الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده]
" باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، فكيف إذا عبده؟ " وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها «أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال: " أولئك شرار الخلق عند الله، أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله» (1) .
فهؤلاء جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل.
ولهما عنها قالت: «لما نزل برسول الله طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا» أخرجاه (2) .
ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) أخرجه البخاري (427) و (434) و (1341) و (3878) ، ومسلم (528) .
(2)
أخرجه البخاري (435) و (1330) و (1390) و (3453) و (4443) و (5815) ومسلم (531) .
يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» (1) .
فقد نهى عنه في آخر حياته، ثم إنه لعن - وهو في السياق - من فعله.
والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يبن مسجد، وهو في معنى قولها: خشي أن يتخذ مسجدا، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا، وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا كما قال صلى الله عليه وسلم:«جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» (2) ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا: «إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد» . رواه أبو حاتم في صحيحه (3) .
فيه مسائل: الأولى: ما ذكر الرسول فيمن بنى مسجدا يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل.
الثانية النهي عن التماثيل وغلظ الأمر في ذلك.
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) أخرجه مسلم (532) .
(2)
أخرجه البخاري (335) و (438) و (3122) ومسلم (521) .
(3)
أخرجه أحمد (5316) وابن خزيمة (879) .
الثالثة: العبرة في مبالغته صلى الله عليه وسلم في ذلك كيف بين لهم هذا أولا، ثم قبل موته بخمس، قال ما قال؛ ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم.
الرابعة: نهيه عن فعله عند قبره أن يوجد القبر.
الخامسة: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم.
السادسة: لعنه إياهم على ذلك.
السابعة: أن مراده تحذيره إيانا عن قبره.
الثامنة: العلة في عدم إبراز قبره.
التاسعة: في معنى اتخاذها مسجدا.
العاشرة: أنه قرن بين من اتخذها، وبين من تقوم عليه الساعة، فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته.
الحادية عشرة: ذكره في خطبته قبل موته بخمس: الرد على الطائفتين اللتين هما أشر أهل البدع، بل أخرجهم بعض أهل العلم الاثنتين والسبعين فرقة، وهم: الرافضة والجهمية. وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد.
الثانية عشرة: ما بلي به صلى الله عليه وسلم من شدة النزع.
الثالثة عشرة: ما أكرم به من الخلة.
الرابعة عشرة: التصريح بأنها أعلى من المحبة.
الخامسة عشرة: التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة.
السادسة عشرة: الإشارة إلى خلافته.
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
ونهى عنه، مع أن المغلظ عليه لم يعبد إلا الله جل وعلا، ولم يعبد صاحب القبر، لكنه اتخذ ذلك المكان رجاء بركته، ورجاء تنزل الرحمات - كما يقولون - ورجاء تنزل النسمات، والفضل من الله عليه، فاختاره لأجل بركته، ولكنه لم يعبد إلا الله - جل وعلا - ومع ذلك لعن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الصنف الذين يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد.
قوله: " فيمن عبد الله " يعني: أنه لم يشرك بالله، بل عبد الله وحده؛ بأن صلى لله مخلصا، أو دعا لله مخلصا، أو تضرع واستغاث واستعاذ بالله - جل وعلا - مخلصا.
لكنه تحرى إيقاع هذه العبادات عند قبر رجل صالح لأجل البركة.
والرجل الصالح - كما سبق أن ذكرنا - هو المقتصد: الذي أتى بالواجبات، وابتعد عن المحرمات، أو السابق بالخيرات؛ وهو أعلى درجة، فالصالحون من الرجال والنساء: مقامات: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران: 163][آل عمران: 163] وَبَعْض أهل العلم يعبر في تعريف الرجل الصالح بقوله: الصالح من عباد الله، هو: القائم بحقوق الله؛ القائم بحقوق عباده، وهذا تعبير صحيح؛ ولأن المقتصد قائم بحقوق الله، قائم بحقوق عباده، أتى بالواجبات، وانتهى عن المحرمات، وأعظم منه درجة: السابق بالخيرات. فأهل السبق بالخيرات من العباد، لا يجوز أن تعظم قبورهم، وأن يغلي فيها بظن أن البقعة التي حول قبورهم بقعة مباركة، فإن هذا الفعل قد جاء فيه الوعيد الذي سيأتي في هذا الباب، وغلظ عليه الصلاة والسلام فيه على فاعله.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
وقوله: " فكيف إذا عبده؟ ": يعني إذا كان هذا التغليظ واللعن قد جاء في حق من اتخذ قبور الأنبياء مساجد، ومن أسرج على القبور، أو عظمها، وعظم من فيها، وعبد الله وحده عندها: إذا كان هذا قد جاءت النصوص بلعن فاعله، وأنه من شرار الخلق عند الله: فكيف إذا توجه ذلك العابد إلى صاحب القبر يدعوه، ويرجوه، أو يخافه، أو يأمل منه، أو يستغيث به، أو يصلي له، أو يذبح له، أو يستشفع به؟ !! لا شك أن هذا أعظم وأعظم في التغليظ من عبادة الله وحده عند قبر رجل صالح؛ كما قال الشيخ رحمه الله:" فكيف إذا عبده؟ " يعني أن التغليظ يكون أشد وأشد، إذا عبد صاحب ذلك القبر، وهذا مقتضى كلام الشيخ في هذه التبويب. وهذا واضح؛ لأن تحري العبادة والدعاء أو تعظيم ذلك المكان، وسيلة وذريعة إلى الشرك، المقبورين، فإذا كان من فعل وسائل الشرك الأكبر ملعونا، وموصوفا بأنه ومن شرار الخلق عند الله، فكيف بمن فعل الشرك الأكبر بعينه وتوجه إلى قبور الصالحين، واتخذها أوثانا مع الله جل وعلا؟ !! لا شك أن هذا أبلغ وأبلغ في التغليظ، وذلك لأنه من الشرك الأكبر المخرج من ملة الإسلام، إذا فعله مسلم.
ومعنى قوله: " فكيف إذا عبده " أي: عبد القبر، أو عبد الرجل الصالح صاحب القبر؛ لأن عبادة القبوريين تارة تكون بالتوجه إلى القبر، وتارة بالتوجه إلى صاحب القبر، بل وتارة التوجه إلى ما حول القبر، كالأبنية المحاطة بالقبور، وصارت مشاهد، فمنها ما يكون مسورا بالحديد، فترى من هؤلاء من يعمد إلى تلك الستور والجدران والأبنية، فيتمسح بها رجاء بركتها، ويتخذها وسيلة إلى الله، فتراهم - أيضا - يعكفون عند قبور معظميهم،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
ويتخذون مشاهدهم أوثانا يعبدونها، ويرجونها، ويخافونها، وإذا ضم أحدهم إلى صدره تلك المشاهد، أو الحديد، أو الستور، ونحو ذلك، فكأنه صار مقربا عند الله، وقبلت وسيلته تلك. ولا شك أن هذا نوع من أنواع اتخاذ المشاهد أوثانا، ومن اتخاذ القبور أوثانا، أو اتخاذ الرجل الصالح - الذي هو متبرئ من أولئك ومن عبادتهم له - إلها مع الله، وقد علمنا أن العبادة معناها واسع، وأنها قد تكون بالصلاة له، أو بدعوته، أو بسؤاله كشف المدلهمات، أو جلب الخيرات، أو الذبح لصاحب القبر، أو وضع النذور له، ونحو ذلك من أنواع العبادات، كما هو الواقع من أولئك الذين يعبدون الأوثان، وقبور الصالحين.
قوله: في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها «أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال: " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله» . في هذا الحديث: أن أم سلمة رضي الله عنها لما كانت في الحبشة رأت كنيسة، ورأت في تلك الكنيسة صور الصالحين، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح» فقد يكون الرجل الصالح نبيا من أنبيائهم، أو عبدا من عباد الله الصالحين فيهم، فماذا كانوا يفعلون معه؟ جاء في قوله عليه الصلاة والسلام:«بنوا على قبره مسجدا» ، أي: يجعلون قبره مسجدا، والمسجد في اللغة؛ هو: مكان العبادة، فيدخل في هذا المعنى: الكنائس. والمسجد أيضا: مكان السجود. والسجود هو الخضوع والتذلل
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
لله جل وعلا. فالمسجد يطلق على: كل مكان يتخذ لعبادة الله - جل وعلا - كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» ، فمكان العبادة يقال له: مسجد. ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في شأن الكنيسة: «بنوا على قبره مسجدا» ، يعني: مكانا للعبادة فالكنائس - إذا - بنيت على قبور أولئك الصالحين، وصوروا فيها الصور، أي: جعلوا صور الصالحين على قبورهم، أو على حوائط القبور؛ لكي يدلوا الناس على عبادة الله بتعظيم ذلك الرجل الصالح، وتعظيم قبره، فاتخذوا البناء على القبور، الذي هو وسيلة من وسائل الشرك الأكبر، ومن البدع التي يحدثها الخلوف بعد الأنبياء، اتخاذ الصور فوق القبور، والتعبد بها؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم عنهم:«أولئك شرار الخلق عند الله جل وعلا» .
وقوله: «أولئك» : الخطاب فيه لأم سلمة رضي الله عنها، والخطاب إذا توجه إلى مؤنث تكسر فيه كاف الخطاب. وقوله:«أولئك شرار الخلق عند الله» أي: المعظمون الصالحين ببناء المساجد على قبورهم. وليس في هذا الحديث أنهم توجهوا إليهم بالعبادة، بل عظموا قبورهم، وجعلوا لهم صورا، فجمعوا بين فتنتين: فتنة القبور، وفتنة الصور، وفتنة الصور وسيلة من وسائل حدوث الشرك الأكبر، وكذلك فتنة القبور: بالبناء عليها، وبتعظيمها، وبإرشاد الناس إليها، وسيلة إلى أن يعتقد في صاحب القبر أن له شيئا من خصائص الإلهية، أو أنه يتوسط عند الله - جل وعلا - في قضاء الحاجات، كما حصل ذلك منهم فعلا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
والمفهوم من وصفه صلى الله عليه وسلم لأولئك الأقوام بأنهم شرار الخلق عند الله: تحذير هذه الأمة أن يبنوا على قبر أحد مسجدا؛ لأن من فعل ذلك ودل الخلق على تعظيم ذلك القبر، فهو من شرار الخلق عند الله؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام:«لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع» .
فوجه الدلال من هذا الحديث: قوله: «أولئك شرار الخلق عند الله» وما فيه من التغليظ فيمن عبد الله في الكنيسة، التي فيها القبور والصور، لأن القبور والصور من وسائل الشرك بالله جل وعلا.
وقوله: ولهما عنها - يعني عن عائشة - قالت: «لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم يعني نزل به الموت - طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال، وهو كذلك: " لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» : هذا الحديث من أعظم الأحاديث التي فيها بالتغليظ والنهي عن وسائل الشرك، وبناء المساجد على القبور، واتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد.
ووجه ذلك: أنه عليه الصلاة والسلام مع أنه في ذلك الغم، وتلك الشدة، ونزول سكرات الموت به لم يغفل - وهو في تلك الحال - تحذير الأمة من وسيلة من وسائل الشرك، وتوجيه اللعن والدعاء على اليهود والنصارى بلعنة الله؛ لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
وسبب ذلك: أنه عليه الصلاة والسلام وهو في تلك الحال خشي أن يتخذ قبره مسجدا، كما اتخذ شرار الخلق عند الله من اليهود والنصارى قبور أنبيائهم مساجد، فلعنهم النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: «لعنة الله على اليهود
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
والنصارى» واللعنة هي: الطرد والإبعاد من رحمة الله، وذلك يدل على أنهم فعلوا كبيرة من كبائر الذنوب، لأن البناء على القبور، واتخاذ قبور الأنبياء مساجد، هو من وسائل الشرك، وكبيرة من الكبائر.
وقوله: «اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» فيه بيان السبب الذي لأجله استحقوا اللعن، وهو: أنهم اتخذوا قبور الأنبياء مساجد. وفي تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من اتخاذ القبور مساجد، ولعن فاعله وهو في السياق: ما يقوم مقام آخر وصية أوصى بها. ومع ذلك: خالف كثير من هذه الأمة وصيته عليه الصلاة والسلام. واتخاذ القبور مساجد يكون على إحدى صور ثلاث:
الصورة الأولى: أن يسجد على القبر، يعني: أن يجعل القبر مكان سجوده، فقوله:«اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يعني: جعلوا القبر مكان السجود. وهذه الصورة في الواقع لم تحصل بانتشار؛ لأن قبور الأنبياء لم تكن مباشرة للناس، بحيث يمكنهم الصلاة عليها، أو السجود عليها بل كانوا يعظمون قبور أنبيائهم فلا يصلون عليها مباشرة. لكن أبلغ صور الاتخاذ المفهوم من قوله:«اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» هو: أن يتخذ القبر نفسه مسجدا، يعني: يصلي عليه مباشرة، وهذه أفظع تلك الأنواع وأشدها، وأعظمها، وسيلة إلى الشرك والغلو بالقبر.
الصورة الثانية: أن يصلي إلى القبر، ومعنى اتخذه مسجدا في هذه الحالة: أن يكون أمامه القبر، يصلي إليه بحيث يجعله قبلة، فإنه يكون بذلك قد اتخذ القبر وما حوله له حكمه: مكانا للتذلل والخضوع. والمسجد لا يعني به مكان السجود، الذي هو وضع الجبهة على الأرض فقط، وإنما يعني به مكان
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
التذلل والخضوع، فاتخاذ قبورهم مساجد، يعني: جعلوها قبلة لهم؛ ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي إلى القبر؛ لأجل أن الصلاة إليه وسيلة من وسائل التعظيم، وهذا يوافق قول الشيخ رحمه الله في الباب " باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح "، فالمفهوم من قوله:" عند قبر رجل صالح " هذه الصورة المتقدمة، وهي: أن يكون القبر أمامه، فيجعل القبر بينه وبين القبلة تعظيما للقبر.
الصورة الثالثة: أن يتخذ القبر مسجدا، بأن يجعل القبر في داخل بناء، وذلك البناء هو المسجد، فإذا دفن النبي قام أولئك بالبناء عليه، فجعلوا حول قبره مسجدا واتخذوا ذلك المكان للتعبد وللصلاة فيه، هذه هي الصورة الثالثة، وهي أيضا موافقة لقول الشيخ رحمه الله " عند قبر رجل صالح ".
وهذا يبين لك بعض المناسبة في إيراد هذا الحديث في هذا الباب.
وقول عائشة رضي الله عنها " يحذر ما صنعوا " فيه إشارة إلى السبب الذي لأجله لعن النبي عليه الصلاة والسلام اليهود والنصارى، وهو يعالج ويعاني سكرات الموت؛ وهو أنه أراد تحذير الصحابة من أن يحذوا في ذلك الأمر حذو أهل الكتاب. وقد قبل الصحابة رضوان الله عليهم تحذيره، وعملوا بوصيته. ومعنى قولها رضي الله عنها:" ولولا ذلك أبرز قبره ". يعني: لأظهر، وجعل قبره مع سائر القبور في البقيع أو غير ذلك، ولكن كان من العلل التي جعلتهم لا ينقلونه عليه الصلاة والسلام من مكانه الذي توفي فيه إلى المقبرة: قوله عليه الصلاة والسلام: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» قالت: يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره، فهذه إحدى العلتين.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
والعلة الثانية: قول أبي بكر رضي الله عنه إنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الأنبياء يقبرون حيث يقبضون» (1) .
وقولها: " غير أنه خشي " بفتح الخاء، أو خشي بضمها، وهما وجهان جائزان.
فإذا كان بفتح الخاء فالمقصود به: النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان بضم الخاء فالمقصود: هم الصحابة رضي الله عنهم وهذا تنبيه على إحدى العلتين.
وقد قبل الصحابة - رضوان الله عليهم - وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعملوا بها، فدفنوه في مكانه الذي قبض فيه، في حجرة عائشة، وكانت رضي الله عنها قد أقامت جدارا بينها وبين القبور، فكانت غرفة عائشة فيها قسمان قسم فيه القبر، وقسم هي فيه.
وكذلك لما توفي أبو بكر رضي الله عنه، ودفن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة الشمال، كانت أيضا في ذلك الجزء من الحجرة، ولما دفن عمر رضي الله عنه تركت الحجرة رضي الله عنها، ثم أغلقت الحجرة، فلم يكن ثم باب فيها يدخل منه إليها، وإنما كانت فيها نافذة صغيرة، ولم تكن الغرفة كما هو معلوم مبنية من حجر، ولا من بناء مجصص، وإنما كانت من البناء الذي كان في عهده عليه الصلاة والسلام؛ من خشب ونحو ذلك.
ولما زيد في بناء المسجد النبوي في عهد الوليد بن عبد الملك، وكان أمير المدينة يوم ذاك، عمر بن عبد العزيز رحمه الله وأخذوا بعضا من حجر زوجات النبي عليه الصلاة والسلام: بقيت حجرة النبي عليه الصلاة والسلام
(1) سيرة ابن هشام " 4 / 1303.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
كذلك، فأخذوا من الروضة جزءا، وبنوا عليه جدارا آخر غير الجدار الأول، بنوه من ثلاث جهات، وجعلوا جهة الشمال مسنمة أي: مثلثة، فصار عندنا الآن جداران: الجدار الأول: مغلق تماما، وهو جدار حجرة عائشة، والجدار الثاني: الذي عمل في إمرة عمر بن عبد العزيز رحمه الله زمن الوليد بن عبد الملك وقد جعلوا من جهة الشمال - وهي عكس القبلة - مسنما؛ لأنه في تلك الجهة جاءت التوسعة، فخشوا أن يكون ذلك الجدار مربعا، يعني: مسامتا للمستقبل، فيكون إذا استقبله أحد فقد استقبل القبر، فجعلوه مثلثا، يبعد كثيرا عن الجدار الأول، وهو: جدار حجرة عائشة؛ لأجل أن لا يمكن لأحد أن يستقبل القبر؛ لبعد المسافة؛ ولأجل أن الجدر صار مثلثا.
ثم بعد ذلك بأزمان جاء جدار ثالث أيضا وبني حول ذينك الجدارين، وهو الذي قال فيه ابن القيم رحمه الله في النونية في وصف دعاء النبي عليه الصلاة والسلام بقوله:«اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد» (1) قال:
فأجاب رب العالمين دعاءه
…
وأحاطه بثلاثة الجدران
حتى غدت أرجاءه بدعائه
…
في عزة وحماية وصيان
فأصبح قبر النبي عليه الصلاة والسلام محاطا بثلاثة جدران، وكل جدار ليس فيه باب، فلا يمكن لأحد أن يدخل ويقف على القبر بنفسه؛ لأنه صار ثم جداران، وكل جدار ليس له باب، ثم بعد ذلك وضع الجدار الثالث، وهذا الجدار أيضا ليس له باب، وهو كبير مرتفع، وهو الذي وضعت عليه القبة فيما بعد، فلا يستطيع أحد الآن أن يدخل إلى القبر، أو أن يتمسح به، أو أن
(1) أخرجه مالك في " الموطأ كتاب الصلاة (261) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
يرى مجرد القبر، ثم بعد ذلك: وضع السور الحديدي بينه وبين الجدار الثالث نحو متر ونصف في بعض المناطق، ونحو متر في بعضها، وفي بعضها نحو متر وثمانين إلى مترين، يضيق ويزداد، لكن من مشى: فإنه يمشي بين ذلك الجدار الحديدي وبين الجدار الثالث. فالحاصل: أن المسلمين عملوا بوصيته عليه الصلاة والسلام، وأبعد قبره، بحيث لا يمكن لأحد أن يصل إليه؛ ولهذا لما جاء الخرافيون في عهد الدولة العثمانية فتحوا في التوسعة التي هي من جهة الشرق ممرا؛ لكي يمكن من يريد أن يطوف بالقبر، أو أن يصلي في تلك الجهة، أن يطوف، أو يصلي!! وذلك الممر الشرقي - الذي هو قدر مترين أو يزيد قليلا - قد منعت الصلاة فيه في عهد الدولة السعودية الأولى، وما بعدها، فكأنه أخرج من كونه مسجدا؛ لأنه إذا كان من مسجد النبي عليه الصلاة والسلام: فلا يجوز أن يمنعوا أحدا من الصلاة فيه، فلما منعوا الصلاة فيه جعلوا له حكم المقبرة، ولم يجعلوا له حكم المسجد، فلا يمكن لأحد أن يصلي فيه، بل يغلقونه وقت الصلاة، أما وقت السلام أو وقت الزيارة فإنهم يفتحونه للمرور.
فتبين بذلك أن قبر النبي عليه الصلاة والسلام لم يتخذ مسجدا، وإنما أدخلت الغرف بالتوسعة في عهد التابعين في المسجد، ولكن جهته الشرقية خارجة عن المسجد، فصارت كالشيء الذي دخل في المسجد، ولكن الحيطان المتعددة - وهي الجدران الأربعة التي تفصل بين القبر والمسجد - تمنع أن يكون القبر في داخل المسجد، يعني مكان الدفن. ومما يدل على أخذ الصحابة والتابعين ومن بعدهم بوصية النبي عليه الصلاة والسلام هذه، وسد الطرق الموصلة إلى الشرك به عليه الصلاة والسلام، وعدم اتخاذ قبره مسجدا، أنهم
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
أخذوا من الروضة الشريفة التي هي روضة من رياض الجنة، كما قال عليه الصلاة والسلام:«ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» (1) قدر ثلاثة أمتار، لكي يبنوا الجدار الثاني، ثم الجدار الثالث وأخذوا أكثر من ثلاثة أمتار لإقامة السور الحديدي، فهذا من أعظم التطبيق والعمل بوصيته عليه الصلاة والسلام؛ حيث إنهم أخذوا من الروضة، وأجازوا أن يأخذوا من المسجد؛ لأجل أن يحمى قبر النبي عليه الصلاة والسلام من أن يتخذ مسجدا، وهذا - ولا شك - يدل على عظيم فقه من قاموا بذلك العمل، ففصل القبر عن المسجد بهذه الكيفية التي وصفت، هو من رحمة الله - جل وعلا - بهذه الأمة، ومن إجابة دعوة النبي عليه الصلاة والسلام لما دعا بقوله فيما سيأتي بعد هذا الباب:«اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد» .
إذن فقوله عليه الصلاة والسلام: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا» ، فإنه عليه الصلاة والسلام لم يتخذ قبره مسجدا.
والموجود اليوم في المسجد النبوي قد تكون صورته عند من لم يحسن التأمل، وعند غير الفقيه صورة قبر في داخل مسجد، وليست الحقيقة كذلك؛ لوجود الجدارين المختلفة التي تفصل بين المسجد وبين القبر؛ ولأن الجهة الشرقية منه ليست من المسجد؛ ولهذا لما جاءت التوسعة الأخيرة، كان مبتدؤها من جهة الشمال بعد نهاية الحجرة بكثير، حتى لا تكون الحجرة في وسط المسجد؛ فيكون ذلك من اتخاذ قبره مسجدا عليه الصلاة والسلام.
(1) أخرجه البخاري (1196) و (1188) و (6588) و (7335) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
فالمقصود من هذا البيان: أن قبر النبي عليه الصلاة والسلام ما اتخذ مسجدا، وأن وصيته عليه الصلاة والسلام في التحذير قد أخذ بها في مسجده وفي قبره، ولكن خالفتها بعض الأمة في قبور بعض الصالحين من هذه الأمة، فاتخذوا قبور بعض آل البيت مساجد وعظموها، كما تعظم الأوثان.
" ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس، وهو يقول: إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا» : سبب ذلك: أن الخلة هي أعظم درجات المحبة، وهي التي تتخلل الروح، وتتخلل القلب، وشغاف الصدر، بحيث لا يكون ثم مكان لغير ذلك الخليل؛ ولهذا فإن النبي عليه الصلاة والسلام ليس له من أصحابه خليل؛ ولهذا قال:«ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا» .
ووجه الشاهد من هذا الحديث قوله بعد ذلك: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» : وجاء في رواية أخرى أيضا: «كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد» ، وهذا هو الذي وقع في هذه الأمة، ولا شك أنه وسيلة من وسائل الشرك.
ومناسبة الحديث للباب ظاهرة وهي: أنه حرم اتخاذ قبور والأنبياء والصالحين مساجد، مع أنه قد يكون العابد لا يعبد إلا الله؛ لأنها وسيلة من وسائل
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
الشرك الأكبر، والوسائل تفضي إلى ما بعدها، وقد تقرر في القواعد الشرعية، وأجمع عليه المحققون: أن سد الذرائع الموصلة إلى الشرك، وإلى المحرمات، أمر واجب، لأن الشريعة جاءت بسد أصول المحرمات، وسد الذرائع إليها، فيجب أن يغلق كل باب من أبواب الشرك بالله، ومن ذلك: اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد؛ ولهذا لا تصح الصلاة في مسجد بني على قبر؛ لأن ذلك مناف لنهي النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام نهى، وهؤلاء فعلوا، والنهي توجه إلى بقعة الصلاة فبطلت الصلاة؛ فالذي يصلي في مسجد أقيم على قبر فصلاته باطلة لا تصح؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:«ألا فلا تتخذوا القبور مساجد» يعني: بالبناء عليها وبالصلاة حولها: «فإني أنهاكم عن ذلك» .
قوله: " فقد نهى عنه في آخر حياته، ثم إنه لعن - وهو في السياق - من فعله، والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يبن مسجد، وهو معنى قولها: " خشي أن يتخذ مسجدا ": يعني أن الصلاة عند القبور لا تجوز سواء صلى إليها، أو صلى عندها رجاء بركة ذلك المكان، أو لم يرج بركة ذلك المكان، وإنما صلى صلاة نافلة - غير صلاة الجنازة عندها - كل هذا لا يجوز؛ سواء كان ثم بناء على القبر: كمسجد، أو كان قبر، أو قبران في غير بناء عليهما، فإن الصلاة لا تجوز؛ ولهذا جاء في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:«اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تجعلوها قبورا» (1) وفي البخاري أيضا معلقا من كلام
(1) أخرجه البخاري (432) و (1187) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
عمر رضي الله عنه أنه رأى أنسا يصلي عند قبر، فقال له:" القبر، القبر "(1) يعني: احذر القبر، وهذا يدل على أن الصلاة عند القبور لا تجوز؛ لأنها وسيلة من وسائل الشرك، وأعظم من ذلك أن يكون ثم بنيان، واتخاذ لما حول القبر من الأبنية مسجدا للصلاة، والدعاء، والقراءة، ونحو ذلك.
وهو معنى قولها: " خشي أن يتخذ مسجدا "، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا، وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا، كما قال صلى الله عليه وسلم:«جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» : وهذا ظاهر.
ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد» ورواه أبو حاتم (2) في صحيحه.
ووجه الشاهد من هذا الحديث: أنه قال: «والذين يتخذون القبور مساجد» يعني: أنهم من شرار الناس، فالذين يتخذون القبور مساجد هم من شرار الناس؛ وذلك لأن اتخاذ القبور مساجد - كما ذكرنا - وسيلة من وسائل الشرك بالله جل وعلا.
وقوله: «والذين يتخذون القبور مساجد» هذا يعم كل اتخاذ للقبر مسجدا، سواء اتخذه بالصلاة عليه، أو بالصلاة إليه أو بالصلاة عنده، فذلك القصد
(1) أخرجه البخاري معلقا إثر حديث (426) .
(2)
يعني ابن حبان. وأخرجه أحمد (5316) وابن خزيمة (879) والطبراني في " الكبير " كما في " مجمع الزوائد " 2 / 27 وقال: إسناده حسن.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
للصلاة عند القبر يجعل القاصد من شرار الناس كما وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام بذلك.
ومناسبة هذا الحديث للباب ظاهرة فإنه ذكر أن من شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد، والقصد من اتخاذ القبر مسجدا: أن يعبد الله عند قبر ذلك الرجل الصالح، فكيف حال الذي توجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام بالعبادة؟ ؟ !! والحال أن القبر لا يخلص إليه، ولكن الاستغاثة بالنبي عليه الصلاة والسلام، وتأليهه قد يقعان بحسب الاعتقادات، وبحسب المناداة، كما حصل من الجاهليين مناداة الملائكة، واتخاذ الملائكة آلهة مع الله جل جلاله. وكذلك المتخذون الأولياء معبودين، هم من أشر الناس الذين وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام بقوله «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد» ، فإن الذي اتخذ القبر مسجدا ملعون بلعنة النبي عليه الصلاة والسلام، وإن كان لم يعبد إلا الله جل وعلا، فكيف حال الذي عبد صاحب ذلك القبر؟ !! نسأل الله العافية والسلامة من كل وسائل الشرك.
وتأمل هذا مع ما فشا في بلاد المسلمين من بناء القباب والمشاهد على القبور، وتعظيم هذا الفعل المنكر، وتحسينه، وتوجيه الناس إليه، وإلى التعلق بالمقبورين، وذكر الحكايات الطويلة في مناقب أولئك الأولياء، وفي إجابتهم للدعوات، وإغاثتهم للهفات، ونحو ذلك يتبين لك غربة الإسلام أشد غربة في هذه الأزمنة وما قبلها، فكيف إذا قالوا: إن ذلك جائز، وذلك توحيد؟ ! بل كيف إذا اتهموا من نهاهم عن ذلك بعدم المعرفة، وعدم الفهم، وهو يدعوهم إلى الله - جل وعلا - وهم يدعونه إلى النار.؟ نسأل الله السلامة والعافية.
" باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله ". الغلو في قبور الصالحين: وسيلة من وسائل الشرك، بل قد يصل الغلو إلى أن يكون شركا بالله - جل وعلا - وأن يصير ذلك القبر وثنا يعبد؛ فالغلو درجات، وقد تقدم في الأبواب قبله ذكر بعض صور هذا الغلو في القبور، وهنا بين أن الغلو يصل إلى أن تصير تلك القبور أوثانا تعبد من دون الله. وإذا قلنا: إن الغلو هو: مجاوزة الحد. فمعناه هنا في هذا الباب: هو مجاوزة الحد في الصفة التي ينبغي أن يكون عليها القبر؛ إذ صفتها في الشرع واحدة، ولم يأت عن الشارع دليل في تمييز قبور الصالحين عن غيرهم، بل الوارد وجوب أن تتساوى من حيث الصفة، فلا يفرق بين قبر صالح أو طالح؛ فالقبر إما أن يكون في ظاهر مسنما، وإما أن يكون مربعا، وهذه الصورة من حيث الظاهر واحدة.