المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌6 - عطاء السيرة بين الماضي والحاضر: - الجامع الصحيح للسيرة النبوية - جـ ١

[سعد المرصفي]

فهرس الكتاب

- ‌«خصائص السيرة ودورها في تكوين الشخصية الإسلامية»

- ‌إهداء

- ‌مقدمة

- ‌1 - السيرة ومكانتها:

- ‌2 - حياة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌3 - مكانة النبوة والأنبياء:

- ‌4 - النبوّة وبناء الحضارة:

- ‌5 - أعظم دوافع التطوّر:

- ‌6 - الطفولة الفكريّة:

- ‌7 - أعظم تراث إنساني:

- ‌8 - أعظم شهادة:

- ‌9 - فتح فكري جديد:

- ‌10 - شمس الوجود الروحي:

- ‌11 - في علم المغازي خير الدنيا والآخرة:

- ‌12 - الله أكبر:

- ‌خصائص السيرة

- ‌أولاً: أصح سيرة لتاريخ نبيّ مرسل:

- ‌1 - من خصائص الأمة الإسلاميّة:

- ‌2 - الحفظ في الصدور والكتابة في السطور:

- ‌3 - قواعد التحديت رواية ودراية:

- ‌4 - أربع خصال:

- ‌ثانياً: الوضوح في جميع المراحل:

- ‌ثالثاً: المثاليّة في كل ما يتصل بها:

- ‌رابعاً: الشمول والتكامل:

- ‌خامساً: الدليل العملي على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌مصادر السيرة

- ‌أولاً: القرآن الكريم:

- ‌ثانياً: السنة النبويّة:

- ‌ثالثاً: كتب المغازي والسير:

- ‌1 - عروة بن الزبير بن العوام:

- ‌2 - أبان بن عثمان بن عفان:

- ‌3 - ابن شهاب الزهري:

- ‌4 - عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الأنصاري:

- ‌5 - عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري:

- ‌6 - موسى بن عقبة:

- ‌7 - محمد بن إسحاق:

- ‌8 - محمد بن عمر الواقدي:

- ‌9 - عبد الملك بن هشام:

- ‌10 - محمد بن سعد:

- ‌11 - جوامع السيرة لابن حزم الأندلسي الظاهري:

- ‌12 - الدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر:

- ‌13 - عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير لابن سيد الناس:

- ‌14 - زاد المعاد في هدي خير العباد لابن قيّم الجوزية:

- ‌15 - الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لابن كثير:

- ‌16 - المواهب اللدنيّة بالمنح المحمديّة للقسطلاني الشافعي المصري:

- ‌رابعاً: دلائل النبوة:

- ‌1 - كتب السنة:

- ‌2 - دلائل النبوّة لأبي نعيم:

- ‌3 - أعلام النبوّة للماوردي:

- ‌4 - دلائل النبوّة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة للبيهقي:

- ‌5 - دلائل النبوة للأصبهاني:

- ‌خامساً: كتب الشمائل:

- ‌1 - الشمائل للترمذي:

- ‌2 - الوفا بأحوال المصطفى لابن الجوزي:

- ‌3 - شمائل الرسول ودلائل نبوّته وفضائله وخصائصه لابن كثير:

- ‌سادساً: كتب جمعت بين التاريخ والسيرة:

- ‌1 - تاريخ الأمم والملوك للطبري:

- ‌2 - تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام (السيرة النبويّة) للذهبي:

- ‌3 - البداية والنهاية لابن كثير:

- ‌سابعاً: أخبار مكة والمدينة والشعر:

- ‌مناهج المؤلفين

- ‌أولاً: المنهج التاريخي:

- ‌ثانياً: المنهج الموضوعي:

- ‌1 - (دلائل النبوّة) و (الشمائل المحمديّة):

- ‌2 - (الهجرة النبويّة ودروها في بناء المجتمع الإسلامي):

- ‌3 - (الرسول صلى الله عليه وسلم واليهود وجهاً لوجه):

- ‌4 - (سيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم) لشبلي نعماني:

- ‌5 - (الرسول القائد) للواء الركن محمود شيت خطاب:

- ‌ثالثاً: المنهج التبشيري الاستشراقي:

- ‌1 - نقص معيب:

- ‌2 - تطوّر الموقف الغربي:

- ‌3 - أخطاء منهجيّة:

- ‌4 - المذهب الذاتي:

- ‌5 - مدرسة جديدة:

- ‌6 - الإيمان بالغيب:

- ‌7 - السيرة المحمديّة تحت ضوء العلم والفلسفة:

- ‌8 - (حياة محمد) للدكتور هيكل:

- ‌9 - المقياس الصحيح للحديث عنده حديث موضوع:

- ‌10 - موقفه من حديث شق الصدر:

- ‌11 - وجوب التسليم بحديث شقّ الصدر:

- ‌12 - حديث آخر موضوع:

- ‌13 - الإسراء ووحدة الوجود:

- ‌14 - بطلان فكرة وحدة الوجود:

- ‌15 - إيجابيّات:

- ‌16 - مصير هذه المدرسة اليوم:

- ‌خصائص المنهج الصحيح في الدراسة

- ‌1 - في رحاب القرآن الكريم:

- ‌2 - الأحاديث الصحيحة:

- ‌3 - فقه السيرة في تفسير الأحداث:

- ‌4 - خطوات الدعوة:

- ‌5 - عوامل البناء ومعاول الفناء:

- ‌6 - عطاء السيرة بين الماضي والحاضر:

- ‌7 - واجبنا نحو الرسول صلى الله عليه وسلم

الفصل: ‌6 - عطاء السيرة بين الماضي والحاضر:

وما وزن الأفكار والنظم والعقائد التي استحدثتها الإنسانيّة بالقياس إلى نظائرها في الإسلام؟!

وماذا كسبت البشريّة، وماذا خسرت، من وراء انحسار المدّ الإسلامي، وظهور المدّ الإلحادي؟!

ومن ثم يصبح الحديث عن العالم الإسلامي طبيعيًّا وفي أوانه، وقائماً على أسسه الواضحة الصريحة، وليس حديثاً تمليه العاطفة أو يحدوه التعصب من هذا الجانب أو ذاك، ويصبح الحديث عن القديم والحديث -وفق هذا المنهج- مسلسل الحلقات، متشابك الأواصر، ويتحدّد دور الإسلام في هذا التاريخ وفي الماضي وفي الحاضر .. وتتبيّن خطوطه في المستقبل على ضوء الماضي والحاضر!

‌6 - عطاء السيرة بين الماضي والحاضر:

ومن ثم، يتم استعراض أحداث السيرة النبويّة في وحدة موضوعيّة:

- وفق معطيات القرآن الكريم -كما أسلفنا- وهي كثيرة وضرورية!

- والسنة النبويّة الصحيحة، وفق أصول التحديث رواية ودراية!

- والإفادة من الأرضيّة التاريخيّة الثابتة، التي تحرّكت فوقها الأحداث ونمت، واكتسبت ملامحها النهائيّة!

- والنظرة الشموليّة التكامليّة، التي تدرس حركة الإسلام في منهج شامل كامل، له خصائصه!

في إطار القيم والتوجيهات، والقواعد والأسس، التي جاء بها (الدّين القيّم) ليقيمها في قلوب الجماعة المسلمة عبر التاريخ، وفي حياتها كلها على سواء!

ص: 211

وهكذا تصبح هذه الأحداث مادة للتربية، ودليلاً وترجماناً للحياة الإسلاميّة الممتدّة وأحداثها، وعوامل البناء ومعاول الفناء!

ومن ثم نبصر التقابل بين العوامل والمعاول، والحق والباطل، على سواء!

وسبق أن قدمت دراسات موضوعيّة في السيرة النبويّة -كما ذكرت في المنهج الموضوعي- تلتزم الموضوعية والأحاديث الصحيحة، وفق قواعد التحديث رواية ودراية، والإفادة من المعالم التاريخيّة والتربويّة التي تفيدنا في واقعنا المعاصر!

وأسأل الله العون والسداد، والتوفيق والرشاد، على الكتابة عن:

(الرسول صلى الله عليه وسلم والنصارى وجهاً لوجه)، حتى نتبيّن حقيقة دور النصارى في العداء للرسالة والرسول في القديم والحديث على سواء!

والكتابة كذلك عن:

(الرسول الداعي)!

و (الرسول العابد)!

و (الرسول في البيت)!

و (الرسول المربي)!

وما إلى ذلك من الدراسات التربويّة الموضوعيّة التي نحن في أشد الحاجة إليها!

إن السيرة النبويّة فيض من العطاء متدفق، لا يغيض ماؤه، ولا يتوقّف عطاؤه، ومن أخلص النية، وجرد الطويّة، وطرح الغرض، وتخلص من الهوى، وابتعد عن الردى، وأحبّ الحق، وعقد العزم، وجدّ في الطلب،

ص: 212

فلابدّ أن تتفتّح له كوة جديدة عميقة من كواها المشعة بنور الحق والحقيقة، يستضيء بنورها ويضيء!

وها نحن نعيش بداية القرن الخامس عشر الهجري، بعد أن ودعنا القرن الحافل بالمآسي الصارخة، والعبر القارعة!

وعجلة الزمان تُطوى بنا يوماً بعد يوم، وحين تُطوى نقف على مفترق الطريق!

وما أحوجنا في هذه اللحظة الفارقة أن نحاسب أنفسنا! على الماضي، فنندم على الأخطاء، ونستقيل العثرات، ونقوّم المعوج، ونستدرك ما فات!

وعلى المستقبل، فندرك أن جيلنا قد ولد في منعطف تاريخي، أفضى به - في مجموعه- إلى أن تنفرج الشقّة بين سلوكه، والشمول والتكامل في الفكر والسلوك .. ولفّه ضباب الشعارات البراقة، في إطار ماكر جائر، من هؤلاء الجاهلين الذين أرادوا تحقيق شهواتهم، ونشر ضلالاتهم، جاهدين ألا ينكشف حالهم، ويتعرّى هدفهم!

ومن ثم حالوا بيننا وبن حقيقة الإسلام في الوحدة والتوحيد، والفكر والسلوك، والحياة والتشريع، وأقاموا فصاماً نكداً بيننا وبين هذه الحقائق التي ينطلق بها اللسان معبراً عن العقيدة التي تعمر الجنان:

- الله غايتنا!

- والرسول قدوتنا!

- والقرآن شرعتنا!

- والجهاد سبيلنا!

ص: 213

- والموت في سبيل الله أسمى أمانينا!

وركّزوا على تمكين غيبوبة الضمير، والعقل والوعي، عن واقع المسير، في الضباب الكثيف، وما يجر إليه من سوء المصير!

وهذا الواقع أقوى من إنكار المنكرين، وجحود الجاحدين!

ولن يفقد الحقيقة هويّتها أن يكفر بها معاند ماكر، أو يتسلّط عليها مخادع جائر!

وعلينا أن نفقه عطاء سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بين الماضي والحاضر!

ونرى كيف ظهرت (خير أمة أخرجت للناس) في ثلاث وعشرين سنة، كانت متفرّقة متشاكسة، فأصبحت متحدة متآلفة!

كانت الأمم تنظر إليها بعين الازدراء، فأصبحت معزّزة الجانب، تفتح البلاد، وتضرب على أعدائها بسلطانها الكريم!

كانت في ظلمات من الجهل، فأصبحت في نور من العلم، دون أن يُجلب إليها من بلاد أجنبيّة، وإنما هو ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بما يُلقي إليها من الحكمة بنفسه، ويزكّيها بما يتحلّى به، ويما يدعوها إلى خصال الشرف والحمد!

نرى الرسول صلى الله عليه وسلم أقام بين يدي هذه الأمة شريعة تقرّر حقوق الأفراد والجماعات، وتشتمل بتفاصيلها وأصولها على كل ما يُحتاج إليه في فصل القضايا من أحكام، هي مظهر العدل والمساواة، ولم يعقد لهذه الشريعة لجنة تتألف من أشخاص درسوا قوانين بعض الأمم .. ونراه يملي أحكام الوقائع مدنيّة كانت أو جنائيّة .. في الحضر والسفر، في يوم السلم، أو في مواطن القتال!

ص: 214

نرى الرسول صلى الله عليه وسلم يستخف بأشياع الباطل؛ ولا تأخذه كثرة عددهم ووفرة أموالهم، فيلاقيهم بالفئة القليلة، ويفوز عليهم فوزاً عظيماً، ولم يكن بالرئيس الذي يبعث بالجيش إلى مواقع القتال، ويقعد خلافهم حذراً من الموت؛ بل يقول الجند، ويدبّر أمر القتال بنفسه، ويقابل الأعداء بوجهه، ولا يوليهم ظهره!

نرى الرسول صلى الله عليه وسلم يصرف عنايته في تزكية الأمّة، وتدبير شؤونها والقيام بجهاد عدوّ هاجم، أو عدو متحفز للهجوم، ولم تشغله هذه الأعمال الخطيرة عن أن يقوم الليلَ قانتاً لله متهجداً، ثم يملأ جانباً من النهار في عبادة ربّه متطوعاً!

نرى الرسول صلى الله عليه وسلم زاهداً في متاع هذه الحياة!

ولم يكن مثل أولئك الذين يتظاهرون بالزهد إذا لم يجدوا، حتى إذا ما أيسروا ورأوا زهرة الحياة الدنيا طوع أيمانهم خلعوا ثوب الزهد، وتحولوا إلى طبيعة الشره كثيراً أو قليلاً!

إن كنت غنياً مثرياً فاقتد بالرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان يسير بين الحجاز والشام، وحين ملك خزائن البحرين (1)!

وإن كنت في سجن الطغاة البغاة العتاة، فلتكن لك أسوة به، وهو صلى الله عليه وسلم في الشِّعب!

وإن كنت عائلاً ذلك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، حين قدم إلى المدينة مهاجراً إليها من موطنه، وهو لا يحمل من حطام الدنيا شيئاً!

(1) الرسالة المحمدية: 135 بتصرف.

ص: 215

وإن كنت حاكماً فاقتد بسنته وأعماله صلى الله عليه وسلم، حين مَلَك أمر العرب، وغَلَب على آفاقهم، ودان لطاعته عظماؤهم، وذوو أحلامهم!

وإن كنت تعيش في وطن غير إسلامي، ذلك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، أيّام كان بمكة قبل الهجرة!

وإن كنت فاتحاً غالباً، ذلك في حياته صلى الله عليه وسلم نصيب أيام ظفره بعدوه في (بدر) وغيرها!

وإن كنت مصاباً فاعتبر به صلى الله عليه وسلم في يوم (أحد)، وهو بين أصحابه القتلى، والمثخنين بالجراح!

وإن كنت معلِّماً فانظر إليه وهو يعلّم أصحابه في صُفّة المسجد وغيرها!

وإن كنت متعلّماً فتصور مقعده صلى الله عليه وسلم بين يدي الروح الأمن جاثياً مسترشداً!

وإن كنت داعياً ناصحاً مرشداً أميناً، فاستمع إليه صلى الله عليه وسلم وهو يعظ الناس!

وإن أردت أن تقيم الحق، وتصدع بالمعروف، ولا ناصر لك، ولا معين، فانظر إليه بمكة، والطائف .. لا ناصر ينصره، ولا معين يعينه، وهو صلى الله عليه وسلم يشكو إلى الله أمره، ومع كل ذلك يدعو إلى الحق، ويُعلن به!

وإن هَزَمْت عدوك، وخضّدت شوكته، واستتبّ لك الأمر، ولا ترى من عدوك خطراً، فانظر إليه صلى الله عليه وسلم يوم دخل مكة وفتحها!

وإن أردت أن تصلح أمورك، وتقوم على ضياعك، فانظر إليه صلى الله عليه وسلم وقد مَلك من الغنائم ما ملك، كيف دبّر أمورها، وأصلح شؤونها، وفوّضها إلى من أحسن القيام عليها!

وإن كنت يتيماً فانظر إلى يتمه صلى الله عليه وسلم!

ص: 216

وإن كنت شابًّا عاملاً فاقرأ سيرته صلى الله عليه وسلم، وهو يرعى الغنم!

وإن كنت قاضياً أو حكماً فانظر إليه صلى الله عليه وسلم حين قصد الكعبة ليضع الحجر الأسود في محله، وقد كاد رؤساء مكة يقتتلون، ثم ارجع البصر إليه مرة أخرى، وهو في فناء مسجد المدينة، يقضي بين الناس بالعدل، يستوي عنده الفاقد والواجد، الفقير المعدم والغني المثري، والقريب والبعيد!

وإن كنت زوجاً فاقرأ السيرة الطاهرة، والحياة النظيفة العفيفة النزيهة للرسول صلى الله عليه وسلم في البيت!

وإن كنت أباً فتعلم ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف كانت الحياة المثاليّة!

وأيًّا من كنت، وفي أي شأن كان شأنك، فإنك مهما أصبحت وأمسيت، وعلى أي حال بتّ أو أضحيت، فلك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، والقدوة الصالحة، تضيء لك بنورها دَياجي الحياة، وينجلي لك بضوئها ظلام العيش، فتُصلح ما اضطرب من أمورك، وتثقف بهديه أوَدك، وتُقوِّمُ بسنته عوجك، وصدق الله العظيم:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب]!

إن هذه الآية الكريمة -كما أسلفنا- تحمل في ألفاظها القليلة معاني كثيرة جليلة غزيرة، فقد أرشدت إلى الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأومأت إلى أنه أقوم الخليقة منهجاً، وأشرفهم حالاً، وأطيبهم كلاماً، وأفضلهم أعمالاً!

وتدعو إلى التأسي به صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وأفعاله، فيما هو مطلوب منا أن نتأسى به، في ثباته في الشدائد وهو مطلوب، وصبره على البأساء والضراء وهو مكروب لا يخور في شديدة، ولا يستكين لعظيمة أو كبيرة، ولقد لقي ما لقي مما يشيب النواصي، وهو مع الضعف يصابر صبر المستعلي، ويثبت ثبات المستولي!

ص: 217

وقد اقتدى به السلف الصالح في احتماله لما كان يلاقيه في سبيل الدعوة إلى الحق من العناء والمكابدة، وفي صلته بالأفراد والجماعات، ومعاملته لهم، ودعوته إلى الحق، وإرشادهم إلى وجوه الخير، وسبل السعادة!

وتدعو إلى التأسّي بالرسول صلى الله عليه وسلم في صدق جهاده وقوة صبره على أدواء الحياة وشظفها وشدة أزماتها، وتحمل أشد البلاء في سبيل نشر رسالته؛ لإعلاء كلمة الله، ومجاهدة شراذم الكفر، وأهل النفاق، ليعلموا أن خَلَف هذه الأمة كسلفها لهم في رسول الله أسوة حسنة، ولن يتحقق هذا إذا اقتصر التأسي على المظاهر التي لا تكلف قليلاً أو كثيراً، ولا تؤثر في رفع راية العقيدة من قريب أو بعيد، وإنما يكون التأسي على هذا المستوى، ولن يتحقق ذلك التأسي إلا لمن صفا قلبه، واستنار بنور الهداية فؤاده، واستوى في الإخلاص للإسلام باطنه وظاهره، وهذا لا يكون إلا بمعرفة ما يجب على كل مؤمن بهذا (الدين القيم)، ومن كان يرجو الله واليوم الآخر، وهذا معنى التأسي بالرسول وتأكيده برجاء اليوم الآخر، والإيمان بمجيئه لتوفية كل عامل جزاء عمله، وأمارة ذلك أن يذكر العبد ربه ذكراً قلبيًّا، يغسل درن النفاق، حتى يخلص الجَنان للرحمن ويثبت على ذلك، وذكراً لسانيًّا يتطابق مع الذكر القلبي، ليكون ذلك عنواناً على إخلاص الإيمان وصدق اليقين!

ولو كان مقدراً لهذا العالم الإسلامي أن يموت، لمات في خلال القرون الطويلة التي مرت به (1)، وهو مكبّل بالقيود، في حالة إعياء عن الحركة، بعد أن حمل عبء الحضارة الإنسانيّة طويلاً، وبعد أن تعب فاسترخى فنام!

(1) في التاريخ: فكرة ومنهاج - بتصرف، وانظر: الهجرة النبويّة: 11 وما بعدها.

ص: 218

في الوقت الذي تحرك صوب القيادة حزب الشيطان، بعد أن تخلّى عن القيادة والريادة عباد الرحمن!

ومن ثم دانت معظم أطراف الأرض لحزب الشيطان! وكان الثقل على صدر العالم الإسلامي النائم!

تُرى، لو كان مقدّراً لهذا العالم الإسلامي أن يموت، لمات في خلال فترة الاسترخاء والإعياء، وفي إبان حركة حزب الشيطان!

ولكنه لم يمت؛ بل انتفض حياً متفاعلاً، يزيل الركام الهائل عن صدره، وينفض النوم العميق عن جفنه، ويحطم الأغلال، ويكسر القيود!

وحيثما مد الإنسان بصره اليوم شعر بهذه الانتفاضة الحيّة، وشعر بالحركة المتفاعلة، حتى الشعوب التي ما تزال في أعقاب دور الاسترخاء، والتي ما تزال مرهقة بالأثقال، حتى هذه الشعوب يدرك المتأمل في أحوالها أن الحياة تدبّ في أوصالها، ويرى خلال الرماد وميض نار توشك أن يكون لها ضرام!

تُرى، ما الذي احتفظ لهذه الشعوب بحيويّتها الكامنة بعد قرون كثيرة وعديدة، طويلة الأمد، من النوم والاسترخاء، ومن الضعف والخمود، ومن الهبوط والركود، ومن أساليب الجحود والكنود، والضغط والقسر، والاحتلال البغيض الذي بذل جهده لتقطيع أوصالها، وإخماد أنفاسها؟!

إنه الإيمان المتمثّل في العقيدة القوّية العميقة، التي لم يستطيع حزب الشيطان قتلها، على الرغم من كل تلك الجهود المتواصلة المتواكبة، التي وجهت إلى الفكر والروح، والاجتماع والسياسة!

هذه العقيدة التي تدعو معتنقيها إلى المقاومة والكفاح، لتحقيق الاستعلاء على حزب الشيطان وألاعيبه، وعدم الخضوع للظالمين!

ص: 219

ومن ثم أبصرنا الفجر يبعث خيوطه، والنور يتشقق به الأفق، بعد ليل طال أمده!

وإذا بالصادقين من الخلف يسيرون على نهج السلف الصالح، في صحوة إلى غير سبات!

ويوم تمسك سلفنا بالكتاب والسنة، وكان لهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، تسلّموا قيادة العالم وريادته، وجاء من بعدهم خلف انحرفوا فانجرفوا، واستمروا في الهبوط، حتى تخلفت الأمة، وحينئذ جاءتها:

- قارعة التتار!

بيد أنها لم تستخلص الدرس، فأصابتها:

- جحافل الغرب!

واستيقظت بعض اليقظة حين رفعت مصر العار والشنار عن الأمة في مواجهة الشرق وهزيمته، والغرب وهزيمته!

- وجاءت مصيبة الأندلس!

- ثم كارثة فلسطين!

بيد أن الأمل قائم في أن ترجع إلى هذه الأمة سيرتها الأولى إذا ما كان لها في الرسول صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة!

وهنا نبصر الفجر قد أشرقت أنواره، وبدت مطالعه!

ونبصر قلوباً تتطلع إلى الخير والمستقبل المليء بالخير!

ونحس بأننا خلف صالح لسلف صالح!

ص: 220