المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني: الجزاء الدنيوي للقتل شبه العمد: - الجنايات في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون

[حسن علي الشاذلي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌المقدمات

- ‌الإفتتاحية: افتتاحية الطبعة الثانية

- ‌افتتاحية الطبعة الأولى:

- ‌التمهيد:

- ‌الجريمة والجناية في الفقه الإسلامي:

- ‌الجريمة والجناية في الفقه الوضعي:

- ‌العقوبات:

- ‌الباب الأول: جناية القتل

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: القتل العمد وعقوبته

- ‌المبحث الأول: حقيقة القتل العمد

- ‌المبحث الثاني: أركان الجريمة العمدية في الفقه الإسلامي

- ‌أولاً: أن يكوت الأعتداء واقعًا على آدمي حي

- ‌ثانيا: أن يكون المجني عليه معصوم الدم:

- ‌ثالثا: أن يكون هذا الآدمي معينا:

- ‌رابعًا: أن يكون قصد الجاني ضرب المجني عليه

- ‌خامسا: أن يكون الضرب بقصد العدوان:

- ‌سادسًا: أن يكون الجاني قد أوقع على المجني عليه فعلا قاتلا:

- ‌المبحث الثالث: آراء فقهاء القوانين في تحليل القتل العمد ورأي الفقه الإسلامي في هذه الآراء:

- ‌المبحث الرابع: عقوبة القتل العمد في الفقه الإسلامي

- ‌المطلب الأول: الجزاء الآخروي

- ‌المطلب الثاني: الجزاء الدنيوي:

- ‌المبحث الخامس: عقوبة القتل العمد في القانون:

- ‌الفصل الثاني: القتل شبه العمد وعقوبته

- ‌المبحث الأول: آراء الفقهاء في القول بشبه العمد

- ‌المبحث الثاني: أركان جريمة شبه العمد:

- ‌المبحث الثالث: عقوبة القتل شبه العمد

- ‌المطلب الأول: الجزاء الآخروي

- ‌المطلب الثاني: الجزاء الدنيوي للقتل شبه العمد:

- ‌المطلب الثالث: عقوبة الضرب المفضي إلى الموت في القانون:

- ‌المطلب الرابع: المقارنة بين العقوبتين:

- ‌الفصل الثالث: القتل الخطأ وموجبه

- ‌المبحث الأول: حقيقة القتل الخطأ في الفقه الإسلامي

- ‌المبحث الثاني: أركان الجريمة خطأ:

- ‌المبحث الثالث: عقوبة القتل الخطأ

- ‌مدخل

- ‌النوع الأول: الدية:

- ‌النوع الثاني: الكفارة:

- ‌النوع الثالث: الحرمان من الميراث:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌المطلب الثاني: الجزاء الدنيوي للقتل شبه العمد:

‌المطلب الثاني: الجزاء الدنيوي للقتل شبه العمد:

للقتل شبه العمل جزاء دنيوي أيضا، وهو جزاء مالي، يتمثل في الدية، والكفارة، والحرمان من الميراث، وقد يكون بدنيا كالتعزير، وللفقهاء آراء في هذه العقوبات نوردها فيما يأتي:

النوع الأول: الدية في القتل شبه العمد:

عرفنا فيما تقدم الدية، وبينا جنس المال الذي تدفع منه، ومقاديرها، وتغليظها، ونبين هنا آراء الفقهاء فيمن يتحمل دية القتل شبه العمد، وكيفية أدائها.

ص: 360

المقصد الأول: المتحمل للدية في شبه العمد:

للفقهاء القائلين بهذا النوع من الجناية رأيان فيمن يتحمل الدية في شبه العمد:

أحدهما: يرى ابن سيرين والزهري والحارث العكلي وابن شبرمة وقتادة وأبو ثور، واختاره أبو بكر من الحنابلة، ورأي للإمامية: أن الدية في شبه العمد تجب في مال القاتل قياسا على القتل عمدا؛ وذلك لأن الدية موجب فعل قصده الجاني، ولا شك أنه قصد الفعل الجنائي كما في القتل عمدا، وإذا كان كذلك لا تتحمل العاقلة الدية هنا كما لا تتحمله في القتل عمدا، وأيضا فإنه الدية الواجبة في شبه العمد هي دية مغلظة فأشبهت دية العمد، ودية العمد لا تتحملها العاقلة، فكذا هذه.

الثاني: يرى الحنفية والشافعية، وظاهر مذهب الحنابلة، والشعبي والنخعي والحكم والثوري وإسحاق وابن المنذر: وجوب الدية في شبه العمد على العاقلة، وقد استدلوا على ذلك بالسنة والقياس:

أما السنة: فقد روي عن أبي هريرة أنه قال: "اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها" متفق عليه، وفي الباب أحاديث أخر تقدمت نصوصها1، وكلها

1 يراجع أحاديث حمل بن مالك، وأبي هريرة، والمغيرة بن شعبة، تقدمت آنفا في أركان شبه العمد.

ص: 361

تنص على أن الرسل -صلوات الله وسلامه عليه- قضى بالدية على العاقلة في هذه الجناية -وهي جناية شبه عمد، وليست خطأ- فدل ذلك على وجوبها على العاقلة في شبه العمد بنص الأحاديث.

وأما القياس: فقد قاسوا القتل شبه العمد على القتل خطأ، ووجه ذلك أن القتل شبه العمد قتل لا يوجب القصاص، فكان كالقتل خطأ من هذا الوجه، ولما وجب في القتل خطأ الدية على العاقلة يجب كذلك في شبه العمد على العاقلة قياسا عليه.

وأيضا فإن القتل شبه العمد يخالف العمد المحض؛ لأن العمد يغلظ من كل وجه، لقصد الجاني الفعل وإرادته القتل، وأما شبه العمد فإنه يغلظ من وجه، وهو قصد الجاني الفعل، ويخفف من وجه، وهو كونه لم يرد القتل، فاقتضى تغليظها من وجه تغليظ الدية، واقتضى تخفيفها من وجه تحمل العاقلة للدية وتأجيلها، على ما سنذكره في الفقرة التالية.

الترجيح:

ونرى رجحان هذا الرأي "الثاني"؛ وذلك لصحة الأحاديث التي أثبتت أن العاقلة هي التي تتحمل الدية في هذا النوع من الجناية، ولأن القاتل منا معذور؛ لأنه لم يكن يقصد القتل، فكان ذلك مدعاة للتخفيف عنه، ومظهر هذا التخفيف هو أن تتحمل العاقلة هذه الدية أو لأن النتيجة وهي القتل في شبه العمد قد وقعت دون قصد، فهي شبيهة بالنتيجة التي حدثت في القتل خطأ. فالقتل في كلا الجنايتين غير مقصود، وإذا تساويا في هذا تساويا في أن تتحمل العاقلة دية هذه النفس في شبه العمد كما تتحملها في الخطأ.

ص: 362

المقصد الثاني: كيفية أداء دية شبه العمد:

قد اختلف أيضا هؤلاء الفقهاء في كيفية أداء دية شبه العمد إلى ثلاثة آراء:

الرأي الأول: قال ابن قدامة1: قد حكي عن قوم من الخوارج أنهم قالوا: الدية تجب في شبه العمد حالة "فورا"؛ لأنها بدل متلف -بفتح اللام- وبدل المتلف يجب حالا، كقيمة المتاع، فكذا هذا.

الرأي الثاني: يرى جمهور الفقهاء "الحنفية، والشافعية، والحنابلة، وهو المروي عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم، وبه قال الشعبي والنخعي وقتادة وأبو هاشم، وعبد الله بن عمر، وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر" أن دية شبه العمد تجب على العاقلة في ثلاث سنين، وقد استدلوا بما روي أن عمر وعليا رضي الله عنهما قضيا بالدية على العاقلة في ثلاث سنين، ولا مخالف لهما في عصرهما فكان إجماعا، ولأن المروي عنهما كالمروي عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه مما لا يعرف بالرأي.

الرأي الثالث: اتفق الإمامية مع الرأي الثاني في التأجيل غير أنهم خالفوهم في مقداره؛ حيث أوجبوا أداءها في سنتين، في آخر كل حول منهما يجب أداء النصف.

1 المغني ج1، ص492، ط أ.

ص: 363

الترجيح:

والذي نرى رجحانه هو الرأي الثاني؛ لورود آثار عن الصحابة -رضوان الله عليهم- تقضي بذلك، ولأن هذا الرأي فيه تخفيف نسبي عن العاقلة التي لم ترتكب هذه الجناية، وهذا التخفيف يتلاءم مع وضع العاقلة التي تتحمل هذا المال مساعدة ومعاونة ومواساة، ولم تكن مسئولة مسئولية جنائية عما حدث، وهذا ما يدعونا إلى ترجيح جانب التخفيف عن العاقلة في الأداء، والتخفيف عنها يكون أبرز وأظهر إذا قلنا بإيجاب هذه الدية في ثلاث سنين على أن تؤدي في كل سنة ثلثها.

النوع الثاني: الكفارة:

بينا فيما تقدم المقصد من مشروعية الكفارة1، وما تؤدَّى به، ونوضح هنا آراء الفقهاء في إيجاب هذا النوع من العقوبة في القتل شبه العمد، وللفقهاء القائلين بهذا النوع من الجريمة ثلاثة آراء:

أحدها: أنه لا تجب كفارة في القتل شبه العمد، وهو رأي لأبي حنيفة في غير ظاهر الرواية، ويوافق هذا الرأي رأي الزيدية والظاهرية؛ لأنهم لا يقولون بالكفارة في القتل العمد، والعمد عندهم يعم العمد وشبه العمد، وقد بينت كتب الحنفية وجه هذا الرأي، فقالوا: إن الإثم في جريمة شبه العمد كامل متناه فهي جناية مغلظة، بدليل أن المؤاخذة فيها ثابتة، وتناهي الإثم يمنع شرعية الكفارة؛ لأن شرعيتها من باب التخفيف

1 راجع ص342.

ص: 364

وهو لا يستحق التخفيف، فلا يجب بالقتل شبه العمد كفارة كما لا يجب في القتل العمد، ولا يصح قياسه على الخطأ؛ لأنه لا إثم فيه.

الرأي الثاني: يندب أداء الكفارة، وهذا الرأي للمالكية؛ ذلك لأنهم لا يفرقون بين القتل عمدا أو شبه عمد، فالكل عمد، وفي العمد يندب أداء الكفارة عندهم كما سبق أن بينا1.

الرأي الثالث: يرى جمهور الفقهاء "الحنفية -في ظاهر الرواية- والشافعية، والحنابلة، والإمامية" إيجاب الكفارة في القتل شبه العمد، وقد استدلوا على ذلك بالكتاب والقياس:

أما الكتاب: فبقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ

} وذلك لأن القتل شبه العمد هو قتل خطأ بالنظر إلى الآلة المستخدمة؛ حيث إنه لم يقصد القتل وإن قصد الضرب، وإنما حدث القتل خطأ، وإذا كان كذلك وجبت الكفارة في القتل شبه العمد بالآية؛ إذ إنها قد جعلت الكفارة واجبة في القتل خطأ.

وأما القياس: فقد قالوا بقياس شبه العمد على الخطأ في إيجاب الكفارة؛ وذلك لأن كلا منهما وجد فيه خطأ في القتل.

وقد اعترض على هذا الاستدلال بأن تعين الكفارة لدفع الذنب الأدنى في الشرع لا يعينها لدفع الذنب الأعلى؛ إذ لا شك أن شبه العمد أعلى ذنبا من الخطأ المحض، فإن الجاني في شبه العمد قاصد الضرب، بخلاف الخطأ؛ ولهذا أثم في الأول دون الثاني.

وقد أجيب عن هذا بأن الكفارة ثبتت بالآية في القتل خطأ، والقتل

1 راجع ص343.

ص: 365

في جريمة شبه العمد وقع خطأ، كما بينا آنفا، فانتظمت الآية وجوبها فيهما، فلا حاجة إلى الاستدلال بالقياس.

أما قول أصحاب الرأي الأول: "إن الإثم في جريمة شبه العمد متناه

"، فقد أجيب عنه بأن الإثم في شبه العمد هو إثم الضرب؛ لأن الجاني قد قصد الضرب، لا أنه إثم القتل؛ لأنه لم يقصد القتل، وهذه الكفارة تجب بالقتل وهو فيه مخطئ، ولا تجب بالضرب، ألا ترى أنها لا تجب بالضرب بدون القتل، وبعكسه تجب، فكذلك عند اجتماعهما يضاف وجوب الكفارة إلى القتل دون الضرب.

الترجيح:

ونرى رجحان الرأي الثالث "رأي جمهور الفقهاء"؛ وذلك لرجحان ما استندوا إليه، فإن القتل في شبه العمد خطأ، وإلا لوجب القصاص، وإذا كان خطأ فإن الآية أوجبت على من يقتل خطأ كفارة.

النوع الثالث: الحرمان من الميراث:

سبق أن بينا آراء الفقهاء في حرمان القتل عمدا بغير حق من ميراث مقتوله1، ونورد هنا آراءهم في أثر جريمة شبه العمد على هذا النوع من العقوبة، على النحو التالي:

أولا: أن من قالوا فيما تقدم "سعيد بن المسيب وابن جبير": إن القاتل عمدا لا يحرم من الميراث، فإنهم بطريق الأولى يقولون ذلك هنا.

1 راجع حرمان القتل عمدا من الميراث.

ص: 366

ثانيا: أن من لم يفرق بين العمد وشبه العمد -وهم المالكية والزيدية والظاهرية- يجعلون بعض أنواع القتل شبه العمد عمدا موجبا للقصاص1، وإذا كان عمدا فإنه يكون مانعا من الميراث.

ثالثا: أما الفقهاء الذين فرقوا بين العمد وشبه العمد -وهم الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والإمامية- فإنهم قالوا: إن القتل شبه العمد مانع من الميراث أيضا كالقتل عمدا للأدلة التي ذكرت في حرمان القاتل عمدا من الميراث؛ وذلك لأن الحرمان من الميراث عقوبة للقتل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس للقاتل شيء"، والشبهة التي وجدت في جريمة شبه العمد شبهة تؤثر في سقوط القصاص ولا تؤثر في حرمان الميراث.

الترجيح:

ونرى رجحان هذا الرأي الذي يقضي بحرمان القاتل قتلا شبه عمد من الميراث إذا كان الضرب عدوانا؛ وذلك لعموم الأحاديث التي أثبتت حرمان القاتل من الميراث، ولما في ذلك من تحقيق مصلحة راجحة هي: أن يكف الأقارب عن الاعتداء بعضهم على بعض، ويتوخون تدعيم علاقتهم -لا فصلها وقطعها- بمثل هذه الأعمال التي تؤدي إلى القتل؛ فإن صلة الرحم

1 سبق أن بينا أن المالكية والزيدية يجعلون الضرب عدوانا بآلة لا تقتل غالبا عمدا موجبا للقصاص، بينما يرى جمهور الفقهاء أنه شبه عمد، أما إن كان الضرب بقصد اللعب أو التأديب وأفضى إلى الموت، وكان بآلة موضوعة للتأديب أو اللعب يكون خطأ موجبا للدية عند المالكية والزيدية، لا عمدا موجبا للقصاص، أما الظاهرية فقد اعتبروه عمدا، وأما جمهور الفقهاء فقد خالفوا المذاهب الثلاثة فجعلوا الضرب بقصد اللعب أو التأديب بآلة موضوعة لذلك إذا أفضى إلى الموت قتلا شبه عمد.

ص: 367

مطلوبة شرعا وعقلا، فإذا خالف الإنسان، وارتكب مع قريبه ما يترتب عليه قطع هذه الصلة، فإنه من المناسب شرعا وعقلا ألا يستفيد القاتل ممن قتله، مالا أو غيره، جزاء ما اقترف؛ ولذلك فإن المشرع الحكيم رتب على هذه الجريمة قطع الصلة التي بها يرث قريبه، وهي القرابة؛ إذ إنه بالاعتداء عليه يكون قد قطع هذه القرابة، فوقع الشرع على المعتدي عقوبة أخرى من جنس ما أدت إليه جريمته، فما أحكم شرع الله وما أعدله!! حيث جعل الجزاء متناسبا مع العمل.

النوع الرابع: التعزير:

ستناول هذا النوع من العقوبة في مبحث مستقل بعد استيفاء أبحاث الجناية على النفس وما دونها، وسنبين أن لولي الأمر أن يضع العقوبة التي يراها، وهي عقوبة التعزير، على بعض الجرائم، ومنها هذا النوع، وأن يحدد نوعها حبسا أو جلدا أو غيرهما، وأن يقدرها بالمقدار الذي يتلاءم مع الجناية والجاني والمجتمع، ويتحقق الغرض من العقوبة، متوخيا في كل ذلك تحقيق المصلحة العامة.

ص: 368