الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[باب قول الله تعالى وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي]
باب قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [فصلت: 50][فصلت: 50]
قال مجاهد: هذا بعملي، وأنا محقوق به (1) . وقال ابن عباس: يريد من عندي، (2) . وقوله:{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78][القصص: 78] قال قتادة: على علم مني بوجوه المكاسب (3) . وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل، (4) . وهذا معنى قول مجاهد: أوتيته على شرف (5) .
وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص، وأقرع وأعمى، فأراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا، فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به قال: فمسحه فذهب
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) أخرجه ابن جرير في التفسير 25 / 3.
(2)
أخرجه ابن جرير في التفسير 25 / 3.
(3)
أخرجه عبد بن حميد كما في الدر المنثور 6 / 440.
(4)
أخرجه ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور 6 / 440.
(5)
رواه ابن جرير في التفسير 24 / 12.
عنه قذره، فأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو البقر - شك إسحاق- فأعطي ناقة عشراء، وقال: بارك الله لك فيها. قال فأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به فمسحه فذهب عنه، وأعطي شعرا حسنا، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: البقر أو الإبل، فأعطي بقرة حاملا، قال: بارك الله لك فيها. فأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري، فأبصر به الناس، فمسحه فرد الله إليه بصر قال: فأي المال أحب إليك؟ قال الغنم، فأعطي شاة والدا، فأنتج هذان، وولد هذا، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم.
قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بكم، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال بعيرا أتبلغ به في سفري، فقال: الحقوق كثيرة، فقال له:: كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرا فأعطاك الله- عز وجل المال؟ !! فقال: إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت، قال: وأتى الأقرع في صورته. فقال له مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال له: إن
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت قال: وأتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين، وابن سبيل قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري، فخذ ما شئت، ودع ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله، فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك» أخرجاه (1) .
فيه مسائل: الأولى: تفسير الآية.
الثانية: ما معنى: {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت: 50]
الثالثة: ما معنى قوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]
الرابعة: ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة.
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) أخرجه البخاري (3464) و (6653) ومسلم (2964) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
قد أنعم عليه بذلك فهذا قد يؤديه إلى المهالك، وقد يسلب الله- جل وعلا- عنه النعمة بسبب لفظه.
فالواجب على العبد أن يتحرز في ألفاظه وبخاصة فيما يتصل بالله- جل وعلا-، أو بأسمائه وصفاته، أو بأفعاله وإنعامه، أو بعدله وحكمته، والتحرز في ذلك من كمال التوحيد؛ لأنه لا يصدر التحرز إلا عن قلب معظم لله، مجل لله، مخبت لله، يعلم أن الله- جل جلاله مطلع عليه، وأنه سبحانه هو ولي الفضل، وهو ولي الإنعام، وهو الذي يستحق أن يجل فوق كل جليل، وأن يحب فوق كل محبوب، وأن يعظم فوق كل معظم.
فالله- جل جلاله يجب توقيره وتعظيمه في الألفاظ، ومن ذلك ما عقد له الشيخ هذا الباب حيث قال:" باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت: 50] [فصلت: 50] قال مجاهد في تفسيرها: " هذا بعملي، وأنا محقوق به. " يعني أنه نسب النعمة إلى نفسه، وأنه جدير وحقيق بها، وأن الله- جل وعلا- تفضل عليه لأنه مستحق لهذا الإنعام، والمال، والجاه، ولرفعة القدر عند الناس، فصار إليه ذلك الشيء من المال والرفعة والسمعة الطيبة لأنه مستحق لذلك الشيء بفعله وبجهده ونحو ذلك مما قد يطرأ على قلوب ضعفاء الإيمان وضعفاء التوحيد.
والواجب أن يعلم العبد أنه فقير غير مستحق لشيء على الله- جل وعلا- وأن الله هو الرب المستحق على العبد أن يشكره، وأن يذكره، وأن ينسب
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
النعم إليه، أما العبد فليس مستحقا في الدنيا بحق واجب على الله- جل وعلا - إلا ما أوجبه الله -جل وعلا- على نفسه.
ومثل قول القائل: هذا بعملي، وأنا محقوق به، - بعد أن أتته رحمة من بعد ضراء- مثل هذا القول يكثر في ألفاظ الناس، كقول الطبيب مثلا: هذا الذي حصل من شفاء المريض بسببي، أو نجاحي، ونيلي لهذا الأمر إنما بسبب جهدي، وبسبب تعبي، ونحو ذلك مما يجعل إنعام الله -جل وعلا- على العبد بذلك بسبب استحقاقه، أو أن ينسى الله -جل وعلا- وينسب الأشياء إلى نفسه؛ ولهذا قال:" قال ابن عباس: يريد من عندي ": أي أنا الذي أتيت بهذا المال أو بهذه النعمة وهذا من عندي، ولم يتفضل علي به.
فيدخل في هذا الوصف الذي جاء في الآية نوعان من الناس: من ينسب الشيء إلى نفسه، ولا ينسبه إلى الله -جل وعلا- أصلا، والثاني: أن ينسبه إلى الله تعالى، لكن يرى نفسه مستحقا لذلك الشيء على الله -جل وعلا- كما يحصل من بعض المغرورين أنه إذا أطاع الله واتقاه، وحصلت له نعمة قال: حصلت لي هذه النعمة من جراء استحقاقي لها، فأنا العابد لله -جل وعلا- ولا يستحضر أن الله- جل وعلا- يرحم عباده ولو حاسبه على عمله لم تقم عباداته وعمله بنعمة من النعم التي أسداها الله -جل وعلا- له.
فالواجب -إذًا- على العبد أن ينسب النعم جميعا لله، وأن يشعر بأنه لا يستحق شيئا على الله، وإنما الله هو المستحق للعبودية، وهو المستحق للشكر، وهو المستحق للإجلال، والعبد فقير مذنب مهما بلغ. وانظر إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه كيف علمه النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول في، آخر
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
صلاته: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي» (1) . إذا كان أبو بكر علمه الرسول عليه الصلاة والسلام أن يدعو بهذا الدعاء، فكيف بحال المساكين أمثالنا، وأمثال أكثر هذه الأمة؟ وكيف يظنون في أنفسهم أنهم يستحقون على الله شيئا؟ !
فتمام التوحيد -إذًا- أن يجل العبد ربه تبارك وتعالى ويعظمه، وأن لا يعتقد أنه مستحق للنعم، أو أنه أوتيها بجهده، وجهاده، وعمله، وذهابه ومجيئه، بل هو فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم؛ لأن فعل العبد سبب وهذا السبب قد يتخلف، وقد يكون مؤثرا، ثم إنه إذا أثر فلا يكون مؤثرا إلا بإذن الله -جل وعلا- فرجع الأمر إلى أنه فضل الله يؤتيه من يشاء.
" وقوله {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78] [القصص: 78] قال قتادة: على علم مني بوجوه المكاسب "، هذه الآية في قصة قارون، قال -جل وعلا-:{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص: 76][القصص: 76- 78] إلى أن قال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78] قال قتادة: " على علم مني بوجوه المكاسب " وهذا يحصل من كثير ممن أغناهم الله -جل وعلا - وأعطاهم أموالا كثيرة، فتجد أحدهم ينسب الشيء إلى نفسه، فيقول: أنا
(1) أخرجه البخاري (8387) و (7388) ومسلم (2705) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
خبير بإدارة الأموال، وأنا أفهم في التجارة، وأنا عندي علم بوجوه المكاسب، ونحو ذلك، وينسى أن الله -جل وعلا- هو الذي تفضل، ولو منع الله السبب الذي فعله من التأثير لم يصر شيئا، فالله -جل وعلا- هو الذي تفضل عليه، وهو الذي وفقه وهو الذي هداه للفكرة، وهو الذي جعل السبب مؤثرا، فالله هو المنعم ابتداء وهو المنعم ختاما، فالواجب إذًا أن يتخلص العبد من رؤية نفسه وأن يعلم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ويكثر من قولها، فإنها كنز من كنوز الجنة.
فهذا الباب معقود كما ذكرنا لتخليص القلب واللسان من ألفاظ واعتقادات باطلة، يظن المرء فيها أنه مستحق أشياء على الله -جل وعلا- والتوحيد هو أن يكون العبد ذليلا خاضعا بين يدي الله، يعلم أنه لا يستحق شيئا على الله -جل وعلا- وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء.
" وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل ": وهذا يشمل أحد النوعين اللذين ذكرتهما. " وهذا معنى قول مجاهد: أوتيته على شرف ".
ثم ساق حديث أبي هريرة الطويل، والدلالة منه ظاهرة: وأن الله- جل وعلا- عافى هؤلاء الثلاثة في أبدانهم، ورزقهم من فضله، ثم نسب اثنان منهم النعمة إلى أنفسهم، وثالث نسبها إلى الله، فجزى الله الأخير خيرا، وأدام عليه النعمة، ورضي عنه، وعاقب الآخرين، وسخط عليهما، وهذا فضل الله ينعم ثم يثبت النعمة فيمن يشاء، ويصرفها عمن يشاء، ومن أسباب ثبات النعمة أن يعظم العبد ربه، وأن يعلم أن الفضل بيد الله، وأن النعمة هي نعمة الله.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
وفي ختام هذه الأبواب أوصي المسلم بأن يكون حذرا من آفات اللسان، متثبتا فيما يتكلم به، وأن يعلم أن كل خير إنما هو من الله، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولو سلبه الله العناية منه طرفة عين لهلك، ولكان من الخاسرين، فإن العبد أحوج ما يكون إلى الاعتراف بذنبه، والعلم بأسماء الله وبصفاته، وبآثار ذلك في ملكوته، وبربوبيته- جل وعلا- على خلقه، وبعبادته حق عبادته.
مناسبة هذا الباب للأبواب قبله: أن جميع الأبواب في معنى واحد، وهو أن شكر النعمة لله- جل وعلا- فيما أنعم به، يقتضي أن تنسب إليه- جل وعلا- وأن يحمد عليها، ويثنى عليه بها، وأن تستعمل في مراضيه- جل وعلا- وأن يتحدث بها، فالذي ينسب النعم إلى نفسه لم يحقق التوحيد؛ فإنه جمع بين ترك تعظيم الله- جل وعلا- وبين ادعاء شيء ليس له، وقد يعتقد في غيره أنه هو المنعم عليه، كقول القائل: لولا فلان لم يكن كذا، أو نحو تلك العبارات التي تدخل في قوله تعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22][البقرة: 22]