المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب ما جاء في قوله تعالى وما قدروا الله حق قدره - التمهيد لشرح كتاب التوحيد

[صالح آل الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة شرح كتاب التوحيد

- ‌[باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب]

- ‌[باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب]

- ‌[باب الخوف من الشرك]

- ‌[باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله]

- ‌[باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله]

- ‌[باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه]

- ‌[باب ما جاء في الرقى والتمائم]

- ‌[باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما]

- ‌[باب ما جاء في الذبح لغير الله من الوعيد وأنه شرك بالله جل وعلا]

- ‌[باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله]

- ‌[باب من الشرك النذر لغير الله تعالى]

- ‌[باب من الشرك الاستعاذة بغير الله تعالى]

- ‌[باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره]

- ‌[باب قول الله تعالى أَيُشْرِكَونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ

- ‌[باب قول الله تعالى حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ

- ‌[باب الشفاعة]

- ‌[باب قول الله تعالى إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ]

- ‌[باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين]

- ‌[باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده]

- ‌[باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله تبارك وتعالى]

- ‌[باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك]

- ‌[باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان]

- ‌[باب ما جاء في السحر]

- ‌[باب بيان شيء من أنواع السحر]

- ‌[باب ما جاء في الكهان ونحوهم]

- ‌[باب ما جاء في النشرة]

- ‌[باب ما جاء في التطير]

- ‌[باب ما جاء في التنجيم]

- ‌[باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء]

- ‌[باب قول الله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ]

- ‌[باب قول الله تعالى إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]

- ‌[باب قول الله تعالى وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]

- ‌[باب قول الله تعالى أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ]

- ‌[باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله]

- ‌[باب ما جاء في الرياء]

- ‌[باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا]

- ‌[باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أربابا من دون الله]

- ‌[باب قول الله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ

- ‌[باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات]

- ‌[باب قول الله تعالى يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون]

- ‌[باب قول الله تعالى فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون]

- ‌[باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله]

- ‌[باب قول ما شاء الله وشئت]

- ‌[باب من سب الدهر فقد آذى الله]

- ‌[باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه]

- ‌[باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك]

- ‌[باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول]

- ‌[باب قول الله تعالى وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي]

- ‌[باب قوله تعالى فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ]

- ‌[باب قول الله تعالى وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ]

- ‌[باب لا يقال السلام على الله]

- ‌[باب قوله اللهم اغفر لي إن شئت]

- ‌[باب لا يقول عبدي وأمتي]

- ‌[باب لا يرد من سأل بالله]

- ‌[باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة]

- ‌[باب ما جاء في اللو]

- ‌[باب النهي عن سب الريح]

- ‌[باب قول الله تعالى يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ

- ‌[باب ما جاء في منكري القدر]

- ‌[باب ما جاء في المصورين]

- ‌[باب ما جاء في كثرة الحلف]

- ‌[باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه]

- ‌[باب ما جاء في الإقسام على الله]

- ‌[باب لا يستشفع بالله على خلقه]

- ‌[باب ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد وسده طرق الشرك]

- ‌[باب ما جاء في قوله تعالى وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ

الفصل: ‌[باب ما جاء في قوله تعالى وما قدروا الله حق قدره

‌[باب ما جاء في قوله تعالى وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ

. . .]

باب ما جاء في قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67][الزمر: 67]" عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: " أنا الملك " فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67] » ، وفي رواية لمسلم:«والجبال والشجر على إصبع ثم يهزهن فيقول: أنا الملك أنا الله» ، وفي رواية للبخاري:«يجعل السماوات على إصبع والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع» (1) . ولمسلم عن ابن عمر مرفوعا: «يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون، ثم يطوي الأرضين السبع، ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(1) أخرجه البخاري (4811) و (7414) و (7415) و (7513) ومسلم (2786) .

ص: 585

المتكبرون» (1) وروي عن ابن عباس قال: «ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم» (2) . وقال ابن جرير حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس» (3) وقال: قال أبو ذر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض» (4) وعن ابن مسعود قال: " بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ". أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله، ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله، (5) قاله الحافظ الذهبي - رحمه الله تعالى - قال: وله طرق.

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(1) أخرجه مسلم (2788) .

(2)

أخرجه ابن جرير في " التفسير " 24 / 25.

(3)

أخرجه ابن جرير في التفسير (5794) ، وعبد الله بن أحمد في السنة (591) .

(4)

أخرجه ابن جرير " في التفسير "(5794) .

(5)

أخرجه ابن خزيمة في " التوحيد "(594) ، وأبو الشيخ في " العظمة "(203) و (279) .

ص: 586

وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: " بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله سبحانه وتعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم» (1) أخرجه أبو داود وغيره.

فيه مسائل: الأولى: تفسير قوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67]

الثانية: أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه صلى الله عليه وسلم لم ينكروها ولم يتأولوها.

الثالثة: أن الحبر لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم صدقه، ونزل القرآن بتقرير ذلك.

الرابعة: وقوع الضحك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم.

الخامسة: التصريح بذكر اليدين، وأن السماوات في اليد اليمنى، والأرضين في الأخرى.

السادسة: التصريح بتسميتها الشمال.

السابعة: ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك.

الثامنة: قوله: «كخردلة في كف أحدكم» .

التاسعة: عظم الكرسي بالنسبة إلى السماء.

العاشرة: عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي.

الحادية عشرة: أن العرش غير الكرسي والماء.

الثانية عشرة: كم بين كل سماء إلى سماء.

الثالثة عشرة: كم بين السماء السابعة والكرسي.

الرابعة عشرة: كم بين الكرسي والماء.

الخامسة عشرة: أن العرش فوق الماء.

السادسة عشرة: أن الله فوق العرش.

السابعة عشرة: كم بين السماء والأرض.

الثامنة عشرة: كثف كل سماء خمس مائة سنة.

التاسعة عشرة: أن البحر الذي فوق السماوات أسفله وأعلاه خمس مائة سنة. والله أعلم.

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(1) أخرجه أبو داود (4723) والترمذي (3317)، وقال: حديث حسن غريب.

ص: 588

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

الدعوة شيخ الإسلام والمسلمين محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كتاب التوحيد وختمه هذا الكتاب بهذا الباب ختم عظيم؛ لأن من علم حقيقة ما اشتمل عليه هذا الباب من وصف الله - جل وعلا - وعظمة الله - جل وعلا - فإنه لا يملك إلا أن يذل ذلا حقيقيا، ويخضع خضوعا عظيما للرب جل جلاله والصحيح والواقع من حال الخلق أنهم لم يوقروا الله - جل وعلا - {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67] لا من جهة ذاته وقدرته وصفاته، ولا من جهة حكمته وبعثه لرسله، قال - جل وعلا:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91][الأنعام: 91] ، فهذا في إنزال الكتاب وفي إرسال الرسول، وقال - جل وعلا - في بيان صفة ذاته:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67] وقوله: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج: 74] يعني: ما عظموه حق تعظيمه، ولو عظموه حق تعظيمه لما عبدوا غيره، ولما أطاعوا غيره، ولعبدوه حق العبادة، ولذلوا له ذلا وخضوعا دائما، وأنابوا إليه بخشوع وخشية، ولكنهم ما قدروه حق قدره، يعني: ما عظموه حق تعظيمه الذي يجب لقدره - جل وعلا - وعظم ذاته سبحانه وتعالى وصفاته.

ثم بين - جل وعلا - شيئا من صفة ذاته العظيمة الجليلة، فقال سبحانه:{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67] فإن عقل الإنسان لا يمكن أن يتحمل صفة الله - جل وعلا - على ما هو عليه، والله - جل وعلا -

ص: 589

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

بين لك بعض صفاته فقال سبحانه: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] فإذا نظرت إلى هذه الأرض على عظمها وعلى غرور أهلها فيها، ونظرت إلى حجمها وإلى سعتها وإلى ما فيها، فهي قبضة الرحمن - جل وعلا - يعني: في داخل قبضة الرحمن - جل وعلا - يوم القيامة، فنفهم من ذلك أن كف الرحمن - جل وعلا - وأن يد الرحمن - جل وعلا - أعظم من هذا، وكذلك السماوات مطويات كطي السجل في كف الرحمن - جل وعلا - كما قال سبحانه هنا:{وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] وقال في آية سورة الأنبياء: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104][الأنبياء: 104] ، فهذه صفات الله جل جلاله، فإن الأرض التي يتعاظمها أهلها، والسماوات التي يتعاظمها من نظر فيها، هي صغيرة وآيلة في الصغر إلى أن تكون في كف الرحمن - جل وعلا - والله سبحانه وتعالى أعظم من ذلك وأجل، بل هو سبحانه وتعالى الواسع الحميد الذي له الحمد كله، وله الثناء كله، ويبين لك عظمة الرب - جل وعلا - في ذاته، وعظمة الرب - جل وعلا - في صفاته، وإذا تأملت هذه الأحاديث وما اشتملت عليه تبين لك غرور أهل الأرض في الأرض، وبسعتها وبقواهم فيها، وأنها بالنسبة إلى السماء تعتبر صغيرة، وأن بين الأرض وبين السماء الأولى مسيرة خمسمائة سنة في مسير الراكب السريع، وكذلك بين السماء الأولى والسماء الثانية مسيرة خمسمائة سنة، وهكذا حتى تنتهي السبع سماوات، وكذلك السماوات السبع متناهية في

ص: 590

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

الصغر أمام الكرسي، ولهذا مثل النبي عليه الصلاة والسلام السماوات السبع في الكرسي الذي هو فوق ذلك، وهو أكبر بكثير من السماوات بقوله:«إن السماوات السبع كدراهم سبعة ألقيت في ترس» يعني: هذه السماوات صغيرة جدا بالنسبة إلى الكرسي، بل كدراهم سبعة ألقيت في ترس، والترس مكتنفها متقوس عليها، فهي صغيرة فيه وهو واسعها كما قال - جل وعلا - عن الكرسي:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255][البقرة: 255] ، فالأرض التي أنت فيها نقطة صغيرة جدا بالنسبة إلى السماء، والأرض والسماوات مجتمعة في غاية الصغر بالنسبة للكرسي، والكرسي أيضا فوقهما، وفوق ذلك عرش الرحمن - جل وعلا، والكرسي بالنسبة إلى العرش كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، فهو متناهي الصغر بالنسبة إلى عرش الرحمن، والذي هو مستو عليه - جل وعلا - وهو فوقه سبحانه وتعالى، ولو تأمل الناس صفة الرب - جل وعلا - وما يجب له من الجلال، وما هو عليه سبحانه وتعالى من صفات الذات، ومن صفات الفعل، وما عليه تلك الصفات من الكمال والجلال المطلق لاحتقروا أنفسهم، ولعلموا أنه لا ينجيهم ولا يشرفهم إلا أن يكونوا عبيدا له وحده دون ما سواه، فهل يعبد المخلوق المخلوق؟! إن الواجب أن يعبد المخلوق من هو متصف بهذه الصفات العظيمة، فهو الحقيق بأن يُذل له، وهو الحقيق بأن يُطاع، وهو الحقيق بأن يُجل، وهو الحقيق بأن يُسأل، وهو الحقيق بأن يُبذل كل ما يملكه العبد في سبيل مرضاته - جل وعلا - إذ هذا من قدره حق قدره، ومن تعظيمه حق تعظيمه، فإذا تأمل العبد صفات الربوبية وصفات الجلال

ص: 591

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

وصفات الجمال لله - جل وعلا - وأن ذات الله - جل وعلا - عظيمة، وأنه سبحانه وتعالى مستو على عرشه، بائن من خلقه، على هذا العظم، علم أنه لا أحد يستحق أن يتوجه إليه بالعبادة وأن يُعبد إلا الله - جل وعلا، وأن من عبد المخلوق الحقير الوضيع فإنه قد نازع الله - جل وعلا - في ملكه، ونازع الله - جل وعلا - في إلهيته؛ ولهذا يحق أن يكون من أهل النار المخلدين فيها والمعذبين عذابا دائما؛ لأنه توجه إلى هذا المخلوق الضعيف وترك الرب العلي القادر على كل شيء سبحانه وتعالى.

ثم تأمل كيف أن ربك العزيز الحكيم المتصف بصفات الجلال، وهو - جل وعلا - فوق عرشه يأمر وينهى في ملكوته الواسع الذي ما الأرض إلا كشبه لا شيء في داخل ذلك الملكوت، يفيض رحمته ويفيض نعيمه على من شاء، ويرسل عذابه على من شاء، وينعم من شاء، ويصرف البلاء عمن شاء، وهو سبحانه ولي النعمة والفضل فترى أفعال الله - جل وعلا - في السماوات، وترى عبودية الملائكة في السماوات لهذا الرب العظيم، المستوي على عرشه، كما قال عليه الصلاة والسلام:«أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم، وملك راكع، أو ملك ساجد» (1) تعظيما لأمر الله - جل وعلا - وترى نفوذ أمر الله في ملكوته الواسع الذي لا نعلم منه إلا ما حولنا من هذه الأرض، وما هو قريب منها، بل نعلم بعض ذلك، والله - جل وعلا - هو المتصرف ثم تنظر إلى أن الله الجليل العظيم المتصف بهذا الملك العظيم يتوجه إليك أيها العبد الحقير الوضيع فيأمرك

(1) أخرجه أحمد في المسند 5 / 173 والترمذي (2312) وابن ماجه (4190) .

ص: 592

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

بعبادته، وهي شرف لك لو شعرت، ويأمرك بتقواه وهي عز لك لو عقلت، ويأمرك بطاعته وذاك فخر لك لو علمت، فإنه إذا علمت حق الله، وعلمت صفات الله وما هو عليه من العلو المطلق في ذاته وفي صفاته - جل وعلا - وفي نفوذ أمره في هذه السماوات السبع التي هي في الكرسي كدراهم ألقيت في ترس، ثم ما فوق ذلك، والجنة والنار وما في ذلك، وجدت أنك لا تتمالك إلا أن تخضع له - جل وعلا - خضوعا اختياريا، وأن تذل له، وأن تتوجه إلى طاعته، وأن تتقرب إليه بما يحب، وأنك إذا تلوت كلامه تلوت كلام من يخاطبك به، ويأمر وينهى به، فيثمر عندك حينئذ من التوقير والتعظيم لله عز وجل غير ما كنت عليه قبل ذلك؛ ولهذا كان من أسباب رسوخ الإيمان في القلب وتعظيم الرب - جل وعلا - أن يتأمل العبد ويتفكر في ملكوت السماوات والأرض، كما أمر الله - جل وعلا - بذلك حين قال:{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101][يونس: 101]، وقال - جل وعلا -:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185][الأعراف: 185]، وقال - جل وعلا - في وصف الخلص من عباده:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ - الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ - رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران: 190 - 192]

ص: 593

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

[آل عمران: 190- 192] ، إلى آخر دعواتهم، وهم يذكرون الله قياما، وقعودا، وعلى جنوبهم، ويتفكرون، ومع ذلك يسألون النجاة من النار، فهم في ذل وخضوع لما عرفوا من آثار توحيد الربوبية، ولما عرفوا من آثار توحيد الألوهية في القلب وفي النفس.

أسأل الله في ختام هذا الكتاب أن يجزي مؤلفه الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب عنا وعن المسلمين خير الجزاء، وأن يجزي كل من ساهم في شرح هذا الكتاب بما أفهمنا من معانيه، فإنه والله لكتاب عظيم، اشتمل على ما به نجاة العباد لو شعروا، وقرب به الإمام رحمه الله نصوص الكتاب والسنة، وأفهمنا دلائلها بما نرجو معه النجاة بعفو الله - جل وعلا - وكرمه، هذا ووصية أخيرة أختم بها هذا المجلس المبارك فأوصي بالعناية بهذا الكتاب عناية عظيمة، وحفظه، ودراسته، وتأمل مسائله، ومعرفة ما فيه، فإنه الحق الذي كان عليه الأنبياء والمرسلون ومن تبعهم من صالحي عباد الله، هذا وأن الانصراف عن مدارسة ما احتواه مما يجب على العبد تجاه ربه لنذير سوء، وإن الإقبال عليه لمؤذن بالخير والبشرى، وأسأل الله أن يغفر لنا زللنا وخطلنا، وأن يعفو عنا ما أخطأنا فيه، وأن يجعلنا من المعفو عنهم، ونسأل الله التسامح، وأن يجعلنا من المحققين لتوحيده، وأنه لا حول لنا ولا قوة إلا به، اللهم فكن لنا يا كريم، اللهم فكن لنا يا كريم، اللهم فكن لنا يا كريم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

ص: 594

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

[أسئلة وفوائد]

ص: 595

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

سؤال: ما حكم من يضع آية الكرسي في السيارة، أو يضع مجسما فيه أدعية، كأدعية ركوب السيارة، وأدعية السفر وغيرها من الأدعية؟

الجواب: إن هذا فيه تفصيل: فإن كان وضع هذه الأشياء ليحفظها، ويتذكر قراءتها، فهذا جائز، كمن يضع المصحف أمام السيارة، أو يضعه معه؛ فإذا صارت عنده فرصة هو أو من معه أن يقرأ فيه قرأ، فهذا جائز لا بأس به، لكن إن علقها لأجل أن تدفع عنه الآفات، فهذا يدخل في مسألة: حكم تعليق التمائم من القرآن، وقد عرفنا أن ذلك لا يجوز على الصحيح، بل يحرم.

سؤال: ما حكم من يوصي أحدا بالبحث عن راق يرقي له دون أن يطلب الرقية من الراقي بنفسه، هل هذا يدخل في الذين يسترقون؟

الجواب: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم في وصف السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب أنهم: «هم الذين لا يسترقون» (1) معناه: لا يطلبون الرقية، وفهم جواب السؤال يتبع فهم التعليل، ذلك أن أولئك كانوا لا يسترقون، يعني لا يطلبون الرقية، لأجل ما قام في قلوبهم من الاستغناء بالله، وعدم الحاجة إلى الخلق، ولم تتعلق قلوبهم بالخلق في رفع ما حل بهم، وكما ذكرت لك فإن مدار العلة على تعلق القلب بالراقي، أو بالرقية في رفع ما بالمرقي من أذى، أو في دفع ما قد يتوقع من السوء، وعليه فيكون الحالان

(1) تقدم.

ص: 597

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

سواء، يعني: إن كان طلب بنفسه، أو طلب بغيره فإنه طالب، والقلب متعلق بمن طلب منه الرقية إما بالأصالة أو بالواسطة.

سؤال: ما حكم من يقول له أهله: اذبح ذبيحة ووزعها على المساكين دفعا لبلاء ما، فهل تجوز تلك النية؟

الجواب: هذا فيه تفصيل، ذلك أن ذبح الذبائح إذا كان من جهة الصدقة، ولم يكن لدفع شيء متوقع، أو لرفع شيء حاصل، ولكن من جهة الصدقة، وإطعام الفقراء، فهذا لا بأس به وهو داخل في عموم الأدلة التي فيها الحض على الإطعام، وفضيلة إطعام المساكين.

وأما إن كان الذبح؛ لأن بالبيت مريضا، فيذبح لأجل أن يرتفع ما بالمريض من أذى، فهذا لا يجوز بل يحرم؛ سدا للذريعة، ذلك لأن كثيرين يذبحون حين يكون بهم مرض؛ لظنهم أن المرض كان بسبب الجن، أو كان بسبب مؤذ من المؤذين، فإذا ذبح الذبيحة وأراق الدم فإنه يندفع شره، أو يرتفع ما أحدثه ذلك المؤذي. ولا شك أن اعتقاد مثل هذا محرم ولا يجوز، فالذبيحة التي ذبحت لرفع المرض والصدقة بها عن المريض - والحالة هذه - قال العلماء: هي حرام ولا تجوز سدا للذريعة، وللشيخ العلامة سعد بن حمد بن عتيق رسالة خاصة في الذبح للمريض.

وكذلك إذا كان الذبح لدفع أذى متوقع، كأن يكون في البلد داء معين، فذبح لدفع هذا الداء، أو كان في الجهات التي حول البيت شيء يؤذي، فيذبح ليندفع ذلك المؤذي، إما لص - مثلا - يتسلط على البيوت، أو أذى ما يأتي للبيوت، فيذبح ويتصدق بها لأجل أن يندفع ذلك الأذى، فهذا أيضا

ص: 598

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

غير جائز، ومنهي عنه سدا للذريعة؛ لأن من الناس من يذبح لدفع أذى الجن وهذا شرك بالله - جل وعلا.

فإذا قيل: فما معنى ما رواه أبو داود وغيره بإسناد حسنه بعض أهل العلم، وبعضهم ضعفه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «داووا مرضاكم بالصدقة» (1) هل يدخل فيه إراقة الدم؟ لأجل ما فيها من الوسيلة إلى الاعتقادات الباطلة. ومعلوم أن الشريعة جاءت بسد الذرائع الموصلة إلى الشرك، وجاءت أيضا بفتح الذرائع الموصلة للخير، فما كان من ذريعة يوصل إلى الشرك والاعتقاد الباطل فإنه ينهى عنه.

سؤال: ما الحكم في بعض الأواني التي يكتب عليها بعض الآيات، والتي تباع في بعض المحلات التجارية؟

الجواب: إن هذه الأواني يختلف حالها فإن كان يستخدمها لأجل أن يتبرك بما كتب فيها من الآيات، فيجعل فيها ماء ويشربه؛ لأن الماء يلامس هذه الآيات، فهذا من الرقية غير المشروعة؛ لأن الرقية المشروعة تكون بقراءة الآيات في الماء، وهذه الآيات لم تنحل في الماء، بل هي مكتوبة في ذلك الإناء المعدني أو النحاسي، والتصاق الماء بتلك الكتابات من الآيات أو الأدعية لا يجعل الماء - بذلك - مباركا أو مقروءا فيه، فإذا اتخذت هذه الأواني لذلك: فالرقية بها غير مشروعة.

(1) أخرجه أبو الشيخ في " الثواب " عن أبي أمامة. كما في " صحيح الجامع الصغير "(3358) والحديث لم يروه أبو داود بمرة.

ص: 599

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

وأما إذا اتخذها للزينة، أو لجعلها في البيت، أو لتعليقها، فهذا كرهه كثير من أهل العلم؛ لأن القرآن ما نزل لتزين به الأواني، أو تزين به الحيطان، وإنما نزل للهداية كما قال تعالى:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]

سؤال: ما حكم من يضع مصحفا في درج السيارة، معتقدا أن للمصحف أثرا في رد العين أو البلاء؟

الجواب: إذا كان يقصد من وضع المصحف في درج السيارة، أو في أي جهة منها، أن يدفع ذلك عنه العين، فهذا من اتخاذ المصحف تميمة، وقد تقدم حكم التمائم من القرآن، وأن الصحيح أنه لا يجوز أن يجعل القرآن تميمة، ولا يظن أن وجوده في مكان ما يدفع العين، لكن الذي يدفع العين: قراءة القرآن، والأدعية المشروعة، والاستعادة بالله جل وعلا، ونحو ذلك مما جاء في الرقية.

فتحصل أن وضع القرآن في السيارة لهذه الغاية داخل في المنهي عنه، وهو من اتخاذ التمائم من القرآن، لكن لما كان القرآن غير مخلوق - وهو كلام الله جل وعلا - لم تصر هذه التميمة شركية وإنما ينهى عنها فقط لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستعمل القرآن على هذه الصفة، ولم يجعله في عنق أحد من الصحابة، لا الصغار ولا الكبار، ولا أذن، ولا وجه، إلى أن يجعل القرآن في شيء من صدورهم، أو في عضد أحدهم، أو في بطنه، ومعلوم أن مثل هذا لو كان دواء مشروعا، أو رقية سائغة، أو تميمة مأذونا بها، لرخص فيها ولا سيما مع شدة حاجة الصحابة إلى ذلك، لأن تعليق القرآن أيسر من البحث عن راق

ص: 600

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

يرقي ويطلب منه ذلك وربما يكافأ على رقيته، أو يطلب أجرا، فلما كان هذا أيسر والنبي صلى الله عليه وسلم لم يرشدهم إلى الأيسر - وقد بعث ميسرا - علم مع ضميمة الأدلة المتقدمة التي ذكرت: أن هذا من جنس الرقية غير المشروعة والله أعلم.

سؤال: قوله: " وعامرهن غيري " قد يستدل به أهل البدع على أن الله في كل مكان، فكيف الرد عليهم؟

الجواب: المقصود بالسماوات في قوله - جل وعلا - في الحديث القدسي: " يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري " السماوات السبع معروفة، وهي طباق بعضها فوق بعض، والمراد بقوله:"وعامرهن " العمارة المعنوية، يعني: من عمرها بالتسبيح، والتهليل، وذكر الله وعبادته، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك قائم، أو ملك ساجد، أو ملك راكع» (1) ففيها عمار كثيرون عمروها بعبادة الله جل وعلا، وقد قال - جل وعلا - في أول سورة الأنعام {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 3] [الأنعام: 3] ، فالله - جل وعلا - هو المعبود - سبحانه - في السماوات، وهو المعبود - سبحانه - في الأرض.

فقوله هنا: " لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري " يعني: من يعمر السماوات، والمقصود بهذا الاستثناء في قوله:" غيري " الله عز وجل،

(1) انظر السلسلة الصحيحة رقم (852) .

ص: 601

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

ويحتمل الاستثناء هذا أن يكون راجعا إلى الذات، أو إلى الصفات، ومعلوم أن الأدلة دلت على أن الله - جل وعلا - على عرشه، مستو عليه بائن من خلقه، جل وعلا، والسماوات من خلقه سبحانه وتعالى؛ فعلم من ذلك أن قوله:" وعامرهن غيري " راجع إلى عمارة السماء بصفات الله - جل وعلا، وبما يستحقه سبحانه من التأله، والعبودية، وما فيها من علم الله، ورحمته، وقدرته، وتصريفه للأمر، وتدبيره، ونحو ذلك من المعاني.

سؤال: رجل عنده ولد مريض مرضا لم يجد له علاجا، فقال: أذهب إلى مكة، وأضع ولدي عند البيت، وأدعو له بالشفاء، فإذا حان الظهر دعوت مائة شخص من فقراء الحرم على الغداء ثم أقول لهم: ادعوا الله أن يشفي ولدي، فما حكم هذا العمل؟

الجواب: هذا العمل فيه تصدق ودعوة الفقراء إلى الطعام، وفيه طلب الدعاء منهم لولده، والتصدق بالطعام هو من جنس الأعمال المشروعة - كما تقدم - وتقدم أيضا حكم الذبائح وإراقة الدماء، فإذا كان في هذا الإطعام ذبائح: فتفصيل الجواب كما سبق.

وإن كان قصده مجرد إطعامهم ولإشباعهم والتصدق عليهم، ثم طلب منهم الدعاء - وهي المسألة الثانية - فهذا راجع إلى هل يشرع طلب الدعاء من الغير بهذه الصفة، أو لا يشرع؟ الظاهر أن هذا من جنس ما هو غير مشروع، ومعنى أنه ليس بمشروع: أنه ليس بمستحب ولا واجب، ولكن هل يجوز طلب الدعاء من الآخرين؟ قال العلماء: الأصل في ذلك الكراهة، والمتأمل فيما روي عن الصحابة وعن التابعين الذين طلب منهم الدعاء: أنهم كرهوا ذلك، ونهوا

ص: 602

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

الطالب، وربما قالوا له: أنحن أنبياء؟!! كما قال ذلك حذيفة، ومعاذ، وغيرهما رضي الله عنهم، وكان إمام دار الهجرة: أنس بن مالك رحمه الله إذا طلب منه الدعاء نهى الطالب، خشية أن يلتفت الناس إليه، وتتعلق قلوبهم به، وإنما يتعلق في طلب الدعاء بالأنبياء، أما من دونهم فلا يتعلق بهم في هذا الأمر؛ لهذا اختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن طلب الدعاء من المسلم الحي يكون مشروعا إذا قصد به نفع الداعي ونفع المدعو له، فإذا قصد الطالب أن ينفع الجهتين يعني: ينفع نفسه، وينفع الداعي فهذا من المشروع، وهذا هو الذي يحمل عليه ما جاء في السنة فيما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما، «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر لما أراد أن يعتمر: " لا تنسنا يا أخي من دعائك» (1) وهذا الحديث إسناده ضعيف، وقد احتج به بعض أهل العلم ومعناه ظاهر في أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن ينفع عمر بهذه الدعوة؛ فالطالب للدعاء محتاج إلى غيره.

والمقصود: أن ما فعله هذا السائل لأجل ولده الأولى له تركه؛ لأجل ألا يتعلق قلبه بأولئك في دعائهم.

ومن العلاج المناسب شرعا أن يلتزم بين الركن والمقام، يعني: بين الحجر الأسود، وبين آخر حد باب الكعبة - وهو الملتزم، يلتزم ويلصق بطنه وصدره وخده ببيت الله جل جلاله، ويقف بالباب مخبتا منيبا سائلا الله - جل وعلا - منقطعا عن الخلق عالما أنه لا يشفي من الداء في الحقيقة إلا الله جل جلاله فالله - جل وعلا - هو الذي يشفي، وهو الذي يعافي، كما قال

(1) أخرجه أبو داود (1498) والترمذي (3562) وابن ماجه (2894) .

ص: 603

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2][فاطر: 2] ، فهذا الفعل أعظم أثرا - إن شاء الله - من فعله الذي يريد أن يفعله من دعوة أولئك، فالتضرع إلى الله في أوقات الإجابة، وفي الأماكن الفاضلة، وفي الأزمنة الفاضلة، نرجو أن يكون معه إجابة الدعاء وشفاء المرض إن شاء الله.

سؤال: مما يقع فيه كثير من الناس أنه إذا حصل له أمر ونجا منه فإنه يوجب على نفسه الصدقة، أو يعتقد وجوبها، فما حكم ذلك؟

الجواب: أن الصدقة في مثل هذا ليس لها حكم الوجوب، والشكر لله - جل وعلا - على نعمه - إذا نجى العبد من بلاء أو حصلت له مسرة - ينبغي أن يكون بالسجود، أو بالصلاة، أو بالصدقة شكرا لله - جل وعلا - على نعمه، وهذا كله من المستحب، وليس من الواجب، إلا إذا كان ثم نذر، كمن - نذر إن نجي من كذا وكذا - أن يتصدق. فهنا يكون قد ألزم نفسه بعبادة، وهي الصدقة المنذورة، فتكون في هذه الحالة - واجبة بالنذر، أما أصل الصدقة فهو مستحب، وإذا كانت الصدقة في مقابلة نعمة، أو اندفاع نقمة، فهي أيضا مستحبة، وليست بواجبة، فلا تجب إلا إذا نذر وتحقق الشرط.

سؤال: عند بعض الناس عادة، وهي أن من حصل بينه وبين شخص عداوة أو بغضاء لتعد من أحدهما على الآخر فيطلبون من أحدهما أن يذبح ويسمون ذلك ذبح صلح، فيذبح ويحضرون من حصلت معه العداوة، فما حكم ذلك؟

ص: 604

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

الجواب: أن ذبح الصلح الذي تعمله بعض القبائل في صورته المشتهرة المعروفة لا يجوز؛ لأنهم يجعلون الذبح أمام من يريدون إرضاءه ويريقون الدم تعظيما وإجلالا له لإرضائه، فهذا النوع من الذبح يكون محرما؛ لأنه لم يرق الدم لله - جل وعلا - وإنما أراقه لأجل إرضاء فلان، فهذا الذبح - كما قلت - محرم، والذبيحة - أيضا - لا يجوز أكلها؛ لأنها لم تذبح لله - جل وعلا - وإنما ذبحت لغيره.

فإن كان الذبح الذي هذا صفته يقصد به التقرب والتعظيم للمذبوح له: صار شركا أكبر، وإن لم يكن يقصد به التقرب والتعظيم له كان محرما؛ لأنه لم يخلص من أن يكون لغير الله فصارت عندنا مع هذه الصورة المسؤول عنها صورة أخرى تقدمت وهي: الذبح عند قدوم السلطان وبحضرته، وفي كلتا الصورتين: إن كان قصد الذابح التقرب والتعظيم للمذبوح له، فيكون الذبح حينئذ شركا أكبر بالله - جل وعلا - لأنه ذبح وأراق الدم تعظيما للمخلوق، وتقربا إليه.

وإن لم يذبح تقربا أو تعظيما، وإنما ذبح لغاية أخرى مثل الإرضاء، فيكون قد شابه أهل الشرك فيما يذبحونه تقربا وتعظيما، فنقول: الذبيحة لا تجوز ولا تحل، والأكل منها حرام، ويمكن للإخوة الذين يشيع عندهم في بلادهم أو في قبائلهم مثل هذا الفعل المسمى " ذبح الصلح " ونحوه أن يبدلوه بخير منه، وهو أن يجعلونه وليمة للصلح، فيذبحون للضيافة، يعني: يذبحون لمن يريدون إرضائهم، ويدعونهم، ويكرمونهم، ولا يكون هذا بحضرتهم، فهذا من الأمر المرغب فيه، ويكون الذبح في هذه الحالة كما يذبح المسلم عادة لضيافة أضيافه، ونحو ذلك.

ص: 605

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

سؤال: رجل في منطقة ما يأتي إليه الناس عند فقد أموالهم، فيعطيهم خيطا معقدا ويقرأ عليه، ويطلب منهم أن يضعوه في المكان الذي فقد فيه المال، فما حكم ذلك العمل؟ وما حكم هذا الرجل؟ وما حكم الصلاة خلفه؟

الجواب: هذا من الكهانة؛ لأن الذي يعمل هذه الأشياء يسمى بالعراف، أو الكاهن، وقد يكون ساحرا أيضا، فلا يجوز مثل هذا العمل، ولا يحل لأحد أن يعين أحدا يدعي معرفة شيء من علم الغيب، والصلاة خلفه لا تجوز؛ لأن هذا إما أن يكون عرافا أو كاهنا أو ساحرا، وهؤلاء لا تجوز الصلاة خلفهم.

سؤال: ما معنى قولهم: الشرك الأصغر أكبر من الكبائر، وكيف يكون كذلك والشرك الأكبر يعتبر من الكبائر؛ إذ هو أكبر الكبائر، فنرجو إزالة الإشكال؟

الجواب: هذا سبق إيضاحه، وهو أن الكبائر قسمان: قسم منها يرجع إلى جهة الاعتقاد والعمل الذي يصحبه اعتقاد، وقسم منها يرجع إلى جهة العمل الذي لا يصحبه اعتقاد.

مثال الأول - وهو الذي يصحبه الاعتقاد: أنواع الشرك بالله كالاستغاثة بغير الله، والذبح لغيره، والنذر لغيره، ونحو ذلك، فهذه أعمال ظاهرة، ولكن هي كبائر يصحبها اعتقاد جعلها شركا أكبر، فهي في ظاهرها: صرف عبادة لغير الله - جل وعلا - وقام بقلب صاحبها الشرك بالله، بتعظيم هذا المخلوق، وجعله يستحق هذا النوع من العبادة، إما على جهة الاستقلال، أو لأجل أن يتوسط.

ص: 606

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

والقسم الثاني: الكبائر العملية التي تعمل لا على وجه اعتقاد، مثل: الزنا، وشرب الخمر، والسرقة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، ونحو ذلك من الكبائر والموبقات، فهذه تعمل دون اعتقاد؛ لهذا صارت الكبائر على قسمين.

فنقول: الشرك الأصغر - ومن باب أولى الشرك الأكبر -: هو من حيث جنسه أكبر من الكبائر العملية، فأنواع الشرك الأصغر - وإن كانت لفظيا، مثل قول: ما شاء الله وشئت، ومثل الحلف بغير الله، أو نسبة النعم إلى غير الله، أو نسبة اندفاع النقم لغير الله - جل وعلا - أو تعليق التمائم، ونحو ذلك - كلها من حيث الجنس أعظم. نعم: هي من الكبائر، لكنها من حيث الجنس أعظم من كبائر العمل التي لا يصاحبها اعتقاد؛ لأن كبائر الأعمال مثل: الزنا، والسرقة، ونحوها من الكبائر العملية، ليس فيها سوء ظن بالله - جل وعلا - وليس فيها صرف عبادة لغير الله، أو نسبة شيء لغير الله - جل وعلا - والحامل له على فعلها: مجرد الشهوات، وأما في الأخرى فالحامل له على فعلها: اعتقاده بغير الله، وجعل غير الله - جل وعلا - ندا لله سبحانه وتعالى، وأعظم الذنب أن يجعل المرء لله ندا وهو خلقه - جل وعلا.

سؤال: لماذا لم يبين الرسول صلى الله عليه وسلم الشرك للصحابة قبل أن يقعوا فيه كما في حديث ذات أنواط؟

الجواب: من المعلوم أن الشريعة جاءت بالإثبات المفصل والنفي المجمل، والنفي إذا كان مجملا، فإنه يندرج تحته صور كثيرة، فمن فهم دلالة النفي فلا يحتاج - مع النفي - أن ينبه على كل فرد من أفراده، ولهذا نقول: من فهم (لا

ص: 607

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

إله إلا الله) ، لم يحتج إلى أن يفصل له كل مسألة من المسائل، فمثلا: النذر لغير الله ليس فيه حديث النذر لغير الله شرك، والذبح لغير الله ليس فيه حديث ينص أن الذبح لغير الله شرك، وكذا: العكوف عند القبور، أو العكوف عند الأشجار والأحجار والتبرك بها، وكل ما سبق لم يأت فيه ما ينص عن النهي عنها بأعيانها، ولكن نفي إلهية غير الله - جل وعلا - يدخل فيها - عند من فهم معنى العبادة - كل الصور الشركية؛ ولهذا: فإن الصحابة رضي الله عنهم فهموا ما دخل تحت هذا النفي، ولم يطلب ذات أنواط - كما للمشركين ذات أنواط - إلا من كان حديث عهد بكفر، يعني: لم يسلم إلا قريبا، وهم قلة ممن كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى حنين.

وأما الإثبات: فإنه يكون مفصلا، وتفصيل الإثبات تارة يكون بالتنصيص، وتارة يكون بالدلالة العامة، كما في الآيات الآمرة بوجوب إفراد الله - جل وعلا - بالعبادة، مثلا كقوله تعالى:{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21][البقرة: 21]، وكقوله:{مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59][الأعراف: 59 و 65 و 73 و 85 - هود: 50 و 61 و84 - المؤمنون: 23 و 32]، ونحو ذلك من الآيات. وتارة يكون بالأدلة الخاصة بالعبادة كقوله تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7][الإنسان: 7]، وكقوله {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] [الكوثر: 2]، وكقوله {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9] [الأنفال: 9] ، فهذه أدلة إثبات تثبت أن تلك المسائل من العبادات؛ وإذا كانت من العبادات، فقول (لا إله إلا الله) يقتضي بالمطابقة أنه: لا تصرف العبادة إلا لله - جل وعلا.

ص: 608

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

فيكون ما طلبه أولئك من القول - الذي لم يعملوه - راجعا إلى عدم فهمهم أن تلك الصورة داخلة فيما نفي لهم مجملا بقول لا إله إلا الله.

سؤال: ما حكم التبرك بالصالحين وبماء زمزم والتعلق بأستار الكعبة؟

الجواب: التبرك بالصالحين قسمان:

القسم الأول: التبرك بذواتهم، أو بعرقهم، أو بسؤرهم - يعني: بقية الشراب - أو بلعابهم الذي اختلط بالنوى مثلا، أو بما فضل من طعامهم، أو بأشعارهم، ونحو ذلك، فهذا لا يجوز وهو من البدع المحدثة. وقد تقدم بيان أن الصحابة - رضوان الله عليهم - لم يكونوا يعملون مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - وهم سادة أولياء هذه الأمة - شيئا من ذلك، وإنما فعله الخلوف الذين يفعلون ما لا يؤمرون ويتركون ما أمروا به.

والقسم الثاني: بركة عمل، وهي الاقتداء بالصالحين في صلاحهم، والاستفادة من أهل العلم، والتأثر بأهل الصلاح، فهذا أمر مطلوب شرعا، أما التبرك بالذات، كما كان يفعل مع النبي صلى الله عليه وسلم فهذا ليس لأحد إلا للنبي عليه الصلاة والسلام.

أما التبرك بماء زمزم فإنه لا بأس به؛ لمجيء الدليل بذلك، وهو قوله عليه الصلاة والسلام عن ماء زمزم:«إنها طعام طعم وشفاء سقم» (1) فمن شربها طعاما، أو شفاء من سقم، فقد عمل بما دل عليه الدليل، وكذلك من شربها لغرض من الأغراض التي يريد أن يحققها لنفسه: فهذا أيضا جائز، لأن

(1) أخرجه الطيالسي عن أبي ذر كما في " صحيح الجامع "(2435) .

ص: 609

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

النبي عليه الصلاة والسلام قال: «ماء زمزم لما شرب له» (1) . فمن جعل ماء زمزم سببا لأشياء يريد تحقيقها، فلا بأس بذلك؛ لأن هذا راجع إلى أنه سبب أذن به شرعا، ولو شرب ماء آخر كالمياه المعدنية - مثلا - وأراد بشرب هذا الماء أن يحفظ القرآن، واعتقد ذلك سببا لحفظ القرآن: فإن اعتقاده هذا خاطئ، لأن الدليل هو الذي يدل على كون ذلك الشيء مؤثرا أو لا.

أما التعلق بأستار الكعبة رجاء البركة: فهذا من وسائل الشرك، ويكون من الشرك الأصغر إذا اعتقد أن ذلك التبرك سبب لتحقيق مطلوبه، أما إذا اعتقد أن الكعبة ترفع أمره إلى الله، أو أنه إذا فعل ذلك عظم قدره عند الله، وأن الكعبة يكون لها شفاعة عند الله، أو نحو تلك الاعتقادات التي فيها اتخاذ الوسائل إلى الله - جل وعلا، فإن هذا التبرك - على هذا النحو - يكون شركا أكبر؛ ولهذا يقول كثير من أهل العلم: إن التمسح بحيطان المسجد الحرام، أو بالكعبة، أو بمقام إبراهيم، ونحوها؛ رجاء بركتها، هو من وسائل الشرك الأكبر، بل هو من الشرك الأصغر، كما قرر ذلك الإمام الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله.

سؤال: يوجد بعض الساعات مكتوب عليها لفظ الجلالة، فهل يجوز الدخول بها إلى الخلاء؟

الجواب: يقول العلماء في كتب الفقه، في آداب دخول الخلاء:" ويكره دخول الخلاء بشيء فيه ذكر الله "، فاصطحاب شيء مما فيه ذكر الله في الخلاء مكروه.

(1) أخرجه ابن ماجه (3062) .

ص: 610

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

سؤال: هل يعتبر هذا النذر مطلقا أم مقيدا، وهو: إذا حصل للعبد منفعة، مثل أن نجح أو حصل على وظيفة، ثم نذر أن يصوم ثلاثة أيام لله تعالى، مع العلم أنه لم ينذر قبل نجاحه، أو حصوله على الوظيفة؟

الجواب: النذر المطلق: هو الذي لم يعلق بشيء سيحصل في المستقبل، والنذر المقيد: هو الذي علق الوفاء به بحصول شيء من الله - جل وعلا - للعبد وهذا يكون في المستقبل، كأن يقول: إن شفى الله مريضي فسأصوم ثلاثة أيام، أو نحو ذلك. فهذا هو النذر المعلق المقيد. أما المطلق: فهو أن ينذر نذرا لله - جل وعلا - تبررا منه إما بسبب حادثة حدثت، أو نعمة تجددت، أو نقمة اندفعت، أو بدون سبب، فهذا كله يدخل في النذر المطلق، أما المقيد فهو المعلق بشرط في المستقبل - كما تقدم قريبا.

سؤال: ما حكم عمل احتفال بسيط بمناسبة انتهاء عقد أحد العاملين بالشركة، سواء كان مسلما أو غير مسلم، وحجة بعضهم في عمل الاحتفال لغير المسلم أنه من باب دعوته إلى الإسلام، مع العلم أنه خلال وجوده في العمل لم يقدم له أحد - ممن يحتجون بهذا القول - كتابا أو شريطا لدعوته للإسلام؟

الجواب: المقصود من تلك الاحتفالات إكرام من أقيمت له، فإذا كان مسلما: فإكرام المسلم من حقوقه المستحبة، وإذا كان غير مسلم فله حالتان: الحالة الأولى: أن يكون ممن لم يظهر للإسلام عداوة، أو أظهر في الإسلام رغبة، وهو مسالم لأهل الإسلام، ومحب لأهل الخير وأهل الدين والصلاح - كما يظهر من بعضهم - فمن كان بهذه الصفة: فإنه يصلح أن يدعى للإسلام؛

ص: 611

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

لأنه قريب، سلم من البغضاء والعداوة التي تحجزه عن قبول الحق. لو عرض عليه.

فإذا كان القصد من عمل الاحتفال لمثل هذا: أن يكون ذلك بداية لدعوته إلى الإسلام ببيان محاسنه، وبيان بطلان الأديان الأخرى، ونحو ذلك، فهذا بحسب قصد فاعله، لكن أصل الإكرام لغير المسلم لا يجوز.

وأما إن كان معاديا للإسلام، أو لم يظهر قبولا للإسلام، أو عرف من سيرته - حين بقي تلك المدة في المؤسسة أو الشركة - أنه لا يحب الخير، بل ربما أظهر صدودا عن أهل الخير، وأظهر عدم قبول لبعض أوامر الشرع التي يحكم بها: فهذا لا يجوز إكرامه؛ لأن إكرامه من موالاة الكفار، وموالاتهم محرمة؛ لأنا نكون - بهذا - قد أكرمناه مع بقائه على عداوته وعلى بغضه، وهذا لا يجوز. والأصل على هذا التفصيل دل عليه قول الله - جل وعلا:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ - إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8 - 9][الممتحنة: 8 - 9]، فهذه الآيات فيها بيان حال الصنفين؛ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ربما أجاب دعوة اليهود: رجالهم، أو نساءهم، وربما أتى بعض أهل الكتاب، وربما أهدى إليهم، بل وحث على الهدية للجار، وهذا كله لأجل الترغيب في الخير، والترغيب في الإسلام.

ص: 612

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

فالمقصود: أن الإكرام بتلك الحفلات لا يجوز إلا إذا كانت ثمة مصلحة شرعية راجحة يقدرها أهل العلم إذا وصف الحال لهم، وأما ما عدا ذلك، فلا يجوز إقامة الحفلات لهم؛ لأنها نوع موالاة للكفار.

سؤال: هل يدخل في باب: «لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله» ما يحصل - وخاصة في أوربا وأمريكا - من شراء كثير من المسلمين لكنائس قديمة ثم تعديلها لتكون مساجد، أو هدم الكنيسة وبناء مسجد مكانها؟

الجواب: أنه لا يدخل في ذلك؛ لأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي تضاعف الصلاة فيه، أقيم على مكان فيه قبور للمشركين؛ فبعد أن نبشت تلك القبور وأزيل الرفات، أقيم المسجد في ذلك المكان. (1) والكنيسة التي عبد فيها غير الله - جل وعلا - إذا حولت إلى مسجد، فهذا من أعظم الطاعات، ومن أحب الأعمال إلى الله - جل وعلا - وذكرت فيما سبق أن الفرق بين هذه الصورة وبين «لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله» : أن الذبح صورته مشتركة، بمعنى أن: الصورة الظاهرية واحدة، وإنما الاختلاف في النيات؛ ولهذا منع من ذلك، أما عبادة المسلمين وصلاتهم وهيئة مساجدهم وجلوسهم، إلى آخر تلك الهيئات: فهي مخالفة لما عليه صلاة النصارى. فاستبدال الكنيسة بالمسجد أمر مطلوب إذا تمكن المسلمون منه، بل هذا الذي فعله المسلمون في الأندلس، بل وفي بعض البلاد الأخرى: كالشام ومصر.

(1) أخرجه البخاري (428) ومسلم (524) .

ص: 613

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

سؤال: نرى عبارة مكتوبة على بعض السيارات " يا رضا الله ورضا الوالدين " فما حكم تلك العبارة؟

الجواب: قوله: " يا رضا الله ورضا الوالدين " غلط من جهتين: الجهة الأولى: أنه نادى رضا الله، ومناداة صفات الله - جل وعلا - بـ (ياء النداء) لا تجوز؛ لأن الصفة غير الذات في مقام النداء؛ ولهذا: إنما يُنادى الله - جل وعلا - المتصف بالصفات، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على البكري، وغيره من أهل العلم: على أن مناداة الصفة محرم بالإجماع، فإذا كانت الصفة هي الكلمة - كلمة الله - جل وعلا: كان كفرا بالإجماع؛ لأن من نادى الكلمة، يعني بها عيسى عليه السلام فيكون تأليها لغير الله - جل وعلا؛ ورضا الله - جل وعلا - صفة من صفاته، فلا يجوز نداء الصفة.

والمؤاخذة الثانية في تلك الكلمة: أنه جعل رضا الوالدين مقرونا برضا الله - جل وعلا - بـ (الواو)، والأنسب هنا أن يكون العطف بـ (ثم) فيقول - مثلا -: أسأل الله رضاه ثم رضا الوالدين. وإن كان استعمال الواو في مثل هذا السياق لا بأس به؛ لأن الله - جل وعلا - قال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14][لقمان: 14]، وقال - جل وعلا -:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23][الإسراء: 23]، ولأن (الواو) هنا تقتضي تشريكا في أصل الرضا؛ وهذا الرضا يمكن أن يكون من الوالدين - أيضا -: فيكون التشريك في أصل المعنى، لا في المرتبة.

ص: 614

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

سؤال: هل يجوز الذهاب للعلاج عند من يزعم أنه يعالج بمساعدة جن مسلمين؟ وهل هذه المساعدة من الجن للقارئ من الاستعانة الجائزة أو المحرمة؟

الجواب: الاستعانة بالجن سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين وسيلة من وسائل الشرك، والاستعانة معناها: طلب الإعانة؛ ولهذا فمن المتقرر عند أهل العلم أنه لا يجوز طلب الإعانة من مسلمي الجن؛ لأن الصحابة - رضوان الله عليهم - لم يطلبوا ذلك منهم، وهم أولى أن تخدمهم الجن، وأن تعينهم.

وأصل الاستعانة بالجن: من أسباب إغراء الإنسي بالتوسل إلى الجني، وبرفعة مقامه، وبالاستمتاع به، وقد قال - جل وعلا -:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام: 128][الأنعام: 128]، فحصل الاستمتاع - كما قال المفسرون - من الجني بالإنسي: بأن الإنسي يتقرب إليه، ويخضع له، ويذل، ويكون في حاجته، ويحصل الاستمتاع من الإنسي بالجني بأن يخدمه الجني، وقد يكون مع ذلك الاستمتاع ذبح من الإنسي للجني، وتقرب بأنواع العبادات، أو بالكفر بالله - جل وعلا - والعياذ بالله، بإهانة المصحف، أو بامتهانه أو نحو ذلك؛ ولهذا نقول: إن تلك الاستعانة بجميع أنواعها لا تجوز، فمنها ما هو شرك -كالاستعانة بشياطين الجن- يعني: الكفار - ومنها ما هو وسيلة إلى الشرك، كالاستعانة بمسلمي الجن.

ص: 615

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

وبعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إن الجن قد تخدم الإنسي. وهذا المقام فيه نظر وتفصيل؛ ذلك أنه رحمه الله ذكر في آخر كتاب " النبوات ": أن أولياء الله لا يستخدمون الجن إلا بما فعله معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أمرهم، ونهاهم، أي: بالأوامر، والنواهي الشرعية، أما طلب خدمتهم وطلب إعانتهم. فإنه ليس من سجايا أولياء الله، ولا من أفعالهم، قال: مع أنه قد تنفع الجن الإنس، وقد تقدم له بعض الخدمة ونحو ذلك، وهذا صحيح من حيث الواقع.

فالحاصل أن المقام فيه تفصيل: فإذا كان الاستخدام بطلب الخدمة من الجني المسلم، فهذا وسيلة إلى الشرك، ولا يجوز أن يعالج عند أحد يعرف منه أنه يستخدم الجن المسلمين. وإذا كانت الجن تخدم بعض الناس بدون طلبه، فإن هذا قد يحصل، لكن لم يكن هذا من خلق أولياء الله، ولا مما سخره الله - جل وعلا - لخاصة عباده، فلا يسلم من هذا حاله من نوع خلل جعلت الجن تكثر من خدمته، وإخباره بالأمور، ونحو ذلك. فالحاصل: أن هذه الخدمة إذا كانت بطلب منه، فإنها لا تجوز، وهي نوع من أنواع المحرمات؛ لأنها نوع استمتاع، وإذا كانت بغير طلب منه فينبغي له أن يستعيذ بالله من الشياطين ويستعيذ بالله من شر مردة الجن؛ لأنه قد يؤدي قبول خبرهم، واعتماده، إلى حصول الأنس بهم، وقد يقوده ذلك الاستخدام إلى التوسل بهم والتوجه إليهم - والعياذ بالله -. فإذا تبين ذلك: فإن خبر الجن عند أهل العلم ضعيف، لا يجوز الاحتجاج به عند أهل الحديث، وذكر ذلك أيضا الفقهاء. وهذا صحيح؛ لأن البناء على الخبر وقبوله: هو فرع عن تعديل المخبر، والجني غائب، وعدالته غير معروفة، وغير معلومة عند السامع، فإذا بنى الخبر عمن

ص: 616

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

جاءه به من الجن وهو لم يرهم، ولم يتحقق عدالتهم إلا بما سمع من خطابهم - وهي لا تكفي - فإنه يكون قد قبل خبر من يحتمل أنه فاسق؛ ولهذا قال الله - جل وعلا -:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6][الحجرات: 6] ، والذين يقبلون إخبار الجن، وإعلام الجن لهم ببعض الحوادث، تحصل منهم مفاسد متنوعة كثيرة، منها هنا: جزمهم بصحة ما أخبرتهم به الجن فربما حصل بسبب ذلك مفاسد عظيمة، من الناس الذين أخبروا بذلك، فيكثر القيل والقال، وقد تفرقت بعض البيوت من جراء خبر قارئ جاهل يزعم أن الذي فعل هذا هو فلان باعتبار الخبر الذي جاءه، ويكون الخبر الذي جاءه من الجني خبرا كذبا، فيكون قد اعتمد على نبأ هذا الذي لا يعلم عدالته، وبنى عليه وأخبر به، فيحصل من جرائه فرقة، واختلاف، وتفرق، وشتات في البيوت، ونعلم أنه قد ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم رحمه الله أن إبليس ينصب عرشه على ماء، ويبعث سراياه، فيكون أحب جنوده إليه من يقول له: فرقت بين المرأة وزوجها، (1) وهذا من جملة التفريق الذي يسعى إليه عدو الله، بل الغالب أنه يكون من هذه الجهة، فأحب ما يكون إلى عدو الله أن يفرق بين المؤمنين؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أيضا مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في

(1) أخرجه مسلم (2813)(67) .

ص: 617

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم» (1) فهذه المسألة يجب على طلاب العلم أن يسعوا في إنكارها، وبذل الجهد في إقامة الحجة على من يستخدم الجن، ويتذرع بأن بعض العلماء أباح ذلك، والواقع أن هذا العمل وسيلة من وسائل الشرك بالله - جل وعلا -. واقرؤوا أول كتاب ((تاريخ نجد)) لابن بشر، حيث قال: إن سبب دخول الشرك إلى قرى نجد أنه كان بعض البادية إذا أتى وقت الحصاد، أو أتى وقت خرف النخيل، فإنهم يقطنون بجانب تلك القرى ومعهم بعض الأدوية والأعشاب، فإذا كانوا كذلك فربما سألهم بعض جهلة تلك القرى حتى حببوا إليهم بعض تلك الأفعال المحرمة من جراء سؤالهم، وحببوا إليهم بعض الشركيات، أو بعض البدع، حتى فشا ذلك بينهم، فبسبب هؤلاء المتطببين الجهلة، والقراء المشعوذين انتشر الشرك - قديما - في الديار النجدية وما حولها، كما ذكر ابن غنام. وقد حصل أن بعض مستخدمي الجن، كثر عنده الناس، فلما رأى من ذلك، صار يعالج علاجا نافعا، فزاد تسخر الجن له، حتى ضعف تأثيره، فلما ضعف تأثيره ولم يستطع مع الحالات التي تأتيه للقراءة أو للعلاج شيئا: صار تعلقه بالجن أكثر، ولا زال ينحدر ما في قلبه من قوة اليقين، وعدم الاعتماد بقلبه على الجن، حتى اعتمد عليهم شيئا فشيئا، ثم حرفوه - والعياذ بالله - عن السنة، وعما يجب أن يكون في القلب من توحيد الله، وإعظامه، وعدم استخدام الجن في الأغراض الشركية، فجعلوه يستخدم الجن في أغراض شركية وأغراض لا تجوز بالاتفاق.

(1) أخرجه مسلم (2812) .

ص: 618

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

فهذا الباب مما يجب وصده، وكذلك: يجب إنكار وسائل الشرك والغواية، وحكم من يستخدم الجن، ويعلن ذلك، ويطلب خدمتهم لمعرفة الأخبار، فهذا جاهل بحقيقة الشرع، وجاهل بوسائل الشرك، وما يصلح المجتمعات وما يفسدها، والله المستعان.

سؤال: ما الفرق بين التوسل والشفاعة؟ نرجو التوضيح وجزاكم الله خيرا.

الجواب: أن التوسل: هو اتخاذ الوسيلة، والوسيلة: هي الحاجة نفسها، أو ما يوصل إلى الحاجة وقد يكون ذلك التوسل باستشفاع، يعني: بطلب شفاعة؛ بمعنى أنه يريد أن يصل إلى حاجته - بحسب ظنه - بالاستشفاع، وقد يروم التوصل إلى حاجته - بحسب ظنه - بغير الاستشفاع؛ فيتوسل مثلا بالذوات فيسأل الله بذات فلان، أو بجاهه، أو بحرمته، مثل أن يقول: اللهم إني أسألك بنبيك محمد - بعد وفاته عليه الصلاة والسلام أو يقول: اللهم إني أسألك بأبي بكر، أو بعمر، أو بالإمام أحمد، أو بابن تيمية، أو بالولي الفلاني، أو بأهل بدر، أو بأهل بيعة الرضوان، أو بغيرهم. فهذا هو الذي يسمونه توسلا، وهذا التوسل معناه: أنه جعل أولئك وسيلة، وأحيانا يستعمل في التوسل لفظ: الحرمة، والجاه، فيقول: أسألك بحرمتهم، أو أسألك بجاههم، ونحو ذلك. أما الاستشفاع: فهو أن يسألهم الشفاعة أي: يطلب منهم أن يشفعوا له.

فتحصل من ذلك: أن التوسل يختلف عن الاستشفاع، في أن المستشفِع: طالب للشفاعة، وقد علم أن الشفاعة إذا طلبها من العبد يكون قد سأل غير الله، وأما المتوسل - بحسب عرف الاستعمال - فإنه يسأل الله، لكن يجعل ذلك بوسيلة أحد.

ص: 619

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

فالاستشفاع: سؤال لغير الله، وأما الوسيلة فهي سؤال الله بفلان، أو بحرمته، أو بجاهه: وكل هذا لا يجوز؛ لأنه اعتداء في الدعاء؛ ولأنه بدعة محدثة ووسيلة إلى الشرك، وأما الاستشفاع بالمخلوق الذي لا يملك الدعاء، كالميت، أو الغائب، أو نحوهما: فهو شرك أكبر؛ لأنه طلب ودعاء لغير الله.

فالتوسل - بحسب العرف - هو من البدع المحدثة، ومن وسائل الشرك، وأما طلب الشفاعة من غير الله فهو دعاء غير الله، وهو شرك أكبر.

لكن الجاهليون والخرافيون والقبوريون يسمون جميع عباداتهم الشركية - من طلب الشفاعة، والذبح، والنذر، والاستغاثة بالموتى، ودعائهم - توسلا وهذا غلط في اللغة والشرع معا، فالكلام في أصله لا يصح؛ فإن بين التوسل والشفاعة فرقا من حيث مدلول المعنى اللغوي، فكيف يسوى بينهما في المعنى؟ ! أما إذا أخطأ الناس وسموا العبادات المختلفة توسلا، فهذا غلط من عندهم، لا يتحمله الشرع، ولا تتحمله اللغة.

سؤال: ما حكم من يضع على السيارات، أو المنازل عبارات مثل: ما شاء الله، أو تبارك الله، أو هذا من فضل ربي؟

الجواب: هذا له حكم تعليق بعض الآي على الحيطان، أو في السيارات، أو نحو ذلك، فإن كان المقصود منها الإرشاد إلى عمل شرعي مسنون: فهذا مشروع، أو مباح، وأما إن كان القصد منها أن تحفظه وأن تحرسه من العين أو من الأذى، فهذا راجع إلى اتخاذ التمائم من القرآن ونحوه، وهذا سبق تفصيل الجواب عنه.

ص: 620

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

سؤال: ما حكم امرأة طلبت من قريب لها ذاهب إلى مكة أن يشتري لها كفنا من هناك وأن يغسل الكفن من ماء زمزم، وهذا الأمر منتشر بين الناس؟

الجواب: هذا تبرك بما يباع في مكة واعتقاد فيه، وهو باطل، لا يجوز فعله؛ لأن ما يباع في مكة ليس له خصوصية في البركة، وليس له خصوصية في النفع، بل هو وما يباع في غير الحرم سواء، وأما غسله بماء زمزم لرجاء أن يكون ذلك الكفن فيه من بركة ماء زمزم، فكذلك هذا غلط؛ لأن بركة ماء زمزم مقيدة بما ورد فيه الدليل، ليست بركة عامة، إنما هي بركة خاصة بما جاء فيه الدليل؛ ولهذا: فإن الصحابة - رضوان الله عليهم - لم يكونوا يستعملون ماء زمزم إلا فيما جاءت فيه الأدلة كقوله صلى الله عليه وسلم: «ماء زمزم لما شرب له» (1) وقوله في زمزم - أيضا -: «إنها طعام طعم وشفاء سقم» (2) . أما التبرك بها في غير ذلك، فهذا ليس له أصل شرعي.

سؤال: ما حكم الاغتسال بماء زمزم، والماء الذي قرئ فيه القرآن في بيوت الخلاء؟

الجواب: لا بأس بذلك؛ لأنه ليس فيه قرآن مكتوب، وليس فيه المصحف مكتوبا، وإنما فيه الريق، أي: النفث، وهو: الهواء الذي خالطه المصحف، أو خالطته القراءة.

ومن المعلوم أن أهل مكة في أزمنتهم الأولى كانوا يستعملون ماء زمزم ولم يكن عندهم غير ماء زمزم، فالصواب أن لا كراهة في ذلك، وأنه جائز، والماء ليس فيه قرآن إنما فيه نفث بالقرآن وفرق بين المقامين.

(1) تقدم.

(2)

تقدم.

ص: 621

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

سؤال: ما الحكم إذا ذبح العبد ذبيحة، لأن الله قد شفى مريضه، وخرج من المستشفى؟

الجواب: أن هذا يرجع إلى نيته في ذبح هذه الذبيحة، فإذا كانت بعد الانتهاء من المرض، وارتفاعه، وتعافى ذلك المريض، وشفي بفضل الله -جل وعلا - وبنعمته: فهذا يختلف حاله، فإذا قصد بالذبيحة أنها شكر لله - جل وعلا - وتصدق بلحمها فهذا حسن؛ لأن المرض قد انتهى وارتفع، فهو لا يقصد بها الاستشفاء، وإنما هي نوع شكر لله - جل وعلا -، وكذلك: فلا بأس إن دعا إليها أحدا من أقربائه، أو ممن يحبون ذلك المريض ونحو ذلك، فهذا من باب الإكرام.

وأما إذا كانت مقاصده أو نياته في هذا الذبح: أن يدفع رجوع هذا المرض مرة أخرى، أو أن يدفع شيئا من انتكاسات المرض، أو يدفع شيئا مما يخافه: فهذا غير جائز، سدا لذريعة الاعتقادات الباطلة.

سؤال: جاء في بعض الكتب نقل معناه: أن الإنسان إذا خاف على ولده أو على نفسه العين، فإنه يضع على جبهته، أو جبهة ولده نقطة سوداء، لصرف العين ودفعها.

الجواب: اعتقادات الناس في دفع العين لا حصر لها، والجامع لذلك: أن كل شيء يفعله الناس مما يعتقدونه سببا، وليس هو بسبب شرعي ولا قدري: فإنه لا يجوز اتخاذه، وهذا يختلف عما جاء عن عمر رضي الله عنه أنه رأى غلاما صغيرا، حسن الصورة، وخاف عليه العين، فقال لأهله: دسموا نونته، ففعلوا؛ فهذا من باب إخفاء الحسن، ومحاولة تدميم الصورة. وليس التدسيم - وهو وضع

ص: 622

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

نقطة في بعض الوجه - الذي يوضع لأجل أن تدفع تلك النقطة العين، ولكن لأجل أن يظهر بمظهر ليس بحسن، فلا تتعلق النفوس الشريرة به.

فإذا كان وضع هذه النقطة - التي ذكرت - لأجل اعتقاد أنها تدفع العين، فهذا من اتخاذ الأسباب الشركية التي لا تجوز، وإن كان لأجل إظهار عدم الحسن في تلك الصورة الجميلة، أو ذلك الجسد المعافى، أو نحو ذلك، فإن هذا لا بأس به. والله أعلم.

سؤال: أجاز بعض العلماء التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ودليلهم حديث الأعمى فكيف يرد عليهم؟ وجزاكم الله خيرا.

الجواب: حديث الأعمى رواه الترمذي وغيره، (1) وهو حديث حسن، وهناك رواية أخرى طويلة في معجم الطبراني الصغير لهذا الحديث، وفيها زيادة: أن أحد الصحابة - وهو عثمان بن حنيف رضي الله عنه أرشد إلى استعمال ذلك الدعاء بعد وفاته عليه الصلاة والسلام (2) .

بالنسبة للقدر الأول وهو أن الأعمى توسل بالنبي عليه الصلاة والسلام في حياته، فهذا صحيح وجار على الأصول، حيث إن التوسل بالنبي عليه الصلاة والسلام في حياته توسل بدعائه وهو عليه الصلاة والسلام يملك ذلك، ويستطيعه ويقدر عليه.

أما التوسل بالنبي عليه الصلاة والسلام: أي بدعائه، أو بذاته، أو بنحو ذلك، بعد وفاته، فإنه لا يجوز؛ لأنه طلب للشيء ممن

(1) رواه أحمد في المسند (4 / 138) والترمذي (5 / 569) والطبراني في المعجم الكبير (9 / 19) .

(2)

رواه الطبراني في الصغير (1 / 184) .

ص: 623

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

لا يملكه، والرواية التي في " الطبراني الصغير " ضعيفة، وفيها مجاهيل؛ ولذلك ليست بحجة ولم يرد أن الصحابة استعملوا هذا الدعاء بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

والذي يدل - أيضا - على أن ذلك خاص بالأعمى، وعلى أصل الاستشفاع، وأنه رحمة من الله - جل وعلا - للمستشفع، وفضل منه عليه، وإزالة عما به: أن ذلك الأعمى رأى النور وأبصر بعد دعاء النبي عليه الصلاة والسلام له، وتوجه ذلك الأعمى إلى الله - جل وعلا - أن يجيب فيه دعاء نبيه عليه الصلاة والسلام.

والصحابة الآخرون الذين كانوا مكفوفين لم يدعوا بهذا الدعاء، فكان في المدينة أناس عدة قد كفت أبصارهم منهم: ابن أم مكتوم، وجماعة، فما دعوا بذلك الدعاء وإنما كان ذلك خاصا بذلك الأعمى، فالعلماء لهم في ذلك توجيهان:

التوجيه الأول: أن ذلك الدعاء كان خاصا بذلك الأعمى، بدليل عدم استعمال بقية الصحابة ذلك الدعاء، وعدم إرشاد النبي عليه الصلاة والسلام لهم أن يزال ما بهم من عمى البصر بذلك الدعاء.

التوجيه الثاني: أن ذلك خاص بحياته عليه الصلاة والسلام ولا يكون بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، وهذا الثاني والأول جميعا ظاهرة صحيحة والصحابة فهموا ذلك؛ ولهذا ثبت في صحيح البخاري وغيره أن عمر رضي الله عنه قال لما أجدبوا وهو يخطب في الاستسقاء: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا بنبيك، وإنا نتوسل إليك اليوم بعم نبيك، يا عباس قم فادع الله لنا (1) .

(1) أخرجه البخاري في الاستسقاء (1010) .

ص: 624

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

قال العلماء: انتقل عمر من الفاضل - وهو النبي عليه الصلاة والسلام إلى المفضول وهو العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام، لعلة شرعية، وهي أن الدعاء من الحي ممكن، وأما من غير الحي - الحياة الدنيا المعروفة - فإنه غير ممكن، وإلا كان عمر رضي الله عنه انتقل من الفاضل إلى المفضول لغير علة شرعية، وهذا ممتنع في حق الصحابة رضوان الله عليهم، لكمال فقههم.

سؤال: بعض أصحاب السيارات الخاصة، كالليموزين، وسيارات النقل الكبيرة، يضعون على أطراف السيارة خرقا سوداء اعتقادا منهم بأنها حروز تمنعهم الحوادث، فهل يجوز نزعها؟ أو ماذا نفعل؟

الجواب: إذا كان الأمر كما وصفه السائل، من أن سبب وضع تلك الشارات أو الخرق، هو اعتقاد أهلها فيها، فيجب نزعها، ومن نزعها فله فضل نزع التمائم من أماكنها، أو تخليص أصحابها منها، لكن هذا متوقف على أن يعلم أنهم وضعوها لهذا الغرض، فإن وضع مثل هذه الشارات لهذا الغرض غير معروف أنه لأجل دفع التمائم، فإذا كان بعض الناس يستعملها لدفع الشر، ويستعملها لأنها تمائم، فهذه يجب نزعها، ومن رآها لا يحل له أن يتعداها حتى ينزعها؛ لأنها اعتقاد في غير الله؛ ولأنها نوع من أنواع المنكر وذلك الاعتقاد فيها كبيرة من الكبائر، وشرك أصغر بالله - جل وعلا -.

سؤال: كيف نخرج قول النبي عليه الصلاة والسلام: «لولا أنا لكان عمي في الدرك الأسفل من النار» ؟

الجواب عن هذا يأتي في بابه - إن شاء الله - والقاعدة المنضبطة في ذلك، هو منع أن يقول القائل: لولا فلان لكان كذا، لأنه شرك لفظي، ونوع

ص: 625

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

تشريك؛ حيث إنه نسب النعمة لغير الله - جل وعلا -، وهذا له صور كثيرة جدا: منها على سبيل المثال قول القائل: لولا أن فلانا كان جيدا معي لكان حصل لي كذا وكذا، أو: لولا أن السيارة كانت قوية لهلكت، أو لولا كذا لكان كذا، مما فيه تعليق دفع النقم أو حصول النعم لأحد من المخلوقين. والواجب على العباد أن ينسبوا النعم إلى الله - جل وعلا -؛ لأنه هو الذي يسدي النعم، قال - جل وعلا - في سورة النعم:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53][النحل: 53]، وقال - جل وعلا - أيضا في السورة نفسها:{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل: 83][النحل: 83] ، فالواجب على العبد المسلم أن ينسب النعم إسداء، وتفضلا، وإنعاما لله - جل وعلا - وأن يتعلق قلبه بالذي جعل تلك النعم تصل إليه.

والناس أو الخلق أو الأسباب، إنما هي فضل من الله - جل وعلا - جعلها أسبابا، وما فلان من الناس إلا سبب أوصل الله إليك النفع عن طريقه، أما النافع في الحقيقة فهو الله - جل وعلا -، فإذا اندفعت عنك نقمة، فالذي دفعها هو الله - جل وعلا - بواسطة سبب ذلك المخلوق، آدميا كان، أو غير آدمي، فيجب نسبة النعم إلى الله - جل وعلا - فلا تنسب نعمة لغيره سبحانه، ومن نسبها لغيره سبحانه فهو داخل في قول الله - جل وعلا -:{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل: 83][النحل: 83] .

وأما الحديث الذي في الصحيح من «أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: هل نفعت عمك أبا طالب بشيء؟ قال: " هو في ضحضاح من النار، ولولا أنا لكان في الدرك

ص: 626

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

الأسفل من النار» (1) فقوله عليه الصلاة والسلام: " لولا أنا " هذا فيه ذكر لعمله عليه الصلاة والسلام وافترق عن قول القائل: لولا فلان لحصل كذا، من جهتين: الجهة الأولى: أن ذلك القائل هو الذي حصلت له النعمة، أو اندفعت عنه النقمة، والنبي صلى الله عليه وسلم هنا - يخبر عن صنيعه بعمه، وأن عمه اندفعت عنه بعض النقمة، فذلك النهي في المتحدث الذي تعلق قلبه بالذي نفعه أو دفع عنه الضر، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم:" لولا أنا " فهو إخبار عن نفعه لغيره، فليس فيه تعلق القلب، في اندفاع النقمة، أو حصول النعمة بغير الله - جل وعلا -، هذا وجه، فتكون العلة التي من أجلها نهي عن قول: لولا كذا، لما فيها من نسبة النعمة إلى غير الله، من جهة تعلق القلب بذلك الذي حصل له النعمة، وهذا غير وارد في قول النبي عليه الصلاة والسلام:«لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام ليس هو الذي حصلت له النعمة، وإنما هو مخبر عن فعله لعمه.

الوجه الثاني في ذلك: أن النبي عليه الصلاة والسلام قد بين أن نفعه لعمه من جهة الشفاعة، فهو يشفع لعمه حتى يكون في ضحضاح من نار، فقوله:«لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» يعني: لولا شفاعتي. ومعلوم بنصوص الشرع أنه عليه الصلاة والسلام يكرم بالشفاعة، ويعطى الشفاعة، فهو سائل؛ وهو سبب من الأسباب، والمتفضل حقيقة: هو الله - جل وعلا،

(1) أخرجه البخاري (3885) و (6564) ومسلم (360) .

ص: 627

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]

فكأنه قال عليه الصلاة والسلام بضميمة علمنا أنه يشفع لعمه - كأنه قال: لولا أن الله شفعني فيه لكان في الدرك الأسفل من النار. فليس فيه - بالوجهين جميعا - تعليق للقلب لغير الله - جل وعلا - في حصول النعم، أو اندفاع النقم، مما يكون في قول القائل: لولا فلان لحصل كذا، أو لولا السيارة لحصل كذا، أو لولا الطيار لحصل كذا، أو لولا البيت كان محصنا لحصل كذا، ونحو ذلك مما فيه تعلق قلب من حصلت له النعمة بالمخلوقين، والله أعلم.

ص: 628