الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[باب بيان شيء من أنواع السحر]
" باب بيان شيء من أنواع السحر " قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا عوف بن مالك قال: حدثنا قطن بن قبيصة، عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن العيافة، والطرق، والطيرة من الجبت» .
قال عوف: العيافة زجر الطير. والطرق: الخط يخط بالأرض، والجبت: قال الحسن: رنة الشيطان. إسناده جيد (1) ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه المسند منه (2) وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد» . رواه أبو داود، وإسناده صحيح (3) .
وللنسائي من حديث أبي هريرة: " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئا وكل إليه "(4) وعن ابن مسعود رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا هل أنبئكم ما العَضْه؟ هي النميمة القالة بين الناس» رواه مسلم (5) .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) أخرجه أحمد 3 / 477 و 5 / 60.
(2)
أخرجه أبو داود (3907) وابن حبان 7 / 646 وحسنه النووي.
(3)
أخرجه أبو داود (3905) .
(4)
أخرجه النسائي 7 / 112.
(5)
أخرجه مسلم (2606) .
ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من البيان لسحرا» (1) .
فيه مسائل: الأولى: أن العيافة والطرق والطيرة من الجبت.
الثانية: تفسير العيافة والطرق.
الثالثة: أن علم النجوم نوع من السحر.
الرابعة: العقد مع النفث من ذلك.
الخامسة: أن النميمة من ذلك.
السادسة: أن من ذلك بعض الفصاحة.
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) أخرجه البخاري (5146) و (5767) وأحمد 2 / 16 و 59 و 63 و 94.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
فمما يسمى سحرا: البيان، كما جاء في آخر الباب " إن من البيان لسحرا" والبيان ليس سحرا فيه استعانة بالشياطين، ولكنه داخل في حقيقة السحر اللغوية؛ لأن له تأثيرا خفيا على القلوب، فإن الرجل البليغ البيان، وذا الإيضاح، وذا اللسان الفصيح يؤثر في القلوب حتى يسبيها، وربما قلب الحق باطلا والباطل حقا ببيانه، فسمي سحرا لخفاء وصوله إلى القلوب وقلب الرأي وفهم المخاطب من شيء إلى آخر.
وكذلك ما ذكر من أن الطيرة من السحر، فالطيرة نوع اعتقاد، وكذلك العيافة وهي شبيهة بها أو بعض أنواعها، كذلك الخط في الرمل، ونحو ذلك، من الأشياء التي ربما أطلق عليها أنها سحر وهي ليست كالسحر الأول في الحد والحقيقة ولا في الحكم.
ولهذا عقد الإمام رحمه الله هذا الباب، لبيان شيء من أنواع السحر؛ لأن من أنواع السحر ما هو شرك أكبر بالله- جل وعلا-، وهو المراد إذا أطلق السحر، وهذه هي الحقيقة العرفية، ومنه ما ليس شركا أكبر.
وفي ألفاظ الشرع أمور يكون المرجع فيها إلى الحقيقة اللغوية، وأمور يكون المرجع فيها إلى الحقيقة العرفية، وأمور يكون المرجع فيها إلى الحقيقة الشرعية. ومن ذلك هذا الباب، فإن فيه ما يطلق عليه- لغة- أنه سحر، وفيه ما يطلق عليه- عرفا- أنه سحر، وما يطلق عليه شرعا- أنه سحر.
والتفريق بين هذه الأنواع مهم؛ ولهذا ذكر الإمام هذا الباب حتى تفرق بين نوع وآخر، فالحد الذي فيه " حد الساحر ضربه بالسيف " لا ينطبق على كل هذه الأنواع التي ستذكر؛ لأنها سحر لغة وليست بسحر شرعا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
قوله في الحديث الأول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن العيافة، والطرق، والطيرة من الجبت» .
العيافة: مأخوذة من عياف الشيء، وهو تركه، عاف الشيء يعافه، إذا تركه، فلم تبغه نفسه، وهي كما فسرها عوف: زجر الطير- وهذا أحد تفسيرات العيافة- وزجر الطير: أن يحرك طيرا حتى ينظر إلى أين تتحرك، ثم يفهم من ذلك الزجر أن هذا الأمر الذي سيقدم عليه أمر محمود أو أمر مذموم، أو يطلع بحقيقة زجر الطير على مستقبل الحال، فهذا نوع من الجبت، وهو السحر؛ لأن من معاني (الجبت) - كما تقدم- الشيء المرذول المطرح الذي يصرف الواحد عن الحق. والسحر: شيء خفي يؤثر في النفوس، والعيافة من التأثر بالطير وبزجرها وبانتقالها من هنا إلى هنا أو بحركتها شيء خفي دخل في النفس فأثر فيها من جهة الإقدام أو الكف، فكانت نوعا من السحر لأجل ذلك، وهي- أيضا- جبت؛ لأنها شيء مرذول أدى إلى الإقبال أو الامتناع. والطيرة أعم من العيافة؛ لأن العيافة- على تفسير عوف وهو أحد تفسيراتها- متعلقة بالطير وحده، وأما الطيرة فهي: اسم عام لما فيه تشاؤم أو تفاؤل بشيء من الأشياء، وسيأتي باب مستقل لذكر أحكام الطيرة، وصورتها، وما يقي منها، - إن شاء الله تعالى-.
وحقيقة الطيرة: أنه يرى شيئا من الطير، تحرك يمينا أو يسارا، فإن رآه تحرك يمينا، تفاءل به، واعتقد أنه سينجح في هذا العمل أو في هذا السفر، وإن رآه تحرك شمالا قال: هذا معناه أني سأتضرر في هذا السفر، أو سيصيبني
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
مكروه فرجع. وقد قال عليه الصلاة والسلام. " من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك "(1) .
وقد يتشاءم بحركة شيء، أو بكلمة يسمعها، أو بشيء في الجو، أو بتصادم سيارة أمامه، أو بسواد في الجو حصل أمامه أو في ذلك اليوم الذي سينتقل فيه، أو يتشاءم بشيء حصل له في أول زواجه، ونحو ذلك من أنواع التشاؤم، كالتشاؤم بالأشهر، أو بالأيام، هذا كله من أنواع الطيرة.
ولا يكون طيرة إلا إذا رده عن حاجته، أو جعله يقبل إلى حاجته، فإذا تشاءم، وحمله ذلك التشاؤم على أن يقدم أو يحجم فإنه يكون متطيرا.
وكذلك في باب التفاؤل إذا رأى شيئا، فجعله ذلك الشيء يقدم، ولولا ذلك الشيء الذي رآه ما أقدم، فإن ذلك أيضا من الطيرة وهي نوع من أنواع التأثيرات الخفية على القلوب، وذلك ضرب من السحر.
وأما الطرق: فهو مأخوذ من وضع طرق في الأرض، وهي الخطوط، فيأتي بخطوط متنوعة يخطها في الأرض، ليس لها عدد، ثم يبدأ الكاهن الذي يستخدم الخطوط فيمسح خطا خطا أو يمسح خطين خطين بسرعة، ثم ينظر ما بقي، فيقول: هذا الذي بقي يدل على كذا وكذا، وأنك ستغتني، أو يدل على أنه سيصيبك كذا وكذا، ونحو ذلك، وهو نوع من أنوع الكهانة، والكهانة ضرب من السحر.
قال هنا: " والطرق: الخط يخط بالأرض، والجبت: قال الحسن: رنة الشيطان ".
(1) أخرجه أحمد 2 / 220.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
وهو من أنواع السحر؛ لأن الشيطان يدعو إلى ذلك بصوته وبعويله.
قوله: وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد» (1) .
رواه أبو داود بإسناد صحيح. في هذا الحديث بيان أن تعلم النجوم تعلم للسحر، ويأتي في باب خاص " باب ما جاء في التنجيم " أنواع تعلم النجوم وما جعل الله- جل وعلا- النجوم له.
قوله: " من اقتبس شعبة": يعني من تعلم بعضا من علم النجوم؛ لأن الشعبة هي: الطائفة من الشيء، أو جزء من أجزائه، فكل جزء من أجزاء علم النجوم الذي هو علم التأثير نوع من أنواع السحر، قال. " فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد" يعني: كلما زاد في تعلم علم النجوم زاد في تعلم السحر، حتى يصل إلى آخر حقيقة علم التأثير كما يسمونه، فيصبح سحرا وكهانة على الحقيقة، ويأتي أن التنجيم منه علم التأثير وهو جعل الكواكب والنجوم في حركتها والتقائها وافتراقها وطلوعها وغروبها مؤثرة في الحوادث الأرضية، أو دالة على ما سيحدث في الأرض، فيجعلونها دالة على علم الغيب، ومنبئة على المغيبات، وهذا القدر من السحر؛ لأنه يشترك معه في حقيقته وهو أنه تأثير بأمر خفي.
(1) أخرجه أبو داود (3905) بلفظ "من اقتبس علما. . . " الحديث والإمام أحمد في المسند (2000) وابن ماجه (3726) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
قوله: " وللنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئا وكل إليه» (1) .
قوله: " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر" يعني: أن عقد العقد والنفث فيها من أنواع السحر. والنفث المقصود به هنا: النفث الذي فيه استعاذة واستعانة بالشياطين، فليس كل نفث في عقدة يعقد السحر، بل لا بد أن يكون النفث بأدعية معينة ورقى شركية وتعويذات وكلام تحضر الجن عند تلاوته وتخدم هذه العقدة السحرية، وهو ما كان يتعاطاه الناس المردة في زمان النبي عليه الصلاة والسلام من النفث في العقد، كما قال- جل وعلا-:{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4] وهن السواحر.
قوله: " فقد سحر" أي يخدم هذا السحر بالنفث في العقدة، وفائدة العقدة عند السحرة أنه لا ينحل السحر ما دامت معقودة، فينعقد الأمر الذي أراده الساحر بشيئين: بالعقدة، وبالنفث بالعقدة، أي عقدة حبل أو خيط أو نحو ذلك، وبالنفث فيها بالأدعية الشركية والاستعانة بالشياطين، ومن الأمور المهمة التي ينبغي أن تعلم في هذا الباب: أن العقد تارة تكون مرئية واضحة، وتارة تكون صغيرة جدا.
قوله: " ومن سحر فقد أشرك " هذا عام؛ لأنه جعل الإشراك جزاء السحر، بأسلوب الشرط والجزاء، فكأنه قال: كل من سحر فقد أشرك، يعني: سحر بذلك النحو الذي ذكر، وهو أن يعقد عقدة ثم ينفث فيها،
(1) أخرجه النسائي في السنن برقم (4084) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
و"من سحر فقد أشرك " وهذا دليل لما ذكرناه في الباب قبله، من أن كل سحر يعد من أنواع الشرك؛ لأنه لا يمكن أن يحدث السحر إلا بالنفث في العقد، أو باستحضار الجني، وبعبادة الجن، ونحو ذلك، وهذا شرك بالله.
قوله: " ومن تعلق شيئا وكل إليه " تقدم نظير هذا، ومعنى هذا الحديث: أن القلب إذا تعلق بشيء- بمعنى أحبه- ورضيه وتعلق به، فإنه يوكل إليه، ويجعل هو السبب الذي من أجله يجيء نفعه أو يجيء ضره. ومعلوم أن كل الأسباب الشركية تعود على فاعلها أو على الراضي بها بالضرر لا بالنفع، والعبد إذا تخلى عن الله- جل وعلا- ووكل إلى نفسه أو وكل إلى غير الله- جل وعلا- فقد خاب وخسر وضر أعظم الضرر، فسعادة العبد وعظم صلاح قلبه، وعظم صلاح روحه، بأن يكون تعلقه بالله- جل وعلا- وحده.
وقوله هنا: "ومن تعلق شيئا وكل إليه " دليل على أن من تعلق بالله فإن الله كافيه، ومن تعلق قلبه بالله إنزالا لحوائجه بالله، ورغبا فيما عند الله، ورهبا مما يخافه ويؤذيه- يعني يؤذي العبد- فإن الله- جل وعلا- كافيه، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] وإذا تعلق العبد بغير الله فإنه يوكل إلى ذلك الغير، والعباد فقراء إلى الله، والله- جل وعلا- هو ولي النعمة وولي الفضل، قال سبحانه:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15] فمن أنزل حاجته بالله أفلح، ومن تعلق قلبه بالله أفلح، وأما من تعلق بالخرافات، أو تعلق بالأمور الشركية كالسحر،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
وكالذهاب إلى الأولياء، وطلب المدد منهم، أو طلب الإغاثة منهم، فإنه يوكل إلى المخلوق، ومن يوكل إلى المخلوق فإنه يضره ذلك أعظم الضرر، كما قال- جل وعلا-:{يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} [الحج: 13][الحج: 13] .
قوله: " وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا هل أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة القالة بين الناس» رواه مسلم (1) .
قوله: العضه هكذا تروى في كتب الحديث (العَضْهُ) ، وفي كتب غريب الحديث واللغة تنطق هكذا (العِضَه) لأشباهها في وزنها، وهي كما فسرها النبي عليه الصلاة والسلام: النميمة القالة بين الناس.
وأصل العضه في اللغة يطلق على أشياء، منها السحر، والنميمة والقالة بين الناس نوع من أنواع السحر، وهي كبيرة من الكبائر، ومحرم من المحرمات. ووجه الشبه بين النميمة وبين السحر: أن تأثير السحر في التفريق بين المتحابين، أو في جمع المتفرقين، تأثيره على القلوب خفي، وهكذا عمل النمام، فإنه يفرق بين الأحباب لأجل كلام يسوقه لهذا وكلام يسوقه لذاك، فيفرق بين القلوب ويجعل العداوة والبغضاء بين قلب هذا وهذا، كما قال - جل وعلا- عن السحر:{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102][البقرة: 102] ، والنميمة هي القالة بين الناس، وهي من أنواع السحر، وكبيرة من الكبائر، والكبائر من أعظم الذنوب العملية.
(1) صحيح مسلم (2606) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[التمهيد لشرح كتاب التوحيد]
" ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من البيان لسحرا» (1) .
المقصود بالبيان هنا: التبيين عما في النفس بالألفاظ الفصيحة البينة التي تأخذ المسامع والقلوب، فتسحر القلوب، فربما قلبت الحق باطلا، والباطل حقا، حتى يغدو قول ذلك الذي يعد من أهل البيان والفصاحة هو الحق، وأن ما لم يقله أو رده هو الباطل- في الظاهر، وفي ظن سامعيه-، وهذا ضرب من السحر؛ لأنه تأثير في النفوس بالألفاظ، وقلب الحق باطلا، والباطل حقا، فتأثيره خفي كتأثير السحر في الخفاء؛ ولهذا قال. " إن من البيان لسحرا".
والصحيح من أقوال أهل العلم: أن هذا ذم للبيان وليس مدحا له، قال. "إن من البيان لسحرا" على جهة الذم، وبعض أهل العلم يقول: إن ذاك على جهة المدح؛ لأنه يصل في التأثير إلى أن يؤثر تأثيرا بالغا كتأثير السحر في النفوس، والتأثير البالغ إذا كان من جهة البيان فإنه جائز، وهذا من جهة المدح له، وبيان عظم تأثيره. وهذا فيه نظر، لأنه لما جعل البيان سحرا علمنا أنه أراد ذمه؛ ولهذا أورده الشيخ رحمه الله في هذا الباب الذي اشتمل على أنواع من المحرمات.
فالذي يستغل ما آتاه الله- جل وعلا- من اللسان والبيان والفصاحة في قلب الباطل حقا وفي قلب الحق باطلا، هذا لا شك أنه من أهل الوعيد ومذموم على فعله؛ لأن البيان: يقصد به نصرة الحق لا أن يجعل ما أبطله الله- جل وعلا- حقا في أنفس الناس وفي قلوبهم.
" باب ما جاء في الكهان ونحوهم " هذا الباب أتى بعد أبواب السحر " لأن حقيقة عمل الكاهن أنه يستخدم الجن لإخباره بالأمور المغيبة في الماضي، أو الأمور المغيبة في المستقبل التي لا يعلمها إلا الله- جل جلاله، فالكاهن يجتمع مع الساحر في أن كلا منهما يستخدم الجن لغرضه ويستمتع بالجن لغرضه.
ومناسبة الباب لكتاب التوحيد: أن الكهانة استخدام للجن، واستخدام الجن كفر وشرك أكبر بالله- جل وعلا-؛ لأن استخدام الجن في مثل هذه الأشياء لا يكون إلا بأن يتقرب إلى الجن بشيء من العبادات، فالكهان لا بد - لكي يُخدَموا بذكر الأمور المغيبة لهم- أن يتقربوا إلى الجني ببعض العبادات، إما بالذبح، أو الاستغاثة، أو بالكفر بالله- جل وعلا- بإهانة المصحف، أو بسب الله، أو نحو ذلك من الأعمال الشركية الكفرية.
فالكهانة صنعة مضادة لأصل التوحيد، والكاهن مشرك بالله- جل وعلا-؛ لأنه يستخدم الجن ولا يمكن أن تخبره الجن بالمغيبات إلا إذا تقرب إليها بأنواع العبادات.
وكانت الكهانة منتشرة في بلاد العرب في الجزيرة وفي غيرها، والكهان أناس يدعى فيهم الولاية والصلاح، وأن عندهم علم ما مضى، أو عندهم علم المغيبات التي ستحدث للناس، أو تحدث في الأرض؛ ولهذا كانت العرب تعظم الكهان وتخاف منهم، وكانت العرب تعطي الكاهن أجرا عظيما لأجل ما يخبر عنه.
(1) رواه البخاري (5146) ومسلم (2009) .