الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع الأول: الدية:
بينت الآية الكريمة: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً
…
} أن في الجناية خطأ الكفارة والدية، ولكنها لم توضح جنس المال الذي تدفع منه الدية، ومقداره، ومن يجب عليه دفعها، وكيفية أدائها، ولكن السنة النبوية الشريفة بينت كل ذلك، وقد أوضحنا فيما تقدم معنى الدية1، وبينا جنس المال الذي تدفع منه، ونبين هنا مقدارها ومن يتحملها وكيفية أدائها.
الفرع الأول: مقدار الدية في الخطأ ونوعها:
الدية في الخطأ مائة من الإبل، كالدية في العمد وشبه العمد، إلا أن الفقهاء يختلفون في نوع الإبل التي تؤدَّى في الجناية خطأ إلى رأيين:
1 راجع مبحث الدية في القتل العمد، وفي القتل شبه العمد.
الرأي الأول: أنها أرباع كدية العمد، وهذا مروي عن علي والحسن والشعبي والحارث العكلي وإسحاق "خمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون حقه، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون بنت مخاض"، وقد استدلوا بما ذكره الأمير الحسين في الشفاء عن السائب بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"دية الإنسان خمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون بنات لبون، وخمس وعشرون بنات مخاض"، وقد أخرجه أبو داود موقوفا على علي رضي الله عنه من طريق عاصم بن ضمرة قال:"في الخطأ أرباعا" فذكر الحديث، وأخرجه أبو داود عن ابن مسعود موقوفا من طريق علقمة والأسود1.
وعن زيد: أنها ثلاثون حقة، وثلاثون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون بنت مخاض.
وقال طاوس: إنها ثلاثون حقة، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون بنت مخاض، وعشرة بني لبون، مستدلا بما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن من قتل خطأ فديته مائة من الإبل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرة بني لبون ذكور، رواه الخمسة إلا الترمذي2.
الرأي الثاني: أنها أخماس، وذلك هو قول جمهور الفقهاء "عبد الله بن
1 قال الشوكاني في نيل الأوطار: "ولم أجد هذا الحديث مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب حديث، فلينظر فيما ذكره صاحب الشفاء".
2 وهذا الحديث سكت عنه أبو داود، وقال المنذري: في إسناده عمرو بن شعيب، ومن دون عمرو بن شعيب ثقات إلا محمد راشد المكحولي، وقد وثقه أحمد وابن معين والنسائي وضعفه ابن حبان وأبو زرعة، وقال الخطابي: هذا الحديث لا أعرف أحدا قال به من الفقهاء.
مسعود والنخعي والزهري وعكرمة والليث والثوري وعمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار والحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية" إلا أن ابن مسعود والنخعي والحنفية والحنابلة يرونها كما جاءت في حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في دية الخطأ عشرون حقة وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن مخاض ذكرا" رواه الخمسة، وقال ابن ماجه في إسناده عن الحجاج: حدثنا زيد بن جبير، قال أبو حاتم الرازي: الحجاج يدلس عن الضعفاء، فإذا قال: حدثنا فلان، فلا يرتاب به1.
ويرى الفقهاء الآخرون أنها أخماس أيضا إلا أنهم جعلوا مكان بني مخاض بني لبون، استنادا إلى ما روي في بعض طرق هذا الحديث أنها عشرون بنو لبون مكان قوله: عشرون ابن مخاض، وإلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة القسامة أنه ودى قتيل خيبر بمائة من إبل الصدقة، وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض2.
وقال ابن قدامة في ترجيح الأخذ بحديث ابن مسعود "رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، ولأن ابن لبون يحب على طريق البدل عن ابنة
1 راجع: سبل السلام ج3، ص328، ونيل الأوطار، فقد أفاض في تخريج الحديث ج7، ص77، وانتهى إلى صحة وقفه على ابن مسعود رضي الله عنه.
2 وهذا الحديث أخرجه أيضا البزار والبيهقي، وأخرجه الدارقطني وقال:"عشرون بنو لبون" مكان قوله: "عشرون ابن مخاض"، ورواه من طريق أبي عبيدة موقوفا على عبد الله بن مسعود "أبيه" وقال: هذا إسناد حسن، وضعف الأول من أوجه عديدة، وتعقبه البيهقي قائلا: إن الدارقطني وهم فيه، والجواد قد يعثر، وإن جعله لبني اللبون غلط منه، ثم قال: والصحيح أنه موقوف على عبد الله بن مسعود، والصحيح عن عبد الله أنه جعل أحد أخماسهما بني المخاض لا كما توهم شيخنا الدارقطني رحمه الله تعالى.
مخاض في الزكاة إذا لم يجدها، فلا يجمع بين البدل والمبدل في واجب، ولأن موجبهما واحد فيصير كأنه أوجب أربعين ابنة مخاض، ولأن ما قلناه "أي دفع ابن مخاض لابن لبون" هو الأقل "لأن ابن المخاض ما دخل في الثانية من عمره، وابن اللبون ما دخل في الثالثة"، فالزيادة عليه لا تثبت إلا بتوقيف يجب على من ادعاه الدليل، فأما دية قتيل خبير فلا حجة لهم فيه؛ لأنهم لم يدعوا على أهل خيبر قتله إلا عمدا، فتكون ديته دية العمد، وهي من أسنان الصدقة، والخلاف في دية الخطأ"1.
الفرع الثاني: العاقلة:
العقل لغة: الحجر -أي المنع- والنُّهى -بضم الميم مع تشديدها جمع نهية- أي أداة التفكير التي تميز الإنسان عن الحيوان، والعقل أيضا: الدية، وعقل القتيل: أعطى ديته، وعقل له دم فلان: إذا ترك القود للدية، وعقل عن فلان: غرم عنه جنايته، وذلك إذا لزمته دية فأداها عنه "وباب الكل: ضرب".
والعاقلة: جمع عاقل، وهو دافع العقل أي الدية، وسمي دافعو الدية بالعاقلة، إما لأنهم يعقلون "يقيدون" الإبل -المقدمة دية- بفناء ولي المقتول، أو لأنهم يمنعون عن القاتل الأضرار من قصاص أو دية.
من تجب عليه الدية في القتل الخطأ: للفقهاء رأيان فيمن تجب عليه هذه الدية:
أولهما: يرى جمهور الفقهاء أن دية الخطأ على العاقلة، قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم، وقد ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قضى بدية الخطأ على العاقلة، ومنها
1 الشرح الكبير ج9، ص496 ط1.
ما روي عن أبي هريرة أنه قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة، عبد أو أمة، ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها وأن العقل على عصبتها، وما روي عن ابن عباس في قصة حمل ابن مالك قال: فأسقطت غلاما قد نبت شعره ميتا، وماتت المرأة، فقضى على العاقلة بالدية"1.
ولا شك أن إيجاب الدية هنا على العاقلة جاء على خلاف قياس الأصول في الغرامات وضمان المتلفات؛ حيث يقول الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} 2، وقال أيضا:{وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَاّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 3، وإنما وجب هنا على العاقلة لا لأن وزر القاتل عليهم، ولا تغليظا وتشديدا عليهم، ولكنه من قبيل المواساة المحضة لإنسان أخطأ، ولم يقصد جناية4.
1 راجع نيل الأوطار ج7، ص69.
2 سورة المدثر الآية رقم 38.
3 سورة الأنعام الآية رقم 164.
4 وأجمع أهل العلم على أن ما زاد على ثلث الدية على العاقلة واختلفوا في الثلث إلى رأيين؛ الأول: يرى جمهور العلماء "الحنفية والمالكية والحنابلة والزيدية والإمامية" أن العاقلة لا تحمل عمدا ولا صلحا ولا اعترافا، ولا تحمل من دية الخطأ إلا ما جاوز الثلث، وما وجب من الدية وكان دون الثلث فهو في مال الجاني. والثاني: يرى أن عقل الخطأ على عاقلة الجاني، قلت الجناية أو كثرت؛ لأن من غرم الأكثر غرم الأقل، كما أن فعل العمد في مال الجاني قل أو كثر "وهذا قول الشافعي".
وأجمع أهل السير والعلم أن الدية كانت في الجاهلية تحملها العاقلة فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام، وكانوا يتعاقلون بالنصرة، ثم جاء الإسلام فجرى الأمر على ذلك حتى جعل عمر الديوان، واتفق على رواية ذلك والقول به.
وأجمعوا على أنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا زمن أبي بكر ديوان، وأن عمر جعل الديوان وجمع بين الناس أو جعل أهل كل ناحية يدا واحدة، وجعل عليهم قتال من يليهم من عدوهم.
وثانيهما: حكي في البحر عن الأصم وابن علية وأكثر الخوارج: أن دية الخطأ في مال القاتل ولا تلزم العاقلة، وقد يستدل لهم بقوله تعالى:{وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه" رواه النسائي، وقال أبي رمثة حين دخل عليه ومعه ابنه:"إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه"، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} رواه أحمد وأبو داود، والعقل أيضا يمنع أخذ الإنسان بذنب غيره.
الترجيح: والرأي الأول هو الصحيح لورود آثار كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إيجاب دية الخطأ على العاقلة -وقد ذكرنا بعضا منها آنفا- وأما قوله تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَاّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فلا دلالة فيه على نفي وجوب الدية على العاقلة؛ لأن الآية إنما نفت أن يؤخذ الإنسان بذنب غيره، وليس في إيجاب الدية على العاقلة أخذهم بذنب الجاني إنما الدية "عند الحنفية وكذا الشافعية على الأصح" على القاتل، وأمر هؤلاء القوم بالدخول معه في تحملها على وجه المواساة له من غير أن يلزمهم ذنب جنايته.. وكان ذلك مما يعد من جميل أفعالهم ومكارم أخلاقهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، فهذا فعل مستحسن في العقول، مقبول في الأخلاق والعادات.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة
أخيه" "ولا يجني عليك ولا تجني عليه" فإنه لا ينفي وجوب الدية عن العاقلة على هذا النحو الذي ذكرناه من معنى الآية من غير أن يلام على فعل الغير، أو يطالب بذنب سواه.
وقد أضاف الكاساني وجها لطيفا في الجمع بين النصوص فقال: وأما قوله تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَاّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فنقول بموجبها، لكن لم قلتم: إن الحمل على العاقلة أخذ بغير ذنب؟ فإن حفظ القاتل واجب على عاقلته، فإذا لم يحفظوا فقد فرطوا، والتفريط منهم ذنب، ولأن القاتل إنما يقتل بظهر عشيرته، فكانوا كالمشاركين له في القتل1.
وأيضا فإن وجوب الدية على العاقلة له وجوه سائغة مستحسنة في العقل:
أحدهما: أنه جائز أن يتعبد الله تعالى بإيجاب المال عليهم لهذا الرجل من غير قتل كان منه، كما أوجب الصدقات في مال الأغنياء للفقراء.
والثاني: أن وضع الدية على العاقلة إنما هو على النصرة والمعونة؛ ولذلك أوجبها الحنفية على أهل ديوان القاتل دون أقربائه؛ لأنهم أهل نصرته، ألا يرى أنهم يتناصرون على القتال والحماية والذود عن الحريم، فلما كانوا متناصرين في القتال والحماية أمروا بالتناصر والتعاون على تحمل الدية؛ ليتساووا في حملها كما تساووا في حماية بعضهم بعضا.
الثالث: أن في إيجاب الدية على العاقلة زوال الضغينة والعداوة من بعضهم لبعض إذا كانت قبل ذلك، وهو داعٍ إلى الألفة وزوال ذات البين، ألا ترى أن رجلين ولو كانت بينهما عداوة فتحمل أحدهما عن صاحبه ما قد لحقه لأدى ذلك إلى زوال العداوة وإلى الألفة.
والرابع: أنه إذا تحمل عنه جنايته حمل
1 البدائع ج7، ص255.
القاتل أيضا عنه جنايته إذا جنى، فلم يذهب حمله للجناية ضياعا.
والخامس: أن جنايات الخطأ تكثر بين الناس، ودية الآدمي كثيرة، فإيجابها على الجاني في ماله يجحف به، وقد يستأصل كل أمواله، فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل، والإعانة له تخفيفا عنه إذا كان معذورا في فعله "وينفرد هو بالكفارة" وبهذا فارق ضمان المال فإنه لا يكثير عادة، فلا تقع الحاجة إلى التخفيف، وما دون نصف عشر الدية حكمه حكم ضمان الأموال1.
من تجب عليه الدية في الجناية خطأ ابتداء:
اختلف الفقهاء أيضا فيمن تجب عليه الدية في الجناية خطأ ابتداء، كما اختلفوا في اشتراك الجاني مع العاقلة في دفع الدية، ونوضح آراءهم في كلا النقطتين:
أ- من تجب عليه الدية ابتداء: للفقهاء رأيان فيمن تجب عليه الدية ابتداء:
أولهما: يرى الحنفية والشافعية "على الأصح" أن دية الخطأ تجب ابتداء على القاتل، واستدلوا بأن قوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} معناه: فليحرر رقبة وليؤد دية، وهذا الخطاب موجه إلى القاتل لا إلى العاقلة، وهذا يدل على أن الوجوب على القاتل ابتداء، وأيضا لأن سبب الوجوب هو القتل، وأنه وجد من القاتل لا من العاقلة، فكان الوجوب عليه لا عليها، وإنما العاقلة تتحمل دية واجبة على القاتل.
1 أحكام القرآن للجصاص ج1 ص272-274.
وثانيهما: يرى كثير من الفقهاء "الشافعية في مقابلة الأصح" والحنابلة والظاهرية والإمامية وهو قول الأوزاعي والحسن بن حي وأبو سليمان: أن الدية تجب على العاقلة ابتداء، ولا تجب على القاتل؛ وذلك لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكم بالدية على عصبة القاتلة، كما في حديث أبي هريرة: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة، ثم إن التي قضى عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها وأن العقل على عصبتها.
ومن طريق مسلم بسنده عن المغيرة بن شعبة وذكر الحديث، فقال رجل من عصبة القاتلة: أنغرم دية من لا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يطل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أسجع كسجع الأعراب" وجعل عليهم الدية، ثم يقول ابن حزم: فهذا نص حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببراءة الجانية من الدية جملة، وأن ميراثها لزوجها وبنيها، لا مدخل للغرامة فيه، والدية على عصبتها، وهي ليست عصبة لنفسها، لا في شريعة ولا في لغة، فصح يقينا أنه لا يغرم الجاني من دية النفس ولا من الغرة شيئا.
ب- اشتراك الجاني مع العاقلة: وللفقهاء ثلاثة آراء في ذلك:
أولها: يرى الحنفية والمالكية اشتراك الجاني مع العاقلة من الابتداء إلى الانتهاء؛ وذلك لأن العاقلة إنما أمرت بالدخول مع القاتل في تحمل الدية على سبيل المواساة له من غير أن يلزمهم ذنب الجناية -كما بينا آنفا- فلا أقل من أن يشاركهم في أدائها.
ثانيها: يرى الشافعية "على الأصح" والزيدية: أنها تجب على الجاني في الانتهاء، وذلك أنه عند فقد العاقلة -عند الزيدية- تكون في مال الجاني، وعند فقد العاقلة وعدم وجود بيت المال أو عدم انتظامه تكون في مال الجاني -عند الشافعية- لكن قبل ذلك لا يشترك في أدائها مع العاقلة.
ثالثها: يرى الحنابلة والشافعية "في مقابل الأصح" والإمامية والظاهرية: أنها لا تجب عليه ابتداء، وكذا انتهاء، مستدلين بالأدلة التي ذكرناها في الرأي الثاني "فيمن تجب عليه الدية" وقالوا أيضا: إن الجاني خطأ لم تلزمه الدية فلا يلزمه بعضها، كما لو أمره بالإمام بقتل رجل يعتقد أنه قتل بحق فبان مظلوما، فلا يلزمه شيء فكذا هنا، ولأن الكفارة تلزم القاتل في ماله، وذلك يعدل قسطه من الدية وأكثر منه، فلا حاجة إلى إيجاب شيء من الدية عليه.
الترجيح:
ونرى رجحان الرأي الأول في كلا النقطتين لعدة وجوه:
أولها: أن الآية الكريمة أوجبت في القتل خطأ تحرير رقبة وتقديم الدية، والخطاب هنا موجه إلى القاتل، بدليل أن الكفارة تلزمه وتجب عليه هو فكذلك الدية، والكفارة تجب في ماله فكذا الدية، إلا أن السنة أضافت إلى ذمته ذمة العاقلة مواساة له وإعانة ورفقا بحاله ونظرا إليه.
وثانيها: أن التعاون والتآزر بين أفراد العاقلة يكون أتم إذا اشترك الجاني معهم في دفع الدية، ويتحقق التعاطف والمواساة بين الجانبين.
وثالثها: أن الدية تعويض عن المجني عليه وعقوبة، وهذه العقوبة وإن خففت عن القاتل لعدم قصده إلا أنه ليس من المقبول عقلا إسقاطها عنه جميعها وتكليف غيره بأدائها دونه، مما يؤدي إلى إيغار صدور العاقلة عليه وتغير شعورهم نحوه، وما لا يقبل عقلا يبعد أن يكون مقبولا شرعا.
الفرع الثالث: حقيقة العاقلة:
اختلف الفقهاء في تحديد مدلول العاقلة إلى رأيين:
الرأي الأول: يرى الحنفية أن عاقلة الحر هم أهل ديوانه إذا كان
من أهل الديوان، وقد وافقهم المالكية في إحدى الروايتين "وأهل الديوان هم المقاتلة "الجيش" من الرجال الأحرار البالغين الذين كتبت أسماؤهم في الديوان، والديوان هو السجل الذي تدون فيه أسماء المحاربين" تؤخذ من عطاياهم في ثلاث سنين، ومن لم يكن من أهل الديوان فعاقلته قبيلته الأقرب فالأقرب على ترتيبت العصبات: الإخوة ثم بنوهم ثم الأعمام ثم بنوهم؛ لأن نصرته بهم، وهي المعتبرة في التعاقل، فإن لم تتسع القبيلة ضم إليهم أقرب القبائل نسبا، وضم الأقرب فالأقرب على ترتيب العصبات: الإخوة ثم بنوهم، ثم الأعمام ثم بنوهم.
الدليل: وقد استدل الحنفية على أن العاقلة هم أهل الديوان بإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك، فإنه روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: كانت الديات على القبائل فلما وضع عمر رضي الله عنه الدواوين جعلها على أهل الدواوين، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم من غير نكير منهم.
فإن قيل: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية على العاقلة من النسب، فكيف يقبل قول عمر رضي الله عنه على مخالفته فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟!! ولا نسخ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالجواب: أنه ليس بنسخ، بل هو تقرير للنص معنى؛ لأنه لو كان عمر رضي الله عنه فعل ذلك وحده لكان الواجب حمل فعله على وجه لا يخالف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن فعله كان بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولا يظن من عموم الصحابة مخالفة فعله عليه الصلاة والسلام فدل هذا على أنهم فهموا أن فعله صلى الله عليه وسلم كان معلولا بالنصرة، ولما صارت النصرة في زمانهم بالديوان، نقلوا العقل إلى
الديوان، فلا تتحقق المخالفة، وإنما هو تقرير معنى للنص الوارد، ووجهه أن التحمل من العاقلة كان للتناصر، وقبل وضع الديوان كان التناصر بالقبيلة، كما كان بالحلف وبالولاء وبالعد، وهو أن يعد الرجل من قبيلة، وبعد أن وضع عمر الديوان صار التناصر بالديوان، فصارت عاقلة الرجل أهل ديوانه، وأيضا فإنه لا تؤخذ من النساء والصبيان والمجانين والرقيق1 الدية؛ لأنهم ليسوا من أهل النصرة، مما يؤكد أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم معلول بالنصرة، وقد أصبحت النصرة بالديوان2 فيكون أهل الديوان هم العاقلة، فإن لم يكن القاتل ديوانا، كانت عاقلته قبيلته على حسب ما أوردناه آنفا.
الرأي الثاني: قال جمهور الفقهاء "الشافعية والحنابلة والزيدية والإمامية والظاهرية وكذا المالكية في أحد الرأيين": إن العاقلة هم العصبة، وهم القرابة من قبل الأب، الذكور البالغون العقلاء، الأقرب فالأقرب.
وقد استدلوا بأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم منها ما روى جابر رضي الله عنه قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على كل بطن عقولة"، ثم كتب:"إنه لا يحل أن يتولى مولى رجل مسلم بغير إذنه" رواه مسلم وأحمد والنسائي.
والحديث يدل على تحريم أن يتولى رجل ما مولى رجل آخر، وليس المراد بقوله:"بغير إذنه" أنه يجوز3 ذلك مع الإذن، بل المراد التأكيد،
1 سيأتي بيان حكم اشتراك كل طائفة من هؤلاء مع العاقلة عند الفقهاء، وقد اتفقوا على عدم اشتراكهم مع العاقلة، عدا ما قاله الظاهرية من اشتراك الصبيان والمجانين.
2 بدائع الصنائع ج7، ص256.
3 راجع نيل الأوطار ج7، ص80.
كقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} .
وعن أبي هريرة أنه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة، ثم إن التي قضى عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها "رواه مسلم".
كما روي عن المغيرة بن شعبة أنه قال: ضربت امرأة ضرتها بعمود فسطاط، وهي حبلى، فقتلتها، وإحداهما لحيانية، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عصبة القاتلة، وغرة لما في بطنها، فقال رجل من عصبة القاتلة: أنغرم دية من لا أكل ولا نطق واستهل فمثل ذلك بطل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أسجع كسجع الأعراب"، قال: وجعل عليهم الدية "رواه مسلم"1.
فوجب أن نبدأ في العقل بالعصبة، كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وألا نتجاوز البطن كما حد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
انعدام العصبة النسبية:
فإن لم توجد العصبة النسبية، فقال الشافعية والحنابلة والزيدية والإمامية "خلافا للظاهرية": تكون على العصبة السببية فالمعتق -بكسر التاء- ثم عصبته يتحملون الدية؛ وذلك لما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "الولاء لحمة كلحمة النسب"، ولأنهم عصبة يرثون المال إذا لم يكن وارث أقرب منهم فيدخلون في الدية كالقريب، ولا يعتبر أن يكونوا وراثين في الحال، بل متى كانوا يرثون -لولا الحجب- عقلوا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم
1 المحلى لابن حزم ج11ص44، ونيل الأوطار ج7، ص81.
"قضى بالدية بين عصبة المرأة، لا يرثون منها إلا ما فضل عن ورثتها"1، ولأن الموالي من العصبات فأشبهوا العصبة النسبية.
الترجيح: نرى رجحان الرأي الأول؛ للأدلة التي ذكروها ولما يأتي:
أولا: لقد كان التناصر في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم بين الأفراد بعد العقيدة بالقبيلة، والتناصر في القبيلة كان بقرابة الأب، هم العصبة، ولما فتحت بلاد كثيرة ودخل الناس في دين الله أفواجا، وأصبحت دولة الإسلام تمنح الرعوية الإسلامية لكل من اعتنق الإسلام وبها يباح له التنقل والعيش في المكان الذي يختاره، رحل العرب إلى الأمصار المختلفة ليعملوا ويرشدوا، ورحل العجم إلى بلاد العلم ليغترفوا من تعاليم الإسلام وينموا مواردهم الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وكانت الأمصار محط رحال الجميع، فأصبحت الأمصار تجمع من المواطنين جموعا لا تربطهم روابط النسب، وإنما تربطهم روابط وعلاقات مختلفة، وهذه العلاقات وتلك الروابط لا يمكن حصرها ولا ضبطها، فمنهم أهل العلم، ومنهم أهل التجارات، ومنهم أهل الحرف
…
ولما كانت تنظيمات الدولة الإسلامية تقضي بتكوين وحدات إدارية، تتحمل كل وحدة منها تبعات ما يلحق بعض أفرادها، فإن جنى شخص منهم جناية خطأ تحملت هذه الوحدة معه دية المقتول، كما سبق أن أوضحنا تخفيفا عنه ومواساة لأهل المقتول، وكانت هذه الوحدة هي "عصبة الرجل"، أيام أن كان القبيلة لا زالت متجمعة في مكان معين
1 مغني المحتاج ج4، ص96، والشرح الكبير ج9، ص516، والتاج المذهب ج4، ص244، والروضة البهية ج2، ص446، المحلى ج11، ص58، وقد أفاض في الأدلة ومناقشتها بما لا يتسع المقام لبسطه هنا.
أما بعد حدوث هذا الانفتاح على الأقطار والشعوب المختلفة، وضعف الترابط بالقبيلة، فقد رأى عمر رضي الله عنه أن يضع الدواوين فوضعها، وربط الجماعة التي تعيش في مكان واحد، أو تعيش على بقعة معينة من الأرض برباط دفاعي؛ حيث جعل للمقاتلين منهم سجلا تدون به أسماؤهم وجعل لهم مرتبات وعطايا ورباط اجتماعي؛ حيث جعلهم يتعاقلون الجنايات التي تقع من بعض أفرادهم خطأ، أو شبه عمد، على ما رآه بعض الفقهاء1.
ومن هنا عالج عمر رضي الله عنه هذا الوضع على أساس من فهم في النص الوارد عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أنه معلول بالنصرة، فهذا المعنى كان موجودا في عصر الرسالة في العصبة، أما في عصره فقد أصبح التناصر بالديوان.
ثانيا: أن عمر رضي الله عنه حين وضع الدواوين وحددها -كما ذكرنا- فإنه لم يهدم فكرة العصبة، بل إنه اعتد بها، طالما كانوا يعيشون في مكان واحد، وضم إليهم غيرهم ممن اقتضت ظروف حياتهم أن يعيشوا معهم، وأن يساكنوهم تلك البقعة من الأرض "الديوان" فكانت هذه المعاشرة رباطا جديدا به تضعف صلته بقرابته الأصلية التي تعيش في مكان بعيد لا تراه ولا يراها، ولا تأخذ على يده إن إراد شرا، ولا يأخذ على يد أحد منهم كذلك، وأصبح الآن في مكان يرتبط فيه مع الآخرين برباط العقيدة أولا، ثم رباط السكنى والمعاشرة ثانيا، ثم الرباط الثالث الذي قرره الشرع -كما فسره عمر- وهو رباط التناصر.
إذن فقول عمر لم يهدم فكرة العصبة نهائيا، وإنما أقام فكرة الديوان لتحتوي العصبة، كما تحتوي من يعاشرونها معاشرة دائمة من الأشخاص
1 تقدم الإيضاح في عقوبة الجريمة شبه العمد.
غير الأقارب؛ لأن رباط التناصر جمع بينهم، ومن هنا نرى رجحان ما ذهب إليه عمر رضي الله عنه ومن تبعه من الفقهاء ومنهم الحنفية والمالكية في أحد الرأيين.
ذوو الأرحام والزوج والأصل والفرع:
إذا وجبت الدية على العصبة -إذا لم يكن القاتل ديوانيا بناء على الرأي الأول، أو كانت العاقلة هي العصبة بناء على الرأي الثاني- فهل يدخل في العاقلة ذوو الأرحام والزوج، وكذا الأصل والفرع؟ اختلف الفقهاء في دخول هؤلاء، ونوضح رأيهم فيما يلي:
أولا: ذوو الأرحام والزوج: اختلف الفقهاء في دخولهم في العاقلة إلى رأيين:
الرأي الأول: يرى جمهور الفقهاء أن غير العصبات من الإخوة لأم وسائر ذوي الأرحام والزوج، وكل من عدا العصبات ليسوا من العاقلة، ولعلهم يستندون في هذا إلى أن مدلول العصبة معلوم لغة وفقها1، وإذا كان
1 عصبة الرجل لغة: أبوه وبنوه وقرابته لأبيه، وسموا عصبة لأنهم عصبوا بنسبه؛ أي: أحاطوا به حماية ودفعا عنه، من عصب القوم بفلان: إذا أحاطوا به
…
وهو جمع لا مفرد له من لفظه وقياسه عاصب، مثل طلبة وطالب، قال في المغرب: وكأنه جمع عاصب وإن لم يسمع به من العرب، ثم سمي به "أي بالعصبة" الواحد والجمع والمذكر والمؤنث تغليبا، وقالوا في مصدرها: العصوبة.
وتطلق العصبة في اصطلاح الفقهاء على الأقارب من جهة الأب وتسمى عصبة نسبية، وتطلق أيضا على صاحب القرابة الحكمية والتي جاءت بسبب الإعتاق وتسمى عصبة سببية.
معلوما فلا يمكن تجاوزه، ولقد قال ابن قدامة في الشرح الكبير: إنه لا خلاف بين أهل العلم على هذا1، غير أننا وجدنا رأيا مرجوحا للإمامية وهو:
الرأي الثاني: يرى الإمامية -في رأي مرجوح- أن العاقلة هي الورثة لمال القاتل لو قتل، ولا يلزم من لا يرث ديته شيئا مطلقا؛ وقيل: هم المستحقون لميراث القاتل من الرجال العقلاء من قبل أبيه وأمه2.
ومن هذا يتضح لنا أن ذوي الأرحام قد يكونون من العاقلة -بناء على هذا الرأي- إذا كانوا وارثين، أو ممن يستحقون الإرث.
الترجيح: ونرى رجحان الرأي الأول؛ لأن العصبة لا تطلق "كما قلنا" على هؤلاء لا لغة ولا اصطلاحا، وليس للرأي الثاني دليل يستند إليه.
ثانيا: اختلف الفقهاء في الأصل والفرع؛ أي: الآباء والأبناء، هل هم من العاقلة أم لا؟ إلى رأيين:
الرأي الأول: قال أبو حنيفة في رواية عنه ومالك وأحمد في رواية عنه، والإمامية "على غير المشهور": الأصل والفرع يدخلون في العصبة فيكونون من العاقلة؛ وذلك لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عقل المرأة بين عصبتها: من كانوا لا يرثون منها شيئا إلا ما فضل عن ورثتها، وإن قتلت فعقلها بين ورثتها" رواه أبو داود.
فقد جعل الحديث الدية على العصبة، وعرفهم بأنهم الذين لا يرثون
1 الشرح الكبير لابن قدامة ج9، ص514، 515، والمحلى لابن حزم ج11، ص63.
2 الروضة البهية ج2، ص446.
من الميت إلا ما فضل عن أصحاب الفروض، وهذا يعم الأصل والفرع.
ولأن الأب والابن عصبة فأشبهوا الإخوة فيعقلون معهم، ويؤكد ذلك أن العقل موضوع على التناصر، وهم من أهله، ولأن العصبة في تحمل العقل كهم في الميراث في تقديم الأقرب فالأقرب، وآباؤه وأبناؤه أحق العصبات بميراثه، فكانوا أولى بتحمل عقله.
الرأي الثاني: قال الشافعية، ورواية عن الإمام أحمد، والإمامية على المشهور: ليس الآباء والأبناء من العاقلة؛ وذلك لما روى أبو هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى فقتلتها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معه، رواه أبو داود والنسائي. وفي رواية عن جابر بن عبد الله قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلتها وبرأ زوجها وولدها، قال: فقال: عاقلة المقتولة ميراثها لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ميراثها لزوجها وولدها" رواه أبو داود.
قالوا: فإذا ثبت هذا في الأولاد قسنا عليه الوالد؛ لأنه في معناه، ولأن مال ولده ووالده كماله؛ ولهذا لم تقبل شهادتهما له ولا شهادته لهما، ووجب على كل واحد منهما الإنفاق على الآخر إذا كان محتاجا والآخر موسرا، وعتق عليه إذا ملكه، فلا تجب في ماله دية كما لم يجب في مال القاتل1.
الترجيح: والرأي الثاني هو الراجح لصحة الأحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم التي تثبت أنه لم يحمل عقل المرأة الهزلية لزوجها وولدها، وحمله عصبتها، فدل هذا على أنهما لا يدخلان في العاقلة، وكذا الوالد قياسا، ولعل الحكمة في ذلك أنه نظرا لاختلاط المنافع بين هؤلاء، يكون تحميلهم الدية فيه إجحاف بهم، وتشديد عليهم، والجناية خطأ قد
1 الشرح الكبير لابن قدامة ج9، ص516.
روعي فيها التخفيف، وليس من التخفيف أن يتحمل الجاني -كما هو رأي بعض الفقهاء1- وأن يتحمل أبناؤه وأبوه والزوج الدية مع العاقلة، وهم أسرة واحدة؛ لأن هذا سيؤدي إلى أن يتحملوا مقدارا كبيرا من الدية قد يثقل عليهم، وهذا لا يتناسب مع ما قصد إليه المشرع الحكيم من التخفيف عن الجاني.
تحمل بيت المال عند انعدام العاقلة:
إذا لم يوجد أحد من العاقلة فهل تسقط الدية أم تجب على بيت المال أم على الجاني في ماله؟ ثلاثة آراء:
الرأي الأول: قال جمهور الفقهاء "أبو حنيفة في ظاهر الرواية، والمالكية والشافعية، والحنابلة، والظاهرية، وكذا الإمامية إذا لم يوجد ضامن الجريرة، وهو مذهب الزهري": تجب في بيت المال، وقد استدلوا بما يأتي:
ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ودى الذي قتل بخيبر؛ أي: دفع ديته.
ما روي أن رجلا قتل في زحام في زمن عمر بن الخطاب، فلم يعرف قاتله، فقال علي بن أبي طالب لعمر رضي الله عنهما: يا أمير المؤمنين، لا يطل دم امرئ مسلم "أي لا يهدر" فأدى عمر ديته من بيت المال.
وأيضا لأن بيت المال وارث من لا وارث له، فيجب فيه دية من لا عاقلة له؛ لأن الغرم بالغنم.
1 سيأتي بيان هذا، وترجيح أن يتحمل الجاني مع العاقلة فيما أوجبته جنايته من الدية.
وبناء على هذا الرأي، فإن بيت المال يؤدي الدية كلها عند عدم وجود العاقلة، وكذا يؤدي الباقي إن كان له عاقلة لا تحمل الجميع.
ويؤدي بيت المال هذه الدية دفعة واحدة على الأصح1؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أدى دية الأنصاري دفعة واحدة، وكذلك عمر رضي الله عنه، ولأن الدية بدل متلف فيجب كله في الحال كسائر بدل المتلفات، وإنما أجل على العاقلة تخفيفا عنهم، ولا حاجة إلى ذلك بالنسبة لبيت المال2.
الرأي الثاني: يريد الزيدية أنه إذا لم يكن للجاني عاقلة، أو كانت ولم تف الدية لقلتهم، أو كثرة اللازم، كانت الدية في ماله إن كان له مال يملكه، ثم إذا لم يكن له مال، أو كان له مال ولم يف، لزمت من بيت المال منجمة في ثلاث سنين، ثم إذا لم يكن ثمة بيت مال عقل عنه المسلمون في ثلاث سنين المقيمون في ناحيته، وإلا انتقل إلى أقرب جهة إليها3.
ولم يستدل المذهب لرأيه بأي دليل.
الرأي الثالث: ذكر ابن حزم أن طائفة قالت: إنه لم يكن للجاني عاقلة فإنه لا شيء في جنايته، واستدلوا بما روي عن ابن جريج قال: زعم عطاء أن سائبة من سيب مكة أصابت إنسانا فجاء إلى عمر بن الخطاب، فقال له عمر: ليس لك شيء "قال" أرأيت لو شججته؟ قال: آخذ له منك حقه "قال" ولا تأخذ لي منه، قال: لا، قال: هو إذا الأرقم إن يتركني ألقم وإن يقتلوني أنقم، قال عمر: فهو الأرقم4.
1 وقيل: تؤدى في ثلاث سنين على حسب ما يؤخذ من العاقلة.
2 الشرح الكبير ج9، ص524-252.
3 التاج المذهب ج4، ص345.
4 الأرقم: هو الحية التي فيها سواد وبياض، الأراقم حي من تغلب، وهم جشم. المحلى ج11، ص3.
الترجيح:
والرأي الأول -وهو رأي جمهور الفقهاء- هو الراجح؛ لما ذكرنا من الأدلة التي استند عليها من السنة ومن الأثر ولما يأتي:
1-
أن قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا
…
} الآية، أوجب الكفارة والدية في كل قتل وقع خطأ، ولم تبين الآية أن الدية إنما تجب عند وجود العاقلة، ولا تجب عند عدمها، بل جعلت الدية واجبة التسليم مطلقا لأهل المقتول خطأ، سواء وجدت العاقلة أو لم توجد.
2-
أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قضى في الجنين بغرة، عبد أو أمة، أو عشر من الإبل، أو مائة شاة، وقد وقع هذا أيضا مجملا ولم يخص حالة دون حالة، فوجب أن تكون الدية حقا لأهل المقتول في جميع الحالات، وجدت العاقلة أم لم توجد.
3-
أن الأحاديث التي نظمت دفع الدية في القتل الخطأ مكملة لبعضها ومكونة لحكم تشريعي واحد، فقد وردت أحاديث تبين أن الدية هنا على العاقلة -كما أوضحنا فيما تقدم- كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم دفع دية الأنصاري الذي قتل بخيبر من بيت المال، وذلك حيث لم يعرف قاتله.
وكذا قول علي لعمر رضي الله عنهما في الرجل الذي قتل في الزحام: "لا يطل دم امرئ مسلم" لا يكون إلا عن مسند ثبت عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد أخذ به عمر، وأدى الدية إلى أهل المقتول من بيت مال المسلمين، بل إن عمر رضي الله عنه قد كتب إليه أبو موسى الأشعري يستفتيه في الرجل يموت بيننا ليس له رحم، ولا مولى، ولا عصبة، فكتب إليه عمر بن الخطاب: إن ترك رحما فرحم وإلا فالمولى،
وإلا فلبيت مال المسلمين، يرثونه، ويعقلون عنه1.
فقد صرح عمر في هذا النص بأن بيت المال كما يكون وارث من لا وارث له، كذلك يقوم بدفع دية من لا عاقلة له؛ إذ الغرم بالغنم.
فإن لم يوجد بيت المال أو تعذر الوصول إليه فيمكن أن نأخذ بقول المالكية والشافعية على الأصح: إنها تجب على الجاني في ماله وتنجم عليه على الظاهر؛ لأن القتل خطأ، فهو في هذه الحالة قائم مقام العاقلة "الشرح الكبير للدسوقي ج4، ص251".
مظاهر التخفيف في دفع العاقلة الدية:
راعَى المشرع الحكيم ظروف الجناية من حيث كونها وقعت خطأ، فخفف عن الجاني عبثها وأشرك معه العاقلة، كما راعى ظروف العاقلة؛ حيث إنها لم ترتكب جناية ولم يكن لها اشتراك فعلي في اقتراف الجاني لها فخفف عنها، وقد بدأ التخفيف واضحا في عدة مظاهر:
أولا: إعفاء من لا تمكنهم ظروفهم الطبيعية أو الاجتماعية من دفع الدية:
العاقلة -سواء كانت هي أهل الديوان أم العصابات- قطعة من المجتمع يوجد فيها القوي والضعيف، والصغير والكبير، والقادر والعاجز؛ ولذلك رأينا الفقهاء يتناولون بالبحث من اكتنفتهم بعض مظاهر الضعف، طبيعيا كان الضعف أم اجتماعيا، أم ماليا، أم صحيا؛ نظرا لأن حالتهم تستدعي أن يواسوا ويساعدوا لا أن يواسوا غيرهم ويساعدوه2، ونوضح ذلك فيما يلي:
1 المحلى لابن حزم ج21، ص63.
2 فتح القدير ج8، ص407، والشرح الكبير لابن قدامة ج9، ص532.
أ- مظاهر الضعف الطبيعية كالصبي والجنون والأنوثة:
اتفق الفقهاء على أن المرأة لا تعقل عن غيرها، واختلفوا في الصبي والمجنون إلى رأيين:
الرأي الأول: يرى جمهور الفقهاء "الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والزيدية والإمامية" أن الصبي الذي لم يبلغ والمجنون والمرأة لا يشتركون مع العاقلة في دفع الدية؛ وذلك لقول عمر رضي الله عنه: لا يعقل مع العاقلة صبي ولا امرأة -والمجنون حكمه حكم الصبي لاشتراكهما في الضعف العقلي- ولأن العقل "الدية" إنا يجب على أهل النصرة، والناس لا يتناصرون بالصبيان والمجانين؛ ولهذا لا توضع عليهم الجزية إذا كانوا ذميين؛ لأن الجزية بدل النصرة، وأيضا لأن هذا الضمان صلة وتبرع والصبيان والمجانين ليسوا من أهل التبرع.
الرأي الثاني: يرى الظاهرية أن الصبي والمجنون يدخل في العاقلة يتحمل ما يتحملونه من الدية؛ وذلك لأن اسم العصبة يقع عليهم، والأحاديث قد جعلت الدية على العصبة، وليس هناك نص يخرجهم ولا إجماع، وأيضا فإن الغرامات المالية كزكاة الأموال- عند من يقول بإيجابها عليهم- وكزكاة الزروع والثمار عند الجميع، وكالنفقات التي تجب عليهم للأولياء والأمهات1، لا تسقط عنهم فكذلك الدية.
الترجيح: ولما كان الرأي الأول يستند إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث" الحديث وقد تقدم"، وإلى ما روي عن عمر رضي الله عنه في ذلك، وهو نص في المسألة، فإنهما يكونان خارجين بهذا النص، وأما قياسها على الزكاة والنفقات فيرد عليه بأنه لا قياس مع النص.
1 المحلى لابن حزم ج11، ص57.
هذا فضلا عن الصبي والمجنون ممن يحتاج إلى الرعاية والعناية والمواساة، ويحتاج إلى المحافظة على أمواله وعدم تسربها، وبخاصة أنه مهما بلغت رعاية الولي لها إلا أنها لا تصل إلى رعاية الإنسان لماله بنفسه؛ ولهذا حذر القرآن الكريم في سورة النساء1 من ينالونها بغير وجه حق؛ نظرا للطمع الذي يسيطر على النفس البشرية أمام مال الغير، أيا كان هذا الغير.
ب- مظاهر الضعف الاجتماعية، وهي الرق:
وكذلك لا يعقل الرقيق عن غيره ولو كان مكاتبا؛ لأن هذا الضمان -كما قلنا- صلة وتبرع بالإعانة، والمملوك ليس من أهل التبرع؛ لأنه لا يملك؛ لأن "العبد وما ملكت يداه لسيده" كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أوجبنا عليه كان هذا إيجابا على السيد، فيجتمع على السيد واجبان، ما يدفعه عن نفسه وما يدفعه عن عبده، وفي هذا تثقيل يتنافى مع التخفيف المراعى في إيجابة الدية.
ج- مظاهر الضعف المالية الفقر:
للفقهاء في إيجاب الدية على الفقير رأيان:
الرأي الأول: يرى جمهور الفقهاء "الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة -غير رواية أخرى عن الإمام أحمد- والإمامية" أن الفقير لا يعقل عن أحد؛ لأن العاقلة إنما تحمل الدية مواساة منها للقاتل، والمواساة لا تلزم الفقير كما لا تلزمه الزكاة؛ إذ هو في حاجة إلى مواساة، ولأنها وجبت على العاقلة تخفيفا عن القاتل، فلا يجوز التثقيل بها على من
1 سورة النساء الآيات 2، 6، 109.
لا جناية منه، وفي إيجابها على الفقير تثقيل عليه وتكليف له ما لا يقدر عليه "ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها"، ولأن الفقهاء قد أجمعوا على أنه لا يكلف أحد من العاقلة ما يثقل عليه ويجحف به، وتحميل الفقير شيئا منها يثقل عليه ويجحف بماله، وربما كان الواجب عليه جميع ماله أو أكثر منه، أو لا يكون له شيء أصلا، وهذا تكليف بما لا يطاق1.
الرأي الثاني: يرى الزيدية، والإمام أحمد في رواية ذكرها أبو الخطاب: أن الفقير يتحمل في الدية كالغني؛ لأن المحمول شيء يسير وما لزمه يكون من جملة الديون التي عليه، ويبقى في ذمته، وقد نص الزيدية على أنه إن تعذر عليه الدفع فلا شيء عليه.
الترجيح: يتضح مما تقدم أن الرأي الأول هو الراجح؛ وذلك لقوة الأدلة التي استند عليها، وأيضا لأن في إيجابها على الفقير ضياعا وإهدارًا لما شرعت له الدية؛ لأنهاشرعت مواساة ومساعدة لأسرة المقتول وتعويضا لهم عما فقدوه بفقدان عائلهم، فإذا وكل دفعها إلى الفقراء، وقد لا تتيسر حالتهم في المستقبل، أدى هذا إلى عدم أدائها إليهم، وهو ضد النص الكريم القائل:{وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} .
د- مظاهر الضعف الصحية كالمرض والعمى:
ذكر ابن قدامة أن المريض يعقل عن الجناية إذا لم يبلغ حد الزمانة، وكذا الشيخ إذا لم يبلغ حد الهرم؛ لأنهما من أهل النصرة والمواساة.
أما الزمن والشيخ الفاني ففي اشتراكهما وجهان:
1 راجع: بدائع الصنائع للكاساني ج7، ص256، الشرح الكبير للدسوقي ج4، ص250، والشرح الكبير لابن قدامة ج9، ص523، ومغني المحتاج ج4، ص99.
أحدهما: لا يعقلان؛ لأنهما ليسا من أهل النصرة؛ ولهذا لا يجب عليهما الجهاد، ولا يقتلان إذا كانا من أهل الحرب، وكذلك يخرج على هذا الوجه الأعمى؛ لأنه مثلهما في هذا المعنى.
والثاني: يعقلان؛ لأنهما من أهل المواساة؛ ولهذا تجب عليهما الزكاة، وهذا التوجيه ينتقض بالصبي والمجنون؛ إذ تجب عليهما الزكاة عند جمهور من الفقهاء ولا يدفعان الدية "وخالف في إيجاب الزكاة عليهما الحنفية وجمع من الصحابة والتابعين وأتباعهم"1.
ثانيا: تحمل كل فرد قدر طاقته:
يراعي التشريع الإسلامي دائما أن يكون التكليف بما يطاق، أما ما لا يطاق، فإنه لا يكلف الله به أحدًا، قال تعالى:{لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَاّ وُسْعَهَا} وقد راعى الفقهاء هذا في تحديدهم مقدار ما يدفعه كل فرد في العاقلة، إلا أنهم اختلفوا في طريقة التحديد إلى طائفتين:
الطائفة الأولى: وهم المالكية والحنابلة والإمامية والظاهرية يرون أن يترك التحديد للاجتهاد، فيوضع على كل فرد بقدر طاقته، كما يوضع على العاقلة بقدر طاقتها، فلا يحد مقدار معين؛ وذلك لأن التقدير لا يثبت إلا بتوقيف ولا يثبت بالرأي والتحكيم، ولا نص في هذه المسألة، فوجب الرجوع فيها إلى اجتهاد الحاكم كمقادير النفقات.
الطائفة الثانية: وهم الحنفية والشافعية والزيدية، ورواية أخرى عن الإمام أحمد: يرون تحديد ما يجب على كل فرد من العاقلة
1 راجع الشرح الكبير لابن قدامة ج2، ص943، وج9 ص523، 524.
بمقدار معين في حدود ما يطيق.. وقد اختلفوا في المقدار1.
أما الحنفية فقد قدروا على كل فرد ما لا يزيد عن ثلاثة أو أربعة دراهم في الثلاث سنوات في كل سنة درهم، أو درهم وثلث2.
وأما الشافعية -ورواية عن الإمام أحمد- فقد ضربوا على الغني من العاقلة "وهو من يملك فاضلا عما يبقى له في الكفارة عشرين دينارا3 أو قدرها، اعتبارا بالزكاة" نصف دينار على أهل الذهب، أو قدره دراهم على أهل الفضة، وهو ستة دراهم؛ لأن ذلك أول درجة المواساة في زكاة النقد، والزيادة عليه لا ضابط لها.
كما أوجبوا على المتوسط من العاقلة "وهو من يملك فاضلا عما ذكرناه آنفا دون العشرين دينارًا، أو قدرها، وفوق ربع دينار؛ لئلا يبقى فقيرًا" ربع دينار أو ثلاثة دراهم؛ لأنه واسطة بين الفقير الذي لا شيء عليه، والغني الذي عليه نصف دينار.
وقال الزيدية: يجب على كل واحد من عاقلة الجاني، غنيا كان أم فقيرا، دون عشرة دراهم.
الترجيح: ونرى رجحان الأول الذي يقضي بترك التحديد لاجتهاد الحاكم؛ وذلك لأمور ثلاثة:
أولها: أنه لم يرد نص ولا خبر، بتحديد ما يتحمله الفرد في العاقلة من
1 راجع: الشرح الكبير للدسوقي ج4 ص452، الشرح الكبير لابن قدامة ج9، ص520، والمختصر النافع 327.
2 فتح القدير ج8، ص403.
3 تقدم توضيح وزن الدينار والدرهم بالجرامات في مبحث الدية في القتل العمد.
الدية، وفي هذا يقول الإمام النووي معقبا على ما قاله الشافعية من التحديد:"وكون الغني عليه نصف دينار، والمتوسط ربع لا يعرف في ذلك أثر ناص ولا خبر؛ لكنهم راعوا معنى المواساة".
ثانيها: أنه لما لم يكن هناك نص ولا خبر، فإن الفقهاء اختلفوا في قياس هذه المسألة، فالرأي الأول قاسها على النفقات، فكما أن الأمر متروك في النفقات لاجتهاد الحاكم أو من أنابه عنه اتفاقا، فللحاكم أن يقدر النفقة على حسب حالة الشخص الواجبة عليه النفقة يسرا وعسرا، فكذلك الأمر هنا يترك لاجتهاد الحاكم حسب حالة الشخص..
وأما الشافعية فقد قاسوها على الزكاة، حتى أنهم جعلوا الغني هو من يملك نصابا، وأوجبوا عليه نصف دينار.. إلا أنهم لم يلتزموا بذلك، بل أوجبوا على من لم تجب عليه الزكاة وهو من يملك دون العشرين دينارا وأكثر من ربع دينار، وهو المتوسط، ربع دينار، فلم يطرد القياس في المسألة..
أما من حدد من الفقهاء بقدر معين دون قياس، بل راعى في ذلك التخفيف عن العاقلة، وقدر هذا التخفيف بمقدار معين كالحنفية والزيدية.. فإن مرجع التحديد عندهم هو الاجتهاد؛ وذلك لأنهم قالوا: إن هذا الأمر يسهل تحمله ولا يشق على من يجب عليه أداؤه.. ومن هنا كان هذا الرأي لا يختلف كثيرا عن رأي من قال بترك الأمر لاجتهاد الحاكم؛ لأنه عند الجميع يكون مصدره الاجتهاد.
وإذا كان الأمر كذلك فإننا نرى رجحان قياس هذه المسألة على تقدير النفقة، فيترك الأمر فيه لاجتهاد الحاكم أو من يقوم مقامه؛ وذلك لأن النفقة حق من حقوق العباد، والدية أيضا حق من حقوق العباد، فيصح لمن له هذا الحق التنازل عنه، أو الصلح عليه، أو الإبراء، وكذلك يكون له حق الاستيفاء.. إلى آخر ما نعلمه من خواص حقوق العباد، أما الزكاة فهي حق من حقوق الله تعالى، وحقوق الله تعالى لا يصح فيها إبراء ولا صلح
ولا تنازل وحق استيفائها يكون للإمام.. وإذا كان الحقان -حق النفقة وحق استيفاء الدية- متفقين في هذا ناسب قياس الأخير على الأول، فضلا عن كون القياس على الزكاة، لم يطرد فيما أوجبوه، كما سبق أن أوضحنا.
ثالثها: أن في ترك أمر التحديد لاجتهاد الحاكم ليضع على كل فرد بقدر طاقته اعتدادا بما يكتنف المجتمع من تطورات اقتصادية، قد ترتفع حينا وقد تنخفض حينا آخر، وهذه التطورات لها آثار على قدرة الفرد على الأداء ارتفاعا وانخفاضا، فما يخف تحمله في زمن يثقل تحمله في زمن آخر، والعكس كذلك صحيح، وضمانا لمراعاة ظروف المجتمع وكل من المتحمل والمتحمل له، وتحقيقا لعدالة التحمل وعدالة الأداء ما دام القيد الذي التزمنا به مطبقا، وهو أن يضع على كل فرد بقدر طاقته.
رابعها: إذا قلنا بترك الأمر لاجتهاد الحاكم، فإنني لا أرى أن يترك التحديد للاجتهاد الفردي للفضاء بحيث يحكم كل بما يراه.. بل أرى أن يكون التحديد بواسطة الدراسة الجماعية للمجتهدين لكل ظروف العصر ثم ما يرونه ويقرونه يطبقه الجميع -وهذا ما قرره الفقهاء الذين حددوا، كما رأينا فيما تقدم- ولا يتغير هذا التحديد إلا بدراسة أخرى على نفس المستوى مبنية على تغيرات في المجتمع استدعت هذه المراجعة، وفي هذا ضمان تام للحقوق واستقرار شامل للأحكام.
طروء الإعسار أو الموت على أحد أفراد العاقلة:
إذا أعسر أو مات أحد أفراد العاقلة فهل يسقط ما وجب عليه؟ اختلف الفقهاء في ذلك، ونبين آراءهم فيما يأتي:
أولا: الإعسار: إذا أعسر أحد أفراد العاقلة بعد الحكم عليه فإما أن يكون إعساره قبل وجوب الأداء أو بعده، فإن كان إعساره قبل الوجوب فللفقهاء رأيان:
الرأي الأول: يرى المالكية أنه لا يسقط عن المعسر ما تقرر عليه بقدر طاقته، يحل محل بإعساره، ويصبح دينا في ذمته، وحينئذ ينظر إلى ميسرة، ويحبس لثبوت عسره لأجل الإنظار.
الرأي الثاني: يرى الشافعية والحنابلة أنه لا شيء عليه؛ لأنه أصبح بالإعسار غير أهل للمواساة، أو لأنه مال يجب في آخر الحول على سبيل المواساة، فأشبه الزكاة، والزكاة لا بد فيها من توافر شروط وجوبها في آخر الحول.
أما إن كان الإعسار بعد الحكم وبعد حلول الأجل، فإن فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة قالوا: لا يسقط الواجب عنه ويصبح دينا في ذمته.
ثانيا: الموت: إذا مات أحد أفراد العاقلة بعد الحكم، فإما أن يموت قبل حلول أجل الأداء أو بعده، فإن مات قبل حلول أجل الأداء فللفقهاء رأيان:
الرأي الأول: يرى المالكية: أنه لا يسقط عنه ما وجب عليه ويحل عليه الواجب بموته، ويستوفى من تركته؛ لأنه أصبح دينا في ذمته.
الرأي الثاني: يرى الشافعية والحنابلة والزيدية: أنه لا شيء عليه، ويسقط بموته؛ لعدم وجوبه عليه؛ لأنه إنما يجب عليه آخر الحلول، وفي آخر الحلول لم يكن موجودًا.
وإن مات بعد الحكم وبعد حلول الأجل، فللفقهاء رأيان أيضا:
الرأي الأول: يرى المالكية والحنابلة والزيدية: أنه لايسقط عنه؛ لأنه حين الوجوب كان موجودا، ووجب عليه، وإذا وجب عليه أصبح دينا في ذمته، فيستوفى من تركته.
الرأي الثاني: نقل ابن قدامة في الشرح الكبير عن أبي حنيفة أنه يسقط بالموت؛ لأنه خرج عن أهلية الوجوب فأشبه ما لو مات قبل الحول.
الترجيح: أرى رجحان القول بأنه إذا أعسر أو مات أو جن قبل حلول الأجل، وهو آخر الحلول، لا شيء عليه، وحينئذ يحل غيره من العاقلة محله، فإن لم يوجد ضم إلى العاقلة من يقوم بهذا الواجب حسب الأولويات التي قررها الفقهاء، فإن لم يوجد قام بالدفع بيت المال، كما هو رأي الشافعية والحنابلة.
وذلك لأن في القول بإيجابه عليه مع عسره أو بعد موته إجحافا به وضياعا لحق ولي المقتول.
كما أرى رجحان القول بأنه إذا حدث هذا بعد حلول الأجل أنه لا يسقط عنه ما قدر عليه؛ وذلك لأن الحق قد استقر في ذمته، وإذا ثبت في ذمته وجب عليه أداؤه فإن أعسر انتظر يسره، وإن مات أخذ من تركته، وإن جن أخذ من ماله.
ثالثا: تحديد عدد العاقلة:
ويثير هذا البحث سؤالا: هل للعاقلة عدد محدود وضحه الفقهاء؟ وللإجابة عنه نقول: إن بعض الفقهاء حدد عددا معينا للعاقلة، والبعض الآخر لم يحدد، ونوضح ذلك فيما يلي:
الرأي الأول: حدد المالكية عددا معينا للعاقلة فقالوا: إن أقل عدد للعاقلة يلزم ألا ينقص عنه حتى لا يضم إليها غيرهم هو 700 سبعمائة.
وقيل: أقل حدها أن تزيد على ألف زيادة بينة كعشرين وقيل أربعة.
فإذا وجدنا هذا العدد في أهل الديوان فلا يضم إليه عصبة الجاني.
وإن لم يبلغ أهل الديوان هذا العدد ضم إليهم العصبة، فإن لم يكن الجاني من أهل ديوان، وقلنا: إن العصبة يعقلون عنه، فإذا وجد هذا العدد في العشيرة، فلا يضم إليهم الفصيلة، وإلا ضمت إليهم.. وهكذا.
وفي المذهب قول ثالث، وهو: أنه لا حد للعاقلة، وإنما ذلك يترك للاجتهاد، وظاهر كلام ابن عرفة أنه المذهب.
الرأي الثاني: أما المذاهب الأخرى كالحنفية والشافعية والزيدية، فلم تحدد عددا؛ لأنه لما حددت ما يجب على كل فرد لم تحتج لمثل هذا التحديد؛ لأنه إذا زاد الواجب عن المقدار المحدد لكل شخص عندهم يضم إليهم من يليهم حسب الترتيب الذي أورده كل مذهب.
وإذا كنا قد رجحنا فيما تقدم أن يترك التحديد على كل فرد للاجتهاد، فإنه على ضوء هذا الاجتهاد سيتحدد عدد العاقلة؛ لأننا إذا أوجبنا عن طريق الاجتهاد على كل فرد نصف دينار في السنة والدية ألف دينار، مقسمة على ثلاث سنين، وجب ألا يقل عدد العاقلة عن ثلثي الألف وهو "667" تقريبا، حتى يمكن أن يحصل منهم في كل عام ثلث الدية، ويصح أن يزيد عددها فيقل الواجب على كل فرد.
رابعًا: المدة التي تتحمل العاقلة فيها الدية:
اختلف الفقهاء في تأجيل الدية في القتل الخطأ إلى رأيين:
أولهما: ما أورده في نيل الأوطار من أنه حكي في البحر عن بعض الناس أن الدية تكون حالة؛ وذلك لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم تأجليها.
ثانيهما: وهو رأي جمهور الفقهاء أنها تكون مؤجلة، ولهم في مقدار الأجل قولان:
الأول: ما روي عن ربيعة أنها تكون مؤجلة لمدة خمس سنوات.
الثاني: وهو رأي الأكثر "الحنفية، المالكية، الشافعية، الحنابلة، الزيدية، الإمامية" أنها تكون مؤجلة لمدة ثلاث سنوات، وقد استدلوا على هذا بما يأتي:
1-
ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين، وقد قال هذا أيضا علي وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
2-
وقد عزاه الإمام الشافعي في المختصر إلى قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم1.
3-
الإجماع، وذلك أنه لما قضى عمر بهذا كان بمحضر من الصحابة رضوان الله عليهم، ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعا، وقد نقل الإجماع الرافعي، والترمذي في جامعه، وابن المنذر.
وتقسم الدية على هذه السنوات الثلاث، في كل سنة ثلث الدية.
وتجب في آخر السنة، وقد قال الرافعي في تعليل هذا: إنه "كان سبب هذا أن الفوائد كالزروع والثمار تتكرر في كل سنة، فاعتبر مضيها ليجتمع عندهم ما يتوقعونه فيواسون عن تمكن".
كما قال الحنفية: إنها تؤخذ من ثلاث عطايا إن كان القاتل من أهل الديوان "وهم المقاتلة من الرجال الأحرار البالغين العاقلين"؛ لأنهم لهم في كل
1 قال الرافعي: تكلم أصحابنا في ورود الخبر بذلك، فمنهم من قال: ورد ونسبه إلى رواية علي عليه السلام، ومنهم من قال: ورد أنه صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة، وأما التأجيل فلم يرد به الخبر، وأخذ ذلك من إجماع الصحابة رضي الله عنهم. راجع نيل الأوطار ج7، ص76.
سنة عطية، فإن عجلت العطايا الثلاث في سنة واحدة يؤخذ الكل في سنة واحدة، وإن تأخرت يتأخر حق الأخذ، وإن لم يكن من أهل الديوان تؤخذ منه، ومن قبيلته من النسب، في ثلاث سنين.
خامسا: لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا، ولا ما دون أرش الموضحة:
هذه الصور منها ما اتفق الفقهاء عليه ومنها ما اختلفوا فيه، ونوضح فيما يلي آراءهم في كل مسألة متوخين الإيجاز، وحصر الموضوع فيما تتحمله العاقلة دون غيره:
أ- القتل العمد أو شبه العمد:
قد أوضحنا فيما تقدم أن الدية في القتل العمد "سواء تصالحوا عليها أو وجبت بعد العفو عن القصاص" على قول من رأى أن الواجب أحد الشيئين القصاص أو الدية، أو في الصور التي وجبت فيها الدية، كقتل الوالد ولده
…
" هذه الدية تجب في مال القاتل ولا تتحمل العاقلة منها شيئا1.
أما الجناية شبه العمد، فإن الفقهاء قد اختلفوا في تحمل العاقلة الدية الواجبة فيها، وقد أضحنا فيما تقدم آراءهم وأدلتهم، ورجحنا أن تتحمل العاقلة هذه الدية2.
ب- موقف العاقلة من جناية العبد على غيره، أو جناية الغير عليه خطأ:
اختص الفقهاء جناية العبد على الغير، أو جناية الغير عليه بأبحاث
1 راجع التفصيل والأدلة في مبحث الدية في القتل العمد.
2 راجع التفصيل والأدلة في مبحث الدية في القتل شبه العمد.
موسعة، ونكتفي هنا ببحث موقف العاقلة من هاتين الجنايتين إذا كانت الجناية خطأ بإيجاز:
1-
جناية العبد على غيره خطأ:
إذا ارتكب العبد جناية خطأ على غيره فإن للفقهاء رأيين في تحمل العاقلة دية المجني عليه:
أولهما: يرى جمهور الفقهاء "الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، والزيدية، والإمامية" ألا تتحمل العاقلة دية المجني عليه "وإنما تتعلق الجناية برقبته، كما صرح الشافعية والحنابلة. أو يخير المولى بين أن يدفعه بالجناية أو يفديه، كما قال الحنفية والزيدية" وقد حكى البيهقي الإجماع على ألا تتحمل العاقلة هذه الجناية، إلا أن هذا الإجماع لم يسلم؛ لما سيأتي إيضاحه في الرأي الثاني، وقد استدلوا لهذا الرأي بدليلين:
الأول: ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "العمد والعبد والصلح والاعتراف لا تعقله العاقلة" رواه الدارقطني، وقد فسروا هذا الخبر بأن المراد به أن العاقلة لا تعقل الجناية عمدا ولا جناية العبد على غيره، كما يدل على ذلك ما أخرجه البيهقي عن ابن عباس:"لا تحمل العاقلة عمدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا ما جنى المملوك" فإن هذا الخبر نص في عدم تحمل العاقلة جناية المملوك.
الثاني: قالوا: إن المعنى المعقول من تحمل العاقلة عن أحد أفرادها هو التناصر، ولا تناصر بالعبد، فلا تتحمل العاقلة عنه.
وأيضا فإن تحمل العاقلة جناية الحر جاء على خلاف الأصل؛ أي: أنه جاء على خلاف القياس "فإن القياس أن يتحمل الجاني جنايته لا أن يتحملها غيره"، وما جاء على خلاف القياس فغيره عليه لا يقاس.
الرأي الثاني: يرى الظاهرية أن تتحمل عاقلة العبد جنايته على غيره خطأ -سواء كان عبدا أم مدبرا، أم أم ولد، أم مكاتبا- وقد استدلوا بعموم ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيجاب الدية على العصبة، فقد قضى أن الدية والغرة على عصبة الجاني، وقوله صلى الله عليه وسلم:"على كل بطن عقولة" ولم يخص حرا من عبد، فلو أراد صلى الله عليه وسلم أن يخص حرا من عبد لبينه، فكل ما لم يبينه عليه الصلاة والسلام فهو باطل.. وقد حكم عليه الصلاة والسلام بأن على كل بطن عقولة، والبطون هي الولادات، أبا بعد أب، وهو في العجم كما هو في العرب، وفي الأحرار كما هو في العبيد، فيجب أن تكون الدية على عصبة العبد الجاني إن كان يعرف له نسب وكان له عصبة.
فإن اعترض بأنهم لا يرثونه، أجيب بأن الدية على العصبة لا على الورثة بنص حكم النبي صلى الله عليه وسلم.
ولعل هذا الرأي أيضا يقول: إن الأخبار المستدل بها موقوفة، ولا حجة إلا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم1.
1 نيل الأوطار للشوكاني ج7، ص85، وبدائع الصنائع ج7، ص258، والشرح الكبير للدسوقي ج4، ص214، ومغنى المحتاج ج4، ص100، والشرح الكبير لابن قدامة ج9، ص51، والتاج المذهب ج4، ص342، ص317، والروضة البهية ج2، ص447، والمحلى لابن حزم ج11، ص62، 63.
2-
الجناية على العبد:
أما الجناية على العبد خطأ فقد اختلف الفقهاء في تحمل العاقلة موجب هذه الجناية إلى رأيين:
الرأي الأول: يرى المالكية والحنابلة "وهو قول ابن عباس، والشعبي والثوري، ومكحول، والنخعي، والليث، وابن أبي ليلى، وإسحاق، وأبي ثور" أن العاقلة لا تحمل العبد، فإذا قتل شخص عبدا، وجبت قيمته في مال القاتل لا شيء على عاقلته خطأ كان أم عمدا.
وقد استدلوا بما روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا
…
" وقالوا: إنه قد روي عن ابن عباس موقوفا عليه، ولم نعرف له في الصحابة مخالفا، فيكون إجماعا، ولأن الواجب في العبد القيمة، والقيمة تختلف باختلاف صفاته، فلم تحمله العاقلة كسائر القيم
…
الرأي الثاني: يرى الحنفية والشافعية في الأظهر "الجديد" وهو قول الحكم وحماد، والزيدية والإمامية، والظاهرية: أن تحمل العاقلة ديته "قيمته"؛ لأنه آدمي يجب بقتله القصاص والكفارة فحملت العاقلة بدله كالحر1.
الترجيح: الذي يظهر لنا هو رجحان الرأي الثاني لما يأتي:
أولا: أن ما روي عن عمر "فيما نقلنا في الفقرة السابقة" قال الحافظ: هو منقطع "وفي إسناده عبد الملك بن حسين، وهو ضعيف، قال البيهقي: والمحفوظ أنه عن عامر الشعبي من قوله"، وأيضا أثر ابن عباس أخرجه البيهقي، وقد روي موقوفا.
1 نيل الأوطار ج7، ص85، المحلى لابن حزم ج11، ص50، 51، فتح القدير ج8، ص413، والشرح الكبير ج9، ص503، والتاج المذهب ج4، ص342، الروضة البهية ج2، ص447.
وقد أجيب عن هذه الآثار بأن المراد أن العاقلة لا تعقل الجناية الواقعة من العبد على غيره، كما يدل على ذلك قول ابن عباس الذي ذكرناه في الفقرة السابقة:"لا تعقل العاقلة عمدا ولا صلحا لا اعترافا ولا ما جنى المملوك".
ثانيا: روي عن عكرمة عن ابن عباس أن مكاتبا قتل "بالبناء للمجهول" على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر عليه السلام أن يودى ما أدى دية الحر، وما لا دية المملوك، والمعنى أن المكاتب إن كان قد أدى نصف ما عليه من مال الكتابة مثلا، وبقي عليه النصف، فإن النصف تدفع ديته دية الحر والنصف الآخر تدفع ديته دية المملوك.
وقد روي عن يحيى بن كثير أنه قال: إن علي بن أبي طالب ومروان كانا يقولان في المكاتب: إنه يؤدي منه دية الحر بقدر ما أدى، وما رق منه دية العبد.
فقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يؤدى في قتل العبد دية، وسماه دية أيضا علي بن أبي طالب، وهو حجة في اللغة، وإذا سمي دية، فالدية في قتل النفس خطأ على العاقلة، كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ج- اعتراف الجاني بالجناية:
إذا اعترف الجني بارتكابه الجناية، فإن أقر على نفسه بارتكابها، فإما أن تكون الجناية عمدا، أو شبه عمد، أو خطأ. فإن كانت عمدا أخذ بها وعوقب بعقوبتها: من قصاص أو دية أو غيرهما كما سبق توضيحه. وإن كانت شبه عمد فقد سبق أن أوضحنا خلاف الفقهاء في وجوب الدية في شبه العمد على العاقلة. وإن كانت الجناية خطأ وأقر بها الجاني ولم تثبت بالبينة ولم تصدقه العاقلة فهل تتحمل العاقلة الدية؟
اختلف الفقهاء في وجوب الدية على العاقلة إذا أقر الجاني بالجناية إلى أربعة أقوال:
الرأي الأول: يرى جمهور الفقهاء "الحنفية والمالكية على المعتمد، والشافعية، والحنابلة، والزيدية، والإمامية، وهو قول ابن عباس والشعبي والحسن، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، وسليمان من موسى، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق" أنه تجب الدية على الجاني المقر بالجناية في ماله ولا تحمل العاقلة معه شيئا.
الدليل: وقد استدلوا بالحديث المروي عن ابن عباس -الذي ذكرناه آنفا- ولأنه لو وجب عليهم دفع الدية لوجب بإقرار غيرهم عليهم، ولا يقبل إقرار شخص على غيره.
ولأن الجاني يتهم في هذا الإقرار، وموضع التهمة أنه قد يواطئ من يقر له بالجناية؛ ليأخذ الدية من عاقلته، فيقاسمه إياها1.
الرأي الثاني: قال أبو ثور، وابن عبد الحكيم: لا يلزم المقر شيء، ولا يصح إقراره؛ لأنه مقر على غيره، لا على نفسه؛ لأنه لما لم يثبت موجب إقراره -وهو تحمل العاقلة الدية- كان إقراره باطلا، كما لو أقر على غيره.
الرأي الثالث: يرى الظاهرية أن الاعتراف بالقتل الخطأ لا يلزم العاقلة تحمل الدية؛ وذلك لأن الله تعالى يقول: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، وكذلك لأن المقر بقتل الخطأ ليس مقرا على نفسه؛ لأن الدية فيما أقر به على العاقلة، لا عليه، وإذا كان غير مقر على نفسه، فيجب ألا يصدق على العاقلة، إلا أنه كان عدلا حلف أولياء
1 الشرح الكبير لابن قدامة المقدسي ج9، ص505، وفتح القدير ج8 ص523، والشرح الكبير للدسوقي ج4، ص250، والمختصر النافع ص327.
القتيل معه، واستحقوا الدية على العاقلة، فإن نكلوا فلا شيء لهم، فلو أقر اثنان عدلان بقتل خطأ، وجبت الدية على عواقلهما بلا يمين؛ لأنهما شاهدا عدل على العاقلة.
الرأي الرابع: يرى الطخيخي من المالكية1 أنه إن كان المقر بالقتل خطأ مأمونا ثقة، وليس بذي قرابة للمقتول، ولا صديقا ملاطفا له، ولم يهتم في إغناء ورثة مقتوله، ولا رشوة منهم على إقراره، فإن إقراره لوث يحلف بسببه أولياء المقتول خمسين يمينا، وتحمل الدية العاقلة، فيكون حمل العاقلة للدية سببه القسامة مع اللوث، لا لمجرد إقراره.
الترجيح: ونرى رجحان الرأي الأول، وهو رأي جمهور الفقهاء، وذلك لما يأتي:
1-
أن موجب القول الثاني إهدار الاعتراف الصادر من شخص عاقل، مع أنه يجب صون كلام العقلاء عن العبث، ويترتب على إهدار إقراره عدم وجوب صون كلام العقلاء عن العبث، ويترتب على إهدار إقراره عدم وجوب دية المقتول على أحد، وعدم تسليمها إلى أهل المجني عليه، وفي هذا تعطيل لعموم قوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ، وهذا الشخص قد قتل، واعتراف بالقتل، إلا أ Results
النوع الأول: الدية
القتيل معه، واستحقوا الدية على العاقلة، فإن نكلوا فلا شيء لهم، فلو أقر اثنان عدلان بقتل خطأ، وجبت الدية على عواقلهما بلا يمين؛ لأنهما شاهدا عدل على العاقلة.
الرأي الرابع: يرى الطخيخي من المالكية1 أنه إن كان المقر بالقتل خطأ مأمونا ثقة، وليس بذي قرابة للمقتول، ولا صديقا ملاطفا له، ولم يهتم في إغناء ورثة مقتوله، ولا رشوة منهم على إقراره، فإن إقراره لوث يحلف بسببه أولياء المقتول خمسين يمينا، وتحمل الدية العاقلة، فيكون حمل العاقلة للدية سببه القسامة مع اللوث، لا لمجرد إقراره.
الترجيح: ونرى رجحان الرأي الأول، وهو رأي جمهور الفقهاء، وذلك لما يأتي:
1-
أن موجب القول الثاني إهدار الاعتراف الصادر من شخص عاقل، مع أنه يجب صون كلام العقلاء عن العبث، ويترتب على إهدار إقراره عدم وجوب صون كلام العقلاء عن العبث، ويترتب على إهدار إقراره عدم وجوب دية المقتول على أحد، وعدم تسليمها إلى أهل المجني عليه، وفي هذا تعطيل لعموم قوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ، وهذا الشخص قد قتل، واعتراف بالقتل، إلا أنه لما كان متهما في هذا الإقرار كان موجب الجناية عليه هو، لا على العاقلة.
2-
أنه يقاس إقراره هنا على إقراره بإتلاف المال، ووجهه أنه إذا أقر على نفسه بإتلاف مال، أو بجناية لا تحمل العاقلة ديتها صح إقراره ولزمه ضمان ذلك، فكذلك يصح إقراره هنا قياسا عليه.
1 وهو رأي ضعيف في مذهب المالكية، وهناك آراء أخرى نص عليها في الشرح الصغير؛ منها: أنه يجب على العاقلة بشرط ألا يتهم المقر في إغناء ورثة المقتول، ومنها: أنها تجب على العاقلة إن كان المقر عدلا، ومنها: أنها تقسم دية على المقر وعلى العاقلة فما يليه يلزم، ويسقط ما عليهم.
3-
ولأن محل الجناية مضمون، فيضمن إذا اعترف به كسائر المحال المضمون، وإنما سقطت عنه الدية في محل الوفاق "وهو حالة البينة" لتحمل العاقلة للدية بالنص، فإذا لم تتحملها وجبت عليه كجناية المرتد.
4-
وأما قول للظاهرية "وكذا قول الطخيخي": إنه غير مقر على نفسه فيجب ألا يصدق على العاقلة إلا أنه إذا كان عدلا حلف أولياء القتيل معه، واستحقوا الدية.
هذا القول لنا عليه اعتراضان؛ أولهما: أنه لا يمتنع عقلا أن يكون هناك تواطؤ وأنهم قد يحلفون كذبا، وثانيهما: أن المقر ليس مقرا على غيره، بل هو مقر على نفسه؛ إذ إنه حين يقر إنما يقر بما فعله هو، وهي الجناية، وأما وجوب الدية فهو أمر يرتبه المشرع الحكيم على أثر وقوع الجناية فيجعله إما على الجاني أو على العاقلة، وإذا كان مقرا على نفسه، فحينئذ يكون هو الملزم بما يترتب على إقراره من آثار.. وقد وردت الآثار المبينة لإلزامه بالدية وعدم إلزام العاقلة بها، وهذه الآثار يقويها أنها تتمشى مع القواعد العامة في ضمان إتلاف الأموال وغيرها من المحال المصونة كما ذكرنا آنفا.
إلا أن العاقلة إن صدقته في إقراره كانوا متحملين للدية؛ لأنه في هذه الحالة تنتفي التهمة ويبعد الشك.
د- الصلح عن الجناية:
إذا صالح الجاني ولي الدم على مال، فإما أن يصالحه عن دمه العمد، أو عن غيره، وقد نص الحديث المتقدم على أنه: "لا تحمل العاقلة عمدا
…
ولا صلحا" فهل الصلح هو الصلح عن دم العمد، أم الصلح عن غير العمد؟ للفقهاء تفسيرات:
التفسير الأول: فسره القاضي ابن أبي يعلى الحنبلي بأن يصالح
الأولياء عن دم العمد إلى الدية، ويراجع ما نص عليه الحنفية والظاهرية والزيدية1.
التفسير الثاني: وقد فسر ابن عباس والزهري والشعبي والنووي والليث والشافعي والإمامية كون العاقلة لا تحمل الصلح، بأن يدعي عليه القتل فينكره ويصالح المدعى عليه المدعي على مال يدفعه إليه، فإن هذا المال المصالح عليه لا تحمله العاقلة؛ لأنه مال ثبت بمصالحته واختياره فلم تحمله العاقلة كالذي ثبت بإقراره واعترافه، ولأنه لو حملته العاقلة أدى إلى أن يصالح الشخص بمال غيره ويوجب على الغير حقا بقوله.
وقد رجح ابن قدامة المقدسي "الحنبلي" التفسير الثاني، قال:"إنه الأولى؛ لأن التفسير الأولى عمد فيستغنى عنه بذكر العمد"؛ أي: أنه يريد أن يقول: ما دام القتل عمدا فإن العمد لا تحمله العاقلة بنص الأثر: "لا تحمل العاقلة عمدًا
…
" أي: لا تحمل ما وجب بالقتل العمد، وحينئذ فقوله: "ولا صلحا" تكون واردة في غير ذلك، وهو ما قلنا.
هـ- ما تحمله العاقلة من الدية:
لما كان الواجب بالجناية من الديات تارة يكون كل الدية، وأخرى يكون نصفها أو أقل أو أكثر حسب كون الجناية واقعة على النفس أو على ما دونها، فهل تتحمل العاقلة ما وجب من الدية قليلا كان أم كثيرًا أم لا؟ اختلف الفقهاء في ذلك إلى أربعة آراء:
الرأي الأول: قال سعيد بن المسيب، وعطاء، ومالك، وإسحاق وعبد العزيز، وعمر بن أبي سلمة: لا تحمل العاقلة ما دون ثلث الدية.
الدليل: وقد استدلوا بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في الدية
1 الشرح الكبير لابن قدامة ج9، ص504، فتح القدير ج8، ص413، والزيلعي ج6، ص113، المحلى لابن حزم ج11، ص50، والتاج المذهب ج4، ص343، والمختصر النافع ص327.
ألا يحمل منها شيء حتى تبلغ عقل المأمومة.
ولأن مقتضى الأصل وجوب الضمان على الجاني؛ لأن الضمان موجب جنايته ويدل ما أتلفه، فكان عليه كسائر المتلفات والجنايات، وإنما خولف في الثلث فصاعدا تخفيفا عن الجاني؛ لكونه كثيرا يجحف به، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما سأله سعد بن أبي وقاص عما يوصي به: "الثلث والثلث كثير
…
" 1، ففيما دونه يبقى على الأصل، ومقتضى الدليل.
فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الثلث كثيرًا، وإذا كان كثيرا فلا تتحمله العاقلة وتتحمل ما دونه.
الرأي الثاني: قال الزهري: إن العاقلة لا تحمل الثلث فما دونه.
الرأي الثالث: قال الثوري والحنفية والزيدية والإمامية على الأشهر: لا تحمل العاقلة أقل من نصف عشر الدية، وتتحمل نصف العشر فصاعدا.
وقد استدلوا بما يأتي2:
1-
بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعقل العواقل عمدا، ولا عبدا، ولا صلحا، ولا اعترافا، ولا ما دون أرش الموضحة"، وأرش الموضحة نصف عشر بدل النفس.
1 روي أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاءني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني من وجع اشتد بي، فقلت: يا رسول الله، قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال:"لا" قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: "لا" قلت: فالثلث، قال:"الثلث، والثلث كثير، أو كبير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس".
2 العناية هامش فتح القدير ج8، ص412.
2-
قد روى الإمامية أن الإمام محمد الباقر قال: قضى أمير المؤمنين رضي الله عنه أنه لا يحمل على العاقلة إلا الموضحة فصاعدا.
3-
ولأن تحمل العاقلة للتحرز عن للإجحاف ولا إجحاف في القليل، وإنما هو الكثير، والتقدير الفاصل عرف بالسمع.
وهذا التحديد إنما يكون حينما تكون الجناية فيما دون النفس، فأما بدل النفس فتتحمله العاقلة، وإن كان الواجب على العاقلة أقل من نصف العشر، ألا ترى أن القتلة إذا كانوا مائة كانت الدية على عواقلهم، وإن كان نصيب كل واحد منهم مائة درهم؛ لأنها بدل النفس، وكذلك من قتل عبدا قيمته مائة وخمسون درهما، فإنه تتحمله العاقلة.
الرأي الرابع: نقل ابن قدامة المقدسي أن الصحيح عن الشافعي أن العاقلة تحمل الكثير والقليل؛ لأن من حمل الكثير حمل القليل كالجاني في العمد.
وقد يضاف إلى هذا أن الأدلة التي أثبتت تحمل العاقلة الدية عامة ولم تفصل.
الترجيح: ونرى رجحان الرأي الثالث؛ وذلك لما يأتي:
أولا: أن التقدير الذي اعتمد عليه الرأي الأول هو تقدير مبني على استنتاج من النص الوارد في الوصية، أخذ منه اعتبار الثلث كثيرا، وإذا كان كثيرا لا تتحمله العاقلة، وهذا الاستدلال قد يكون قويا إذا لم يرد أثر، وقد ورد هذا الأثر وهو ما روي عن ابن عباس بزيادة:"ولا ما دون أرش الموضحة"، وإن كان الأثر ضعيفا فقد قوي بأمرين؛ أولهما: ما روي عن الإمام محمد الباقر رضي الله عنه، وثانيهما: أنه يحقق المقصود من تحمل العاقلة الدية، وهو التخفيف عن الجاني؛ لأن الثلث -بنص الحديث- كثير.
ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه أنه: جعل الغرة في الجنين على العاقلة، وقيمة الغرة نصف عشر الدية1، وإذا ثبت هذا كان هو الحد الأدنى لما تتحمله العاقلة، وأما ما دونه، فإنها لا تتحمله؛ لأنه ليس فيه أرش مقدر.
عاقلة غير المسلم:
اتفق الفقهاء على أنه لا يعقل مسلم عن غير مسلم، ولا غير مسلم عن مسلم؛ وذلك لأنه لا موالاة بينهم ولا توارث، فلا مناصرة، وإذا كان الشأن كذلك، فهل تعقل عنه عاقلته؟ للفقهاء رأيان:
الرأي الأول: يرى الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة -على إحدى الروايتين- والزيدية: أنه تعقل عن غير المسلم عاقلته، كما تعقل عن المسلم عاقلته، إلا أنهم اختلفوا هل يعقل اليهودي عن النصراني والعكس؟ بهذا قال الحنفية -عدا أبي يوسف- والشافعية؛ لأن الكفر كله ملة واحدة. وقال أبو يوسف والمالكية ورأي ثان في مذهب الشافعية والحنابلة: لا يعقل أحدهما عن الآخر؛ نظرا لوجود عداوة بين الاثنين بها ينقطع التناصر.
الرأي الثاني: يرى الإمامية -ورواية في مذهب الحنابلة- أن غير المسلمين لا يتعاقلون؛ لأن المعاقلة تثبت في حق المسلم على خلاف الأصل تخفيفا عنه ومعونة له فلا يلحق به غير المسلم، إذا كانوا لا يتعاقلون فإن الجاني يدفع الدية، فإن عجز فالإمام2
الترجيح: الذي نراه راجحا هو رأي جمهور الفقهاء؛ لأنهم إذا قبلوا عقد الذمة كان لهم ما لنا وعليهم ما علينا، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا ثبت حق المواساة والمعونة للمسلم على المسلم ثبت هذا الحق أيضا لغير المسلم على غير المسلم، كما ثبت حق التوارث بين كل3.
1 تقدم نص الحديث وتقدم أن الغرة "عبد أو أمة أو عشر من الإبل، أو مائة شاة"، وسيأتي إيضاح حقيقة الغرة في الجناية على الجنين.
2 راجع: فتح القدير ج8، ص309، والشرح الكبير للدسوقي ج4، ص351، ومغني المحتاج ج4، ص99، والشرح الكبير لابن قدامة ج9، ص507، والتاج المذهب ج4، ص345، والروضة البيهة ج2، ص447.
3 لم أتعرض لبيان آراء الفقهاء في تقدير الديات بالنسبة لحالة المقتول من حيث: إسلامه، أو حريته، أو ذكورته، أو إقامته في دار الإسلام، أو ضد هذا
…
ويمكن الرجوع إليه عند الحاجة في باب الديات في كل مذهب.