه السلام وهي في آخر رمق، وقد أصمتت، فقال لها رسول الله عليه السلام: من قتلك، أفلان -لغير الذي قتلها-؟ فأشارت برأسها أن لا، فقال: فلان -لقاتلها-؟ فأشارت برأسها: أن نعم، فأمر به رسول الله عليه السلام فرضَّ رأسه بين حجرين".
فإن كان رسول الله عليه السلام جعل دم ذلك اليهودي قد وجب لله عز وجل كما يجب دم قاطع الطريق لله تعالى، فكان له أن يقتله كيف شاء بسيف أو بغير ذلك، والمثلة حينئذٍ مباحة كما فعل رسول الله عليه السلام بالعرنيين.
ش: أي قال الآخرون: هذا الحديث يحتمل وجوهًا، فلا يتم بها استدلالهم لما ذهبوا إليه:
الأول: أنه يحتمل أن يكون النبي عليه السلام رأى قتل هذا اليهودي حقًا لله تعالى؛ وذلك لأنه إنما قتل تلك الجارية أو الصبي -على اختلاف الرواية- لأجل مالها كما بين ذلك في حديث آخر لأنس رضي الله عنه حيث قال: "فأخذ أوضاحًا كانت عليها ورضخ رأسها" فصار حكمه حكم قاطع الطريق؛ لأن سفك دمه يجب لله تعالى، فكان له أن يقتله كيف شاء بسيف وغيره، وكانت المثلة أيضًا مباحةً في ذلك الوقت، كما فعل ذلك (1) بالعرنيين:"لما قتلوا راعي النبي عليه السلام، واستاقوا إبله، فبعث وراءهم، فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وتركهم حتى ماتوا" ولما نهى رسول الله عليه السلام عن المثلة بعد ذلك وانتسخ حكمها نسخ ذلك الحكم الذي حكم به في اليهودي بانتساخ المثلة، وهذا الذي ذكره الطحاوي رحمه الله.
الثاني: يحتمل أن يكون النبي عليه السلام رأى ذلك واجبًا لأولياء الجارية بقتله لهم، ولم يكن ذلك حقًّا لله تعالى.
الثالث: يحتمل أن يكون عليه السلام قتله كما فعل؛ لأن الذي وجب عليه كان يقتضي ذلك بأن كان نقض العهد ولحق بدار الحرب لقرب محال اليهود من المدينة، فأخذه بعد ذلك فقتله على أنه حربي ناقض للعهد متهم بقتل الصبي؛ لأنه لا يجوز أن يكون بإيماء الصبية وإشارتها أنه قتلها؛ لأن ذلك لا يوجب قتل المدعى عليه القتل عند الجميع، فلا محالة قد كان هناك سبب آخر استحق به القتل لم ينقله الراوي على جهته.
الرابع: أن يكون أولياؤها قد اختاروا الرضخ؛ لكون الواجب سفك دمه بأيٍّ ما شاءوا، ففعل رسول الله عليه السلام ما فعله لأجل ذلك.
فإذا كان هذا الحديث محتملًا هذه الوجوه؛ لم يكن الاستدلال به في أن يقتل
(1) حديث العرنين مشهور، وهو متفق عليه، وسيأتي تخريجه عن قريب إن شاء الله.
القاتل بما قتل به صحيحًا، والأحسن أن يقال: إنه منسوخ بنسخ المثلة؛ وذلك لأن النهي عن المثلة مستعمل عند الجميع، والقود على الوجه مختلف فيه، ومتى ورد عنه عليه السلام خبران واتفق الناس على استعمال أحدهما واختلفوا في استعمال الآخر؛ كان المتفق منهما قاضيًا على المختلف فيه، خاصًّا كان أو عامًّا.
ثم إنه أخرج الحديث المذكور بإسناد صحيح.
وأخرجه البخاري (1): ثنا محمد بن بشار، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس رضي الله عنه:"أن يهوديًّا قتل جاريةً على أوضاح لها، فقتلها بحجر، فجيء بها إلى النبي عليه السلام وبها رمق، فقال: أقتلك فلان؟ فأشارت برأسها أن لا، ثم قال الثانية، فأشارت برأسها أن لا، ثم سألها الثالثة، فأشارت برأسها أن نعم، فقتله النبي عليه السلام بحجرين".
وأخرجه مسلم (2): عن محمد بن مثنى ومحمد بن بشار، كلاهما عن محمد بن جعفر، عن شعبة. . . . إلى آخره.
وأخرجه أبو داود (3): عن عثمان بن أبي شيبة، عن ابن إدريس، عن شعبة، عن هشام، به نحوه.
وأخرجه النسائي (4): عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد، عن شعبة نحوه.
وأخرجه ابن ماجه (5): عن بندار، عن غُندر، وعن إسحاق بن منصور المروزي، عن النضر بن شميل، جميعًا، عن شعبة، عن هشام نحوه.
قوله: "فأخذ أوضاحًا" الأوضاح: جمع وضح، وهو نوع من الحلي يُعمل من الفضة، سميت بها لبياضها.
(1)"صحيح البخاري"(6/ 2522 رقم 6845).
(2)
"صحيح مسلم"(3/ 1299 رقم 1672).
(3)
"سنن أبي داود"(2/ 588 رقم 4529).
(4)
"المجتبى"(8/ 35 رقم 4779).
(5)
"سنن ابن ماجه"(2/ 889 رقم 666).
قوله: "ورضخ رأسها" بالضاد والخاء المعجمتين، من الرضخ وهو الدق والكسر هَاهنا، ويجيء بمعنى الشدخ أيضًا، وبمعنى العَطِيَّة.
قوله: "في آخر رمق" الرمق: بقية الروح التي تتردد في الحلق.
قوله: "وقد أَصْمَتت" جملة حالية على صيغة المعلوم، يقال: صمت العليل وأصمت، فهو صامت، ومصمت إذا اعتقل لسانه.
قوله: "أفلان" الهمزة فيه للاستفهام.
قوله: "أن لا" أي ليس بفلان، و"أنْ" تفسيرية في الموضعين.
قوله: "فرضَّ رأسه" من الرضّ وهو الدق الجريش، وقد مرَّ مرةً.
فإن قيل: كيف قتل رسول الله عليه السلام ذلك اليهودي بلا بينة ولا اعتراف؟
قلت: قد قيل: بأن هذا كان في ابتداء الإِسلام، وكان يقتل القاتل بقول القتيل. وقوله:"كان يقتل فيه"، وقال هذا المجيب: هذا معنى الحديث، وما جاء من اعتراف اليهودي فإنما جاء من رواية قتادة، ولم ينقله غيره، وهو مما عُدَّ عليه.
قلت: وفيه نظر؛ فإن لفظة الاعتراف أخرجها البخاري في "صحيحه" وأبو داود والترمذي، وفي "صحيح مسلم":"فأخذ اليهودي فاعترف" وفي لفظ للبخاري "فلم يزل به حتى أقر".
فإذا كان كذلك لا يرد السؤال المذكور؛ لأن القتل حينئذٍ يكون بالاعتراف.
وقال الخطابي: أقل ما يؤخذ من هذا الحديث لفظة: "فاعترف فقتل" وفيها الشفاء والبيان أن النبي عليه السلام لم يقتل اليهودي بإيماء المدعي، أو بقوله، وقد شغب بعض الناس في هذا حين وجد أكثر الروايات خاليًا عن هذه اللفظة، فقال: كيف يجوز أن يقتل أحد بقول المدعي أو بكلامه فضلًا عن إيمائه برأسه؟! وأنكروا هذا الحديث، وهذه اللفظة لو لم تكن مروية في هذه القصة لم يكن ضرر؛ لأن من العلم الشائع المستفيض على لسان الأمة خاصتهم وعامتهم: أنه
لا يُستحق دم ولا مال إلا ببينة، وقد روي كثير من الحديث على الاختصار؛ اعتمادًا على أفهام المخاطبين.
قلت: يمكن أن يكون عليه السلام قتل بلا بيّنة ولا اعتراف لسبب موجب لقتله غير إيماء الصبية، قد ظهر عنده ذلك وثبت، كما ذكرناه عن قريب، أو نقول: كان عليه السلام قد علمه بالوحي فلذلك قتله.
فإن قيل: اختلفت ألفاظ هذا الحديث، ففيما مضى في رواية:"رضَّ رأسه بين حجرين" وفي أخرى لـ"مسلم ": "فرضخ رأسه بين حجرين"، وفي رواية أخرى لأبي داود عن أنس:"أن يهوديًا قتل جاريةً من الأنصار على حلي لها، ثم ألقاها في قليب ورضخ رأسها بالحجارة، فَأُخِذَ، فأتي به النبي عليه السلام، فأَمر به أن يرجم حتى يموت، فرجم حتى مات".
قلت: لا اختلاف في ذلك في المعنى؛ لأن الرجم والرضخ والرضّ كله عبارة عن الضرب بالحجارة، لكن بيَّن قتادة الموضع الذي ضرب عليه، ولم يبينه أبو قِلَابة فيؤخذ بالبيان. والله أعلم.
ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني جرير بن حازم، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، قال:"قدم ثمانية رهط من عكل فاستوخموا المدينة، فبعثهم النبي عليه السلام إلى ذَوْدٍ له، فشربوا من ألبانها، فلما صحوا ارتدوا عن الإسلام، وقتلوا راعي الإبل، وساقوا الإبل، فبعث في آثارهم، فأُخِذوا، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمَل أعينهم، وتركهم حتى ماتوا".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عبد الله بن بكر، قال: ثنا حميد الطويل، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
حدثنا أبو أميّة، قال: ثنا قبيصة، عن سفيان، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس رضي الله عنه:" {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} قال: هم من عكل، قطع النبي عليه السلام أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم".
حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا حميد، عن أنس (ح).
وحدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: أنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس:"أن النبي عليه السلام قطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، وتركهم حتى ماتوا".
حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير، قال: ثنا سماك بن حرب، عن معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك، قال:"أتى رسول الله عليه السلام نفر من حي من أحياء العرب، فأسلموا وبايعوه، قال: فوقع الموم -وهو البرسام- فقالوا: يا رسول الله هذا الوجع قد وقع، فلو أذنت لنا فخرجنا إلى الإبل فكنا فيها؟ قال: نعم، اخرجوا فكونوا فيها، فخرجوا، فقتلوا أحد الراعيين، وذهبوا بالإبل، قال: وجاء الآخر وقد خرج فقال: قد قتلوا صاحبي وذهبوا بالإبل. وعنده شبان من الأنصار قربت من عشرين، قال: فأرسل إليهم الشبان، وبعث معهم قائفًا يقص آثارهم، فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم". ففعل رسول الله عليه السلام بالعرنيين ما فعل بهم من هذا، فلما حل له من سفك دمائهم، فكان له أن يقتلهم كيف أحب وإن كان ذلك تمثيلًا بهم؛ لأن المثلة حينئذٍ كانت مباحة، ثم نسخت بعد ذلك، ونهى عنها رسول الله عليه السلام، فلم يكن لأحد أن يفعلها، فيحتمل أن يكون فعل باليهودي ما فعل من أجل ذلك، ثم نُسخ ذلك بَعْدُ بنسخ المثلة، ويحتمل أن يكون النبي عليه السلام لم يَر ما وجب على اليهودي من ذلك لله، ولكنه رآه واجبًا لأولياء الجارية، فقتله لهم، واحتمل أن يكون قتله كما فعل؛ لأن ذلك هو الذي وجب عليه، واحتمل أن يكون الذي كان وجب عليه، هو سفك الدم بأي شيء ما شاء الولي سفكه به، فاختاروا الرضخ، ففعل ذلك لهم رسول الله عليه السلام.
هذه الوجوه يحتملها هذا الحديث، ولا دلالة معنا تدلنا أن النبي عليه السلام أراد بعضها دون بعض.
ش: هذا بيان لقوله كما فعل رسول الله عليه السلام بالعرنيين.
وأخرجه من ستة طرق صحاح:
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب، عن جرير بن حازم، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي أحد الأئمة الأعلام، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
وأخرجه البخاري (1): نا موسى بن إسماعيل، عن وهيب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، قال:"قدم رهط من عكل على النبي عليه السلام، كانوا في الصفة، فاجتووا المدينة، فقالوا: يا رسول الله ابغنا رسلا فقال: ما أجدكم إلا أن تلحقوا بإبل رسول الله عليه السلام، فَأَتَوْهَا فشربوا من ألبانها وأبوالها، حتى صحوا وسمنوا، وقتلوا الراعي واستاقوا الذود، فأتى النبي عليه السلام الصريخُ، فبعث الطلب في آثارهم، فما ترجل النهار حتى أتي بهم، فأمر بمسامير فأحميت، فكحلهم، وقطع أيديهم وأرجلهم وما حسمهم، ثم ألقوا في الحرة يستسقون، فما سقوا حتى ماتوا، قال أبو قلابة: سرقوا وقتلوا وحاربوا الله ورسوله".
وأخرجه مسلم (2) وأبو داود (3) والنسائي (4) أيضًا.
الثاني: عن أبي بكرة بكّار القاضي، عن عبد الله بن بكر السهمي البصري، عن حميد الطويل، عن أنس رضي الله عنه.
وأخرجه أبو داود (5): عن موسى، عن حماد، عن حميد، عن أنس، نحو رواية البخاري.
(1)"صحيح البخاري"(6/ 2495 رقم 6419).
(2)
"صحيح مسلم"(3/ 1296 رقم 1671).
(3)
"سنن أبي داود"(2/ 534 رقم 4364).
(4)
"المجتبى"(7/ 95 رقم 4027).
(5)
"سنن أبي داود"(1/ 144 رقم 333).
والنسائي أيضًا (1) من حديث حميد، عن أنس رضي الله عنه.
الثالث: عن أبي أميّة محمَّد بن إبراهيم الطرسوسي، عن قبيصة بن عقبة السوائي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد، عن أنس.
وأخرجه النسائي (2): عن أحمد بن سليمان، عن محمَّد بن بشر، عن سفيان، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، قال:"أتى النبي عليه السلام نفر من عكل -أو عرينة- فأمر لهم واجتووا المدينة بذود ولقاح يشربون ألبانها وأبوالها، فقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، فبعث في طلبهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم".
الرابع: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم بن بشير، عن حميد الطويل، عن أنس.
وأخرجه النسائي (3): من حديث حميد، عن أنس.
الخامس: عن صالح أيضًا، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس.
وأخرجه مسلم (4): عن يحيى بن يحيى التميمي وأبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن هشيم -واللفظ ليحيى، قال: أنا هشيم- عن عبد العزيز بن صهيب وحميد، عن أنس بن مالك: "أن أناسًا من عرينة قدموا على رسول الله عليه السلام المدينة فاجتووها، فقال لهم رسول الله عليه السلام: إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها، ففعلوا فصحوا، ثم مالوا على الرعاء فقتلوهم، وارتدوا عن الإِسلام، وساقوا ذود النبي عليه السلام، فبلغ ذلك النبي عليه السلام
(1)"المجتبى"(7/ 95 رقم 4028).
(2)
"المجتبى"(7/ 95 رقم 4027).
(3)
"المجتبى"(7/ 95 رقم 4028).
(4)
"صحيح مسلم"(3/ 1296 رقم 1671).
فبعث في أثرهم، فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وتركهم في الحرة حتى ماتوا".
السادس: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن سماك بن حرب، عن معاوية بن قرة، عن أنس.
وأخرجه مسلم (1): عن هارون بن عبد الله، عن مالك بن إسماعيل، عن زهير، عن سماك بن حرب، عن معاوية بن قرة، عن أنس قال:"أتى رسول الله عليه السلام نفر من عرينة، وأسلموا وبايعوه، وقد وقع بالمدينة الصوم وهو البرسام. . . ." الحديث.
وأخرجه الطحاوي مرةً في باب الرجل يكون به الداء هل يجتنب أم لا؟ وأخرجه أيضًا من طرق أخرى في الباب المذكور: عن يونس، عن بشر بن بكر، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أنس.
قوله: "ثمانية رهط من عُكل" الرهط ما دون العشرة من الرجال لا يكون فيهم امرأة، قال الله تعالى:{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} (2).
و"عُكْل": بضم العين المهملة، وسكون الكاف، وفي آخره لام وهي قبيلة، قال ابن الأثير: عُكْل امرأة حضنت ولد عوف بن إياس بن قيس بن عوف بن عبد مناف بن أدّ بن طابخة، وحكى ابن الكلبي قال: ولد عوف بن وائل: الحارث وحسمًا وسعدًا وعديًّا وقيسًا، وأمهم ابنة ذي اللحية من حمير، وحضنتهم عُكْل أَمَةٌ لهم فغلبت عليهم، قال ابن دريد: اشتقاق عُكْل من قولهم: عَكَلْتُ الشيء أَعْكِلُه عَكْلًا: إذا جمعته، قال الشاعر:
وَهُمْ على [هَدَب](3) الأَمِيل تداركوا
…
نَعَمًا تُشَلُّ إلى الرئيس وتُعْكَلُ
(1) المرجع السابق.
(2)
سورة النمل، آية:[48].
(3)
كذا في "الأصل، ك"، وكذا وقع في "لسان العرب" (مادة: أمل)، و"تاج العروس"(1/ 6851)، ووقع في "لسان العرب" أيضًا (مادة: عكل)، و"تاج العروس"(1/ 7350)، وكتاب "العين": صدف، بالصاد، والدال المهملتين وآخره فاء. والبيت للفرزدق.
أي: يجمع.
وقال أبو جعفر أحمد بن محمَّد: يكون من عَكَلَ يَعْكُل عَكْلًا إذا قال برأيه، مثل حَدَسَ، ورجل عكل أي أحمق، منهم خزيمة بن عاصم بن قطن بن عبد الله بن عبادة بن سعد بن عوف، وسعد هو ممن حضنته عكل.
وخزيمة هذا هو الذي أتى النبي عليه السلام بإسلام عُكْل فمسح وجهه وكتب له كتابًا يوصي به من ولي الأمر بعد النبي عليه السلام، وجعله شاعر قومه. ذكر ذلك ابن الكلبي.
قوله: "فاستوخموا المدينة" أي استثقلوها ولم يوافق هواؤها أبدانهم، يقال: بلدة وخيمة إذا لم توافق ساكنها، ومنه استوخمت الطعام.
قوله: "إلى ذَوْد" بفتح الذال المعجمة وسكون الواو وفي آخره دال مهملة، وهي من الإبل ما بين الثلاث إلى العشرة، وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها، والكثير أذواد.
وقال أبو عبيد: الذَّوْد من الإناث دون الذكور، وقيل: الذَّوْد ما بين الثنتين إلى التسع.
قوله: "وقتلوا راعي الإبل" الراعي هذا اسمه يسار وهو مولى رسول الله عليه السلام، وقيل: كان رسول الله عليه السلام أصابه في غزوة محارب وبني ثعلبة، فجعله رسول الله عليه السلام في لقاح له يرعى ناحية الحمى.
قوله: "سمل أعينهم" أي فقأها بحديدة محماة أو غيرها، وقيل: هو نقرها بالشوك، وهو بمعنى السمر الذي جاء في رواية أخرى:"فسمر أعينهم". أي أحمى لهم مسامير الحديد، ثم كحلهم بها.
قوله: "فوقع الموم" بميمين أولاهما مضمومة بينهما واو ساكنة، وقد فسره في الحديث بالبرسام، وهي علة معروفة.
قوله: "وبعث معهم قائفًا" وهو الذي يتتبع الآثار ويعرفها، من قَافَ يَقُوفُ قِيَافةً.
ويستفاد منه أحكام:
الأول: أن قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) الآية، نزلت في هؤلاء الذين ساقوا ذَوْد النبي عليه السلام وقتلوا راعيه، على ما نص عليه أنس بن مالك رضي الله عنه في روايته، وذكر بعضهم عن أنس أنه قال:"إن خبر العرنيين كان سبب نزول الآية".
وروى الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس:"أنها نزلت في أصحاب أبي بردة الأسلمي، وكان موادعًا للنبي عليه السلام، فقطعوا الطريق على قوم جاءوا يريدون الإِسلام، فنزل ذلك فيهم".
وروى عكرمة عن ابن عباس: "أنها نزلت في المشركين" فلم يذكر مثل قصة العرنيين.
وروي عن ابن عمر: "أنها نزلت في العرنيين" ولم يذكر ردةً.
وقال الحسن البصري: "نزلت في الكفار دون المسلمين؛ وذلك أن المسلم لا يحارب الله ورسوله".
قال الخطابي: وقال أكثر العلماء: إنها نزلت في أهل الإِسلام، والدليل على ذلك {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (2) والإِسلام عن الكفر يحقن الدم قبل القدرة وبعدها، فَعُلِمَ أن المراد بها المسلمون.
فأما قوله سبحانه وتعالى: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) فمعناه: يحاربون المسلمين الذين هم حزب الله وحزب رسوله، وأضيف ذلك إلى الله وإلى رسوله كما في قوله عليه السلام:"من آذى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة".
(1) سورة المائدة، آية:[33].
(2)
سورة المائدة، آية:[34].
وقال ابن العربي في "الأحكام": في سبب نزولها خمسة أقوال:
الأول: أنها نزلت في أهل الكتاب؛ نقضوا العهد، وأخافوا السبيل، وأفسدوا في الأرض، فخيَّر الله نبيه عليه السلام فيهم.
الثاني: أنها نزلت في المشركين. قاله الحسن.
الثالث: نزلت في عُكْل وعُرينة.
الرابع: أن هذه الآية نزلت معاتبةً للنبي عليه السلام في العرنيين. قاله الليث.
الخامس: قال الليث: هي ناسخة لما فعل بالعرنيين.
واختار الطبري أنها نزلت في يهود، ودخل تحتها كل ذمِّي وملِّي وهذا ما لم يصح، وأنه لم يبلغنا أن أحدًا من اليهود حارب ولا أنه جوزي بهذا الجزاء.
ومَن قال أنها نزلت في المشركين أقرب إلى الصواب؛ لأن عكلًا وعرينة ارتدوا وقتلوا وأفسدوا، ولكن يبعد؛ لأن الكفار لا يختلف حكمهم ولا يلزم صلبهم، ولا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقط قبلها، وقد قيل في الكفار:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (1)، وقال في المحاربين:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (2) وكذلك المرتد يقتل بالردة والمحاربة، وفي الآية النفي لمن لم يتب قبل القدرة، والمرتد لا ينفى، وفيها قطع اليد والرجل، والمرتد لا تقطع له يد ولا رجل.
فثبت أنها لا يراد بها المشركون ولا المرتدون.
وقال أبو بكر الرازي في "الأحكام": لا يخلو نزول الآية من أن تكون في العرنيين أو الموادعين، فإن كان في العرنيين وأنهم ارتدوا فإن نزولها في شأنهم لا يوجب الاقتصار بها عليهم؛ لأنهم لا حكم للسبب عندنا، وإنما الحكم عندنا لعموم اللفظ إلا أن يقوم الدليل على الاقتصار على السبب؛ ولأن الآية عامة
(1) سورة الأنفال، آية:[38].
(2)
سورة المائدة، آية:[34].
في سائر من يتناوله الاسم غير مقصورة الحكم على المرتدين، وقد روى همام، عن قتادة، عن ابن سيرين قال:"كان أمر العرنيين قبل أن تنزل الحدود" فأخبر أنه كان قبل نزول الآية. ومما يدل على أن الآية لم تنزل في العرنيين وأنها نزلت بعدهم أن فيها ذكر القتل والصلب، وليس فيها ذكر سمل الأعين، ولا يجوز أن تكون الآية نزلت قبل إجراء الحكم عليهم، ولا أن يكونوا مرادين بها؛ لأنه لو كان كذلك لأجرى النبي عليه السلام حكمها عليهم، فلما لم يصلبهم النبي عليه السلام وسملهم؛ دل على أن حكم الآية لم يكن ثابتًا حينئذٍ، فثبت بذلك أن حكم الآية غير مقصور على المرتدين، وأنه عام في سائر المحاربين.
وقال أيضًا: لا خلاف بين السلف والخلف من فقهاء الأمصار أن هذا الحكم غير مقصور على أهل الردة، وأنه فيمن قطع الطريق وإن كان من أهل الملة.
وحكى عن بعض المتأخرين ممن لا يعتد به أن ذلك مخصوص بالمرتدين، وهو قول ساقط مرذول مخالف للآية وإجماع الخلف والسلف.
ويدل على أن المراد به قطاع الطريق من أهل الملة قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} (1) الآية.
الثاني: فيه حكم المحاربين، فإذا حارب الرجل الرجل فَقَتَل وأخذ المال، قطعت يده ورجله من خلاف، وقُتلَ وصلب، فإن قَتَلَ ولم يأخذ المال قُتل، وإن أخذ المال ولم يَقْتُل قُطِعت يده ورجله من خلاف، وإذا لم يَقْتُل ولم يأخذ المال نُفي.
وروي عن أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم "في الرجل يقطع الطريق ويأخذ المال ويقتل: فإن الإِمام فيه بالخيار إن شاء قطع يده ورجله من خلاف، وقتله وصلبه، وإن شاء صلبه ولم يقطع يده ولا رجله، وإن شاء قتله ولم يقطع يده ولا رجله ولم يصلبه. وإن أخذ مالًا ولم يقتل عُزر ونُفي من الأرض".
(1) سورة المائدة، آية:[34].
وفي رواية أخرى: "أوجع عقوبة، وحبس حتى يحدث خيرًا".
وهو قول الحسن وسعيد بن جبير وحماد وقتادة وعطاء الخراساني، فهذا قول السلف الذين جعلوا حكم الآية على الترتيب.
وقال آخرون: الإِمام مخير فيهم إذا خرجوا -يجري عليهم أي هذه الأحكام إن شاء- ولم يأخذوا مالًا.
وممن قال بذلك سعيد بن المسيب ومجاهد والحسن وعطاء بن أبي رباح.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر رحمهم الله: إذا قتل المحاربون ولم يعدوا ذلك قتلوا.
وإن أخذوا المال ولم يعدوا ذلك؛ قُطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، ولا خلاف بين أصحابنا في ذلك.
وإن قتلوا وأخذوا المال، فإن أبا حنيفة قال: للإمام أربع خيارات: إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم وقتلهم، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم، وإن شاء صلبهم، وإن شاء قتلهم وترك القطع.
وقال أبو يوسف ومحمد: إذا قَتلوا وأَخذوا المال فإنهم يُصلبون ويُقتلون ولا يُقطعون.
وقال الشافعي: إذا قَتلوا وأخَذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا لم يقتلوا وأخذوا المال قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل نفوا، وإذا هربوا طُلبوا حتى يُوجدوا فتُقام عليهم الحدود، ومن تاب من قبل أن يقدروا عليه سقط عنه الحد، ولا تسقط حقوق الآدميين، ويحتمل أن يسقط كل حق لله بالتوبة، ويقطع من سرق ربع دينار فصاعدًا.
وقال مالك: إذا أُخذ المحارب المخيف للسبيل فإن الإِمام يخير في إقامة الحدود التي أمر الله بها قَتَل المحارب أو لم يقتل، أخذ المال أو لم يأخذ، الإِمام يخير في
ذلك، إن شاء قتل، وإن شاء قطعه خلافًا، وإن شاء نفاه، ونفيه حبسه حتى تظهر توبته، فإن لم يقدر على المحارب حتى أتاه تائبًا وضع عنه المحاربة القتل والقطع والنفي، وأخذ بحقوق الناس.
وقال الليث بن سعد: الذي يَقتل ويَأخذ المال، يُصلب ويُطعن بالحربة حتى يموت، والذي يَقتل، فإنه يُقتل بالسيف.
وقال أبو الزناد: المحاربون ما يصنع الوالي فيهم فهو صواب، مِنْ قَطْعٍ أو قتل أو صَلْبٍ أو نَفْي.
واختلفوا في الموضع الذي يكون به محاربًا.
فقال أبو حنيفة: من قطع الطريق في العصر ليلًا أو نهارًا، أو بين الحيرة والكوفة ليلًا أو نهارًا؛ لا يكون قاطعًا للطريق، ولا يكون قاطعًا للطريق إلا في الصحاري.
وحكى أصحاب الإِمام عن أبي يوسف أن الأمصار وغيرها سواء، وهم محاربون، يُقام حدهم.
وروي عن أبي يوسف في اللصوص الذين (يَكْبسون)(1) الناس ليلًا في دورهم في العصر: أنهم بمنزلة قطع الطريق، تجري عليهم أحكامهم.
وحكي عن مالك أنه قال: لا يكون محاربًا حتى يقطع على ثلاثة أميال من القرية. وذُكر عنه أيضًا قال: المحاربة: أن يقاتل على طلب المال من غير ثائرة. ولم يفرق هَاهنا بين المصر وغيره.
وقال الشافعي: قطاع الطريق الذين يعرضون بالسلاح للقوم حتى يغصبوهم المال، والصحاري والمصر واحد.
وقال الثوري: لا يكون محاربًا بالكوفة حتى يكون خارجًا منها.
(1) التكبس: الاقتحام على الشيء، وقد تَكَبَّسوا عليه، ويقال: كبسوا عليه. انظر "لسان العرب"(مادة: كبس).
الثالث: أن إبل الصدقة يجوز لأبناء السبيل شرب لبنها؛ وذلك أن هذه اللقاح كانت من إبل الصدقة روي ذلك في حديث حماد، عن حميد وقتادة وثابت، عن أنس، فذكر القصة قال:"فبعثهم رسول الله عليه السلام في إبل الصدقة".
قوله: "فلما حل له" أي للنبي صلى الله عليه وسلم من سفك دمائهم، أي دماء العرنيين.
حاصله أنه عليه السلام لما أبيح له سفك دماء هؤلاء؛ مجازاة لما فعلوا، أبيح له أن يقتلهم كيف أحب، وإن كانت فيه مثلة؛ لأن المثلة حينئذٍ ما كانت حرامًا، ثم نسخت بعد ذلك، ونهى عنها عليه السلام فلم يجز بعد ذلك فعلها.
ثم إن فعله عليه السلام باليهودي المذكور في حديث أنس يحتمل أن يكون من هذا القبيل، ثم نسخ بنسخ المثلة، وذكر فيه أربع احتمالات:
الأول: هذا.
والثاني: يحتمل أن يكون ما وجب على اليهودي حقًّا لأولياء الجارية التي قتلها اليهودي، فقتله لأجلهم لا لله تعالى حقًّا له.
والثالث: يحتمل أن يكون فعل؛ به ما فعل، لكونه هو الواجب عليه.
والرابع: يحتمل أن يكون الواجب عليه سفك دمه بأي شيء اختاره الولي، فلما اختار أولياؤه الرضخ أمر بأن يرضخ به.
فإذا كان الحديث المذكور محتملًا هذه الاحتمالات، ولم يقم دليل قاطع أن النبي عليه السلام أراد بعضها دون بعض، لم يقم به الاستدل الذي تعيين وجه من الوجوه. والله أعلم.
ص: وقد روي عن رسول الله عليه السلام أنه قتل ذلك اليهودي بخلاف ما كان قتل به الجارية.
حدثنا إبراهيم بن أبي داود وأحمد بن داود، قالا: ثنا أبو يعلى محمَّد بن الصلت، قال: ثنا أبو صفوان عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان -قال ابن أبي داود: وكان ثقة ووفع به- عن ابن جريج، عن معمر، عن أيوب، عن
أبي قلابة، عن أنس رضي الله عنه:"أن رجلًا من اليهود رضخ رأس جارية على حلي لها؛ فأمر به النبي عليه السلام أن يُرجم حتى قتل".
ففي هذا الحديث أن رسول الله عليه السلام كان قتل اليهودي رجمًا، بقتله الجارية على ما ذكرنا في هذا الأثر وفيما تقدمه من الآثار، وهو رضخه رأسها، والرجم قد يصيب الرأس وغير الرأس، فقد قتله بغير ما كان قتل به الجارية، فدل ذلك أن ما كان فعل، هذا كان حلالًا يومئذٍ، ثم نسخ بنسخ المثلة.
ش: ذكر هذا شاهدًا لما ذكره من أن ما فعل النبي عليه السلام بذلك اليهودي ما فعل، كان كفعله بالعرنيين حين كانت المثلة مباحة، ثم نسخ ذلك بانتساخ المثلة.
وأخرجه بإسناد صحيح، عن إبراهيم البرلسي وأحمد بن داود المكي، كلاهما عن محمَّد بن الصلت البصري شيخ البخاري، عن أبي صفوان عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أميّة القرشي الأموي الدمشقي، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن معمر بن راشد، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، عن أنس.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا أحمد بن صالح، قال: ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس:"أن يهوديًّا قتل جاريةً من الأنصار على حلي لها، ثم ألقاها في قليب ورضخ رأسها بالحجارة، فَأُخذ فأتي به النبي عليه السلام، فأمر به أن يرجم حتى يموت، فرجم حتى مات".
ص: فمما روي عن رسول الله عليه السلام في نسخ المثلة: ما قد حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا نافع بن يزيد، قال: أخبرني ابن جريج، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"نهى رسول الله عليه السلام عن المجثمة -والمجثمة: الشاة ترمى بالنبل حتى تُقتل".
ش: إسناده صحيح.
(1)"سنن أبي داود"(4/ 180 رقم 4528).
وابن أبي مريم هو سعيد بن الحكم المصري شيخ البخاري.
وأخرجه أبو داود (1) بأتم منه: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا حماد، قال: أنا قتادة، عن عكرمة عن ابن عباس قال:"نهى رسول الله عليه السلام عن الشرب من فيّ السقاء، وعن ركوب الجلالة، والمجثمة".
قال أبو داود: الجلالة: التي تأكل العذرة.
وأخرجه الترمذي (2): عن ابن بشار، عن معاذ بن هشام، عن أبيه.
وعن ابن بشار، عن ابن أبي عدي، عن سعيد، جميعًا عن قتادة، عن عكرمة، نحوه.
وقال: حسن صحيح.
وأخرجه النسائي (3): عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد بن الحارث، عن هشام، عن قتادة، عن عكرمة نحوه.
قوله: "المُجَثَّمة" بضم الميم، وفتح الجيم، والثاء المثلثة المشددة المفتوحة: وهي كل حيوان ينصب ويرمى ليقتل، إلا أنها تكثر في الطير والأرانب وأشباه ذلك مما يَجْثِمُ بالأرض، أي يلزمها ويلتصق بها، وجَثَمَ الطائر جُثَومًا، وهو بمنزلة البروك للإبل.
ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر (ح).
وحدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء الغداني قالا: ثنا شعبة، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن رسول الله عليه السلام قال:"لا تتخذوا شيئًا فيه الروح غرضًا".
(1)"سنن أبي داود"(3/ 336 رقم 3719).
(2)
"جامع الترمذي"(4/ 270 رقم 1825).
(3)
"المجتبى"(7/ 240 رقم 4448).
حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا شعبة. . . . فذكر بإسناده مثله.
حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان الثوري، عن عاصم الأحول وسماك، عن عكرمة -قال أحدهما عن ابن عباس- عن النبي عليه السلام مثله.
حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا شعبة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله عليه السلام نحوه.
ش: هذه خمس طرق صحاح:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وأخرجه مسلم (1): ثنا عبد الله بن معاذ، قال: حدثني أبي، قال: ثنا شعبة، عن عدي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن النبي عليه السلام قال:"لا تتخذوا شيئًا فيه الروح غرضًا".
الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن عبد الله بن رجاء الغداني -بضم الغين المعجمة- عن شعبة. . . . إلى آخره.
وأخرجه النسائي (2): عن سويد، عن ابن المبارك، عن شعبة. . . . إلى آخره نحوه.
الثالث: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يزيد بن هارون، عن شعبة. . . . إلى آخره.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(3): عن وكيع وابن جعفر، كلاهما عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا تتخذوا شيئًا فيه الروح غرضًا".
(1)"صحيح مسلم"(3/ 1549 رقم 1957).
(2)
"المجتبى"(3/ 72 رقم 4532).
(3)
"مسند أحمد"(1/ 345 رقم 3215).
الرابع: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني المروزي، عن سفيان الثوري، عن عاصم الأحول وسماك بن حرب، كلاهما عن عكرمة، عن ابن عباس.
وأخرجه عبد الرزاق (1): عن الثوري، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا شيئًا فيه الروح غرضًا".
الخامس: عن محمد بن خزيمة، عن عبد الله بن رجاء الغداني شيخ البخاري. . . . إلى آخره.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا الفضل [ثنا سفيان](3) نا سماك، عن عكرمة، قال:"مرَّ ابن عباس على أناس قد وضعوا حمامةً يرمونها، فقال: نهى رسول الله عليه السلام أن تتخذ الروح غرضًا".
قلت: "الغرض" بفتح الغين المعجمة والراء المهملة وفي آخره ضاد معجمة، وهو الهدف.
ص: حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، عن الأعمش، قال: حدثني المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، أو مجاهد، قال:"مَرَّ ابن عمر رضي الله عنهما بدجاجة قد نصبت ترمى، فقال ابن عمر: "سمعت رسول الله عليه السلام ينهى أن يُمَثَّل بالبهائم".
ش: إسناده صحيح.
وعمر بن حفص النخعي الكوفي، شيخ الشيخين.
وأبوه حفص بن غياث بن طلق النخعي، قاضي الكوفة، وأحد أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة.
(1)"مصنف عبد الرزاق"(4/ 454 رقم 8427).
(2)
"مسند أحمد"(1/ 273 رقم 2474).
(3)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند أحمد".
والأعمش: هو سليمان.
وأخرجه النسائي (1): عن عمرو بن علي، عن يحيى، عن شعبة، عن المنهال ابن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "لعن الله مَن مثل بالحيوان".
قوله: "أن يمثل بالبهائم" أي أن تنصب فترمى، أو تقطع أطرافها وهي حيّة.
ص: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا عمي -وهو ابن وهب- قال: حدثني عمرو بن الحارث وابن لهيعة، أن بُكير بن عبد الله حدثهما، عن أبيه، عن ابن تعلى أنه قال:"غزونا مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد رضي الله عنهما فأتي بأربعة أعلاج من العدو، فأمر بهم عبد الرحمن فقتلوا صبرًا بالنبل، فبلغ ذلك أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه فقال: سمعت رسول الله عليه السلام ينهي عن قتل الصبر، والذي نفسي بيده لو كانت دجاجة ما صبرتها، فبلغ ذلك عبد الرحمن؛ فأعتق أربع رقاب".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا أبو إسحاق، عن بُكير. . . . فذكر بإسناده مثله.
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، عن عبد الحميد بن جعفر، قال: أخبرني يزيد بن أبي حبيب، عن بكير بن عبد الله بن الأشجع، عن أبيه، عن عُبيد بن تعلى، عن أبي أيوب الأنصاري:"أن النبي عليه السلام نهى عن صبر الدابة، قال أبو أيوب: ولو كانت دجاجة ما صبرتها".
ش: هذه ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن أحمد بن عبد الرحمن، عن عمه عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، وعبد الله بن لهيعة، كلاهما عن بُكير بن عبد الله بن الأشج، عن أبيه
(1)"المجتبى"(7/ 238 رقم 4442).
عبد الله، عن عُبيد بن تعلى -بالتاء المثناة من فوق- الطائي الفلسطيني، وثقه النسائي وابن حبان. وابن لهيعة لا يضر صحة الإسناد؛ لأنه ذكر متابعةً.
وأبو أيوب الأنصاري: اسمه خالد بن زيد.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن بُكير بن عبد الله بن الأشج، عن ابن تعلى، قال:"غزونا مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فأتي بأربعة أعلاج من العدو، فأمر بهم فقتلوا صبرًا -قال أبو داود: قال لنا غير سعيد، عن ابن وهب في هذا الحديث، قال: بالنبل صبرًا- فبلغ ذلك أبا أيوب الأنصاري، فقال: سمعت رسول الله عليه السلام ينهى عن قتل الصبر، فوالذي نفسي بيده لو كانت دجاجة ما صبرتها فبلغ ذلك عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فأعتق أربع رقاب".
الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الوهبي الكندي، عن محمَّد بن إسحاق، عن بُكير بن عبد الله بن الأشج، عن أبيه، عن عُبيد بن تعلى.
وأخرجه الطبراني (2) مختصرًا: ثنا داود بن محمَّد بن صالح المروزي، ثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي، حدثني أبي، ثنا محمد بن إسحاق، عن بُكير بن عبد الله بن الأشج، عن أبيه، عن عُبيد بن تعلى، عن أبي أيوب، قال:"سمعت رسول الله عليه السلام ينهى عن صبر البهيمة".
الثالث: عن أبي بكرة بكّار، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله المدني، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن بُكير. . . . إلى آخره.
(1)"سنن أبي داود"(2/ 67 رقم 2687).
(2)
"المعجم الطبراني الكبير"(4/ 159 رقم 4003).
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا أبو عاصم، ثنا عبد الحميد بن جعفر، ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن بكير، عن أبيه، عن عُبيد بن تعلى، عن أبي أيوب قال:"نهى رسول الله عليه السلام عن صبر الدابة. قال أبو أيوب: لو كانت لي دجاجة ما صبرتها".
قوله: "أعلاج" جمع عِلْج وهو الرجل الكافر من العجم، ويجمع على عُلوج أيضًا.
قوله: "صبرًا بالنبل" الصبر هو أن يُمسك من ذوات الروح شيء حيًّا، ثم يُرمى بشيء حتى يموت.
و"النبل": السهام العربية، ولا واحد لها من لفظها، وهي مؤنثة، ولا يقال: نبلة. وقد جمعوها على نبال، قال الهروي: إذا أرادوا الواحد قالوا: نشابة وسهم.
قوله: "لو كانت دجاجة" فيها ثلاث لغات: فتح الدال وضمها وكسرها، ويقال: فتح الدال يتناول الديوك، فإذا قيل: دَجاج يتناول الديوك وغيرها، وإذا قالوا: دِجاج -بكسر الدال- لا يتناول إلا الإناث خاصةً، وقال الأصمعي: اللغة الفصيحة عند العرب: الدَّجاجة والدَّجاج بالفتح، وقد كسرها يونس.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أنا هشيم، عن منصور، عن الحسن، عن عمران بن الحصين، قال:"كان النبي عليه السلام يخطبنا فيأمرنا بالصدقة، وينهانا عن المثلة".
ش: إسناده صحيح.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا أبو كامل، ثنا حماد، عن حميد، عن الحسن، عن عمران بن الحصين، قال:"ما خطبنا رسول الله عليه السلام إلا أمرنا بالصدقة، ونهانا عن المثلة".
(1)"مسند أحمد"(5/ 422 رقم 23637).
(2)
"مسند أحمد"(4/ 429 رقم 19871).
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن إبراهيم، قال: ثنا الحسن، قال: قال سمرة رضي الله عنه: "إن رسول الله عليه السلام قل ما قام فينا يخطب إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن حميد، عن الحسن، قال: سمرة بن جندب قال: "قَلَّ ما خطبنا رسول الله عليه السلام خطبة إلا أمرنا فيها بالصدقة، ونهانا عن المثلة".
ش: هذان طريقان صحيحان:
الأول: عن أبي بكرة بكار. . . . إلى آخره.
وأخرجه الطبراني (1): ثنا أحمد بن عمرو الخلال المكي، ثنا يعقوب بن حميد بن كاسب، ثنا وكيع، ثنا يزيد بن إبراهيم، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، قال:"كان النبي عليه السلام ينهى عن المثلة ويحث على الصدقة".
والثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن عون الواسطي البزاز شيخ البخاري في غير "الصحيح"، عن هشيم بن بشير، عن حميد الطويل، عن الحسن البصري، قال: ثنا سمرة.
وهذا الطريق قد صرح فيه الحسن بالتحديث عنه، وهذا ردّ على من قال: إن سماع الحسن من سمرة غير صحيح.
ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، قال: هشام بن زيد، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:"نهى رسول الله عليه السلام أن تصبر البهائم".
ش: إسناده صحيح، ووهب هو ابن جرير بن حازم.
وأخرجه مسلم (2): ثنا محمَّد بن المثنى، قال: ثنا محمَّد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت هشام بن زيد بن أنس بن مالك، قال: "دخلت مع جدِّي
(1)"المعجم الكبير"(7/ 227 رقم 6944).
(2)
"صحيح مسلم"(3/ 1549 رقم 1956).
أنس بن مالك دار الحكم بن أيوب، فإذا قوم قد نصبوا دجاجة يرمونها، قال: فقال أنس: نهى رسول الله عليه السلام أن تصبر البهائم".
ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا القاسم -يعني بن مالك- عن مسلمة بن نوفل الثقفي، قال: ثنا مغيرة بن صفية، عن المغيرة بن شعبة:"أن النبي عليه السلام نهى عن المثلة".
ش: إسناده حسن جيد.
ويوسف بن عدي شيخ البخاري، والقاسم بن مالك المزني الكوفي، روى له الجماعة سوى أبي داود.
ومسلمة بن نوفل الثقفي الكوفي حفيد عروة بن المغيرة بن شعبة، وثقه ابن معين وابن حبان.
والمغيرة بن صفية هو ابن بنت المغيرة بن شعبة، وثقه ابن حبان.
وأخرجه الطبراني (1): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو نعيم، ثنا مسلمة بن نوفل، عن المغيرة بن بنت المغيرة، قال:"مَرَّ المغيرة بن شعبة بالحيرة، فإذا قوم نصبوا ثعلبًا يرمونه غرضًا، فوقف عليهم فقال: إني سمعت رسول الله عليه السلام ينهى عن المثلة".
ص: حدثنا ابن أبي عمران وابن أبي داود، قالا: ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا غندر، عن شعبة، عن مغيرة، عن شِبَاك، عن إبراهيم، عن هُنَيّ بن نُويرة، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي عليه السلام قال:"أحسن الناس قتلة: أهل الإيمان".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم -ولم يذكر شيئًا عن هُنيّ- عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي عليه السلام، مثله.
(1)"المعجم الكبير"(20/ 381 رقم 894).
ش: هذان طريقان:
الأول: عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، وإبراهيم بن أبي داود البرلسي، كلاهما عن عثمان بن أبي شيبة شيخ الشيخين، عن غندر -هو محمَّد بن جعفر البصري- روى له الجماعة عن شعبة بن الحجاج.
عن مغيرة بن مقسم الضبي.
عن شِبَاك -بكسر الشين المعجمة، وبالباء الموحدة المخففة، وبعد الألف كاف- هو الضبي الكوفي الأعمى.
عن إبراهيم النخعي.
عن هُنَيّ -بضم الهاء، وفتح النون- بن نُوَيْرَة -بضم النون، وفتح الواو، وسكون الياء آخر الحروف، وفتح الراء- الضبي الكوفي، قال أبو داود: كان من العباد.
عن علقمة بن قيس النخعي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا محمَّد بن عيسى وزياد بن أيوب، قالا: ثنا هشيم، قال: أنا المغيرة، عن شباك، عن إبراهيم، عن هُنَي بن نُويرة، عن علقمة، عن عبد الله قال: قال رسول الله عليه السلام: "أعف الناس قتلةً: أهل الإيمان".
فإن قيل: ما حال إسناد هذا الحديث؟
قلت: جيد حسن، ورجاله ثقات.
فإن قيل: ابن حزم أخرجه في "المحلى"(2) من طريق أبي داود، ثم قال: وهذا وإن لم يصح -لأن فيه هني بن نويرة، وهو مجهول- فمعناه صحيح؛ لأن أعف قتلة من قتل كما أمر الله عز وجل فاعتدى بمثل ما اعتدى المقتص منه على وليه ظلمًا،
(1)"سنن أبي داود"(2/ 59 رقم 2666).
(2)
"المحلى"(10/ 377).
وما عف قط في قلته مَنْ ضرب عنق مَن لم يضرب عنق وليه، بَلْ هو متعدٍ ظالم، فاعل ما لم يبحه الله له قط.
قلت: هُني ليس بمجهول، بل هو مشهور، قتله شبيب الجارحي فأرسل إلى أهله بالدية، فأبوا أن يقبلوها.
قال أبو داود: كوفي كان من العباد، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وأما نفيه كلامه فيرده قوله عليه السلام: "لا قود إلا بالسيف"(1).
قوله: "قِتلة" بكسر القاف: الحالة من القتل؛ لأن الفِعلة -بالكسر- للحالة، وبالفتح للمَرَّة.
الطريق الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن عون الواسطي، عن هشيم بن بشير، عن مغيرة بن مقسم الضبي، عن إبراهيم النخعي، عن هُني، عن علقمة، عن عبد الله. ولم يذكر إبراهيم في روايته هذه:"شباك".
وأخرجه ابن ماجه (2) ولكن نحو الرواية الأولى.
ص: فثبت بهذه الآثار نسخ المثلة بعد أن كانت مباحة، على ما روينا في حديث العرنيين.
ش: أراد بهذه الآثار: الأحاديث التي أخرجها عن ابن عباس وابن عمر وأبي أيوب الأنصاري وعمران بن الحصين وسمرة بن جندب وأنس بن مالك والمغيرة بن شعبة وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم.
ص: فإن قال قائل: لم يدخل ما اختلفنا نحن وأنتم فيه من القصاص في هذا؛ لأن الله عز وجل قال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (3).
(1) الحديث له طرق كثيرة كلها لا تخلو من ضعيف أو متروك، وضعفه الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير"، وقال أبو حاتم الرازي:"هذا حديث منكر"، وانظر "تلخيص الحبير"(4/ 19).
(2)
"سنن ابن ماجه"(2/ 895 رقم 2682).
(3)
سورة النحل، آية:[126].
قيل له: ليست هذه الآية يراد بها هذا المعنى، إنما أريد بها ما قد روي عن النبي عليه السلام مما رواه ابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهم:
حدثنا فهد، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، قال: ثنا قيس، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال:"لما قُتل حمزة رضي الله عنه ومُثِّل به، قال رسول الله عليه السلام: لئن ظفرت بهم لأمثلن بسبعين رجلًا منهم، فأنزل الله عز وجل قال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (1)، فقال رسول الله عليه السلام: بل نصبر".
حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج بن المنهال (ح).
وحدثنا الحسين بن عبد الله بن منصور، قال: ثنا الهيثم بن جميل قالا: ثنا صالح المري، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي هريرة:"أن رسول الله عليه السلام وقف على حمزة حين استشهد، فنظر إلى أمر لم ينظر إلى أمرٍ قط أوجع لقلبه منه، فقال: يرحمك الله، إن كنت لوصولًا للرحم، فعولًا للخيرات، ولولا حزن مَن بعدك لسرني أن أدعك حتى تُحشر من أفواج شتى، وايم الله، لأمثلن بسبعين منهم، فنزل جبريل عليه السلام والنبي عليه السلام واقف بعد بخواتيم سورة النحل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (1) إلى أخر السورة، فصبر رسول الله عليه السلام وكفَّر يمينه".
فإنما نزلت هذه الآية في هذا المعنى، لا في المعنى الذي ذكرت.
ش: تقرير السؤال أن يقال: من جهة أهل المقالة الأولى فيه من كيفية القصاص غير داخل فيما ذكرتم من الآثار؛ لأن الله تعالى قال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (1)، ففي هذه الآية جواز التماثل في القصاص، فمن قَتَل بحديدة قُتِل بها، ومن قتل بحجر قتل به قتل بما قَتَل به.
(1) سورة النحل، آية:[126].
والجواب أن يقال: لم يُرد بهذه الآية ما ذكرتم في هذا المعنى، وإنما أراد بها ما رواه ابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهم في قصة حمزة؛ وذلك أنه لما قتل أُخذ ومُثِّل به، فجدعوا أنفه وأذنيه وبقروا بطنه عن كبده.
وذكر موسى بن عقبة أن الذي بقر عن كبد حمزة رضي الله عنه وحشي فجعلها إلى هند بنت عتبة، فلاكتها فلم تستطع، ووقف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحزن عليه حزنًا شديدًا، وقال: لئن ظفرت بهم لأمثلن بسبعين رجلًا منهم، فأنزل الله هذه الآية، وفي رواية أبي هريرة:"حَلَفَ على ذلك، فلما سمع قوله تعالى: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (1)، صبر على ذلك وكَفَّر عن يمينه".
فثبت بهذا أن هذه الآية نزلت في هذا المعنى، لا في المعنى الذي ذكره هؤلاء المعترضون.
فإن قيل: أنتم تقولون: العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، ونزول الآية على سبب لا يمنع استعمالها في جميع ما يشمله الاسم، فوجب استعمالها في جميع ما انطوى تحتها.
قلت: نعم، العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب إلا إذا منع مانع، وهَاهنا مانع وهو أنه لا يمكن للمعاقب القاتل إذا قتل مثلًا برضخ رأس المقتول بحجر أو نصبه غرضًا وقتله برمية؛ لأنا لا نحيط علمًا بمقدار الضرب وعدده وألمه، فلم تحصل المماثلة، ولكن يمكننا المعاقبة بمثله في باب إتلاف نفسه قتلًا بالسيف فوجب استعمال حكم هذه الآية فيه من هذا الوجه دون الوجه الأول.
فإن قيل: قد ذكر بعضهم أن هذه الآية مكيّة، وقصة أحد بعد الهجرة بثلاث سنين، فكيف يلتئم هذا مع هذا؟!
قلت: إن صح أنها مكيّة فالجواب عن ذلك ما ذكرنا، وهو عدم إمكان المعاقبة بالمثل فيما نحن فيه، وأما في غير ذلك من المواضع التي يمكن فيها المعاقبة بالمثل،
(1) سورة النحل، آية:[126].
يعاقب بالمثل، كما إذا استهلك لرجل مالًا فعليه مثله، وإذا غصبه ساحةً فأدخلها في بنائه، أو غصبه حنطةً قضينا أن عليه المثل؛ لأن المثل في الحنطة بمقدار كيلها من جنسها، وفي الساحة قيمتها، وقد ذكرنا فيما مضى أن القيمة تطلق عليه المثل. فافهم؛ فإنه موضع دقيق.
أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فأخرجه عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن قيس بن الربيع الأسدي الكوفي فيه مقال، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قاضي الكوفة، فيه مقال، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم بن بَحَرَة -بالحركات- مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وأخرجه الواحدي في كتابه "أسباب النزول"(1): أنا أبو حسان المزكي، قال: أنا أبو العباس محمَّد بن إسحاق، قال: ثنا [يحيى](2) بن عبد الحميد الحماني، قال: ثنا قيس بن مالك عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قتل حمزة بن عبد المطلب ومُثل به: "إن ظفرت بقريش لأمثلن بسبعين منهم، فأنزل الله عز وجل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (3)، فقال النبي عليه السلام: بل نصبر يا رب".
وأما حديث أبي هريرة فأخرجه من طريقين:
الأول: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن الحجاج بن منهال الأنماطي شيخ البخاري، عن صالح بن بشير المري -بضم الميم، وتشديد الراء المهملة- البصري، عن سليمان بن طرخان التيمي، عن أبي عثمان عبد الرحمن ابن مُلّ النهدي، عن أبي هريرة.
(1)"أسباب النزول"(1/ 189).
(2)
"الأصل، ك": "محمَّد"، وهو تحريف، والمثبت من "أسباب النزول"، مصادر ترجمته.
(3)
سورة النحل، آية:[126].
وأخرجه الواحدي في "أسباب النزول"(1): أنا إسماعيل بن إبراهيم الواعظ، قال: ثنا أبو العباس أحمد بن محمَّد بن عيسى الحافظ، قال: ثنا عبد الله بن محمَّد بن عبد العزيز، قال: ثنا بشر بن الوليد الكندي، قال: ثنا صالح المري، قال: ثنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي هريرة، قال: "أشرف النبي عليه السلام على عمه حمزة رضي الله عنه فرآه صريعًا، فلم ير شيئًا كان أوجع لقلبه منه، قال: والله لأمثلن بك سبعين منهم، فنزلت:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا} (2)، الآية.
الثاني: عن الحسن بن عبد الله بن منصور البالسي، عن الهيثم بن جميل الأنطاكي الحافظ، عن صالح المري. . . . إلى آخره.
وأخرجه القاضي إسماعيل بن إسحاق، عن الحجاج، عن صالح المري، عن سليمان التيمي. . . . إلى آخره.
وأخرجه ابن حزم (3): من طريق إسماعيل بن إسحاق المذكور، ثم قال: هذا لو صح ولو لم يكن من طريق صالح المري ويحيى الحماني وأمثالهما لكان حجة لنا عليهم؛ لأن فيه أنه عليه السلام أُمِرَ أن يُعَاقِب بمثل ما عوقب به، وهذا إباحة التمثيل بمن مثَّل بحمزة رضي الله عنه فإنما نهاه الله عز وجل أن يمثل بسبعين منهم لم يمثلوا بحمزة، وهذا قولنا لا قولهم.
قلت: أما صالح المري فإنهم تكلموا فيه بسبب قلة معرفته بالأسانيد والمتون، وإنما هو في نفسه صدوق، وعن يحيى: صالح المري: ليس به بأس، واحتج به الترمذي.
وأما قوله: "لأن فيه أنه عليه السلام أمر أن يُعَاقِب. . . . إلى آخره" فغير صحيح؛ لأنه عليه السلام لم يأمر فيه بذلك، وإنما حَلَفَ أن يمثلن بسبعين منهم، وذلك من شدة
(1)"أسباب النزول"(1/ 187).
(2)
سورة النحل، آية:[126].
(3)
"المحلى"(10/ 377).
حزنه عليه، فلما نزل قوله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} (1) الآية صَبَر رسول الله عليه السلام وكفَّر عن يمينه.
قوله: "إن كنت لوصولًا" كلمة "إنْ" مخففة من الثقيلة، وأصله: أنه كنت كذا وكذا، واللام في "لوصولًا" للتأكيد، والوصول صيغة المبالغة في الواصل، وكذلك فعول في الفاعل.
وقوله: "وايم الله" اسم مختص بالقسم، وليس بحرف خلافًا للزجاج، والمعنى: أحلف بيمين الله، ويقولون فيه: أيم الله وإيم الله بفتح الهمزة وكسرها وأصله أيمن الله، ويقال: مُن الله، ومَن الله، ومِن الله. ويقال أيضًا: مُ الله ومِ الله، والكل قسم كقولك: والله، وبالله، وتالله.
ص: وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا قود إلا بالسيف.
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان الثوري، عن جابر، عن أبي عازب، عن النعمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا قود إلا بالسيف".
فدل هذا الحديث أن القود بكل قتل [ما كان](2) لا يكون إلا بالسيف.
ش: ذكر هذا الحديث شاهدًا لصحة ما ذهب إليه أهل المقالة الثانية، ولصحة ما استدلوا به من الآثار المذكورة؛ لأنه عليه السلام قال:"لا قود إلا بالسيف" ومعناه: لا قصاص حاصل إلا بالسيف، وقد علم أن النكرة في موضع النفي تعم، ويكون المعنى: لا فرد من أفراد القود إلا وهو يستوفى بالسيف، وفيه النفي والاستثناء، وهو طريق من طرق القصر، وتحقيق القصر فيه: أنه لما قيل: "لا قود" توجه النفي إلى ذات القود فانتفى القود المنكَّر الشامل لكل واحد من أفراد القود، ولما قيل إلا بالسيف جاء القصر، وفيه إثبات ذلك القود المنفي بالسيف،
(1) سورة النحل، آية:[126].
(2)
تكررت في "الأصل".
وإنما قلنا: توجه النفي إلى ذات القود؛ لأن القود معنى من المعاني، وليس له قيام إلا بالذات، والذات لا يتوجه إليه النفي، ولهذا نقول: المنفي في قولنا: ما زيد قائم هو اتصاف الزيد بالقيام لا ذات الزيد؛ لأن أنفس الذوات أي الأجسام تمتنع بنفسها كما تبين ذلك حيث بيَّن فيها أن أجسام العالم لا تحتمل الزيادة وإلَّا لزم تداخل الأجسام، ولا النقصان وإلا لزم الخلاء، فعلى هذا لا تنتفي الأجسام بمعنى، أنها تنعدم من العين مطلقًا، بل تتبدل عوارضه في غير الكون والفساد وصورها النوعية فيها، وإنما تبقى صفاتها الممكنة الانتفاء لا الممتنعة كالطول والعرض والقصر. فافهم.
وقال أبو بكر الرازي: خبر النعمان حوى معنيين:
أحدهما: بيان أن مراد الآية في ذكر القصاص والمثل.
والآخر: أنه ابتداء عموم يحتج به في نفي القود بغير السيف.
ثم هذا الحديث أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن جابر الجُعفي، عن أبي عازب مسلم بن عمرو أو مسلم بن أراك، عن النعمان بن بشير، أن رسول الله عليه السلام قال:"لا قود إلا بالسيف".
وأخرجه أبو داود الطيالسي (1): عن قيس، عن جابر الجعفي، عن أبي عازب، عن النعمان بن بشير، عن النبي عليه السلام قال:"لا قود إلا بحديدة".
وأخرجه الدارقطني (2): نا محمَّد بن سليمان النعماني، نا الحسين بن عبد الرحمن الجرجرائي، ثنا موسى بن داود، عن مبارك، عن الحسن، قال رسول الله عليه السلام: "لا قود إلا بالسيف: قيل للحسن عمن؟ قال سمعت النعمان بن بشير يذكر ذلك.
(1)"مسند الطيالسي"(1/ 108 رقم 802).
(2)
"سنن الدارقطني"(3/ 106 رقم 83).
وقيل: عن مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أبي بكرة مرفوعًا، رواه الوليد بن صالح عنه.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1) مرسلًا، نا عيسى بن يونس، عن أشعث وعمرو ابن عبيد، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا قود إلا بالسيف".
فإن قلت: قال البيهقي: هذا حديث لم يثبت له إسناد، وجابر الجُعفي مطعون فيه.
قلت: الجعفي وإن طعن فيه فقد قال وكيع: مهما شككتم في شيء فلا تشكوا أن جابرًا ثقة، وقال شعبة: صدوق في الحديث، وقال الثوري لشعبة: لئن تكلمتَ في جابر لتكلمتُ فيك.
وقال الذهبي في "الكاشف": إن ابن حبان أخرج له في "صحيحه".
وقد تابع الثوري أيضًا قيس بن الربيع كما ذكرنا في رواية الطيالسي.
وقال عفان: كان قيس ثقة، فوثقه الثوري وشعبة، وقال أبو داود الطيالسي: هو ثقة حسن الحديث.
ثم إنا ولئن سلمنا ما قاله البيهقي، فقد وجدنا شاهدًا لحديث النعمان المذكور.
وهو ما رواه ابن ماجه: (2) ثنا إبراهيم بن المستمر، ثنا الحر بن مالك العنبري، ثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أبي بكرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا قود إلا بالسيف".
وسنده جيد. وابن المستمر صدوق. كذا قال النسائي.
والحرّ: قال ابن أبي حاتم في كتابه: سألت أبي عنه، فقال: صدوق.
والمبارك وإن تكلم فيه فقد أخرج له البخاري في المتابعات في باب قول النبي عليه السلام: "يخوف الله عباده بالكسوف".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 432 رقم 27722).
(2)
"سنن ابن ماجه"(2/ 889 رقم 2668).
وأخرج له ابن حبان في "صحيحه" والحاكم في "مستدركه" ووثقه.
وقال عفان: كان ثقة وكان وكان. ووثقه ابن معين مرة وضعفه أخرى. وكان يحيى القطان يُحسن الثناء عليه.
وروي أيضًا نحوه عن أبي هريرة.
أخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث ابن مصفى، ثنا بقية، حدثني سليمان، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا قود إلا بالسيف".
ثم قال البيهقي: ورواه بقية بن الوليد، عن أبي معاذ وهو سليمان بن أرقم، عن الزهري هكذا.
وعن أبي معاذ، عن عبد الكريم بن أبي المخارق، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله أن رسول الله عليه السلام قال:"لا قود إلا بسلاح".
ورواه يعلى بن هلال، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا قود إلا بحديدة".
وروي أيضًا عن أبي سعيد الخدري.
أخرجه الدارقطني (2): عن عبد الصمد بن علي، عن الفضل بن عباس، عن يحيى بن غيلان، عن عبد الله بن بزيع، عن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان، عن جابر، عن أبي عازب، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي عليه السلام قال:"القود بالسيف، والخطأ على العاقلة".
وهذا الحديث كما رأيت قد روي عن النعمان بن بشير وأبي بكرة وأبي هريرة وعبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم، ولا شك أن
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(8/ 63 رقم 15870).
(2)
"سنن الدارقطني"(3/ 107 رقم 89).
بعضها يشهد لبعض، وأقل أحواله أن يكون حسنًا، فإذا كان حسنًا صح الاحتجاج به.
وهو مذهب النخعي الحسن البصري وعامر الشعبي.
ص: وقد جاء عن رسول الله عليه السلام ما قد دلّ على ما ذكرنا أيضًا.
ثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا سليمان بن حيان، عن ابن أبي أُنيسة، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه:"أن النبي عليه السلام أتي في جراح، فأمرهم أن يستأنوا بها سنة".
حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا مهدي بن جعفر، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن عنبسة بن سعيد، عن الشعبي، عن جابر، عن النبي عليه السلام قال:"لا يستقاد من الجرح حتى يبرأ".
ولو كان يفعل بالجاني كما فعل هو، كما قال أهل المقالة الأولى لم يكن للاستيناء معنىً؛ لأنه يجب على القاطع قطع يده إن كانت جنايته قطعًا بريء من ذلك المجني عليه أو مات، فلما ثبت الاستيناء لينظر ما تؤول إليه الجناية؛ ثبت بذلك أن ما يجب فيه القصاص هو ما تؤول إليه الجناية لا غير ذلك، فإن طعن طاعن في يحيى بن أبي أنيسة وأنكر علينا الاحتجاج بحديثه، فإن علي بن المديني قد ذكر عن يحيى بن سعيد أنه أحب إليه في حديث الزهري من محمَّد بن إسحاق.
ش: أي وقد جاء عن النبي عليه السلام أيضًا ما قد دل على ما ذكرنا من أن القصاص لا يكون إلا بالسيف، وهو حديث جابر رضي الله عنه، وقد بيَّن به وجه الدلالة بقوله:"ولو كان يفعل بالجاني. . . . إلى آخره".
وأخرجه من طريقين بوجهين:
الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن سليمان بن حيان -بالحاء المهملة المفتوحة وتشديد الياء آخر الحروف- أبى
خالد الأحمر الكوفي، عن يحيى بن أبي أنيسة، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم المكي، عن جابر.
وأخرجه الدارقطني (1): ثنا أحمد بن عيسى الخواص، ثنا أحمد بن الهيثم بن خالد، ثنا هانئ بن يحيى، ثنا يزيد بن عياض، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه السلام: "يستأنى بالجراحات سنة".
الثاني: عن روح بن الفرج القطان، عن مهدي بن جعفر الرملي الزاهد، عن عبد الله بن المبارك، عن عنبسة بن سعيد بن ضُرَيْس الأسدي الكوفي قاضي الري، عن عامر الشعبي، عن جابر.
وهذا إسناد جيد ورجاله ثقات.
وأخرجه البزار في "مسنده" وقال: سمعت رجلًا من أصحاب الحديث يقول: ثنا عبد الله بن سنان، ثنا ابن المبارك، نا عنبسة، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر، قال:"نهى رسول الله عليه السلام أن يستقاد من جرح حتى يبرأ".
فإن قلت: قال ابن حزم: حديث أسد بن موسى حديث ساقط موضوع؛ لأن أسد بن موسى ضعيف، ويحيى بن أبي أنيسة كذاب.
وحديث الشعبي باطل؛ لأن عنبسة هذا مجهول وليس هو عنبسة بن سعيد بن العاص؛ لأن ابن المبارك لم يدركه.
قلت: كلام ابن حزم ساقط لا يساوي شيئًا في هذا المقام، فإن أسد بن موسى هو الذي يقال له: أسد السنة، قال البخاري: صالح مشهور الحديث، يقال له: أسد السنة. وقال النسائي: ثقة. واحتج به أبو داود والنسائي.
وأما يحيى بن أبي أنيسة الجزري أخو زيد بن أبي أنيسة، قال الطحاوي لأجل هذا الطعن: قد نقل عن علي بن المديني الإِمام المبرز وشيخ البخاري، أنه قد
(1)"سنن الدارقطني"(3/ 90 رقم 32).
ذكر عن يحيى بن سعيد القطان، أنه قال: يحيى بن أبي أنيسة أحب إليّ في حديث الزهري من محمَّد بن إسحاق. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: حدثنا صالح بن أحمد بن حنبل، قال: ثنا علي بن المديني، قال: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: يحيى بن أبي أنيسة أحب إليّ من هؤلاء الذين يذكرون -يعني حجاج بن أرطاة وأشعث بن سوار ومحمد بن إسحاق.
ولئن سلمنا أن يحيى بن أبي أنيسة كذاب على ما قاله ابن حزم، ولكن تابعه في هذا الحديث يزيد بن عياض عن أبي الزبير كما ذكرنا في رواية الدارقطني.
فإن قلت: قال الدارقطني: يزيد بن عياض ضعيف متروك.
قلت: ولئن كان ضعيفًا فإنه يحصل به اعتضاد للحديث ويخرج به عن الخروج عن حد المقبول.
وأما قوله: "عنبسة مجهول" فليس بصحيح، وإنما هو عنبسة بن سعيد بن ضريس الأسدي، وهو ثقة مشهور، روى عنه عبد الله بن المبارك ووثقه يحيى وأبو زرعة وأبو داود، وقد وهم فيه ابن حزم حيث قال: وليس هو عنبسة ابن سعيد بن العاص فكأنه اعتقد أنهم قالوا: عنبسة هذا هو عنبسة بن سعيد بن العاص فرد عليهم بقوله: لأن ابن المبارك لم يدركه. وليس كذلك، بل هو عنبسة بن سعيد بن الضريس كما ذكرنا، فعاد الحديث صحيحًا لما ذكرنا.
ومما يشد هذا الحديث ما رواه الدارقطني في "سننه"(1): نا محمَّد بن مخلد، ثنا إسماعيل بن الفضل، ثنا يعقوب بن حميد، نا عبد الله بن عبد الله الأموي، عن ابن جريج وعثمان بن الأسود ويعقوب بن عطاء، عن أبي الزبير، عن جابر:"أن رجلًا جُرح، فأراد أن يستقيد فنهى رسول الله عليه السلام أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح".
(1)"سنن الدارقطني"(3/ 88 رقم 25).
وقال أيضًا (1): ثنا محمَّد بن أحمد بن الحسن، ثنا محمَّد بن عبدوس بن كامل، ثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة، قالا: ثنا ابن عليه، عن أيوب، عن عمرو بن دينار، عن جابر:"أن رجلًا طعن رجلًا بقرن في ركبته، فأتى النبي عليه السلام يستقيد، فقيل له: حتى تبرأ، فأبى وعجل فاستقاد، قال: فعنتت رجله وبرئت رجل المستقاد منه، فأتى النبي عليه السلام فقال له: ليس لك شيء، إنك أبيت".
فإن قلت: قال الدارقطني: أخطأ فيه ابنا أبي شيبة، وخالفهما أحمد بن حنبل وغيره عن ابن علية، عن أيوب، عن عمرو مرسلًا. وكذلك قال أصحاب عمرو بن دينار، عنه وهو المحفوظ: مرسلًا.
قلت: ابنا أبي شيبة إمامان حافظان، وقد زادا الرفع فوجب قبوله على ما عرف، قال عمرو بن علي: ما رأيت أحفظ من أبي بكر بن أبي شيبة، وكذا قال أبو زرعة، وقال ابن معين: ابنا أبي شيبة ليس فيهما شك، ولهذا صحح ابن حزم هذا الحديث من هذا الوجه، ولئن سلمنا أن هذا الحديث مرسل؛ فقد روي مرسلًا ومسندًا من وجوه: قال الحازمي: قد روي هذا الحديث عن جابر من غير وجه، وإذا اجتمعت هذه الطرق قوي الاحتجاج بها.
قوله: "أتي في جراح" أي بسبب جراح، وكلمة "في" للتعليل كما في قوله تعالى:{فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} (2) وفي الحديث: "أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها"(3).
قوله: "أن يستأنوا" أي أن ينتظروا، يقال: استأنيت بكم أي انتظرت وتربصت، يقال: أَنَيْت وأنَّيْت تَأَنَّيْت، واستأنيت، وثلاثيه: أناه، يؤنيه إيناء أي آخره وحبسه وأبطأه، والاسم منه الأناة، بالفتح.
(1)"سنن الدارقطني"(3/ 89 رقم 27).
(2)
سورة يوسف، آية:[32].
(3)
متفق عليه من حديث أبي هريرة، البخاري (3/ 1205 رقم 3140)، ومسلم (4/ 2110 رقم 2619). ومن حديث ابن عمر رضي الله عنهما، البخاري (3/ 1205 رقم 3140)، ومسلم (4/ 2021 رقم 2242).
ويستفاد منه: أنه لا يقتص من جرح ولا يودَى حتى يبرأ، وفي "الاستذكار": أكثر أهل العلم -مالك وأبو حنيفة وأصحابهما وسائر الكوفيين والمدنيين- على أنه لا يقتص من جرح ولا يودَى حتى يبرأ.
ص: وقد حدثنا المزني، قال: ثنا الشافعي، قال: أنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن شداد بن أوس، قال: قال رسول الله عليه السلام: "إن الله عز وجل كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته".
فأمر النبي عليه السلام بأن يحسنوا القتلة، وأن يريحوا ما أحل الله لهم ذبحه من الأنعام، فما أحل لهم قتله من بني آدم فهو أحرى ألا يفعل به ذلك.
ش: ذكر هذا الحديث أيضًا شاهدًا لما ذهب إليه أهل المقالة الثانية، من أن القصاص لا يستوفى إلا بالسيف، ولا يفعل بالقاتل مثل ما فعل بالمقتول، ودلالته على ذلك ظاهرة؛ وذلك لأنه عليه السلام أمر أمته بأن يُحسنوا القِتلة والذبح، فإذا كانوا مندوبين بإحسان الذبح فيما يحل من الأنعام؛ ففي إحسان القِتلة فيمن يحل قتله من بني آدم بالطريق الأولى.
وإسناد الحديث المذكور صحيح.
أخرجه عن إسماعيل بن يحيى المزني، عن محمَّد بن إدريس الشافعي، عن عبد الوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، عن أبي الأشعث شراحيل بن آدة الصنعاني من صنعاء دمشق.
وأخرجه مسلم (1): عن إسحاق بن راهويه، عن عبد الوهاب الثقفي. . . . إلى آخره نحوه.
(1)"صحيح مسلم"(3/ 1548 رقم 1955).
وأخرجه أبو داود (1): عن مسلم بن إبراهيم، عن شعبة، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث.
وأخرجه الترمذي (2): عن أحمد بن منيع، عن هشيم، بمعناه.
وقال: حسن صحيح.
وأخرجه النسائي (3): عن علي بن حجر [حدثنا إسماعيل](4) عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن شداد، به.
وابن ماجه (5): عن ابن مثنى، عن عبد الوهاب، عن خالد. . . . نحوه.
ص: فإن قال قائل: لا يُستأنى بُرء الجرح، وخالف ما ذكرنا في ذلك من الآثار؛ فكفى به جهلًا في خلافه كل من تقدمه من العلماء، وعلى ذلك فإنا نُفسد قوله من طريق النظر؛ وذلك أنا لو رأينا رجلًا قطع يد رجل خطأ فبرأ منها وجبت عليه دية اليد، ولو مات منها وجبت عليه دية النفس ولم يجب عليه في اليد شيء، ودخل ما كان يجب في اليد فيما وجب في النفس، فصار الجاني كمن قتل وليس كمن قطع، وصارت اليد لا يجب لها حكم إلا والنفس قائمة، ولا يجب لها حكم إذا كانت النفس تالفة، فكان النظر على ذلك أن يكون كذلك إذا قطع يده عمدًا، فإن برأ فالحكم لليد وفيها القود، وإن مات منها فالحكم للنفس، وفيها القصاص لا في اليد، قياسًا ونظرًا على ما ذكرنا من حكم الخطأ.
ويدخل أيضًا على مَن يقول أن الجاني يُقتل كما قَتَلَ أن يقول: إذا رماه بسهم فقتله أن ينصب الرامي فيرميه حتى يقتله، وقد نهى رسول الله عليه السلام عن صبر ذي
(1)"سنن أبي داود"(2/ 109 رقم 2815).
(2)
"جامع الترمذي"(4/ 23 رقم 1409).
(3)
"المجتبى"(7/ 227 رقم 4405).
(4)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المجتبى".
(5)
"سنن ابن ماجه"(2/ 1058 رقم 3170).
الروح، فلا ينبغي أن يُصبر أحدٌ؛ لنهي رسول الله عليه السلام، ولكن يُقْتل قتلًا لا يكون معه شيء من النهي.
ألا ترى أن رجلًا لو نكح رجلًا فقتله بذلك، أنه لا يجب للولي أن يفعل بالقاتل كما فعل، ولكن يجب له أن يقتله لأن نكاحه إياه حرام عليه، فكذلك صبره إياه فيما وصفنا حرامٌ عليه، ولكن له قتله كما يقتل مَن حل دمه بردة أو بغيرها.
هذا هو النظر، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله غير أن أبا حنيفة لا يوجب القود على من قَتل بحجر، وسنبيِّن قوله هذا والحجة له في باب شبه العمد إن شاء الله تعالى.
ش: أي فإن قال قائل من أهل المقالة الأولى: لا ينتظر برء الجرح، وخالف فيما ذهب إليه من ذلك الأحاديث المذكورة، فكفى به جهلًا في ذلك، حيث خالف كل مَن تقدمه من العلماء على ذلك.
قوله: "وعلى ذلك" أي وعلى خلاف هذا القائل نُفسد قوله من طريق النظر والقياس، والحاصل أن هذا القائل إذا ذهب إلى ما قاله من القول المذكور، فقد خالف فيه العلماء من الكوفيين والمدنيين، وأتى بقول يُبطله ويُفسده عليه النظر الصحيح، ثم بيَّن ذلك بقوله:"وذلك أنا لو رأينا. . . ." إلى آخره. وهو ظاهر.
قوله: "ويدخل أيضًا. . . . إلى آخره" إشارة إلى بيان فساد يلزم مَنْ يقول: إن الجاني يُقتل كما قتل.
واعترض ابن حزم (1) في قوله: "إذا رماه بسهم. . . . إلى آخره"، فقال: يطعن بسهم مثله في الموضع الذي صادفه فيه سهمه ظلما حتى يموت، وكذلك يجاف بجائفة (2) يوقن أنه يموت منها.
(1)"المحلى"(10/ 378).
(2)
الجائفة: الطعنة التي تبلغ الجوف، وطعنة جائفة: تخالط الجوف، وقيل: هي التي تنفذه، وجافه بها وأجافه بها: أصابه جوفه. انظر "لسان العرب"(مادة: جوف).
قلت: لم يرد ابن حزم بهذا الكلام إلا نزاعًا، فإنه إذا لم يمت بذلك الطعن أفيطعن ثانيًا وثالثًا إلى أن يموت؟ فهذا على عدم المماثلة، وكذلك الكلام فيما إذا أجاف جائفة.
وقال ابن حزم: نعكس عليهم هذا السؤال فنقول لهم: إن ضرب بالسيف عنقه فلم يقطع أو قطع قليلًا وأعيد عليه مرارًا، وهذا أشد مما قلتم.
قلت: هذا أمر نادر، والنادر لا حكم له؛ لأن الغالب أن السيف لا يلبث، فافهم.
واعترض أيضًا على قوله: ألا ترى أنه لو نكح رجلًا. . . . إلى آخره. وقال: يستدبر القاتل بوتد حتى يموت؛ لأن المثل محرم عليه.
قلت: لا مماثلة هَاهنا أصلًا، وهو معلوم بالحس، ولأن فيه زيادة تعذيب فوق القتل بالسيف، وهو لا يجب عليه إلا إزهاق روحه فقط دون تعذيبه، والسيف فيه الكفاية. والله أعلم.