الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذلك الأفراد في المجتمع البشري هم في حاجة إلى مُثل عليا، يقتدون بها في مناحي حياتهم البيئيّة، لتتوثق الروابط بين الأفراد وتحسن العلاقات بين شتى الطوائف، في داخل الأسرة وخارجها، ولذلك يجب أن تكون تلك المُثل واضحة في جميع مراحل الحياة، ومثاليّة كاملة!
ومن ثم نجد عيسى عليه السلام يمثل الداعية الزاهد الذي غادر الدنيا وهو لا يملك مالاً، ولا داراً، ولا متاعاً، ونجده في سيرته الموجودة بين أيدي المسيحيّن لا يمثل القائد المحارب، ولا رئيس الدولة، ولا الأب، ولا الزوج، ولا غير ذلك مما تمثله سيرة خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم من الشمول والتكامل!
خامساً: الدليل العملي على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم
-:
وسيرة محمد خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم تعطينا الدليل العملي الذي لا ريب فيه على صدق رسالته ونبوَّته (1)، فهي سيرة إنسان سار بدعوته من نصر إلى نصر، على طريق طبيعي بحت، فقد دعا فأوذي، وبلّغ فأصبح له الأنصار، واضطر إلى الحرب فحارب، وكان حكيماً موفّقاً في قيادته، فما أزفت ساعة وفاته إلا كانت دعوته تلف الجزيرة العربيّة، عن طريق الإيمان، لا عن طريق القهر والغلبة!
وقد عرف ما كان عليه العرب من عادات، وعقائد، وما قاوموا به دعوته من شتى أنواع المقاومة، حتى تدبير اغتياله صلى الله عليه وسلم!
ومَنْ عرف عدم التكافؤ بينه وبين محاربيه في كل معركة انتصر فيها!
ومَنْ عرف قصر المدة التي استغرقتها رسالته حتى وفاته، وهي ثلاث
(1) السيرة النبوية: دروس وعبر: 17.
وعشرون سنة، أيقن أن محمداً صلى الله عليه وسلم، رسول الله حقًّا، وأن ما كان يمنحه الله من ثبات وقوة وتأييد ونصر، ليس إلا لأنه نبيّ حقًّا .. وما كان الله يؤيّد من يكذب عليه هذا التأييد الفريد في التاريخ، فسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم تثبت لنا صدق رسالته بطريق عقلي بحت، وبطريق عملي بحت، ومن المؤكد أن المسلمين الذين لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يشاهدوا معجزاته، إنما آمنوا بصدق رسالته للأدلة القاطعة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم .. والقرآن الكريم هو المعجزة الكبرى التي تلزم كل عاقل منصف أن يؤمن بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في رسالته!
وهذا يختلف تماماً عن سير الأنبياء السابقين المحفوظة لدى أتباعهم، فهي تدلنا على أن الناس إنما آمنوا بهم لما رأوا على أيديهم من معجزات وخوارق، دون أن يحكّموا عقولهم في مبادئ دعواتهم فتذعن لهم!
وأوضح مثل لذلك عيسى عليه السلام فإن القرآن الكريم بيّن الدعامة الأولى في إقناع اليهود بصدق رسالته، وهي أن كل خارقة من الخوارق التي جاءهم بها من عند الله (1) هي في عمومها تتعلق بإنشاء الحياة أو ردّها أو ردِّ العافية، وهي فرع عن الحياة، ورؤية غيب بعيد عن مدى الرؤية .. والأناجيل الحاضرة تروي لنا أن هذه المعجزات هي وحدها التي كانت سبباً في إيمان الجماهير دفعة واحدة له، لا على أنه رسول، بل على أنه إله أو ابن إله، وحاشا لله!
ومن هنا نرى هذه الميزة الواضحة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه من آمن به آمن عن اقتناع عقلي ووجداني، وإذا كان الله قد أكرم رسوله بالمعجزات الخارقة فما ذلك إلا لإكرامه له، وإفحام معانديه المكابرين!
(1) انظر: في ظلال القرآن: 1: 399.
ومن تتبّع القرآن الكريم وجد أنه اعتمد في الإقناع على المحاكمة العقليّة، والمشاهدة المحسوسة لعظيم صنع الله، والمعرفة التامة بما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، من أميّة تجعل إتيانه بالقرآن دليلاً على صدق رسالته، قال تعالى:
يعنون بذلك الخوارق الماديّة التي صاحبت الرسالات (1) من قبل في طفولة البشريّة، والتي لا تقوم حجة إلا على الجيل الذي شاهدها .. بينما الرسالة الأخيرة تقوم حجتها على كل من بلغته دعوتها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها!
ومن ثم جاءت الآيات متلوة من القرآن الكريم المعجز الذي لا تنفد عجائبه، والذي تتفتّح كنوزه لجميع الأجيال، والذي هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم، يحسّونها خوارق معجزة كلما تدبروه، كما أحسّوا مصدرها الذي تستمد منه سلطانها العجيب!
وإنه للبطر بنعمة الله ورعايته التي قبل عن الشكر والتقدير!
أو لم يكفهم أن يعيشوا مع الحق بهذا القرآن الكريم!
وهو يتنزّل عليهم، ويحدثهم بما في نفوسهم، ويكشف لهم عما حولهم، ويشعرهم أن عين الله عليهم، وأنه مَعْني بهم، يحدّثهم بأمرهم، ويقصّ عليهم القصص ويعلّمهم .. وهم هذا الخلَق الصغير الضئيل التائه في ملكوت
(1) المرجع السابق: 5: 2746 بتصرف.
الله الكبير .. هم وأرضهم وشمسهم التي تدور عليها أرضهم .. ذرات تائهة في هذا الفضاء الهائل لا يمسكهن إلا الله، والله عز وجل بعد ذلك يكرمهم حتى لينزل كلماته تتلى عليهم، ثم هم لا يكتفون؟!
والذين يؤمنون هم الذي يجدون مسّ هذه الرحمة في نفوسهم .. وهم الذين يتذكرون فضل الله وعظيم مننه على البشريّة بهذا التنزيل .. ويستشعرون كرمه وهو يدعوهم إليه، وهو العلي الكبير، وهم الذين ينفعهم هذا القرآن الكريم؛ لأنه يحيى في قلوبهم، ويفتح لهم عن كنوزه، ويمنحهم ذخائره، ويشرق في أرواحهم بالمعرفة والنور!
تلك إشارات إلى أهم خصائص السيرة النبويّة!