الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونحن وإن كنا لسنا بصدد الحديث عن المذاهب التاريخيّة ونقدها، فإن علينا ألا نخفي أسفنا أن يجد هذا المذهب -في عصر العلم والاعتزاز به وبمنهجيّته- دعاة إليه، ومؤمنين به، ذلك لأن هذا المذهب كفيل أن يمزق جميع الحقائق والأحداث التي يحتضنها الزمن في هيكله القدسي القديم الماثل أمام الأجيال، بفعل أخيلة التوسم، وشهوة الذات، وعصبيّة النفس والهوى، وكم من حقيقة مسخت، وأحداث نكّست، وأمجاد دثرت، وبرآء ظلموا، تحت سلطان هذه المحكمة الوهميّة الجائرة!
فهل كان لهذا المذهب الجديد تأثير على كتابة السيرة وطريقة تحليلها؟
5 - مدرسة جديدة:
الحقيقة أن هذا المذهب الجديد في كتابة التاريخ قد أصبح أساساً لمدرسة جديدة في دراسة السيرة النبويّة وفهمها عند طائفة من الباحثين، فكيف نشأت هذه المدرسة؟ وما عوامل نشأتها؟ وما مصيرها اليوم؟
تعود نشأة هذه المدرسة إلى أيام الاحتلال البريطاني لمصر، حيث كانت آنذاك منبر العالم الإسلامي كما نعلم، يعنو إليه بتفكيره وعقله كلما أراد أن يعلم عن الإسلام علماً، كما يعنو إلى كعبة الله بوجهه كلما أراد حجاً أو صلاة!
وكان في استمرار هذا الصوت العظيم من جانب، وفي استمرار إنصات العالم الإسلامي إليه من جانب آخر، ما لا يدع للاحتلال البريطاني فرصة هدوء واستقرار .. ومهما أخضعت بريطانيا لنفسها الوادي كله تحت سلطان من قوة الحديد والنار، فإنه خضوع موقوف لا يُطمأن إليه، ما بقيت للأزهر الشريف هذه القيادة الحيّة!
وكان الاعتماد على نقطة ضعف أليمة، كانت تعاني منها مشاعر الأمة الإِسلاميّة عامة، بما فيها مصر وغيرها، وهي إحساس المسلمين بما انتابهم من الضعف والتخلف والشتات، إلى جانب ملاحظتهم للنهضة العجيبة التي نهضها الغرب في شتى المجالات الفكريّة والعلميّة والحضاريّة!
وقد كان المسلمون يتطلعون -ولا ريب- إلى اليوم الذي يتحرّرون فيه من الأثقال التي خلفتهم إلى الوراء، ليشتركوا مع الآخرين في رحلة الحضارة والمدنية والعلم الحديث!
من هذا السبيل تسلّل الهمس، بل الكيد الاستعماري إلى صدور بعض من قادة الفكر، ولقد كان مؤدى هذا الهمس أن الغرب لم يتحرر من أغلاله، إلا يوم أخضع الدّين لمقاييس العلم! فالدّين شيء، والعلم شيء آخر، ولا يتم التوفيق بينهما إلا بإخضاع الأول للثاني! وإذا كان العالم الإسلامي حريصاً حقًّا على مثل هذا التحرر فلا مناص له من أن يسلك الطريق ذاته، وأن يفهم الإسلام هنا كما فهم الغرب النصرانية هناك، ولا يتحقق ذلك إلا بتخلص الفكر الإسلامي من سائر الغيبيّات التي لا تفهم، ولا تخضع لمقاييس العلم الحديث!
وسرعان ما خضع لهذا الهمس أولئك الذين انبهرت أبصارهم بمظاهر النهضة الأوروبيّة الحديثة، ممن لم تترسّخ حقائق الإيمان بالله في قلوبهم، ولا تجلت حقائق العلم الحديث وضوابطه في عقولهم، فتنادوا فيما بينهم إلى التحرّر من كل عقيدة غيبيّة لم تصل إليها اكتشافات العلم الحديث، ولم تدخل تحت سلطان التجربة والمشاهدة الإنسانيّة!
فكان أن قاموا بما عرف بعد باسم الإصلاح المديني، واقتضى منهم ذلك أموراً عديدة، منها تطوير كتابة السيرة وفهمها، واعتماد منهج جديد في
تحليلها، يتّفق وما استهدفوه من الإعراض عن كل ما يدخل في نطاق الغيبيّات والخوارق التي لا يقف العلم الحديث منها موقف فهم أو قبول!
ولقد كان لهم في الطريقة الذاتيّة في كتابة التاريخ خير ملجأ يعينهم على تحقيق ما قصدوا إليه، وبدأت تظهر كتب في السيرة النبويّة، تستبدل بميزان الرواية والسند وقواعد التحديث وشروطه طريقة الاستنتاج الشخصي، وميزان الرضا النفسي، ومنهج التوسّم الذي لا يضبطه شيء إلا دوافع الرغبة، وكوامن الأغراض والمذاهب التي يضمرها المؤلف!
وقد ظهرت كتابات متفرّقة في الصحف المصريّة تحت عنوان (حياة محمد) في ملاحق السياسة عام 1932 م على أنها ترجمة لكتاب (إميل درمنجم) تلخيص وتعليق الدكتور (محمد حسين هيكل)!
ثم ظهرت فصول (على هامش السيرة) في الأعداد الأولى من مجلة الرسالة عام 1933 م، للدكتور (طه حسين)!
وظهرت فصول (عبقريّة محمد) عام 1942 م بعد أن اشتعلت الحرب العالميّة الثانية بعامين، للأستاذ (عباس العقاد)!
وكان الكتّاب الثلاثة في ذلك الوقت من المعروفين في مجال الدراسات الأدبيّة والسياسيّة بأنهم عصريّون، قليلو الاهتمام بالدراسات الإسلاميّة، في الوقت الذي كانت جريدة السياسة تحمل حملات ضخمة على الإسلام، وتؤازر الغزو الثقافي!
بل لقد حمل (العقاد) حملة ضارية على الكتب الإسلاميّة التي صدرت عام 1935 م في جريدة (روز اليوسف) وعدّها ظاهرة خطيرة، وقال:
(إن هذه الكتابات بمثابة مؤامرة على القضيّة الوطنيّة)(1)!
وتردّد يومها أن الدكتور (هيكل) قد أحرز قدرًا ضخماً من الكسب المادي من كتابه (حياة محمد) الذي سنعرض له فيما بعد!
ومن ثم أصبحت الكتابة الإسلاميّة موضع تقدير في نظر الكتاب!
غير أن أخطر ما هنالك أن (هيكل) و (علي عبد الرازق) أعلنا موقفاً خطيراً في مجلس الشيوخ، عندما أثير النقاش في كتابات (طه حسين) ووقفا للدفاع عنه، وتبيّن أن هذه الكتابة لم تصدر عن إيمان برسالة الإسلام (ديناً ودولةً)، وإنما كانت من الأعمال السياسيّة والحزبيّة!
وإذا كانت كتب (حياة محمد)، و (على هامش السيرة)، و (العبقريّات) قد هزّت وجدان المسلم وقتها، وأحدثت نوعاً من الإعجاب والتقدير، فإن هذا كان هدفاً مقصوداً في مواجهة حركة اليقظة الإسلاميّة التي تهدف إلى تقديم الإسلام كمنهج حياة، ونظام مجتمع، بكتابات إسلامية، من أقلام لها مكانتها السياسيّة في الجماهير، لتحويل التيار نحو المفاهيم الأخرى، وهو ما يسمى (تقديم البديل) المتشابه ظاهريًّا، والمختلف جوهراً، وهو بهذا استجابة ظاهرية للتيار الإسلامي، ومحاولة لاحتوائه!
وكان هذا هدفاً مقصوداً لفرض المفهوم الغربي على السيرة النبويّة، والتاريخ الإسلامي، وهو المفهوم البعيد عن الوحي والغيبات والمعجزات!
بيد أن هذه الظاهرة بالإعجاب بكتب هؤلاء عن السيرة النبويّة لم قدم
(1) انظر: تقديم سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد: 19 وما بعدها، دار الكتب العلميّة، بيروت، ط. أولى 1414 هـ - 1993 م.
طويلاً، فقد تكشّفت خفاياها، وظهر بجلاء ووضوح أن منهج الكتابة لم يكن إسلامياً أصيلاً، وإنما تشوبه التبعيّة لمناهج الاستشراق والتغريب!
ورأينا الدكتور (طه حسين) قد أعلن أنه استوحى (على هامش السيرة) من كتاب (جيل لومتير) عنوانه (على هامش الكتب القديمة) وقد حشد فيه كل ما استطاع من أساطير اليونان وغيرهم!
وقد صرّح في مقدمة كتابه بقوله (1):
(هذه صحف لم تكتب للعلماء ولا للمؤرخين؛ لأني لم أرد بها إلى العلم، ولم أقصد بها إلى التاريخ، وإنما هي صورة عرضت لي أثناء قراءتي للسيرة، فأثبتها مسرعاً، ثم لم أر بنشرها بأساً، ولعلّي رأيت في نشرها شيئاً من الخير، فهي تردّ على الناس أطرافاً من الأدب القديم، قد أفلتت منهم، وامتنعت عليهم، فليس يقرأها منهم إلا أولئك الذين أتيحت لهم ثقافة واسعة عميقة في الأدب العربيّ القديم، وإنك لتلتمس الذين يقرؤون كتب القدماء في السيرة، وحديث العرب قبل الإسلام، فلا تكاد تظفر بهم .. إلى أن قال:
وفي أدبنا العربي على قوته الخاصة، وما يكفل للناس من لذة ومتاع، قدرة على الوحي، وقدرة على الإلهام، فأحاديث العرب الجاهليّن وأخبارهم لم تكتب مرّة واحدة، ولم تحفظ في صورة بعينها، وإنما قصّها الرواة في ألوان من القصص، وكتبها المؤلفون في صنوف من التأليف، وقل مثل ذلك في السيرة نفسها، فقد ألهمت الكتّاب والشعراء في أكثر العلوم الإسلاميّة، وفي أكثر البلاد الإسلاميّة أيضاً، فصوّروها صوراً مختلفة تتفاوت حظوظها
(1) انظر: إسلاميّات طه حسين: 173 وما بعدها، دار العلم للملايين، ط. خامسة 1991 م.
من القوّة والضعف، والجمال الفني، وقيل مثل هذا في الغزوات والفتوح .. إلى أن قال:
وأنا أعلم أن قوماً سيضيقون بهذا الكتاب؛ لأنهم مُحْدثون يكبرون العقل، ولا يثقون إلا به، ولا يطمئنون إلا إليه، وهم لذلك يضيقون بكثير من الأخبار والأحاديث التي لا يسيغها العقل ولا يرضاها، وهم يشكون ويلحّون في الشكوى حين يرون كلف الشعب بهذه الأخبار، وجدّه في طلبها، وحرصه على قراءتها والاستماع لها، وهم يجاهدون في صرف الشعب عن هذه الأخبار والأحاديث، واستنقاذه من سلطانها الخطر المفسد للعقول.
هؤلاء سيضيقون بهذا الكتاب بعض الشيء؛ لأنهم سيقرؤون فيه طائفة من هذه الأخبار والأحاديث التي نصبوا أنفسهم لحربها، ومحوها من نفوس الناس.
وأحبّ أن يعلم هؤلاء أن العقل ليس كل شيء، وأن للناس ملكات أخرى ليست أقلّ حاجة إلى الغذاء والرضا من العقل، وأن هذه الأخبار والأحاديث إذا لم يطمئن إليها العقل، ولم يرضها المنطق، ولم تستقم لها أساليب التفكير العلمي؛ فإن في قلوب الناس وشعورهم وعواطفهم وخيالهم وميلهم إلى السذاجة، واستراحتهم إليها من جهد الحياة وعنائها، ما يحبّب إليهم هذه الأخبار، ويرغّبهم فيها، ويدفعهم إلى أن يلتمسوا عندها الترفيه على النفس، حين تشق عليهم الحياة، وفرق عظيم بين من يتحدّث بهذه الأخبار إلى العقل على أنها حقائق يقرّها العلم، وتستقيم لها مناهج البحث، ومن يقدّمها إلى القلب والشعوب على أنها مثيرة لعواطف الخير، صارفة عن بواعث الشرّ، معينة على إنفاق الوقت، واحتمال أثقال الحياة، وتكاليف العيش ..)!