الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[باب قول الله تعالى أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ]
" باب قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99][الأعراف: 99] . وقوله: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56][الحجر: 56] .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر فقال: الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله» (1) . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله " رواه عبد الرزاق (2) .
فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الأعراف.
الثانية: تفسير آية الحجر.
الثالثة: شدة الوعيد فيمن أمن مكر الله.
الرابعة: شدة الوعيد في القنوط.
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) أخرجه البزار (106) ، وابن أبي حاتم في " التفسير "، كما في " الدر المنثور " 2 / 147 وقال: إسناده حسن.
(2)
أخرجه عبد الرزاق في " المصنف " 10 / 459.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
والأمن من مكر الله ناتج عن عدم الخوف، وترك عبادة الخوف، وعبادة الخوف قلبية، والمراد هنا هو خوف العبادة. وهذا الخوف إذا كان في القلب، فإن العبد سيسعى في مراضي الله ويبتعد عن مناهيه، وسيعظم الله - جل وعلا - ويتقرب إليه بالخوف؛ لأن الخوف عبادة، ويكون عبادة من وجوه، منها: أن يتقرب إلى الله - جل وعلا - بالخوف، وأن يتقرب إلى الله - جل وعلا - بعدم الأمن من مكره، وذلك أن الله هو ذو الجبروت، فعدم الأمن من مكر الله راجع إلى عدم فهم صفات الله - جل وعلا - وأسمائه التي منها: القهار، والجبار، وهو الذي يجير ولا يجار عليه، ونحو ذلك من صفات الربوبية.
ومكر الله - جل وعلا - من صفاته التي تطلق مقيدة، فالله - جل وعلا - يمكر بمن مكر بأوليائه وأنبيائه، وبمن مكر بدينه؛ لأنها في الأصل صفة نقص، ولكن تكون صفة كمال إذا كانت بالمقابلة؛ لأنها حينئذ فيها معنى إظهار العزة، والقدرة والقهر والجبروت وسائر صفات الجلال، فمكر الله - جل وعلا - من صفاته التي يتصف بها، على وجه التقييد، فنقول: يمكر بأعداء رسله، يمكر بأعدائه، يمكر بمن مكر به، ونحو ذلك.
وحقيقة مكر الله - جل وعلا - ومعنى هذه الصفة: أنه - جل وعلا - يستدرج العبد ويملي له، حتى إذا أخذه لم يفلته، فييسر له الأمور حتى يظن أنه في غاية المأمن، فيكون ذلك استدراجا في حقه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:«إذا رأيتم الله يعطي العبد، وهو مقيم على معاصيه، فاعلموا أن ذلك استدراج» (1) وهذا ظاهر من معنى المكر؛ لأن في معنى المكر والكيد وأمثالهما معنى الاستدراج.
(1) أخرجه أحمد 4 / 145.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
ولا ترادف في اللغة، بل هناك فروق بين المكر والاستدراج، والكيد، ونحو ذلك، لكن نقول هذا من جهة التقرير، فالمكر فيه استدراج وفيه زيادة أيضا على الاستدراج بحيث يكون قلب ذلك المستدرج آمنا من كل جهة.
" وقوله: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56] هذا فيه أن من صفة الضالين أنهم يقنطون من رحمة الله - جل وعلا -، ومعنى ذلك بالمفهوم أن صفة المتقين المهتدين أنهم لا يقنطون من رحمة الله، بل يرجون رحمة الله - جل وعلا -، والجمع بين الخوف والرجاء واجب شرعا، فإن الخوف عبادة، والرجاء عبادة، واجتماعهما في القلب واجب، فلا بد أن يكون هذا، وهذا جميعا في القلب حتى تصح العبادة.
ومن هنا اختلف العلماء في أيهما يغلب: الخوف أم الرجاء؟ هل يغلب العبد جانب الرجاء أو يغلب جانب الخوف؟ والتحقيق: أن ذلك على حالين: الأولى: إذا كان العبد في حال الصحة والسلامة فإنه إما أن يكون مسددا مسارعا في الخيرات، فهذا ينبغي أن يتساوى في قلبه الخوف والرجاء، فيخاف ويرجو؛ لأنه من المسارعين في الخيرات. وإذا كان في حال الصحة والسلامة وكان من أهل العصيان، فالواجب عليه أن يغلب جانب الخوف حتى ينكف عن المعصية. الحال الثانية: إذا كان في حال المرض المخوف فإنه يجب عليه أن يعظم جانب الرجاء على الخوف، فيقوم في قلبه الرجاء والخوف ولكن يكون رجاؤه أعظم من خوفه، وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام:«لا يمت أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه تعالى» (1) وذلك من جهة رجائه في الله جل جلاله.
(1) أخرجه مسلم (7229) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
ومن هنا اختلفت كلمات أهل العلم، فتجد بعضهم يقول: يجب أن يتساوى الخوف والرجاء، وبعض السلف قال: يغلب جانب الخوف على جانب الرجاء، وبعض السلف قال: يغلب جانب الرجاء على جانب الخوف، وهي أقوال متباينة ظاهرًا، ولكنها متفقة في الحقيقة؛ لأن كل قول منها يرجع إلى حالة مما ذكرنا.
فمن قال: يغلب جانب الخوف على الرجاء فهو في حق الصحيح العاصي. ومن قال: يغلب جانب الرجاء على الخوف فهو في حق المريض الذي يخاف الهلاك أو من يخاف الموت. ومن قال: يساوي بين الخوف والرجاء فنظر إلى حال المسددين المسارعين في الخيرات، الذين وصفهم الله - جل وعلا - بقوله {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] [الأنبياء: 90]، وقوله - جل وعلا - في سورة الإسراء:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57][الإسراء: 57] وهذا ظاهر.
فالشيخ رحمه الله عقد هذا الباب لبيان وجوب أن يجتمع الخوف والرجاء في القلب، وقد مر بنا أن هذه أبواب متتالية لبيان حالات القلب والعبادات القلبية وأحكام ذلك.
" عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر، فقال: الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
الله» (1) وجه الشاهد من ذلك: أنه جعل اليأس من روح الله، وهو ذهاب الرجاء من القلب، وترك الإتيان بعبادة الرجاء، جعله من الكبائر، وجعل الأمن من مكر الله، وهو ذهاب الخوف من الله - جل وعلا - من القلب جعله من الكبائر، فعدم الرجاء في الله من الكبائر، وعدم الخوف من الله - جل وعلا - من الكبائر، وهي كبائر من جهة أعمال القلوب، واجتماع الكبيرتين معا بأن لا يكون عنده رجاء ولا خوف، أعظم من كبيرة ترك الخوف وحده من الله، أو ترك الرجاء وحده من الله - جل وعلا -؛ ولهذا قرن بينهما في هذا الحديث حيث قال:«سئل عن الكبائر فقال: الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله» وبهذا يتبين لك الفرق بين اليأس من روح الله أو القنوط من رحمة الله والأمن من مكر الله، لأن اليأس راجع إلى ترك عبادة الرجاء، والأمن من مكر الله راجع إلى ترك عبادة الخوف، واجتماعهما واجب من الواجبات، وذهابهما أو الانتقاص منهما نقص في كمال توحيد من قام ذلك بقلبه.
" وعن ابن مسعود قال: أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله "(2) في هذا الأثر ما في الحديث قبله، لكن هنا فصل في القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، فجعل القنوط من رحمة الله شيئا، وجعل اليأس من روح الله شيئا آخر، وهذا باعتبار بعض الصفات لا باعتبار أصل المعنى، وإلا فإن القنوط من
(1) أخرجه البزار في المسند (106 - كشف الأستار) .
(2)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف 10 / 459، والطبراني في " الكبير"(8783) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
الرحمة واليأس من الروح بمعنى واحد، لكن يختلفان من حديث ما يتناوله هذا ويتناوله هذا، فالقنوط من رحمة الله عام؛ لأن الرحمة أعم من الروح، والرحمة تشمل جلب النعم ودفع النقم، وروح الله - جل وعلا - يطلق في الغالب في الخلاص من المصائب، فقوله: القنوط من رحمة الله هذا أعم؛ ولهذا قدمه فيكون ما بعده من عطف الخاص على العام، أو أن يكون هناك ترادف في أصل المعنى، واختلاف في الصفات، أو بعض ما يتعلق باللفظ.
فهذا الحديث مع الحديث قبله والآيتين: دلالتهما على ما أراد المؤلف من عقد هذا الباب واحدة، ودلالة الجميع: أن الخوف والرجاء واجب اجتماعهما في القلب وإفراد الله - جل وعلا - بهما، والمقصود خوف العبادة، ورجاء العبادة.
" باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله ": الصبر من المقامات العظيمة، والعبادات الجليلة التي تكون في القلب وفي اللسان وفي الجوارح، وحقيقة العبودية لا تثبت إلا بالصبر؛ لأن العبادة أمر شرعي، أو نهي شرعي، أو ابتلاء، بأن يصيب الله العبد بمصيبة قدرية فيصبر عليها.
فحقيقة العبادة: أن يمتثل الأمر الشرعي، وأن يجتنب النهي الشرعي، وأن يصبر على المصائب القدرية التي ابتلى الله - جل وعلا - العباد بها. فالابتلاء حاصل بالدين وحاصل بالأقدار، فبالدين كما قال - جل وعلا - لنبيه صلى الله عليه وسلم في