الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعًا: أن يكون قصد الجاني ضرب المجني عليه
…
رابعا: أن يقصد الجاني ضرب المجني عليه:
يرى جمهور الفقهاء أنه يكفي في اعتبار القتل عمدا موجبا للقصاص أن يقصد الجاني ضرب المجني عليه بما يقتل عادة، ولا يشترط قصد القتل، ويرى فريق من الفقهاء اشتراط قصد القتل؛ لكي تكون الجريمة عمدية موجبة للقصاص، وتوضح آراءهم فيما يلي:
الرأي الأول:
يرى بعض الفقهاء أنه لا بد في اعتبار الجريمة عمدية من أن يقصد الجاني قتل المجني عليه وهو رأي بعض الحنفية والشافعية والحنابلة؛ فقد صرح الكاساني من علماء الحنفية أنه يشترط أن يقصد الجاني قتل المجني عليه حتى تكون الجناية عمدا
…
"فقال في البدائع عند ذكره لشروط إيجاب القصاص في القاتل بعد العقل والبلوغ: الثالث: أن يكون متعمدا في القتل قاصدًا إياه
…
الرابع: أن يكون القتل منه عمدا محضا ليس فيه شبهة العدم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام شرط العمد مطلقا بقوله: "العمد قود"، والعمد المطلق هو العمد من كل وجه، ولا كمال مع شبهة العدم، ولأن الشبهة في هذا
الباب ملحقة بالحقيقة، وعلى هذا يخرج القتل بضربة أو ضربتين على قصد القتل أنه لا يوجب القود؛ لأن الضربة أو الضربتين مما لا يقصد به القتل عادة؛ بل التأديب والتهذيب، فتمكنت في القصد شبهة العدم، وعلى هذا يخرج قول أصحابنا رضي الله عنهم في الموالاة في الضربات أنها لا توجب القصاص خلافا للشافعي:
"وجه" قوله: أن الموالاة في الضربات دليل قصد القتل؛ لأنها لا يقصد بها التأديب والتهذيب عادة، وأصل القصد من موجود فيتمخض القتل عمدا فيوجب القصاص.
"ولنا" -أي للحنفية- أن شبهة عدم القصد ثابتة؛ لأنه يحتمل حصول القتل بالضربة والضربتين على سبيل الاستقلال من غير الحاجة إلى الضربات الأخر، والقتل بضربة أو ضربتين لا يكون عمدا، فتبين بذلك أنه لا يوجب القصاص، وإذا جاء الاحتمال جاءت الشبهة وزيادة"1.
ومن كلامه يضتح لنا أنه يشترط أن يكون القاتل قاصدا القتل، كما يشترط أن يكون القتل منه عمدا محضا ليس فيه شبهة العدم، ويفسر الشرط الأخير بألا تكون الآلة أو الفعل مما يحتمل أن يكون غير قاتل بطبيعته، فإن كان غير محتمل لشبهة العدم كان عمدا موجبا للقصاص.
ولا يفهم من كلامه "اشتراط قصد القتل" عند عامة فقهاء الحنفية، فقد سبق أن نقلنا عنهم ما ينفي بصورة قاطعة اشتراط ذلك، وجاء في الذخيرة إن "قصد أن يضرب يد رجل فأصاب عنقه، فهو عمد، وفيه القود، ولو أصاب عنق غيره فهو خطأ"2. قال في المجتبى: "وبهذا يتبين أن قصد القتل ليس بشرط لكونه عمدا".
1 البدائع ج7، ص234.
2 الزيلعي ج6، ص101.
كما صرح الماوردي -الشافعي- وأبويعلى -الحنبلي- في تعريفهما للقتل العمد الموجب للقصاص بـ"أن يتعمد قتل النفس بما يقطع بحده -كالحديد- أو بما يمور في اللحم مور الحديد، أو بما يقتل بنقله -كالحجارة والخشب"1.
الرأي الثاني:
رأي المالكية: يرى المالكية عدم اشتراط قصد القتل إلا من جنايتين:
أ- في جناية الأصل على فرعه.
ب- وفي الجريمة التي تتم بمنع الطعام والشراب عن آخر حتى مات جوعا أو عطشا، فإنه يكون قتلا عمدا موجبا للقصاص إذا قصد قتله، إما إذا قصد بذلك مجرد التعذيب فالواجب الدية، إلا أن يعلم الجاني أنه يموت بذلك، فإنه يكون عمدا موجبا للقصاص؛ لأن العلم ملحق بقصده، وقيل: لا يشترط قصد القتل، بل إن فعل ذلك بقصد التعذيب -لا القتل- فمات وجب القصاص.
فالمذهب لم يصرح باشتراط قصد القتل لإيجاب القصاص من القاتل عمدا إلا في هاتين المسألتين، ومع هذا ففي المذهب رأيان في اشتراط قصد القتل في المسألة الأخيرة.
الرأي الثالث:
لا يرى اشتراط قصد القتل في اعتبار الجريمة عمدية ما دام قد قصد الجاني ضرب المجني عليه بما يقتل غالبا، وهو رأي جمهور الفقهاء "الحنفية2
1 الأحكام السلطانية للماوردي ص331، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص272.
2 مع مراعاة ما قاله أبو حنيفة من أن العمد ما كان بمحدد ونحوه.
-غير الكسائي- والشافعية -غير الماوردي- والحنابلة -غير أبي علي- والزيدية والإمامية والإباضية" وأما إذا قصد ضربه بما لا يقتل عادة فلا بد من توافر قصد القتل عند عامتهم1.
أما الحنابلة، فإنهم وإن قالوا في تعريفهم للقتل العمد: إن يقتل قصدا بما يغلب على الظن موت المقتول به.... إلا أنهم في تحليل صور القتل العمد صرحوا بأنه لا يشترط قصد المثل، فقد جاء في كشاف القناع ج3، ص323: ومن صور القتل العمد أن "يلكزه بيده في مقتل، أو في حال ضعف قوة من مرض أو صغر أو كبر أو حر مفرط أو برد شديد أو نحوه، فمات فعليه القود؛ لأن ذلك الفعل مما يقتل غالبا، وإن ادعى جهل المرض في ذلك كله لم يقبل، وكذا إن قال: لم أقصد قتله لم يصدق؛ لأن الظاهر خلافه".
فقد أقام المذهب من الفعل القاتل دليلا طاهرًا على قصد القتل، لا يقبل معه إنكاره عدم قصد القتل، أو جهله بحالة المجني عليه المرضية التي تجعل هذا الفعل قاتلا له، وإن لم يكن قاتلا لغيره، وبهذا يتضح لنا أن المذهب لا يشترط قصد القتل مع وجود الفعل الذي يؤدي إلى القتل غالبا.
أما الزيدية والإمامية، فإنهم لا يشترطون أيضا قصد القتل إذا كانت
1 فقد جاء في شرح النيل ج3، ص118:"ومن تعمد ضربا بتعدية بما لا يتوهم منه قتل فقام عنه فإنه يقتل به، وقيل: يحط عنه وتلزمه الدية والإثم، وذلك مثل ريشة وليقة ونحوهما، وما يتوهم منه القتل وإن لم يستعمل له فإنه يقتل به ويأثم، وما لم يستعمل لقتل ولم تجر العادة بقصد القتل به فلا يقتل به ولزمت به الدية والإثم؛ كالضرب باليد والرجل والعصا، وما لا يتوهم منه القتل هو العمد الشبيه بالخطأ".
الجناية قد تمت بما يقتل غالبا، أما إن تمت بما لا يقتل إلا نادرًا، فإنه لا بد من توافر قصد القتل في هذه الحالة.
وهم في هذا يجعلون من الآلة أو الفعل الذي يقتل غالبا دليلا ظاهرا على قصد القتل لا حاجة معه إلى البحث عن قصد القتل، إما إذا كانت الجناية قد تمت بما يقتل نادرا، فإن الدليل الظاهر وهو هذه الآلة لا تثبت ولا تنبئ ولا تدل على قصد القتل؛ لأن مثلها لا يقتل إلا نادرًا، فهي تستعمل عادة في التأديب والتهذيب واللعب، فالقرينة الظاهرة تدل على عدم قصد القتل، فلا يعدل عن هذا الظاهر إلى الباطن إلا إذا ثبت أنه قد قصد القتل بهذه الآلة، فإن ثبت ذلك كان القتل عمدا موجبا للقصاص، وإلا كانت الجريمة شبه عمد عند الإمامية خطأ عند الزيدية.
وبهذا يتبين لنا أن جمهور الفقهاء لا يشترطون قصد القتل مع وجود الفعل أو الآلة الدالة على أنه قصد القتل بها، وفي تعليل ذلك يقول الحنفية:
"إن القصد أمر باطني؛ لأنه من عمل القلب، وإذا كان أمرًا باطنا فيعسر التعرف عليه والوصول إلى حقيقته؛ ولذا أقيم الفعل الذي يقتل غالبا مقام قصد القتل تيسيرًا، كما أقيم السفر مقام المشقة في إباحة الفطر في رمضان، وكما أقيم البلوغ مقام اعتدال العقل في مخاطبة الصبي بفروع الشريعة تيسيرا"، فكذلك يقام الفعل الذي يقتل غالبا مقام قصد القتل.
وبذلك يكون استعمال ما يقتل غالبا دليلا ظاهرًا على توافر نية القتل وقصده لا حاجة معه إلى التعرف على الإرادة الباطنة والقصد الخفي.. وإلا لأدى هذا إلى إسقاط هذه العقوبة، وتفشي القتل بين الناس بمثل هذه الأفعال مع ادعاء عدم قصد القتل ومحاولة إثباته.