الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بما صح، وجاءت خلواً من تمييز المقبول من المردود، ومن ثم لا يكتفى بذكر من روى الحديث إذا لم يكن في الصحيحين أو أحدهما؛ بل لا بد من الالنزام بقواعد التحديث رواية ودراية، ولا تذكر الروايات الضعيفة، والموضوعة! لا في مجال الرد، انطلاقاً من أن السيرة جزء من الحديث -كما أسلفنا- وأن المسلم مطالب بالتأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك يتطلب المعرفة الصحيحة، فكيف إذا كان من أهل العلم والدعوة إلى الله؟!
وحسبنا أن نشير إلى رد بعض أقوال أهل العلم في المراد بالخشية في حديث بدء الوحي (1)، ورد بلاع التردّي من رؤوس شواهق الجبال (2) -كما سيأتي- وما إلى ذلك مما يطول الحديث فيه ويطول!
ومن هنا كان علينا أن نلتزم قواعد التحديث رواية ودراية، وأن نحيط بها إحاطة دقيقة صحيحة، لنتعرف معالم حياة الرسول صلى الله عليه وسلم!
3 - فقه السيرة في تفسير الأحداث:
ولا نقف عند حد عرض الآيات القرآنيّة المتعلّقة بالسيرة، والأحاديث الصحيحة؛ لأن فقه السيرة لا يكون في مجرد سردها، وإنما يكون في تفسيرها للأحداث، والاهتداء إلى الروابط الظاهرة والخفيّة التي تجمع بين شتاتها، وتجعل منها وحدة متماسكة الحلقات، متفاعلة الجزئيّات، ممتده مع الزمن والبيئة، امتداد الكائن الحي في الزمان والمكان!
ومن ثم يعيش المسلم بعقله وروحه، ونفسه وحسّه، وشعوره وإدراكه،
(1) انظر: كتابنا: (حديث بدء الوحي في الميزان): 55 وما بعدها، مكتبة المنار الإسلاميّة، الكويت، ومؤسسة الريان، بيروت 1418 هـ 1997 م.
(2)
انظر: المرجع السابق: 75 وما بعدها.
في جو الإسلام كعقيدة وفكر ونظام، وفي جو الحياة الإسلاميّة المباركة الطيّبة كصورة واضحة المعالم والسمات، من حياة البشريّة الواقعيّة!
وهذه الحياة في هذا الجو ضروريّة جداً لتفتح نوافذ الإدراك، لا لفهم الحياة فحسب، بل لإدراكها ككائن حي، وإدراك مواقع الحوادث والوقائع في جسم هذا الكائن الحي (1)!
وإنه ليعزّ على الإنسان في أيّة فترة من فترات الإنسانيّة أدركها إدراكاً حقيقياً داخلياً، إلا أن يتجاوب معها بكل ذاتيّته، وأن يعيش في جوّها بكامل مؤثّراتها وإيحاءاتها؛ فليست هذه خصيصة قاصرة على الحياة اليوميّة الإسلاميّة، وإن كانت أكثر وضوحاً بالقياس إلى تلك الحياة؛ لأن مقوماتها تختلف في كثير من أنواعها وماهيّاتها عن مقومات ما عداها!
وإنه ليصعب أن نتصوّر إمكان دراسة الحياة الإسلاميّة كاملة، دون إدراك كامل لروح العقيدة الإسلاميّة، ولطبيعة فكرة الإسلام عن الكون والحياة والإنسان، ولطبيعة استجابة المسلم لتلك العقيدة، وطريقته في الاستجابة للحياة كلها في ظل تلك العقيدة!
وهذه الخصائص كلها لا يمكن أن تطلب عند باحث غير صادق مدرك، إلا إذا تجرد من الهوى، وتخلص من التعصّب!
ولابد من إدراك البواعث الحقيقية لتصرفات الناس في خلال هذه الحياة الإسلاميّة، وعلاقة هذه البواعث بالحوادث والتطورات!
ولابد من ربط هذا كله بطبيعة الفكرة الإسلاميّة، لا في شكلها الخارجي وخطواتها العمليّة فحسب، ولكن في تفسيرها للعلاقات الكونيّة، والعلاقات
(1) في التاريخ فكرة ومنهاج: 45 وما بعدها بتصرف، والهجرة النبويّة: 30 وما بعدها.
الإنسانيّة، والعلاقات الاجتماعيّة، وفي تصويرها لنظام الحكم، وسياسة المال، وطرق التشريع، ووسائل التنفيذ .. إلى غير ذلك من مقومات الحياة، وبالتالي من مقوّمات التاريخ لهذه الحياة!
إن المعارك الحربيّة، والمعاهدات السياسيّة، والاحتكاكات الدولية، وما إليها، مما يُعنى به التاريخ غالباً أكثر من سواه، إنها كلها محكومة بعوامل أخرى، يختلف الباحثون في إدراكها وتقديرها .. كل يخضع للفلسفة التي تسيطر على تفكيره وتقديره، ولطريقة إدراكه للحياة في عمومها!
وللمسلم مزيّة هنا في دراسة الحياة الإسلاميّة عامة، والسيرة النبويّة خاصة؛ لأن طريقة إدراكه تمت بصلة قوية إلى حقيقة هذه العوامل المؤثرة في سير التاريخ، ومن ثم فهو أقدر على التلبس بها واستنباطها، والاستجابة لها استجابة كاملة!
وعلى ضوء إدراكه لطبيعة العقيدة الإسلاميّة، وطريقة استجابة المسلمين لها، يستطيع أن يزن دوافع الحياة الإسلاميّة في تلك الفترة التاريخيّة، والقيم الإنسانية الكامنة فيها، وأسباب النصر والهزيمة في كل خطوة!
ويتصوّر الحياة الظاهرة والباطنة لتلك الجماعات الإنسانيّة في مهد الإسلام، وفي البلاد التي انساح فيها!
ويضمّ إلى الجوانب الظاهرة التي لا يدرك غير المسلمين سواها في الغالب، كل الجوانب الروحيّة التي يعدّها الإسلام واقعاً من الواقع، ويحسب لها حسابها في سير الزمان، وتشكّل الحياة في كل زمان ومكان، وجيل وقبيل!
ولمَّا كانت الحياة الإسلاميّة فترة من الحياة البشريّة، ولمَّا كان المسلمون
جماعة من بني الإنسان في حيّز من الزمان والمكان، ولمَّا كان الإسلام رسالة كونيّة بشريّة غير محدودة بالزمان والمكان، فإن التاريخ الإسلامي لا يمكن فصله من التاريخ الإنساني .. وقد تأثّرت تلك الفترة -من غير شك- بتجارب البشريّة كلها من قبل، وبخاصة تلك العوامل التي كانت واقعة عند مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أثرت بدورها في تجارب البشرية من بعد، وتلك الجهات التي امتدّت إليها أو جاورتها، فلابد إذن عند عرض التاريخ الإسلامي عامة، والسيرة النبويّة خاصة من الإلمام بالصورة التي انتهت إليها تجارب الإنسانيّة قبيل مولد الإسلام، والحالة التي صارت إليها المجتمعات البشرّية في الأرض، وبخاصة العقائد الدينيّة، وسائر ما يتعلق بها من أفكار وفلسفات ونظريّات، والأوضاع الاجتماعيّة، وما يتعلق بها من نظم الحكم، وسياسة المال، وعلاقات المجتمع، والأخلاق والعادات والأفكار، كي تتبيّن على ضوئها حقيقة دور الرساله والرسول صلى الله عليه وسلم!
ويمكن تفسير استجابة العالم لهذا النظام الجديد قبولاً أو رفضاً، وتصوّر أسباب الصراع، وعوامل النصر والهزيمة، وعناصر التفاعل والتدافع، والتلاقي والانعكاس، على مرّ الأيام!
وإذا كان الإلمام بوضع العالم إذ ذاك ضروريًّا؛ فإن الإلمام بوضع شبه الجزيرة العربيّة وتصور الحياة فيها، من نواحيها كافة أكثر ضرورة، بوصفها مهد الإسلام الأول من جهة، ومركز التجمّع والانسياح من جهة أخرى!
تُرى، هل كانت مصادفة عابرة أن يظهر الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع من الأرض في هذا الزمان؟!
إن هنالك نظاماً مقدورًا، وقصداً مقصوداً، وتدبيراً معيّناً، وترتيباً