الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات]
" باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات " وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30][الرعد: 30] .
وفي صحيح البخاري قال علي: " حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟! "(1) .
وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما:" أنه رأى رجلا انتفض لما سمع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكارا لذلك، فقال: ما فرق هؤلاء، يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه؟ "(2) . انتهى.
ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم:{وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30](3) .
فيه مسائل: الأولى: عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات.
الثانية: تفسير آية الرعد.
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) أخرجه البخاري (127) .
(2)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (20895) .
(3)
أخرجه ابن جرير في التفسير (20397) .
الثالثة: ترك التحديث بما لا يفهم السامع.
الرابعة: ذكر العلة: أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله، ولو لم يتعمد المنكر.
الخامسة: كلام ابن عباس لمن استنكر شيئا من ذلك، وأنه أهلكه.
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
دلت عليه اللغة ودل عليه الشرع، وكذلك لم يعلموا متعلقات الأسماء والصفات وآثارها في ملك الله - جل وعلا - وسلطانه؛ لهذا عقد الشيخ رحمه الله هذا الباب لأجل أن يبين أن تعظيم الأسماء والصفات من كمال التوحيد وأن جحد الأسماء والصفات مناف لأصل التوحيد، فالذي يجحد اسما سمى الله به نفسه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم وثبت ذلك عنه وتيقنه فإنه يكون كافرا بالله - جل وعلا - كما قال سبحانه عن المشركين:{وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30][الرعد: 30] .
والواجب على العباد من أهل هذه الملة، أن يوحدوا الله - جل وعلا - في أسمائه وصفاته، ومعنى توحيد الله في أسمائه وصفاته: أن يتيقن ويؤمن بأن الله - جل وعلا - ليس له مثيل في أسمائه ولا في صفاته كما قال ـ جل وعلا ـ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11][الشورى: 11] فنفى وأثبت، نفى أن يماثل الله شيء - جل وعلا - وأثبت له صفتي السمع والبصر.
قال العلماء: قدم النفي قبل الإثبات على القاعدة العربية المعروفة أن التخلية تسبق التحلية، فيجب أن يخلو القلب من كل براثن التمثيل ومن كل ما كان يعتقده المشركون الجاهلون من تشبيه الله بخلقه، أو تشبيه خلق الله به، فإذا خلا القلب من كل ذلك، وبرئ من التشبيه والتمثيل، أثبت ما يستحقه الله - جلا وعلا - من الصفات، فأثبت هنا صفتين وهما السمع والبصر.
وسبب ذكر السمع والبصر هنا في مقام الإثبات دون غيرهما من الصفات، أو دون ذكر غير اسم السميع والبصير من الأسماء؛ لأن صفتي السمع
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
والبصر مشتركة بين أكثر المخلوقات الحية، فجل المخلوقات الحية التي حياتها بالروح والنفس لا بالنماء فإن السمع والبصر موجود فيها جميعا، فالإنسان له سمع وبصر وسائر أصناف الحيوانات لها سمع وبصر، فالذباب له سمع وبصر يناسبه، والبعير له سمع وبصر يناسبه، وكذلك الطيور، والأسماك، والدواب الصغيرة، والحشرات كل له سمع وبصر يناسبه.
ومن المتقرر عند كل عاقل أن سمع هذه الحيوانات ليس متماثلا، وأن بصرها ليس متماثلا وأن سمع الحيوان ليس مماثلا لسمع الإنسان، فسمع الإنسان ربما كان أبلغ وأعظم من سمع كثير من الحيوانات وكذلك البصر، فإذا كان كذلك كان اشتراك المخلوقات التي لها سمع وبصر في السمع والبصر اشتراكا في أصل المعنى، ولكل سمع وبصر بما قدر له وما يناسب ذاته، فإذا كان كذلك ولم يكن وجود السمع والبصر في الحيوان وفي الإنسان مقتضيا لتشبيه الحيوان بالإنسان، فكذلك إثبات السمع والبصر للملك الحي القيوم ليس على وجه المماثلة للسمع والبصر في الإنسان أو في المخلوقات، فلله - جل وعلا - سمع وبصر يليق به، كما أن للمخلوق سمعا وبصرا يليق بذاته الحقيرة الوضيعة، فسمع الله كامل مطلق من جميع الوجوه لا يعتريه نقص وبصره كذلك.
واسم الله (السميع) هو الذي استغرق كل الكمال في صفة السمع، وكذلك اسم الله (البصير) هو الذي استغرق كل الكمال في صفة البصر، فدل ذلك على أن النفي مقدم على الإثبات، وأن النفي يكون مجملا والإثبات يكون مفصلا، فالواجب على العباد أن يعلموا أن الله - جل
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
جلاله - متصف بالأسماء الحسنى وبالصفات العلى وأن لا يجحدوا شيئا من أسمائه وصفاته، فمن جحد شيئا من أسماء الله وصفاته فهو كافر؛ لأن ذلك صنيع الكفار والمشركين.
والإيمان بالأسماء والصفات يقوي اليقين بالله، وهو سبب لمعرفة الله، والعلم به، بل إن العلم بالله ومعرفة الله - جل وعلا - تكون بمعرفة أسمائه وصفاته، وبمعرفة آثار الأسماء والصفات في ملكوت الله - جل وعلا -، وهذا باب عظيم ربما يأتي له زيادة إيضاح عند " باب قول الله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180][الأعراف: 180] .
فتلخص من هذا أن لقوله: " باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات " صلة وطيدة بكتاب التوحيد من جهتين:
الجهة الأولى: أن من براهين توحيد العبادة توحيد الأسماء والصفات.
الثانية: أن جحد شيء من الأسماء والصفات شرك وكفر مخرج من الملة، وأن من ثبت عنده الاسم، أو ثبتت الصفة، وعلم أن الله - جل وعلا - أثبتها لنفسه، وأثبتها له سوله صلى الله عليه وسلم ثم جحدها ونفاها أصلا، فإن هذا كفر؛ لأنه تكذيب بالكتاب وبالسنة.
" وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30] [الرعد: 30] . الآية "، الرحمن: من أسماء الله - جل وعلا - والمشركون والكفار في مكة كانوا يقولون: لا نعلم الرحمن إلا رحمن اليمامة، فكفروا باسم الله (الرحمن) ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
وهذا كفر بنفسه؛ ولهذا قال - جل وعلا -: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30] يعني: باسم الله (الرحمن) ، وهذا اسم من أسماء الله الحسنى، وهو مشتمل على صفة الرحمة؛ لأن (الرحمن) فيه صفة الرحمة ومبني على وجه المبالغة، فالرحمن أبلغ في اشتماله على صفة الرحمة من اسم (الرحيم) ؛ ولهذا لم يتسم به على الحقيقة إلا الله - جل وعلا - فهو من أسماء الله العظيمة التي لا يشركه فيها أحد، أما (الرحيم) فقد أطلق الله - جلا وعلا - على بعض عباده بأنهم رحماء، وأن نبيه صلى الله عليه وسلم، رحيم كما قال:{بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128][التوبة: 128.] .
والاسم والصفة بينهما ارتباط من جهة أن كل اسم لله - جل وعلا - مشتمل على صفة، فأسماء الله ليست جامدة، بل كل اسم من أسماء الله مشتمل على صفة، فالاسم من أسماء الله يدل على مجموع شيئين بالمطابقة. وهما: الذات، والصفة التي اشتمل عليها الاسم، ويدل على أحدهما - الذات أو الصفة - بالتضمن؛ ولهذا نقول: كل اسم من أسماء الله متضمن لصفة من صفات الله ودال بالمطابقة على كل من الذات والصفة، أي الذات المتصفة بالصفة حتى لفظ الجلالة (الله) الذي هو علم على المعبود بحق - جل وعلا - مشتق، على الصحيح من قولي أهل العلم؛ لأن أصله (الإله) حذفت همزته تخفيفا لكثرة دعائه وندائه بذلك في أصل العربية، فهو مأخوذ من (الإلهة) وهي العبادة، فلفظ الجلالة (الله) ليس اسما جامدا، بل هو مشتق من ذلك.
وجميع الصفات التي تتضمنها الأسماء كلها دالة على كمال الله - جل وعلا - وعلى عظمته، فالعبد المؤمن إذا أراد أن يكمل توحيده فليعظم العناية
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
بالأسماء والصفات؛ لأن معرفة الاسم والصفة يجعل العبد يراقب الله - جل وعلا - وتؤثر هذه الأسماء والصفات في توحيده وقلبه وعلمه بالله ومعرفته، كما سيأتي في تقاسيم الأسماء والصفات.
" وفي صحيح البخاري قال علي رضي الله عنه: " حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ " (1) هذا فيه دليل على أن بعض العلم لا يصلح لكل أحد؛ فإن من العلم ما هو خاص، ولو كان نافعا في نفسه ومن أمور التوحيد، لكن ربما لا يعرفه كثير من الناس، وهذا من مثل بعض أفراد توحيد الأسماء والصفات كبعض مباحث الأسماء والصفات، وذكر بعض الصفات لله - جل وعلا - فإنها لا تناسب كل أحد حتى إن بعض المتجهين إلى العلم قد لا تطرح عليه بعض المسائل الدقيقة في الأسماء والصفات، ولكن يؤمرون بالإيمان بذلك إجمالا، والإيمان بالمعروف والمعلوم المشتهر في الكتاب والسنة، أما دقائق البحث في الأسماء والصفات فإنما هي للخاصة، ولا تناسب العامة والمبتدئين في طلب العلم؛ لأن منها ما يشكل، ومنها ما قد يؤول بقائله إلى أن يكذب الله ورسوله، كما قال هنا علي رضي الله عنه: " حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟! "
فمناسبة هذا الأثر لهذا الباب: أن من أسباب جحد الأسماء والصفات أن يحدث المرء الناس بما لا يعقلونه من الأسماء والصفات؛ لأن عامة الناس عندهم إيمان إجمالي بالأسماء والصفات يصح معه توحيدهم وإيمانهم
(1) أخرجه البخاري (127) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
وإسلامهم، فالدخول في تفاصيل ذلك غير مناسب إلا إذا كان المخاطب يعقل ذلك ويعيه، وليس أكثر الناس كذلك؛ ولهذا نهى الإمام مالك رحمه الله لما حدث عنده بحديث الصورة نهى المتحدث بذلك؛ لأن العامة لا يحسنون فهم مثل هذه المباحث، وهكذا في بعض المسائل في الأسماء والصفات لا تناسب العامة، فقد يكون سبب الجحد تحديث الرجل ببحث لا يعقله، فيؤول به ذلك إلى أن يجحد شيئا من العلم بالله - جل وعلا -، أو يجحد شيئا من الأسماء والصفات.
فالواجب على المسلم وبخاصة طالب العلم أن لا يجعل الناس يكذبون شيئا مما قاله الله - جل وعلا - أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، ووسيلة ذلك التكذيب أن يحدث الناس بما لا يعرفون، وبما لا تبلغه عقولهم، كما جاء في الحديث الآخر:" ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة "(1) وقد بوب على ذلك البخاري في الصحيح في كتاب العلم بقوله: " باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه "، وهذا من الأمر المهم الذي ينبغي للمعلم والمتحدث والواعظ والخطيب أن يعيه، وأن يحدث الناس بما يعرفون وأن يجعل تقوية التوحيد وإكمال توحيدهم والزيادة في إيمانهم بما يعرفون لا بما ينكرون.
" وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه رأى رجلا انتفض لما سمع حديثا عن
(1) أخرجه مسلم (14) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكارا لذلك، فقال: ما فرق هؤلاء؟!! يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه؟ " (1) هذا الرجل لما لم يعرف هذه الصفة انتفض؛ لأنه فهم من هذه الصفة المماثلة أو التشبيه، فخاف من تلك الصفة، والواجب على المسلم أنه إذا سمع صفة من صفات الله في كتاب الله أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجريها مجرى جميع الصفات، وهو أن إثبات الصفات لله - جل وعلا - إثبات بلا تكييف، وبلا تمثيل، فإثباتنا للصفات على وجه تنزيه الله - جل وعلا - عن المثيل والنظير في صفاته وأسمائه، فله من كل اسم وصفة أعلى وأعظم ما يشتمل عليه من المعنى؛ ولهذا قال ابن عباس هنا: " ما فرق هؤلاء؟ " يعني: ما سبب خوف هؤلاء؟ لماذا فرقوا؟ خافوا من هذه الصفة ومن إثباتها.
قوله: " يجدون رقة عند محكمه " يعني: إذا خوطبوا بالمحكم الذي يعرفون، وجدوا في قلوبهم رقة لذلك، والمحكم: هو ما يعلم، أي الذي يعلمه سامعه هذا هو المحكم.
قوله: " ويهلكون عند متشابهه " فإذا سمعوا في الكتاب أو السنة شيئا لا تعقله عقولهم هلكوا عنده، وخافوا، وفرقوا، وأولوا، ونفوا أو جحدوا، وهذا من أسباب الضلال.
والمتشابه: الذي يشتبه علمه على سامعه.
والقرآن والعلم والشريعة كلها محكمة، وكلها متشابهة، ومنها محكم، ومنها متشابه، فهذه ثلاثة أقسام:
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (20895) ، وابن أبي عاصم في السنة (485) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
فالأول: المحكم كما قال - جل وعلا -: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ - أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود: 1 - 2][هود: 1-2] فالقرآن كله محكم، بمعنى: أن معناه واضح، وأن الله - جل وعلا - أحكمه، فلا اختلاف فيه ولا تباين، وإنما يصدق بعضه بعضا كما قال - جل وعلا -:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82][النساء: 82] .
والقرآن والشريعة أيضا متشابهة كلها، بمعنى: أن بعضها يشبه بعضا، فهذا الحكم يشبه غيره، وهذه المسألة تشبه تلك؛ لأنها تجري معها في قاعدة واحدة، فنصوص الشريعة يصدق بعضها بعضا ويؤول بعضها إلى بعض وقد قال - جل وعلا -:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر: 23][الزمر: 23] فقال: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23] فالقرآن متشابه، يعني: أن بعضه يشبه بعضا، فهذا خبر في الجنة، وهذا خبر في الجنة، وبعض الأخبار يفصل بعضا، وهذه قصة وهذه قصة، وكل تصدق الأخرى وتزيدها تفصيلا، وهكذا كل ما في القرآن.
والقرآن أيضا والشريعة والعلم منه محكم ومنه متشابه باعتبار آخر، كما جاء في آية آل عمران:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7][آل عمران: 7]، فمنه محكم:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
وهو الذي اتضح لك علمه، ومنه متشابه: وهو الذي اشتبه عليك علمه. وبهذا نعلم أنه ليس عند أهل السنة والجماعة - أتباع السلف الصالح - شيء من المتشابه المطلق الذي لا يعلمه أحد، بمعنى أنه لا توجد مسألة من مسائل التوحيد، أو من مسائل العمل يشتبه علمها على كل الأمة هذا لا يوجد، بل ربما اشتبه على بعض الناس وبعضهم يعلم المعنى كما قال - جل وعلا -:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7][آل عمران: 7] على أحد وجهي الوقف، فهذا المتشابه الموجود الذي هو قسيم للمحكم قد يشتبه على بعض الناس، فإذا اشتبه عليك علم شيء من التوحيد أو من الشريعة فإن الواجب ألا تفرق عنده وألا تخاف وألا تتهم الشرع وإلا وقع في قلبك شيء من الزيغ؛ لأن الذين يتبعون المتشابه بمعنى: لا يؤمنون به، فإن هؤلاء هم الذين في قلوبهم زيغ، وهذا هو الذي عناه ابن عباس رضي الله عنهما حين قال:" يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه " يريد به هذا الوجه من أن الذين يهلكون عند المتشابه هم أهل الزيغ الذين قال الله - جل وعلا - فيهم: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7][آل عمران: 7] .
فأهل الزيغ يتبعون المتشابه ابتغاء أحد أمرين: إما أن يبتغوا بالمتشابه الفتنة، وإما أن يبتغوا به التأويل، والواجب أن يرد المتشابه إلى المحكم، فنعلم أن الشريعة يصدق بعضها بعضا، وأن التوحيد بعضه يدل على بعض، وكالقاعدة المعروفة في الصفات التي ذكرها عدد من
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
الأئمة كالخطابي وشيخ الإسلام في التدمرية: " أن القول في بعض الصفات كالقول في بعض " و " أن القول في الصفات كالقول في الذات يحتذى فيه حذوه وينهج على منواله "" ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن أنكروا ذلك فأنزل الله فيهم {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30] [الرعد: 30] "(1) فإنكار الصفة أو إنكار الاسم بمعنى عدم التصديق بذلك هذا جحد، وهذا يختلف عن التأويل، فالتأويل والإلحاد له مراتب يأتي بيانها إن شاء الله تعالى.
هذا الباب من الأبواب العظيمة في هذا الكتاب وبخاصة في هذا الزمن، لشدة الحاجة إليه، وترجمه المصنف - رفع الله مقامه في الجنة - بقوله: " باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل: 83] فوصف الكفار في سورة النحل التي تسمى سورة النعم، وصفهم بأنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها، وإنكار النعمة أن تنسب إلى غير الله، وأن يجعل المتفضل بالنعمة غير الذي أسداها وهو الله جل جلاله.
فالواجب على العبد أن يعلم أن كل النعم من الله - جل وعلا - وأن كمال التوحيد لا يكون إلا بإضافة كل نعمة إلى الله - جل وعلا - وأن إضافة النعم إلى غير الله نقص في كمال التوحيد، ونوع شرك بالله جل وعلا؛ ولهذا تكون مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد: أن ثمة ألفاظا يستعملها كثير من الناس في مقابلة النعم أو في مقابلة اندفاع النقم وتكون تلك الألفاظ نوع شرك بالله - جل وعلا - بل هي شرك أصغر بالله - جل وعلا - فنبه الشيخ رحمه الله بهذا الباب على ما ينافي كمال التوحيد من الألفاظ، وأن نسبة النعم إلى الله - جل وعلا - واجبة.
قوله: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل: 83] أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية أن لفظ (المعرفة) يستعمل في القرآن وفي السنة غالبا فيما يذم من أخذ المعلومات كقوله - جل وعلا -: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146][البقرة: 146] ، وكقوله في هذه
(1) أخرجه ابن جرير في التفسير (20397) .