الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما]
" باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما " وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى - وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى - أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى - تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى - إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 19 - 23][النجم: 19 - 23] عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الله أكبر!! إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال: إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم " رواه الترمذي وصححه (1) .
فيه مسائل: الأولى: تفسير آية النجم.
الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا.
الثالثة: كونهم لم يفعلوا.
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) أخرجه الترمذي (2181) وقال: حديث حسن صحيح.
الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك، لظنهم أنه يحبه.
الخامسة: أنهم جهلوا هذا؛ فغيرهم أولى بالجهل.
السادسة: أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم.
السابعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذرهم؛ بل رد عليهم بقوله: «الله أكبر، إنها السنن لتتبعن سَنَن من كان قبلكم» فغلّظ الأمر بهذه الثلاث.
الثامنة: الأمر الكبير - وهو المقصود -: أنه أخبر أن طلبهم كطلب بني إسرائيل لما قالوا لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا} [الأعراف: 138]
التاسعة: أن نفي هذا من معنى " لا إله إلا الله " مع دقته وخفائه على أولئك.
العاشرة: أنه حلف على الفتيا، وهو لا يحلف إلا لمصلحة.
الحادية عشرة: أن الشرك فيه أكبر وأصغر، لأنهم لم يرتدوا بهذا.
الثانية عشرة: قولهم «ونحن حدثاء عهد بكفر» فيه: أن غيرهم لا يجهل ذلك.
الثالثة عشرة: التكبير عند التعجب، خلافا لمن كرهه.
الرابعة عشرة: سد الذرائع.
الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية.
السادسة عشرة: الغضب عند التعليم.
السابعة عشرة: القاعدة الكلية لقوله: «إنها السنن» .
الثامنة عشرة: أن هذا عَلَم من أعلام النبوة، لكونه وقع كما أخبر.
التاسعة عشرة: أن كل ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا.
العشرون: أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر فصار فيه التنبيه على مسائل القبر؛ أما من ربك؟ فواضح، وأما من نبيك؟ "
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فمن إخباره بأنباء الغيب، وأما " ما دينك؟ " فمن قولهم (اجعل لنا) إلى آخره.
الحادية والعشرون: أن سنة أهل الكتاب مذمومة، كسنة المشركين.
الثانية والعشرون: أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه، لا يُؤْمَن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة، لقولهم: ونحن حدثاء عهد بكفر.
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
وقال سبحانه: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} [الصافات: 113][الصافات: 113] وقال: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا} [مريم: 31][مريم: 31] فالذي يبارك هو الله - جل وعلا -، فلا يجوز للمخلوق أن يقول: باركت على الشيء، أو أبارك فعلكم؛ لأن البركة وكثرة الخير ولزومه، وثباته، إنما ذلك من الذي بيده الأمر، وهو الله عز وجل.
وقد دلت النصوص في الكتاب والسنة على أن الأشياء التي أحل الله - جل وعلا - البركة فيها قد تكون أمكنة أو أزمنة؛ وقد تكون مخلوقات آدمية، فهذان قسمان:
القسم الأول: أن الله - تعالى - بارك بعض الأماكن كبيت الله الحرام، وحول بيت المقدس، كما قال سبحانه:{الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1][الإسراء: 1] ومعنى كون الأرض مباركة: أن يكون فيها الخير الكثير اللازم يعني - أبدا - أن يُتَمَسَّح بأرضها، أو أن يُتَمَسَّح بحيطانها، لأن بركتها لازمة لا تنتقل بالذات، يعني: أنك إذا لامست الأرض، أو دفنت فيها، أو تبركت بها، فإن بركتها لا تنتقل إليك بالذات، وإنما بركتها من جهة المعنى فقط.
كذلك بيت الله الحرام هو مبارك لا من جهة ذاته، يعني: ليس كما يعتقد البعض أن من تمسح به انتقلت إليه البركة وإنما هو مبارك من جهة المعنى، يعني: اجتمعت فيه البركة التي جعلها الله في هذه البنية، من جهة: تعلق القلوب بها، وكثرة الخير الذي يكون لمن أرادها، وأتاها، وطاف بها، وتعبد عندها، وكذلك الحجر الأسود هو حجر مبارك، ولكن بركته لأجل
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
العبادة، يعني أن من استلمه تعبدا مطيعا للنبي صلى الله عليه وسلم في استلامه له، وفي تقبيله، فإنه يناله به بركة الاتباع. وقد قال عمر رضي الله عنه لما قبّل الحجر:" إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر "(1) فقوله: لا تنفع ولا تضر، يعني لا يجلب لمن قبله شيئا من النفع، ولا يدفع عن أحد شيئا من الضر، وإنما الحامل على التقبيل مجرد الاتِّساء، تعبدا لله، ولذلك قال:". . ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك " فهذا معنى البركة التي جعلت في الأمكنة.
وأما معنى كون الزمان مباركا - مثل شهر رمضان، أو بعض أيام الله الفاضلة - فيعني: أن من تعبد فيها، ورام الخير فيها، فإنه ينال من كثرة الثواب ما لا يناله في غيرها من الأزمنة.
والقسم الثاني: البركة المنوطة ببني آدم، وهي البركة التي جعلها الله - جل وعلا - في المؤمنين من الناس، وعلى رأسهم: سادة المؤمنين: من الأنبياء والرسل فهؤلاء بركتهم بركة ذاتية، يعني: أن أجسامهم مباركة، فالله - جل وعلا - هو الذي جعل جسد آدم مباركا وجعل جسد إبراهيم عليه السلام مباركا، وجعل جسد نوح مباركا، وهكذا جسد عيسى، وموسى، عليهم جميعا الصلاة والسلام جعل أجسادهم جميعا مباركة، بمعنى: أنه لو تبرك أحد من أقوامهم بأجسادهم، إما بالتمسح بها، أو بأخذ عرقها، أو التبرك ببعض أشعارهم، فهذا جائز؛ لأن الله جعل أجسادهم مباركة بركة متعدية، وهكذا نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم جسده أيضا جسد مبارك؛ ولهذا ورد في
(1) أخرجه البخاري (1597) و (1605) و (1610) ومسلم (1270) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
السنة أن الصحابة كانوا يتبركون بعرقه، ويتبركون بشعره، (1) وإذا توضأ اقتتلوا على وضوئه، (2) إلى آخر ما ورد في ذلك؛ ذلك أن أجساد الأنبياء فيها بركة ذاتية ينتقل أثرها إلى غيرهم، وهذا مخصوص بالأنبياء والرسل، أما غيرهم فلم يرد دليل على أن من أصحاب الأنبياء والرسل مَن بركتهم بركة ذاتية، حتى أفضل هذه الأمة أبو بكر وعمر، فقد جاء بالتواتر القطعي: أن الصحابة والتابعين والمخضرمين لم يكونوا يتبركون بأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، كما كانوا يتبركون بشعر النبي صلى الله عليه وسلم، أو بوضوئه، أو بنخامته، أو بعرقه أو بملابسه، ونحو ذلك، فعلمنا بهذا التواتر القطعي أن بركة أبي بكر وعمر إنما هي بركة عمل، ليست بركة ذات تنتقل كما هي بركة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا جاء في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن من الشجر لَمَا بركته كبركة المسلم» (3) فدل هذا: على أن في كل مسلم بركة، وفي البخاري أيضا قول أسيد بن حضير:«ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر» . (4) فهذه البركة التي أضيفت لكل مسلم وأضيفت لآل أبي بكر، هي: بركة عمل، هذه البركة راجعة إلى الإيمان، وإلى العلم، والدعوة، والعمل.
(1) أخرجه مسلم (1305) والبخاري (170) و (171) .
(2)
أخرجه البخاري (2731) و (2732) .
(3)
أخرجه البخاري رقم (5444) .
(4)
أخرجه البخاري (334) و (336) و (3672) و (3773) و (4583) و (4607) و (4608) و (5164) و (5250) و (5882) و (6844) و (6845) وقوله: ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر. إنما هو قول أسيد بن حضير وليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
فكل مسلم فيه بركة، وهذه البركة ليست بركة ذات، وإنما هي بركة عمل، وبركة ما معه من الإسلام والإيمان، وما في قلبه من الإيقان والتعظيم لله - جل وعلا - والإجلال له، والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم، فهذه البركة التي في العلم، أو العمل، أو الصلاح: لا تنتقل من شخص إلى آخر وعليه فيكون معنى التبرك بأهل الصلاح هو الاقتداء بهم في صلاحهم، والتبرك بأهل العلم هو الأخذ من علمهم والاستفادة منه وهكذا، ولا يجوز أن يُتبرك بهم بمعنى أن يُتمسح بهم، أو يُتبرك بريقهم؛ لأن أفضل الخلق من هذه الأمة وهم الصحابة لم يفعلوا ذلك مع خير هذه الأمة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وهذا أمر مقطوع به.
فمعنى تبرك المشركين: أنهم كانوا يرجون كثرة الخير، ودوام الخير، ولزوم الخير وثبات الخير، بالتوجه إلى الآلهة، وهذه الآلهة يكون منها: الصنم الذي من الحجارة، والقبر من التراب، ويكون منها الوثن والشجر، ويكون منها البقاع المختلفة، كالغار أو عين ماء، أو نحو ذلك، فهذه التبركات المختلفة جميعها تبركات شركية؛ ولهذا قال الشيخ رحمه الله:" باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما " والشجر: جمع شجرة، والحجر معروف، ذلك أن المشركين كانوا يتبركون بالأشجار والأحجار، حتى في أول الدعوة في هذه البلاد كانت الأشجار والأحجار التي يتبرك بها كثيرة.
قوله: " ونحوهما ": يعني: نحو الشجر والحجر، مثل: البقاع المختلفة، أو غار معين، أو قبر، أو عين ماء، أو نحو ذلك من الأشياء التي يعتقد فيها أهل الجهالة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
فما حكم فاعل ذلك؟ الجواب: أنه مشرك، كما صرح به الشيخ عبد الرحمن بن حسن في شرحه " فتح المجيد " لباب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما حيث قال الله:(أي: فهو مشرك) .
لم يفصح الشرَّاح في هذا الموضع عن نوع شرك المتبرك بالشجر والحجر هل هو شرك أكبر، أو شرك أصغر؟ وإنما أدار الشيخ سليمان رحمه الله المعنى في " التيسير " بعد أن ساق تفسير آية النجم:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19][النجم: 19] على الاحتمالين، فقال في آخره: مناسبة الآية للترجمة: أنه إن كان التبرك شركا أكبر فظاهر، وإن كان شركا أصغر: فالسلف يستدلون بالآيات التي نزلت في الأكبر على الأصغر.
وتحقيق المقام: أن التبرك بالشجر، أو بالحجر أو بالقبر، أو ببقاع مختلفة، قد يكون شركا أكبر، وقد يكون شركا أصغر.
فيكون شركا أكبر: إذا طلب بركتها، معتقدا أنه بتمسحه بهذا الشجر، أو الحجر أو القبر، أو تمرغه عليه، أو التصاقه به: يتوسط له عند الله. فإذا اعتقد فيه أنه وسيلة إلى الله فهذا: اتخاذ إله مع الله - جل وعلا - وشرك أكبر، وهذا هو الذي كان يعتقده أهل الجاهلية في الأشجار والأحجار التي يعبدونها، وفي القبور التي يتبركون بها؛ يعتقدون أنهم إذا عكفوا عندها، وتمسحوا بها، أو نثروا ترابها على رؤوسهم، فإن هذه البقعة، أو صاحب هذه البقعة، أو الروحانية وهي: الروح التي تخدم هذه البقعة: أنه يتوسط له عند الله - جل وعلا - فهذا الفعل - إذًا - راجع إلى اتخاذ أنداد مع الله - جل وعلا -، وقد
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
قال سبحانه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3][الزمر 3] .
ويكون التبرك شركا أصغر: إذا كان يتخذ هذا التبرك بنثر التراب عليه، أو إلصاق الجسم به، أو التبرك بعين ونحوها، أسبابا لحصول البركة بدون اعتقاد أنها توصل وتقرب إلى الله، يعني: أنه جعلها أسبابا فقط، كما يفعل لابس التميمة، أو الحلقة، أو الخيط؛ فكذلك هذا المتبرك، يجعل تلك الأشياء أسبابا فإذا أخذ - من هذه حاله - تراب القبر، ونثره عليه لاعتقاده أن هذا التراب مبارك، وإذا لامس جسمه فإن جسمه يتبارك به أي: من جهة السببية: فهذا شرك أصغر؛ لأنه لا يكون عبادة لغير الله - جل وعلا - وإنما اعتقد ما ليس سببا مأذونا به شرعا: سببا.
وأما إذا تمسح بها كما هي الحال الأولى وتمرغ والتصق بها، لتوصله إلى الله - جل وعلا -، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة؛ ولهذا قال الشيخ سليمان كما تقدم: إن كان التبرك شركا أكبر: فظاهر في الاستدلال بالآية وإن كان شركا أصغر: فالسلف يستدلون بما نزل في الأكبر على ما يريدون من الاستدلال، في مسائل الشرك الأصغر.
قوله: وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى - وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19 - 20][النجم: 19 - 20] سبق بيان أن همزة الاستفهام، إذا أتى بعدها فاء: فإنه يكون بينها وبين الفاء جملة دل عليها السياق، فمن أول سورة النجم إلى هذا الموضع يدل على المحذوف.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
قوله: (اللات) : هي صخرة بيضاء منقوشة عليها، بيت بالطائف، وما هدمت إلا بعد أن أسلمت ثقيف، أرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة، فهدمها، وكسرها، وحرقها بالنار، وكان عليها بيت ولها سدنة وخدم، (1) فالمقصود: أن اللات صخرة وصفت بأنها بيضاء.
وفي قراءة ابن عباس وغيره من السلف: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَّ) بتشديد التاء. فعلى هذه القراءة: يكون (اللاتّ) هذا رجلا كان يلت السويق للحاج، وفي رواية: على صخرة فعظموا تلك الصخرة، وفي رواية أخرى عن السلف: أنه كان يلت لهم السويق فلما مات عكفوا على قبره، (2) فتحصل من هذا: أن اللات صخرة، فإذا قرأت:(اللاتّ) بتشديد التاء: فيكون قبرا، أو صخرة، كان يتعبد عندها، ويتصدق ذاك الذي كان يلت السويق.
والعزى: شجرة كانت بين مكة والطائف، وهي في الأصل شجرة ثم بني بناء على ثلاث سمرات، وكانت امرأة كاهنة هي التي تخدم ذلك الموضع، فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة أرسل إليها خالد بن الوليد، فقطع الشجرات الثلاث - السمرات الثلاث - وقتل من قتل فلما رجع وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، قال له:«ارجع فإنك لم تصنع شيئا» ، فرجع فرآه السدنة، ففروا إلى الجبل، ثم رأى امرأة ناشرة شعرها عريانة، وهي الكاهنة التي كانت تخدم ذلك الموضع
(1) السيرة لابن هشام 4 / 138.
(2)
أخرجه البخاري (4859) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
الشركي، وتحضر الجن لإضلال الناس بذلك، فعلاها خالد بالسيف حتى قتلها، فرجع للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:«تلك العزى» (1) المقصود: أن العزى اسم لشجرة كانت في ذلك الموضع، وكان تعلق الناس في الحقيقة بتلك الشجرة، وبالمرأة التي كانت تخدم ذلك الشرك، فلو قطعت الأشجار وبقيت المرأة، فإن المرأة ستغري الناس مرة أخرى بما ستذكره لهم، أو ما تحكيه لهم، أو ما تجيب به مطالبهم عن طريق الجن، فلا يكون الشرك قد انقطع؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«تلك العزى» يعني: أن حقيقة العزى هي تلك المرأة التي تغري الناس بذلك الشرك، وإلا فهي شجرة.
وقوله، {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 20] والأخرى: يعني: الوضيعة الحقيرة، وكانت مناة هذه أيضا صخرة، وسميت مناة؛ لكثرة ما يمنى عليها من الدماء تعظيما لها (2) ووجه مناسبة الآية للترجمة: أن ما كان يفعله المشركون عند هذه الثلاث، هو عين ما يفعله المشركون في الأزمنة المتأخرة عند الأحجار، والأشجار، والغيران، والقبور ومن قرأ شيئا مما يصنعه المشركون علم غربة الإسلام في هذه البلاد قبل هذه الدعوة، وأن الناس كانوا على شرك عظيم. وإذا تأملت أحوال ما حولك من البلاد التي ينتشر فيها الشرك وجدت من اتخاذ الأشجار
(1) سيرة ابن هشام 4 / 1099.
(2)
أخرجه البخاري (8 / 613) وانظر تفسير ابن كثير (7 / 432) والبداية والنهاية (2 / 192) ، (4 / 37) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
والأحجار آلهة والتبرك بها الشيء الكثير، وأعظم من ذلك اتخاذ القبور آلهة يتوجه إليها، ويتعبد عندها.
ثم ساق رحمه الله في الباب حديث أبي واقد الليثي، وهذا الحديث حديث صحيح، عظيم وفيه: أن المشركين كانت لهم سدرة لهم فيها اعتقاد.
واعتقادهم فيها كان يشمل ثلاثة أشياء:
الأول: أنهم يعظمونها.
الثاني: أنهم يعكفون عندها.
الثالث: أنهم كانوا ينوطون بها الأسلحة رجاء انتقال البركة من الشجرة إلى السلاح، حتى يكون أمضى، وحتى يكون خيره لحامله أكثر.
وفعلهم هذا شرك أكبر؛ لأنهم عظموها وعكفوا عندها، والعكوف عبادة؛ وهو: ملازمة الشيء على وجه التعظيم والقربة؛ ولأنهم طلبوا منها البركة، فصار شركهم شركا أكبر لأجل هذه الثلاث مجتمعة.
وبعض الصحابة رضوان الله عليهم ممن كانوا حديثي عهد بكفر وهم الذين قالوا: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، ظنوا أن هذا لا يدخل في الشرك، وأن كلمة التوحيد لا تهدم بهذا الفعل؛ لهذا قال العلماء: قد يغيب عن بعض الفضلاء بعض مسائل الشرك؛ لأن الصحابة وهم أعرف الناس باللغة كهؤلاء الذين كان إسلامهم بعد الفتح: خفيت عليهم بعض أفراد توحيد العبادة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر!! إنها السنن، قلتم - والذي نفسي بيده - كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
آلهة» : فشبَّه عليه الصلاة والسلام هذه المقالة بتلك المقالة، ومعلوم أن أولئك - وهم المذكورون في الآية - عبدوا غير الله، أي: عبدوا الأصنام، وأما أولئك فإنما طلبوا بالقول فقط، فشبّه النبي عليه الصلاة والسلام ذلك القول بقول قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، لكن أولئك الصحابة لم يفعلوا ما طلبوا، ولما نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم انتهوا، ولو فعلوا ما طلبوا لكان شركا أكبر، لكن لما قالوا وطلبوا دون فعل: صار قولهم شركا أصغر؛ لأنه كان فيه نوع تعلق بغير الله - جل وعلا -.
وهم لا يعلمون أن هذا الذي طلبوه غير جائز، وإلا فلا يُظن بهم أنهم يخالفون أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويرغبون في معصيته. وأما شركهم فكان في مقالهم، وأما الفعل: فلم يفعلوا شيئا من الشرك، وهذا الذي قالوه، قال العلماء: وهو شرك أصغر، وليس بشرك أكبر؛ ولهذا لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بتجديد إسلامهم، ويدل على ذلك قوله:«قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى» فشبّه المقالة بالمقالة، وقد قرر الشيخ رحمه الله أنهم لم يكفروا، وقال في المسائل:(إن الشرك فيه أكبر وأصغر؛ لأنهم لم يرتدوا بهذا) .
فالظاهر من هذا الحديث: أن الشرك الأكبر الذي كان وقع فيه المشركون لم يكن راجعا إلى التبرك بذات الأنواط فقط، بتعظيمها، والعكوف عندها، والتبرك بتعليق الأشياء عليها، وقد قلت لك: إن التبرك بالشجر، والحجر، ونحو ذلك، إذا كان فيه اعتقاد أن هذا الشيء يقرب إلى الله، وأنه يرفع الحاجة إليه، أو أن تكون حاجاتهم أرجى إجابة وأمورهم أحسن، إذا تبركوا بهذا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
الموضع، فهذا: شرك أكبر، وهذا هو الذي كان يصنعه أهل الجاهلية؛ ولهذا، فإن فعلهم يشمل ثلاثة أشياء - كما سبق -:
1 -
التعظيم، أي تعظيم العبادة، وهذا لا يجوز إلا لله، فتعظيمهم بهذه الصورة، واعتقاد أنهم يتوسطون لهم: هو نوع من عبادتهم، وشرك جلي.
2 -
أنهم عكفوا عندها ولازموها، والعكوف والملازمة نوع عبادة، فإذا عكف ولازم تقربا، ورجاء، ورغبة، ورهبة، ومحبة، فهذا نوع من العبادة.
3 -
التبرك.
وإذًا فيكون الشرك الأكبر: ما ضم هذه الثلاثة. وإذا تأملت ما يصنعه عباد القبور والخرافيون في الأزمنة المتأخرة وفي زماننا هذا: وجدت أنهم يصنعون مثل ما كان المشركون الأولون يصنعون عند اللات، وعند العزى، وعند ذات أنواط، ويعتقدون في القبر، بل يعتقدون في الحديد الذي يُسيَّج به القبر، فترى الناس في البلاد التي يفشو فيها الشرك يعتقدون في الحائط الذي على القبر، أو في الشباك الحديدي الذي يحيط بالقبر، فإذا تمسحوا به فكأنهم تمسحوا بالمقبور، واتصلت روحهم به، واعتقدوا أنه سيتوسط لهم؛ لأنهم عظموه، فهذا شرك أكبر بالله - جل وعلا -؛ لأن فعلهم هذا: راجع إلى تعلق القلب في جلب النفع، وفي دفع الضر بغير الله - جل وعلا - وجعْله وسيلة إلى الله - جل وعلا - كفعل الأولين الذين قال الله فيهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]
وأما الحال الأخرى التي نبهتك في أول المقام عليها، فكمن يجعل بعض التمسحات أسبابا: مثل ما ترى من بعض الجهلة ممن يأتي إلى الحرم، ويتمسح
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
بأبواب الحرم الخارجية، أو ببعض الجدران، أو ببعض الأعمدة، فهذا إن ظن أن ثَمَّ روحا في هذا العمود، أو أن هناك أحدا مدفونا بالقرب منه، أو ثَمَّ من يخدم هذا العمود من الأرواح الطيبة كما يقولون: فتمسح لأجل أن يصل إلى الله - جل وعلا - بذلك الفعل: فهذا شرك أكبر.
وأما إذا تمسح واعتقد أن هذا مكان مبارك، وأن هذا سبب قد يشفيه فنقول إذا: إذا كان يتمسح بجعله سببا فهذا يكون شركه شركا أصغر، وإذا كان تعلق قلبه بهذا المتمسح به أو المتبرك به، وعظمه، ولازمه، واعتقد أن ثمت روحا هنا، أو أنه يتوسل به إلى الله فإن هذا شرك أكبر.
قول الشيخ رحمه الله " باب ما جاء في الذبح لغير الله ". الذبح معروف، وهو: إراقة الدم.
وقوله: " لغير الله " يعني: متقربا به إلى غير الله، أي: ذبح لأجل غير الله، والذبح فيه شيئان مهمان، وهما نكتة هذا الباب، وعقدته:
الأول: الذبح باسم الله، أو الذبح بالإهلال باسم ما.
الثاني: أن يذبح متقربا لما يريد أن يتقرب إليه، فإذًا: ثَمَّ التسمية، وثَمَّ القصد، وهما شيئان، أما التسمية، فظاهر: أن ما ذُكر عليه اسم الله فإنه جائز كما قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 118][الأنعام: 118] وأن ما لم يذكر اسم الله عليه، فهذا مما أهل لغير الله به كما في قوله تعالى:{وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173][البقرة: 173] وقوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173][المائدة: 3] .
فالتسمية على الذبيحة من جهة المعنى: استعانة، فإذا سمى الله: فإنه استعان في هذا الذبح بالله - جل وعلا -؛ لأن الباء في قولك: باسم الله، يعني أذبح متبركا، ومستعينا بكل اسم لله - جل وعلا -، أو بالله - جل وعلا - الذي له الأسماء الحسنى، فجهة التسمية إذًا جهة استعانة.