الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[كتاب التوحيد]
(كتاب التوحيد) قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56][الذاريات: 56]، وقوله:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] الآية [النحل: 36]، وقوله:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] الآية [الإسراء: 23]، وقوله:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] الآية [النساء: 36] وقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151] الآيات [الأنعام: 151] .
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال «كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: " يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله"؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حق الله على العباد: أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله: أن لا يعذب من
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
قوله: كتاب التوحيد، وقول الله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56][الذاريات: 56] جرت عادة المصنفين والمؤلفين، أن يضعوا بعد البسملة والحمدلة خطبة للكتاب، يبينون فيها طريقتهم فيه، ومرادهم من تأليفه، وهاهنا سؤال معروف، وهو: لماذا خالف الشيخ رحمه الله طريقة المصنفين فلم يجعل للكتاب خطبة يبين فيها طريقته، بل قال:" كتاب التوحيد" وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56][الذاريات: 56] ، فأخلاه من الخطبة؟ والسبب في ذلك، والسر فيه- فيما يظهر لي- أن التوحيد الذي سيبينه الشيخ رحمه الله في هذا الكتاب هو توحيد الله جل جلاله، وتوحيد الله قد بينه الله - جل وعلا- في القرآن، فكان- لذلك - من الأدب في مقام التوحيد ألا يَجعل فاصلا بين الحق والدال على الحق وكلام الدال عليه، فالحق الذي لله هو التوحيد، والذي دل على هذا الحق هو الله جل جلاله والدليل عليه هو كلامه، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا من لطائف أثر التوحيد في القلب، وهذا كصنيع الإمام البخاري، رحمه الله في صحيحه. (2) إذ لم يجعل لصحيحه خطبة، بل جعل صحيحه مبتدأ بالحديث؛ ذلك أن كتابه كتاب سنة، ومن المعلوم أن من الأدب، أو من مراعاة الأدب: ألا يُتقدَّم بين يدي الله ورسوله، فلم يقدِّم كلامه على كلام
(1) أخرجه الترمذي (3072) والبيهقي في شعب الإيمان في الدر المنثور (3 / 381) .
(2)
انظر البخاري في كتاب بدء الوحي ص1.
لا يشرك به شيئا ". قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا تبشرهم، فيتكلوا» أخرجاه في الصحيحين (1) .
فيه مسائل: الأولى: الحكمة في خلق الجن والإنس.
الثانية: أن العبادة هي التوحيد؛ لأن الخصومة فيه.
الثالثة: أن من لم يأت به لم يعبد الله. ففيه معنى قوله: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 3]
الرابعة: الحكمة في إرسال الرسل.
الخامسة: أن الرسالة عمت كل أمة.
السادسة: أن دين الأنبياء واحد.
السابعة: المسألة الكبيرة: أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت، ففيه معنى قوله:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256]
الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عُبد من دون الله.
التاسعة: عظم شأن ثلاث الآيات المحكمات في سورة الأنعام عند السلف وفيها عشر مسائل. أولها: النهي عن الشرك.
العاشرة: الآيات المحكمات في سورة الإسراء. وفيها ثماني عشرة مسألة بدأها الله بقوله: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22]
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) أخرجه البخاري (128) و (129) و (2856) و (5967) و (6267) و (6500) و (7373) ومسلم (30) .
وختمها بقوله: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39] ونبهنا الله سبحانه على عظم شأن هذه المسائل بقوله: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} [الإسراء: 39]
الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة، بدأها الله تعالى بقوله:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]
الثانية عشرة: التنبيه على وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته.
الثالثة عشرة: معرفة حق الله علينا.
الرابعة عشرة: معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه.
الخامسة عشرة: أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة.
السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة.
السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسره.
الثامنة عشرة: الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله.
التاسعة عشرة: قول المسؤول عما لا يعلم " الله ورسوله أعلم ".
العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض.
الحادية والعشرون: تواضعه صلى الله عليه وسلم لركوب الحمار، مع الإرداف عليه.
الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة.
الثالثة والعشرون: فضيلة معاذ بن جبل.
الرابعة والعشرون: عظم شأن هذه المسألة.
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
رسوله صلى الله عليه وسلم، فجعل البخاري صحيحه مفتتحا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (1) لأن كتابه كتاب سنة، فجعل كتابه في ابتدائه مبتدأ بكلام صاحب السنة عليه الصلاة والسلام. وهذا من لطيف المعاني التي يرعاها من نور الله قلوبهم لمعرفة حقه، وحق رسوله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (كتاب التوحيد) التوحيد: مصدر وَحَّدَ يوحِّد توحيدًا، وقد جاء هذا اللفظ (التوحيد) بقلة، وجاء في السنة الدعوة إلى توحيد الله، كما ورد في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له:«إنك تأتي قوما أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله» (2) فـ "يوحدوا" مصدره " التوحيد "، وفي الرواية الأخرى من حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي فيه قصة بعث معاذ إلى اليمن - وهي في الصحيحين - أنه صلى الله عليه وسلم قال:«فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله» (3) فدل هذا على أن التوحيد هو: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن تحقيق هاتين الشهادتين، هو: تحقيق للتوحيد.
(1) أخرجه البخاري (1) و (54) و (2529) و (3898) و (5070) و (6689) و (6953) ومسلم (1907) .
(2)
أخرجه البخاري (1458) و (1496) و (2448) و (4347) و (7371) ومسلم (19)(31) .
(3)
أخرجه البخاري (1395) و (1496) و (4347) و (7371) ومسلم (19)(31) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
وتوحيد الشيء: جعله واحدا، تقول: وَحَّدْتُ المتكلم: إذا جعلتَه واحدا، ووحد المسلمون الله: إذا جعلوا المعبود واحدا، وهو الله - جل وعلا-. والتوحيد المطلوب يشمل ما أمر الله- جل وعلا - به في كتابه من توحيده، وهو ثلاثة أنواع:
1 -
توحيد الربوبية.
2 -
وتوحيد الألوهية.
3 -
وتوحيد الأسماء والصفات.
فأما توحيد الربوبية: فمعناه توحيد الله بأفعاله. وأفعال الله كثيرة، منها: الخلق، والرِّزْق، والإحياء، والإماتة، وتدبير الملك، والنفع، والضُّر، والشفاء، والإجارة كما قال تعالى في التنزيل:{وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88][المؤمنون: 88] وإجابة دعوة المضطر، وإجابة دعوة الداعي، ونحو ذلك من أفراد الربوبية، فالمتفرد بذلك على الكمال هو الله - جل وعلا- فتوحيد الربوبية: هو توحيد الله بأفعاله - سبحانه-.
وأما توحيد الألوهية: فالألوهية مأخوذة من: ألَه يأْلَه إِلهة وأُلُوهةً: إذا عُبد مع المحبة والتعظيم. يقال: تَأَلَّه إذا عُبد مُعَظَّمًا مُحَبًّا، ففرقٌ بين العبادة والألوهة، فإن الألوهة عبادة فيها المحبة، والتعظيم، والرضا بالحال، والرجاء، والرغب، والرهب، فمصدر أَلَه يأْلَه: أُلُوهة وإلهة؛ ولهذا قيل: توحيد الإلهية، وقيل توحيد الألوهية، وهما مصدران لأَلَه يأْلَه.
ومعنى (أَلَه) في لغة العرب: عبد مع المحبة، والتعظيم. والتأَلُّه: العبادة على ذاك النحو، قال الراجز:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
لله درُّ الغانيات المدَّهِ
…
سَبَّحن واسترجعن من تألهِ
يعني: من عبادتي، فتوحيد الإلهية، أو توحيد الألوهية: هو توحيد العبادة، يعني: جَعْل العبادة لواحد، وهو الله جل جلاله، فالعبادة التي يفعلها العبد أنواع، والله - جل وعلا - هو المستحق للألوهة وللعبادة، فهو ذو الألوهة، وهو ذو العبادة على خلقه أجمعين.
فـ " توحيد " الألوهية: هو توحيد الله بأفعال العبد المتنوعة، التي يوقعها على جهة التقرب، فإذا توجه بها لواحد وهو الله- جل وعلا- كان موحدا إياه توحيد الإلهية، وإذا توجه العبد بها لله ولغيره كان مشركا في هذه العبادة.
وأما النوع الثالث من التوحيد: فهو توحيد الأسماء والصفات، ومعناه: أن يعتقد العبد أن الله جل جلاله واحد في أسمائه وصفاته لا مماثل له فيها، وإن شَرِكَ بعضُ العباد الله -جل وعلا- في أصل بعض الصفات فإنهم لا يَشْرَكُونه -جل وعلا - في كمال المعنى، بل الكمال فيها لله وحده دون من سواه، ومثال ذلك: أن المخلوق قد يكون عزيزا، والله جل جلاله هو العزيز، فللمخلوق من صفة العزة ما يناسب ذاته الحقيرة الوضيعة الفقيرة، والله -جل وعلا - له من كمال هذه الصفة منتهى ذلك، ليس له فيها مثيل، وليس له فيها مشابه على الوجه التام، قال -جل وعلا-:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11][الشورى: 11]
فهذه الأنواع الثلاثة من التوحيد ذكرها الشيخ-رحمه الله في هذا الكتاب، لكن لما كانت التصانيف قبله اعتنى فيها العلماء- أعني علماء السنة والعقيدة - ببيان النوعين: الأول، والثالث، وهما توحيد الربوبية وتوحيد
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
الأسماء والصفات، لما اعتنى العلماء بهما لم يبسط الشيخ- رحمه الله القول فيهما، وإنما بسط القول فيما الناس أحوج إليه، ويفتقدون التصنيف فيه، وهذه طريقة الإمام رحمه الله فإن كتاباته المختلفة، ومؤلفاته المتنوعة: إنما كانت بحسب حاجة الناس إليها، ليست للتكاثر، أو للاستكثار، أو للتفنن، وإنما كتب فيما الناس بحاجة إليه، فلم يكتب لأجل أن يكتب، ولكن كتب لأجل أن يدعو، وبين الأمرين فرق، فالشيخ- إذًا- بيَّن في هذا الكتاب توحيد الإلهية والعبودية، وبين أفراده من: التوكل، والخوف، والمحبة، والرجاء، والرغبة، والاستعانة، والاستغاثة، والذبح، والنذر، ونحو ذلك، فكل هذه عبادات لله - سبحانه وحده - دون من سواه. ثم إن الشيخ- رحمه الله لما بسط ذلك بَيَّنَ أيضا ضده وهو الشرك. فهذا الكتاب الذي هو كتاب التوحيد، فيه بيان توحيد العبادة، والربوبية، والأسماء والصفات، وفيه -أيضا - بيان ضد ذلك، وضد التوحيد: الشرك. والشرك معناه: اتخاذ الشريك، وهو: أن يُجْعَلَ واحدٌ شريكًا لآخر؛ يقال: أشرك بينهما: إذا جعلهما اثنين، أو أشرك في أمره غيره: إذا جعل ذلك الأمر لاثنين: فالشرك فيه تشريك، والله - جل وعلا - نهى عن الشرك، كما سيأتي الكلام على ذلك - إن شاء الله -.
وقد بين أهل العلم عند كلامهم عن الشرك: أنه بحسب ما دلت عليه النصوص: يُقسَّم إلى قسمين باعتبار، ويقسم إلى ثلاثة أقسام باعتبار آخر؛ فهو إما أن يقسَّم إلى: شرك أكبر، وشرك أصغر. فهذا باعتبار انقسامه إلى قسمين، أو يقسم إلى شرك أكبر، وشرك أصغر وشرك خفي. فهذا باعتبار انقسامه إلى ثلاثة أقسام.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
والشرك: هو اتخاذ شريك مع الله- جل وعلا - في الربوبية، أو في العبادة، أو في الأسماء والصفات. والمقصود هنا: النهي عن اتخاذ شريك مع الله - جل وعلا - في العبادة، والأمر بتوحيده - سبحانه-.
التقسيم الأول: وهو تقسيم الشرك إلى أكبر وأصغر، فالأكبر: هو المخرج من الملة، والأصغر: ما حكم الشارع عليه بأنه شرك. وليس فيه تنديد كامل يُلْحِقُهُ بالشرك الأكبر، وعبَّر عنه بعض العلماء بقوله: ما كان وسيلة إلى الشرك الأكبر، فعلى هذا يكون الشرك الأكبر منه ما هو ظاهر، ومنه ما هو باطن خفي.
فمثال الظاهر من الشرك الأكبر: عبادة الأوثان، والأصنام، وعبادة القبور، والأموات والغائبين. ومثال الباطن: شرك المتوكلين على المشايخ، أو على الآلهة المختلفة، أو كشرك المنافقين؛ لأن المنافقين مشركون في الباطن؛ فشركهم أكبر، ولكنه خفي، أي في الباطن، وليس في الظاهر.
وكذلك الشرك الأصغر- على هذا التقسيم- منه ما هو ظاهر، ومنه ما هو باطن خفي، فمثال الظاهر من الشرك الأصغر: لبس الحلقة، والخيط، وتعليق التمائم، والحلف بغير الله، ونحو ذلك من الأعمال والأقوال. ومثال الباطن الخفي منه: يسير الرياء ونحو ذلك. فيكون الرياء- على هذا التقسيم أيضا- منه ما هو أكبر كرياء المنافقين الذين قال الله في وصفهم: {يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142][النساء: 142]، ومنه: ما يقع فيه بعض المصلين المتصنعين في صلواتهم؛ لأجل نظر الناس إليهم، ومنه ما هو أصغر كمن يحب التسميع أو المراءات.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
التقسيم الثاني للشرك -وهو جعله ثلاثة أقسام-: أكبر، وأصغر، وخفي، وهذا التقسيم يعني به أن الأكبر: ما كان مخرجا من الملة؛ مما فيه صرف العبادة لغير الله- جل جلاله، والأصغر: ما كان وسيلة لذلك الشرك الأكبر، وفيه تنديد لا يبلغ به أن يخرج من الإسلام، وقد حكم الشارع على فاعله بالشرك، وحقيقة الحال: أنه ندد وأشرك.
وأما الشرك الخفي، فهو: كيسير الرياء، ونحو ذلك. وبعض أهل العلم يقول بالتقسيم الأول، ومنهم من يقول بالثاني. والتحقيق أنهما متساويان، أحدهما يوافق الآخر، وليس بينهما اختلاف. فإذا سمعت من يقول: إن الشرك ينقسم إلى أكبر، وأصغر: فقوله هذا صحيح، وإذا سمعت من يقول - وهو قول أئمة الدعوة -: إن الشرك ينقسم إلى أكبر وأصغر وخفي: فهذا -أيضا- قوله صحيح.
فإذا تبين ذلك، فاعلم أن الشرك يعبر عنه بالتنديد، كما قال - جل وعلا -:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22][البقرة: 22]، «وقال النبي صلى الله عليه وسلم حينما سئل أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندا، وهو خلقك» (1) .
فالتنديد منه ما هو تنديد أعظم، ومنه ما هو تنديد أصغر ليس فيه صرف العبادة لغير الله، فإذا كان التنديد بجعل العبادة لغير الله: صار التنديد شركا أكبر، وإذا كان التنديد بجعل غير الله -جل وعلا - ندا لله في عمل، ولم يبلغ ذلك الشرك الأكبر: فإنه يكون تنديدا أصغر، وهو المسمى بالشرك الأصغر،
(1) أخرجه البخاري (4761) و (6811) و (7520) مسلم (86)(141) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
فهذه مقدمات، وتعريفات، وتنبيهات، جعلتها بين يدي هذا الشرح لأهميتها، ولمسيس الحاجة إليها. والله أعلم.
قال إمام هذه الدعوة رحمه الله: (كتاب التوحيد)(وقول الله تعالى) . (قول) هذه الكلمة- كما في صحيح البخاري - إما أن تنطقها على العطف، فتقول: كتاب التوحيدِ، وقولِ الله، يعني: وكتاب قول الله، أو تنطقها على الاستئناف، فتقول: وقولُ الله تعالى.
قال: (وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] [الذاريات: 56] ) هذه الآية فيها بيان التوحيد، ووجه ذلك: أن السلف فسروا قوله تعالى: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] بمعنى: إلا ليوحدون (1) ودليل هذا الفهم: أن الرسل إنما بعثت لأجل التوحيد، أعني: توحيد العبادة، فقوله:{إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] يعني: إلا ليوحدون.
قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] هذه الآية فيها حصر؛ لأن من المعلوم أن (ما) النافية مع (إلا) تفيد الحصر والقصر، فيكون معنى الكلام- على هذا-: أني خلقت الجن والأنس لغاية واحدة هي العبادة دون ما سواها. ففيه قصر علة الخلق على العبادة.
(1) تفسير ابن كثير ج 4 / 238.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
وقوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] و (إلا) هذه أداة استثناء، والاستثناء هنا مفرغ - أي مفرغ من أعم الأحوال كما يقول النحاة - يعني: وما خلقت الجن والإنس لشيء، أو لغاية من الغايات أبدا إلا لغاية واحدة، هي: أن يعبدوني.
وقوله: {لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] هذه اللام تسمى لام التعليل، ولام التعليل هذه قد يكون معناها: إما تعليل غاية، أو تعليل علة.
فتعليل الغاية: يكون ما بعدها مطلوبا ولكن قد يكون، وقد لا يكون، يعني: هذه الغاية. ويسميها بعض العلماء. لام الحكمة. وفرق بين العلة والحكمة، يُوَضِّحُهُ: إذا قيل: ما الحكمة من خلق الجن والإنس؟ فالجواب: أن يعبدوا الله وحده دون ما سواه فهذا التعليل لقوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] هو تعليل غاية؛ ولو سألت شخصا -مثلا-: لم أحضرت الكتاب؟ قال لك: أحضرته لأقرأ، كانت علة الإحضار أو الحكمة من الإحضار القراءة فقد يقرأ وقد لا يقرأ بخلاف اللام التي يكون معناها العلة؛ وهي التي يترتب عليها معلولها، والتي يقول العلماء في نحوها: الحكم دائر مع علته وجودا وعدما، فتلك هي علة القياس التي لا يتخلف فيها المعلول عن العلة. فتكون اللام هنا: علة الغاية؛؟ لأن من الخلق من أُوجد، وخلقه الله- جل وعلا- لكن عبد غيره.
ولام الحكمة شرعية، ويكون ما بعدها مطلوبا شرعا؛ وقد قال - جل وعلا - هنا:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فنفهم من هذا:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
أن هذه الآية دالة على التوحيد، من جهة أن الغاية من الخلق هي التوحيد، والعبادة هنا هي التوحيد.
وحقيقة العبادة: الخضوع والذل، فإذا انضاف إليها المحبة والانقياد صارت عبادة شرعية، قال طرفة في وصف ناقة:
تباري عتاقا ناجيات وأتبعت
…
وظيفا وظيفا فوق مور مُعَبَّد
والمور: الطريق، والمعبد: هو الذي ذلل من كثرة وطء الأقدام عليه.
وقال أيضا في معلقته:
إلى أن تحامتني العشيرة كلها
…
وأفردت إفراد البعير المُعَبَّد
يعني: الذي صار ذليلا؛ لأنه أصيب بالمرض، فجعل بعيدا عن باقي الأبعرة، فصار ذليلا، لعدم المخالطة.
والعبادة شرعا: هي امتثال الأمر والنهي على جهة المحبة والرجاء والخوف. وقال بعض العلماء: إن العبادة هي ما أُمر به من غير اقتضاء عقلي ولا اطراد عرفي. وهذا تعريف الأصوليين.
وقال شيخ الإسلام- في بيان معناها في أول رسالة " العبودية"-: العبادة: اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال، والأعمال الظاهرة والباطنة.
فتكون دلالة هذه الآية - إذًا-: أن كل فرد من أفراد العبادة يجب أن يكون لله وحده دون ما سواه؛ لأن الذي خلقهم إنما خلقهم لأجل أن يعبدوه، فكونهم يعبدون غيره -وهو الذي خلقهم- يعد من الاعتداء والظلم العظيم؛ لأنه ليس من يخلق كمن لا يخلق؛ كما قال - جل وعلا-:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} [النحل: 17][النحل: 17] .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
قال الشيخ رحمه الله: وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36][النحل: 36] ، هذه الآية تفسير للآية قبلها، فالآية قبلها فيها بيان معنى العبادة، وفيها بيان الغرض من إيجاد الخلق، وأنه لأجل العبادة التي أرسلت بها الرسل بدليل قوله:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] فالله تعالى ابتعث الرسل بهاتين الكلمتين: اعبدوا الله، واجتنبوا الطاغوت. ففي قوله:{اُعْبُدُوا اللَّهَ} [النحل: 36] إثبات، وفي قوله:{وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] نفي، وهذا هو معنى التوحيد المشتمل على إثبات ونفي، فقوله في الآية {اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] يتضمن معنى قول: (لا إله إلا الله) ؛ لأن النفي فيه اجتناب الطاغوت- وهو كل إله عُبِد بالبغي والظلم والعدوان -، والإثبات فيه: إثبات العبادة لله وحده دون ما سواه، ففي قوله:{اُعْبُدُوا اللَّهَ} [النحل: 36] التوحيد المثبت، وفي قوله {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] نفي الإشراك.
والطاغوت فعلوت من الطغيان، وهو: كل ما جاوز به العبد حده من متبوع، أو معبود، أو مطاع.
قال: وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23][الإسراء: 23](قضى) - كما فسرها عدد من الصحابة هنا -بمعنى: أمر ووصى.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
وأمر ووصى معنى القول دون حروف القول، فتكون (أن) في قوله:{أَلَّا تَعْبُدُوا} [الإسراء: 23] مصدرية، يعني: بماذا أمر ووصى؟ بـ {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] قوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] هذا معنى (لا إله إلا الله) بالمطابقة؛ لأن (لا) نفي في الجملتين، وقال هنا:{تَعْبُدُوا} [الإسراء: 23] وهي بمعنى (إله) المذكورة في كلمة التوحيد، فالإله هو المعبود. فقوله:{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] يعني: احصروا العبادة فيه وحده دون ما سواه، فإنه أمر بهذا ووصى به، وهذا هو معنى التوحيد، ودلالة الآية على التوحيد ظاهرة، في أن التوحيد إفراد الله بالعبادة، أو تحقيق كلمة (لا إله إلا الله) .
وقوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] يعني: وأحسنوا بالوالدين إحسانا.
قال: وقوله تعالى: {وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36][النساء: 36] وهذا- أيضا- فيه أمر ونهي، أما الأمر ففي قوله:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ} [النساء: 36] وأما النهي ففي قوله: {وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] وقد مر دلالة قوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ} [النساء: 36] مع النفي، على توحيد الله.
ثم تأمل قوله هنا: {وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] فإن (لا) هنا ناهية، ومن المتقرر في علم الأصول أن النهي كالنفي، إذا تسلط على نكرة، فإنه يفيد العموم، وما بعد (لا) نكرة وهو المصدر أحد مدلولي الفعل؛ لأن الفعل
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
المضارع مشتمل على مصدر وزمن، فـ {وَلَا تُشْرِكُوا} [النساء: 36] يعني: لا إشراك به، فـ (تُشْرِكُوا) متضمنة لمصدر، والمصدر نكرة، فيكون قوله:{وَلَا تُشْرِكُوا} [النساء: 36] دل على النهي على أي نوع من الشرك. كما أن قوله- في الآية نفسها -: {شَيْئًا} [النساء: 36] نكرة تدل على عموم الأشياء، فصار - عندنا - في قوله تعالى {وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] عمومان: الأول: ما دلت عليه الآية من النهي عن جميع أنواع الشرك؛ وذلك لأن النهي تسلط على الفعل، والفعل دال على المصدر، والمصدر نكرة. والثاني: أن مفعول تشرك {شَيْئًا} [النساء: 36] وهو نكرة، والنكرة جاءت في سياق النهي؛ وذلك يدل على عموم الأشياء، يعني: لا الشرك الأصغر مأذون به، ولا الأكبر، ولا الخفي؛ بدلالة قوله:{وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ} [النساء: 36] وكذلك: ليس مأذونا أن يُشرَك به لا ملك، ولا نبي، ولا صالح، ولا عالم، ولا طالح، ولا قريب، ولا بعيد، بدلالة قوله:{شَيْئًا} [النساء: 36] وهذا استدلال ظاهر الوضوح في الدلالة على التوحيد: بالجمع بين النفي والإثبات.
قال: وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. . .} [الأنعام: 151][الأنعام: 151 - 153]{قُلْ تَعَالَوْا} [الأنعام: 151] يعني: يا من حرم بعض الأنعام، وافترى على الله في ذلك {تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
قال العلماء: (أنْ) هنا تفسيرية ومفسرها محذوف تقديره: وصاكم؛ لأن (أنْ) التفسيرية هي التي تأتي بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه، وإنما قدروا المحذوف بقولهم (وصاكم)، لأنه جاء في آخر الآي قوله:{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151] وقال في الآية الثانية: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152] وقال في الآية الثالثة: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] وكل هذه الثلاث فيها التوصية، فيكون تقدير الكلام - إذًا -: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم: وصَّاكم ألا تشركوا به شيئا. والوصية هنا: شرعية، وإذا كانت الوصية من الله شرعية: فهي أمر واجب.
وقوله: {وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] دلالتها على التوحيد كدلالة آية النساء التي قبلها.
ثم ساق الشيخ رحمه الله أثر ابن مسعود رضي الله عنه وهو قوله: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليه خاتمه، فليقرأ قوله تعالى. . . . . إلخ (1) .
قوله: (التي عليها خاتمه) : يعني التي كانت من آخر ما وصى به ومن آخر ما أمر به، يعني التي لو قُدِّر أنه وصى، وختم على هذه الوصية، وفتحت بعد وفاته عليه الصلاة والسلام وانتقاله إلى الرفيق الأعلى لكانت هي هذه الآيات التي فيها الوصايا العشر، فهذا القول من ابن مسعود للدلالة
(1) تقدم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
على عظم شأن هذه الآيات التي افتُتِحَت بالنهي عن الشرك. والنبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ دعوته بالأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن الشرك، واختتمها أيضا - كما دل عليه كلام ابن مسعود هذا - بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك فدل ذلك على كونه أولى المطالب، وأول المطالب، وأهم المطالب.
ثم قال بعد ذلك: «وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: " يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا» (1) وموطن الشاهد من هذا الحديث هو قوله: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» وهذا قد مرَّ بيان معناه، لكن الشاهد من هذا الحديث، ومناسبته للابتداء - ابتداء كتاب التوحيد: أنه أتى فيه بلفظ (حق) الذي في قوله: «أتدري ما حق الله على العباد " ثم قال: " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» وهذا الحق حق واجب لله - جل وعلا - لأن الكتاب والسنة، بل ولأن المرسلين جميعا أتوا بهذا الحق، وبيانه، وبيان أنه أوجب الواجبات على العباد.
ثم قال: «وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا»
قوله: (حق العباد على الله) معناه: أن هذا حقٌّ أحقه الله على نفسه باتفاق أهل العلم، وأوجبه على نفسه، كما في بعض أقوالهم، كما قاله الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله.
(1) تقدم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
وهل ذلك الحق المذكور في قوله: " حق العباد على الله " هل هو واجب أم لا؟ نقول: نعم هو حق واجب، لكن بإيجاب الله ذلك الحق على نفسه؛ فالله - جل وعلا - يحرم على نفسه ما يشاء بما يوافق حكمته، ويوجب على نفسه ما يشاء بما يوافق حكمته، فكما أن الله حرم الظلم على نفسه، كما في قوله:«إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا» (1) كذلك أوجب على نفسه أشياء، لكن بعض أهل العلم تحاشى إطلاق لفظ (الإيجاب) على الله، وقال: يُعبَّر عن ذلك بأنه حق يتفضل به - سبحانه - على من يشاء، فهو حق تفضل، لا حق إيجاب، لكن هذا ليس بمتعين؛ لأن الحق الواجب هو الذي أوجبه الله على نفسه، والعباد لا يوجبون على الله - جل وعلا - شيئا من الحقوق به على عباده، والله جل جلاله لا يخلف الميعاد.
هذا الباب " باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب وما يكفر من الذنوب " يشمل التوحيد بأنواعه الثلاثة؛ فالتوحيد بأنواعه الثلاثة، له فضل عظيم على أهله. ومن أعظم فضله أنه به تُكَفَّر الذنوب؛ ولهذا قال الشيخ رحمه الله في التبويب:" باب فضل التوحيد، وما يكفر من الذنوب. فـ (ما) هنا موصول اسمي بدلالة وجود " من " البيانية مما يحول دون جعلها موصولا حرفيا، فيكون المعنى: باب فضل التوحيد وبيان الذنوب التي يكفرها. فالتوحيد يكفر الذنوب جميعا، لا يكفر بعض الذنوب دون بعض؛ لأن التوحيد حسنة
(1) أخرجه مسلم (2577) .