الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[باب ما جاء في الإقسام على الله]
" باب ما جاء في الإقسام على الله " عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له، وأحبطت عملك» (1) رواه مسلم، وفي حديث أبي هريرة: أن القائل رجل عابد، قال أبو هريرة: تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته (2) .
فيه مسائل: الأولى: التحذير من التألي على الله.
الثانية: كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله.
الثالثة: أن الجنة مثل ذلك.
الرابعة: فيه شاهد لقوله: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة» إلخ.
الخامسة: أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه.
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) أخرجه مسلم (2621) .
(2)
أخرجه أحمد 2 / 323 و 363 وأبو داود (4901) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
بالعقاب الذي جاء في مثل هذا الحديث، فهذا يتألى على الله - جل وعلا - أن يحكم بما اختاره هو من الحكم، فيقول: والله لا يحصل لفلان كذا، تكبرا واحتقارا للآخرين، فيريد أن يجعل حكم الله كحكمه تأليا واستكبارا على الله أن يفعل الله - جل وعلا - ما ظنه هو، فهذا التألي والاستكبار نوع تحكم في أمر الله - جل وعلا - وفي فعله، وهذا لا يصدر من قلب معظم لله - جل وعلا.
والجهة الثانية: أن يقسم على الله جل جلاله لا على جهة التألي، ولكن على جهة أن ما ظنه صحيح في أمر وقع له، أو في أمر يواجهه، فهذا يقسم على الله أن يكون كذا في المستقبل على جهة التذلل والخضوع لله لا على جهة التألي، وهذا هو الذي جاء فيه الحديث:«ومن عباد الله من لو أقسم على الله لأبره» (1) ؛ لأنه أقسم على الله، لا على جهة التعاظم والتكبر والتألي، ولكن على جهة الحاجة والافتقار إلى الله، فحين أقسم أقسم محتاجا إلى الله، وأكد ذلك بالله وبأسمائه من جهة ظنه الحسن بالله - جل وعلا - فهذا جائز، ومن عباد الله من لو أقسم على الله لأبره؛ لأنه قام في قلبه من العبودية لله والذل والخضوع ما جعل الله - جل وعلا - يجيبه في سؤاله، ويعطيه طلبته ورغبته.
وأما الحال الأولى فهي حال المتكبر المترفع الذي يظن أنه بلغ مقاما بحيث يكون فعل الله - جل وعلا - تبعا لفعله، فتكبر واحتقر غيره، فبهذا التفصيل يتضح ما جاء في هذا الباب من الحديث.
عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى
(1) أخرجه البخاري (2703) ومسلم (1675) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
علي أن لا أغفر لفلان؟» : هذا الذي قال: والله لا يغفر الله لفلان، كان رجلا صالحا، والآخر كان رجلا فاسقا، فقال الرجل الصالح: والله لا يغفر الله لفلان؛ لأن فلانا هذا كان رجلا فاسقا مريدا كثير العصيان، فتألى هذا العابد وعظيم نفسه، وظن أنه بعبادته لله - جل وعلا - بلغ مقاما يكون متحكما فيه بأفعال الله، وأن الله لا يرد شيئا طلبه، أو له أن يتحكم في الخلق، وهذا ينافي حقيقة العبودية التي هي التذلل لله - جل وعلا - فالله سبحانه وتعالى عاقبه، فقال:«من ذا الذي يتألى علي؟» يعني: يتعاظم ويتكبر علي ويحلف علي؛ لأن " يتألى " من الألية، وهي: الحلف، ومنه قوله تعالى:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226][البقرة: 226]، والإيلاء من الألية وهي: الحلف، فيتألى، يعني: يحلف على جهة التكبر والتعاظم.
«ألا أغفر لفلان، إني قد غفرت له وأحبطت عملك» : فغفر للطالح، وأحبط عمل ذلك الرجل العابد، وهذا يبين لك عظم شأن مخالفة تعظيم الله جل جلاله وعظم مخالفة توحيد الله سبحانه وتعالى فهذا الرجل الفاسق أتاه خير من حيث لا يشعر، وقيلت في حقه كلمة بحسب الظاهر أنها مؤذية له، وأن فيها من الاحتقار والازدراء له ما يجعله في ضعة بين الناس، حيث شهد عليه هذا الصالح بقوله:«والله لا يغفر الله لفلان» ، فكانت هذه الكلمة التي ساءته وآذته فيها مصلحة عظيمة له بأن غفر له ذنبه؛ ولهذا نبه الشيخ في مسائل الباب بمسألة معناها: أن من الابتلاء والإيذاء
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
للشخص ما يكون أعظم أسباب الخير له. فليست العبرة باحتقار الناس، ولا بكلامهم، ولا بإيذائهم، ولا بتصنيفهم للناس، بل العبرة بحقيقة الأمر بما عند الله جل جلاله فالواجب على العباد جميعا أن يعظموا الله، وأن يخبتوا إليه، وأن يظنوا أنهم أسوأ الخلق، حتى يقوم في قلوبهم أنهم أعظم حاجة إلى الله - جل وعلا - وأنهم لم يوفوا الله حقه، أما التعاظم في النفس، والتعاظم بالكلام والمدح والثناء ونحو ذلك، فليس من صنيع المجلين لله - جل وعلا - الخائفين من تقلب القلوب، فالله - جل وعلا - يقلب القلوب، ويصرفها كيف يشاء، فالقلب المخبت المنيب يحذر ويخاف دائما من أن يتقلب قلبه، فينتبه للفظه، وينتبه للحظه، وينتبه لسمعه، وينتبه لحركاته، لعل الله - جل وعلا - أن يميته غير مفتون ولا مخزي.
الشرح: «لا يستشفع» : يعني: لا يجعل الله شفيعا على الخلق؛ لأن شأن الله - جل وعلا - أعظم وأجل من أن يستشفع به، ويجعل واسطة للانتفاع من أحد من الخلق، فالشفاعة المعروفة: أن تأتى إلى أحد، وتطلب أن يكون شفيعا عند آخر؛ لأن ذلك الآخر هو الذي يملك ما تريد والنفع عنده، وهذا يكون واسطة، ولا يستطيع أن ينفعك هو بنفسه إلا بأن يتوسط. والله جل جلاله لا يجوز أن يظن به ذلك الظن، لأنه ظن سوء بالله جل جلاله فالله - سبحانه - لا يصلح أن يجعل واسطة لأحد، أو إلى أحد من الخلق أو على أحد من الخلق، بل هو - جل وعلا - الذي يملك الأمور جميعا، فالاستشفاع بالله على الخلق يعني أن يجعل الله واسطة يتوسط العبد بربه على أحد من الخلق، وهذا مناف لكمال التوحيد، وعمل وقول من الأقوال المنافية لتعظيم الله - جل وعلا - التعظيم الواجب؛ ولهذا ذكر الشيخ رحمه الله حديث جبير بن مطعم، والشاهد منه قول الأعرابي للنبي عليه الصلاة والسلام:«فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله» يعني: نستشفع بالله نجعل الله - جل وعلا - واسطة يتوسط لنا عندك حتى تدعو، والله - جل وعلا - هو الملك الحي القيوم، الملك الحق المبين، نواصي العباد بيديه، يصرفها كيف يشاء، فشأن الله أعظم من أن يستشفع به على أحد من خلقه، بل الرجل أو المكلف يستشفع بأحد من الخلق عند مخلوق آخر يحتاجه في شيء، والله - جل وعلا - هو الذي يملك الأشياء جميعا، بيده الملك والملكوت، وهو الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، وبيده خزائن