الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 - الطفولة الفكريّة:
ونستعرض التاريخ منذ بدأ يكتب ويسجّل أحداث الحياة في المجتمع البشري فنجده شغل -حتى أتخم- بالفلسفة الوضعيّة، التي هي في كثير من موضوعاتها وقضاياها حصيلة العقل الإنساني، وقد كان هذا العقل في مهد الطفولة الفكرية لا يزال يحبو، وحصيلة الهوس الخيالي الجامح في كثير من مسائلها وبحوثها التي شغلت بجدلها العقيم قسطاً كبيراً من عمر الحياة، وكانت هذه الفلسفات تعج بأوضار الوثنيات التي كانت أساساً لما يُسمّى (الفن)، ولا سيما في دائرة التصوير المجسّم والنحت!
لقد مضى على هذا العقل وهو يفكّر وينظر ويتحرك عشرات الألوف من السنين، ولكنه لم يصل إلى شيء في قضاياه التي استقل بها من شؤون الحياة والكون؛ بل إنه زادها تعقيداً وشتاتاً، ولم يستطع أن يحسم رأياً فيما شارك فيه من شؤون الحياة، ولم يقول على البت في قضايا الغيب التي جاءت النبوّات بحقائقها، إخباراً عن واقع مشهود؛ لأن النبوّات تطير إلى هذا الغيب بأجنحة الوحي والتلقّي عن الله تعالى، خالق الغيب والشهادة، والعقل تعبّد للحسّ وجعل منافذه وسيلة إلى إدراك الحقائق، والحسّ محدود الجوانب إذا تعدّاها سقط في هاوية الجحود والتشكيك!
ولو أن العقل خفّف من غلوائه، واستقام على نهج النبوّة يهتدي بهديها في موازين إدراكاته لكان له اليوم مع الحياة شأن غير شأنه الذي يعيش فيه، ويقود الحياة بزمامه، ولا يدري أحد ما تكون نهاية هذه القيادة القاصرة عن إدراك كثير من حقائق الحياة!
وكان بحسب العقل أن يتفقّه فيما يقال له من وحي النبوّات مما هو وراء الحسّ المادّي، ويلائم بين مدركاته الماديّة وحقائق الوجود الكونيّة العظمى، ليظفر بلون من الشفافية والإشراق، يتيح له من معارف الغيب وحقائقه ما يتحرّر به من أغلال الحسّ ومنافذه!
وإلى جانب شغل التاريخ بتلك الفلسفة الوضعيّة نجده شغل بالمظاهر الماديّة في سائر جوانب الحياة، وملأ كثيراً من صفحاته بالحديث عن آثار الوثنيّات وأصنامها وتماثيلها وأساطيرها وخرافات أهلها، وتناسى النبوّات وآثارها الفكريّة والرّوحيّة وقيمها الأخلاقيّة!
وتناسى الرسالات الإلهيّة وعملها في دفع عجلة الحضارة الإنسانيّة إلى التقدّم الأدبي، والرقيّ الفكري، والسموّ الخلقي، وحفاظها على القيم الأصلية في توجيه العقل، وأقوم الطرق في تطوّر الفكر!
فكم من صفحات هذا التاريخ البشري الظالم -منذ كان- شغلها تاريخ النبوة؟
وكم من صفحات هذا التاريخ شغلها عمل الرسالات الإلهيّة في تقدّم المجتمع البشري؟ إنها أقل من القليل!
قد يقبل في منطق الوثنيّات وفنونها الأسطوريّة أن يُشغل التاريخ البشري - وهو من أوضاع تلك الوثنيّات- عن العناية بالنبوّة والرسالات الإلهيّة، ويتعوّض عنها الأباطيل والخرافات وأساطير الوثنيّات عند الإغريق والفراعنة والكنعانيّين، ومَن إليهم من الأمم الراسبة في قاع حمأة الوثنيّات؛ لأن النبوّة إنما جاءت لتصحيح أوضاع الحياة التي شوّهتها الوثنيّات بأباطيلها، وذلك
بالقضاء على منطقها المهلهل، لتقيم صرح العقيدة التوحيديّة التي تحرّر الحياة من عبوديّة الأحجار والتماثيل تحت عنوان (الفن)!
ولكن الذي لا يقبله منطق العقل المستقيم أن يتغلّب منطق هذه الوثنيّات المتهالكة على عقول الذين أوتوا منطق التوحيد على ألسنة الأنبياء والرسل، ونزلت عليهم كتب النبوّات، فبدّلوا كلمها طواعية وعناداً، وحرّفوا آياتها قصداً إلى أحطّ منطق في تاريخ الوثنيّات!
فهذه التوراة كتاب موسى نبيّ الله ورسوله وكليمه، وهذا الإنجيل كتاب عيسى نبيّ الله ورسوله وروحه وكلمته، وهما اليوم بأيدي الأخلاف نرى فيهما ما لا يمكن أن يتصوره عاقل من بهت للنبوّة والرسالات الإلهيّة في تصوير حياة أنبياء الله ورسله!
ومن ثم أبصرنا تلك الحرب الضروس في القديم والحديث على خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم!
ولم يكتف التاريخ البشري في إهماله أمر النبوّات والرسالات الإلهيّة ليتعوّض عنها بهذه الوثنيّات وأقاصيصها، بل أضاف إليها -ليستغرق في ضلالاته- أنباء الطغاة البغاة العتاة من سفّاكي دماء البشريّة، ومدمّري عمران الحياة، ومخرّبي بناء الحضارات الإنسانيّة، فجعل من أحاديثهم في معاركهم الظالمة أقاصيص الإعجاب، ومفاخر البطولة، وهي في حقيقتها نزوات من الطغيان الأحمق الذي يرقص على طبول الخراب!
هذا التاريخ الظلوم المظلوم حمل على كاهله طوال أحقاب ما مرّ عليه من دورات الفلك أثقال الوثنيّات بكفرياتها وإلحادها ومذاهبها، وأفكارها
وأساطيرها، وآثارها الماديّة في تفصيل مسهب، بل في مبالغة وإغراق وأكاذيب، ولم يسمح بأسطر يكتبها في سجلاته عن النبوّات والرسالات الإلهيّة إلا بقدر ما يصلها بهذه الوثنيّات في معاركها معها ونضالها ضدّها!
أما بيان مكانة النبوّة من الحياة، وبيان أعمالها في توجيه الحياة، وتهذيب الغرائز، وإرشاد العقل في سيره، وبيان ما يطيق إدراكه وما لا يطيق، وبيان أقدار الرسالات الإلهيّة، وجهاد الرسل في سبيل تقدّم الحياة، وإقامة موازين العدالة، وإصلاح ما أفسده الطغاة البغاة العتاة بطغيانهم ومظالمهم، وكفاح البطولات الروحيّة، واصطبار المكافحين من الأنبياء والمرسلين، وأتباعهم من المؤمنين برسالاتهم، على محن الجبروت، وبلاء الطغيان، وفدائح الظلم .. أما هذا كله فأمر لا يعني هذا التاريخ البشري أن يفرد له بين صفحاته قدراً يعطيه حقه من التقدير والاعتزاز!
وقد صوّر التاريخ النبوّة والرسالات الإلهيّة في أسطره التي سمح بها في سجلاته للحديث عنها، وعن حملتها من المصطفين، على أنها مرشد لمن يريد اعتزال الحياة، ليعيش روحانيًّا قانعاً زاهداً، قعيد الكهوف والصوامع، جوعان ذا مسغبة، عريان ذا متربة، سموحاً لا يزاحم في معترك العيش، خانعاً في ذلة، مستسلماً لنوازل الحياة، شروداً نفوراً، يحيا ويموت دون أن تحسّ به الحياة!
والتاريخ بهذا التصوير الظالم يضع النبوّة والرسالات الإلهيّة في إطار من السلبيّة، لا تعني الحياة في شيء، ولا تعنيها الحياة في شيء!
ومن هنا نشأت فكرة (الدّين والدنيا) فالدّين- عند هذا التاريخ الظلوم- هو السلبيّة التي تعيش مع خيالات الأوهام، وأوهام الغيبيّات التي لا تحسّ ولا تمسّ .. والدنيا عند هذا التاريخ هي كل المعاني التي قامت على دعائمها فلسفة