المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النوع الثاني: الكفارة: - الجنايات في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون

[حسن علي الشاذلي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌المقدمات

- ‌الإفتتاحية: افتتاحية الطبعة الثانية

- ‌افتتاحية الطبعة الأولى:

- ‌التمهيد:

- ‌الجريمة والجناية في الفقه الإسلامي:

- ‌الجريمة والجناية في الفقه الوضعي:

- ‌العقوبات:

- ‌الباب الأول: جناية القتل

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: القتل العمد وعقوبته

- ‌المبحث الأول: حقيقة القتل العمد

- ‌المبحث الثاني: أركان الجريمة العمدية في الفقه الإسلامي

- ‌أولاً: أن يكوت الأعتداء واقعًا على آدمي حي

- ‌ثانيا: أن يكون المجني عليه معصوم الدم:

- ‌ثالثا: أن يكون هذا الآدمي معينا:

- ‌رابعًا: أن يكون قصد الجاني ضرب المجني عليه

- ‌خامسا: أن يكون الضرب بقصد العدوان:

- ‌سادسًا: أن يكون الجاني قد أوقع على المجني عليه فعلا قاتلا:

- ‌المبحث الثالث: آراء فقهاء القوانين في تحليل القتل العمد ورأي الفقه الإسلامي في هذه الآراء:

- ‌المبحث الرابع: عقوبة القتل العمد في الفقه الإسلامي

- ‌المطلب الأول: الجزاء الآخروي

- ‌المطلب الثاني: الجزاء الدنيوي:

- ‌المبحث الخامس: عقوبة القتل العمد في القانون:

- ‌الفصل الثاني: القتل شبه العمد وعقوبته

- ‌المبحث الأول: آراء الفقهاء في القول بشبه العمد

- ‌المبحث الثاني: أركان جريمة شبه العمد:

- ‌المبحث الثالث: عقوبة القتل شبه العمد

- ‌المطلب الأول: الجزاء الآخروي

- ‌المطلب الثاني: الجزاء الدنيوي للقتل شبه العمد:

- ‌المطلب الثالث: عقوبة الضرب المفضي إلى الموت في القانون:

- ‌المطلب الرابع: المقارنة بين العقوبتين:

- ‌الفصل الثالث: القتل الخطأ وموجبه

- ‌المبحث الأول: حقيقة القتل الخطأ في الفقه الإسلامي

- ‌المبحث الثاني: أركان الجريمة خطأ:

- ‌المبحث الثالث: عقوبة القتل الخطأ

- ‌مدخل

- ‌النوع الأول: الدية:

- ‌النوع الثاني: الكفارة:

- ‌النوع الثالث: الحرمان من الميراث:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌النوع الثاني: الكفارة:

‌النوع الثاني: الكفارة:

الكفارة لغة: الكفارة على وزن فعالة "بتشديد العين" مأخوذة من الكَفر "بفتح الكاف" بمعنى التغطية والستر، وكل شيء غطى شيئا فقد كفره؛ أي: ستره.

الكفارة اصطلاحا: هي ما أوجب الشرع فعله بسب حنث في يمين أو ظهار أو قتل

والمعنى اللغوي متحقق في المعنى الاصطلاحي؛ لأنها شعرت تكفيرا للذنب، وسترا له كما أنها قربة، تقرب الإنسان من ربه، فتعتبر بمثابة التوبة إلا أنها توبة بفعل معين، وقد حدد المشرع الأفعال التي تؤدى بها، فهي عقوبة فيها معنى العبادة، وهي حق من حقوق الله تعالى1.

1 راجع ما سبق أن تعرضنا له بالإيضاح بالنسبة لإيجاب القتل العمد وشبه العمد للكفارة في المبحثين الخاصين بذلك.

ص: 440

ونوضح حقيقة هذا النوع من العقوبة في أربعة مسائل: الأولى: من يتحمل الكفارة، الثانية: شروط وجوبها، الثالثة: وجوبها على كل المشاركين في القتل، الرابعة: نوع الكفارة.

المسألة الأولى: من يتحمل الكفارة:

اتفق الفقهاء على أن الكفارة تجب في مال القاتل، وقد استدلوا بما يأتي:

1-

قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} الآية.

2-

ولأن القاتل قد سلمت له الحياة في الدنيا، وهي من أعظم النعم ورفعت عنه المؤاخذة في الآخرة، مع جواز المؤاخذة؛ وذلك لأنه كان في وسع الخاطئ في الجملة حفظ نفسه عن الوقوع في الخطأ، وهذا أيضا نعمة فكان وجوب الشكر لهذه النعمة موافقا للعقل، فبين الله تعالى مقداره وجنسه بهذه الآية؛ ليقدر العبد على أداء ما وجب عليه من أصل الشكر بتعضيد العقل.

3-

ولأن فعل الخطأ جناية، ولله تعالى المؤاخذة عليه بطريق العدل؛ لأنه مقدور الامتناع عن الوقوع فيه بالتكلف والجهد، وإذا كان جناية فلا بد لها من التكفير والتوبة، فجعلت الكفارة توبة عن القتل الخطأ بمنزلة التوبة الحقيقة في غيره من الجنايات، إلا أنه جعل التحرير أو الصوم توبة له دون التوبة الحقيقة لخفة الجناية بسبب الخطأ؛ إذ الخطأ معفو في الجملة، وجائز العفو عن هذا النوع، فخفت توبته لخفة في الجناية، فكان تحرير الرقبة في هذه الجناية بمنزلة التوبة في سائر الجنايات.

ص: 441

المسألة الثانية: شروط وجوب الكفارة:

لإيجاب الكفارة على القاتل شروط، بعضها يرجع إلى القاتل، وبعضها يرجع إلى المقتول، وثالثها يرجع إلى الفعل القاتل، ونوضح كل هذا فيما يأتي:

أولا: الشروط التي يلزم توافرها في القاتل:

اختلف الفقهاء في الشروط التي يلزم توافرها في القاتل حتى يجب عليه أداء الكفارة، ونورد هذه الشروط مشفوعة بآراء الفقهاء:

1-

اشتراط التكليف "البلوغ والعقل":

اختلف الفقهاء في اشتراط أن يكون القاتل بالغا عاقلا حتى تجب عليه الكفارة إلى رأيين:

أولهما: يرى الحنفية والزيدية: أنه يشترط لإيجاب الكفارة على القاتل خطأ أن يكون بالغا عاقلا، فلا تجب على الصبي والمجنون؛ لأن الكفارة عبادة، والصبي والمجنون لا يخاطبان بالشرائع أصلا، فلا تجب الكفارة عليهما كما لا تجب الصلاة والصيام.

ثانيهما: يرى المالكية والشافعية والحنابلة والإمامية: أنه لا يشترط بلوغ القاتل أو عقله، فتجب الكفارة على القاتل صبيا كان أم مجنونا؛ لأن الكفارة حق مالي يتعلق بالقتل، وقد وجد القتل منهما فتتعلق بهما، كما تعلقت الدية.

وقد أجابوا عن أدلة الرأي الأول بأن الكفارة تفارق الصلاة والصيام؛ لأن الصلاة والصيام عبادتان بدنيتان، والكفارة عبادة مالية،

ص: 442

فأشتبهت نفقات الأقارب، ونفقات الأقارب تجب على الصبي والمجنون، كذا الكفارة.

وكذلك كفارة اليمين تفارق كفارة القتل؛ لأن كفارة اليمين لا تجب على الصبي والمجنون؛ لأنها تتعلق بالقول، ولا قول لهما، وكفارة القتل تتعلق بالفعل، وفعلهما متحقق، وقد أوجب الضمان عليهما ويتعلق بالفعل لا يتعلق بالقول1.

ب- اشتراط إسلام القاتل:

اختلف الفقهاء في اشتراط إسلام القاتل في وجوب الكفارة عليه إلى رأيين:

أولهما: يرى الحنفية والمالكية والزيدية: أنه يشترط إسلام القاتل في إيجاب الكفارة؛ لأن غير المسلم غير مخاطب بشرائع هي عبادات، والكفارة عبادة، فلا يخاطب بها، ولأن الكفارة قربة، وهو ليس من أهل القرب.

وثانيهما: يرى الشافعية والحنابلة والإمامية: أنه لا يشترط إسلام القاتل في إيجاب الكفارة، فإن كان القاتل غير مسلم لزمته الكفارة، كما تلزمه الدية؛ لأنه ما دام في أرض دار الإسلام فإنه ملتزم بأحكام هذه الدار، ومن أحكامها أن تلزم الكفارة القاتل، فتجب عليه.

ولما كانت الكفارة كما هو في نص الآية الكريمة: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا

1 بدائع الصنائع ج7، ص252، والشرح الكبير للدسوقي ج4، ص454، ومغني المحتاج ج4، ص108، والشرح الكبير لابن قدامة المقدسي ج10 ص38، والتاج المذهب ج4، ص308، والروضة البهية ج2، ص248.

ص: 443

خَطَأً

} هي تحرير رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن القائلين بإيجابها على غير المسلم يواجهون أمرين؛ أولهما: كيف يتصور أن يعتق رقبة مسلمة؟ وقد أجاب الشافعية عن هذا بأنه يتصور إعتاق عبد مسلم في صور؛ منها: أن يسلم العبد في ملكه، أو يرثه، أو يقول لمسلم: أعتق عبدك عن كفارتي، فإنه يصح على الأصح، وإن لم يتيسر له إعتاق عبد مسلم فهل يصوم؟ وهذا هو الأمر الثاني: قال القاضي الحسين: لا يكفر بالصوم؛ لأنه ليس من أهله.

ج- اشتراط حرية القاتل:

اختلف الفقهاء أيضا في اشتراط حرية القاتل في وجوب الكفارة إلى رأيين أيضا:

أولهما: يرى المالكية: أنه يشترط حرية القاتل لإيجاب الكفارة عليه؛ ذلك لأن العبد لا يصح عتقه، والكفارة إعتاق رقبة مؤمنة

ثانيهما: يرى الحنفية والشافعية والحنابلة والزيدية والإمامية: أنه لا يشترط لإيجاب الكفارة كون القاتل حرا؛ بل تجب وإن كان عبدا؛ لأن موجب الجناية التي يرتكبها العبد يتعلق به؛ إذ لو كان موجبها القصاص أو الضمان فإنهما يتعلقان به، فكذلك تتعلق الكفارة به.

ولما كان النوع الأول من الكفارة وهو الإعتاق لا يتمكن منه العبد -لعدم مالكيته أو قصور يده عن التملك؛ لأنه وما ملكت يداه لسيده- لذلك قالوا: إنه يكفر بالصوم.

الترجيح: والذي أرجحه هو عدم اشتراط كون القاتل عاقلا بالغا، مسلمًا، حرًّا، بل كل من قتل وجبت عليه الكفارة، كما وجبت الدية؛ لما يأتي:

ص: 444

1-

لأن الدية تجب في جميع هذه الأحوال سواء كان القاتل بالغا عاقلا أم لم يكن، مسلما أم معاهدا، حرا أم غير حر، وقد جمعت الآية الكريمة بين الدية والكفارة، وجعلتهما موجب هذه الجناية، فلا نملك إسقاط أي عقوبة منهما باشتراط هذه الشروط.

2-

أنه وإن كان في الكفارة معنى العبادة، ففيها أيضا معنى العقوبة، ومعنى العقوبة يظهر لنا ويرجح أثناء عدم ظهور معنى العبادة كوسيلة للتنبيه والتحذير من الوقوع في مثل هذا العمل مرة أخرى.

وهي أيضا حق مالي يجب بنفس الفعل، وإذا كان حقا ماليا أمكن أن نتصور تحمل الصبي والمجنون إياه كالنفقات.

وعلى هذا فكل من قتل وجبت عليه الكفارة، فإن أمكن أداؤها بالعتق كان العتق، وإلا كان بالصيام، وسنتناول ما تؤدَّى به الكفارة في المسألة الرابعة.

ثانيا: الشروط التي تشترط في المقتول:

هذا النوع من الشروط منه ما اتفق عليه ومنه ما اختلف فيه، ونوضح هذه الشروط:

أ- اشتراط عصمة المقتول:

اتفق الفقهاء "الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة1" على أنه يشترط إيجاب الكفارة على القاتل خطأ أن يكون المقتول معصوما، فلو قتل شخص إنسانا غير معصوم الدم، والعصمة تكون بالإسلام2، أو بدار الإسلام

1 لم يصرح الزيدية والإمامية بما ينافي هذا أو يعارضه.

2 فمن قتل في دار الحرب مسلما يعتقده كافرا، أو رمى إلى صف المحاربين فأصاب فيهم مسلما فقتله فعليه الكفارة؛ لقوله تعالى:{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} راجع: القرطبي ج5، ص323، والمغني والشرح الكبير ج10، ص38.

ص: 445

وبألا يقترف الإنسان جرما يستحق عليه القتل، كما لو قتل مرتدا، أو زنديقا، أو حربيا، أو باغيا، أو صائلا، أو زانيا محصنا، أو مستحق القصاص بالنسبة لولي الدم، فإن هؤلاء جميعا دمهم مباح، فلا تجب بقتل أحد منهم كفارة؛ لأن قتلهم مأمور به من المشرع الحكيم؛ نظرا لما ارتكبوه من جرائم، والكفارة لا تجب لمحو المأمور به.

ب- اشتراط إسلام المقتول:

اختلف الفقهاء في اشتراط كون المقتول مسلما لإيجاب الكفارة على القاتل على رأيين:

أولهما: يرى المالكية والإمامية وهو قول الحسن: أنه يشترط لإيجاب الكفارة على القاتل كون المقتول مسلما، ودليلهم أن الله تعالى يقول:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} فمفهومه أنه لا كفارة في غير المؤمن.

ثانيهما: يرى الحنفية والشافعية والحنابلة والزيدية: أنه لا يشترط في إيجاب الكفارة على القاتل كون المقتول مسلما، بل تجب الكفارة على القاتل، مسلما كان المقتول أو معاهدا، ذميا أم مستأمنا.

وقد استدلوا بما يأتي:

1-

قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ

} الآية1، والمعاهد -ذميا كان أم مستأمنا- له ميثاق، وبمنطوق الآية يكون على قاتله الدية والكفارة، وهذا المنطوق يقدم

1 سورة النساء الآية رقم "92".

ص: 446

على مفهوم قوله تعالى في صدر الآية: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} .

2-

أن المقتول آدمي قتل ظلما، فوجبت الكفارة بقتله كالمسلم.

الترجيح: وأرى رجحان الرأي الثاني؛ لما ذكر من أدلة.

ج- اشتراط حرية المقتول:

إذا قتل شخص إنسانا حرا وجبت الكفارة عليه إذا توافرت الشروط الأخرى، وذلك باتفاق الفقهاء، أما إذا قتل عبدا، فهل تجب في قتله الكفارة سواء كان عبد غيره أم عبد نفسه؟ اختلف الفقهاء في إيجابها إلى ثلاثة آراء:

الرأي الأول: يرى المالكية: أنه إذا قتل الحر المسلم رقيقا مملوكا لنفسه أو لغيره فإنه يندب له دفع الكفارة.

الرأي الثاني: يرى الشافعية والحنابلة والزيدية والإمامية: أنه يجب على من قتل عبدا لنفسه أو لغيره دفع الكفارة، وذلك لعموم قوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} من غير فصل بين حر وعبد.

الرأي الثالث: يرى الحنفية: أنه لو قتل عبد غيره خطأ وجب عليه إخراج الكفارة لعموم الآية، وأما إن قتل عبد نفسه فجنايته هدر1.

الترجيح: وأرى رجحان الرأي الثاني؛ لأنه قاتل نفس خطأ، وعلى قاتل النفس بنص الآية الكفارة، ولم تفصل الآية بين كون المقتول حرا أم عبدا، عبدا لنفسه أم عبدا لغيره.

1 بدائع الصنائع ج7، ص258.

ص: 447

د- اشتراط كون المقتول ظاهر الحياة:

اختلف الفقهاء في إيجاب الكفارة على من ضرب امرأة فألقت جنينا ميتا إلى رأيين:

الرأي الأول: يرى الحنفية والزيدية: أنه لا تجب الكفارة على من ضرب امرأة فألقت جنينا ميتا؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب الكفارة حين أوجب الغرة في المرأة التي ألقت جنينا1، ولأن الكفارة فيها معنى العقوبة؛ لأنها شرعت زاجرة، وفيها معنى العبادة؛ لأنها تتأدى بالصوم، وقد عرف وجوبها في النفوس المطلقة فلا يتعداها إلى ما لا يعتبر نفسا كاملة، بدليل أنه لا تجب فيه الدية، وإنما تجب فيه غرة؛ لأن العقوبة لا يجري فيها القياس، إلا أنه إذا تبرع بالكفارة كان أفضل له ويستغفر ربه مما صنع؛ لأنه ارتكب محظورا يستدعي التقرب إلى الله تعالى.

الرأي الثاني: يرى المالكية: أنه يندب لقاتل الجنين أن يؤدي الكفارة.

الرأي الثالث: يرى الحسن، وعطاء، والزهري، والحكم، والشافعية، والحنابلة، والإمامية: أنه تجب الكفارة في قتل الجنين كما تجب الغرة، قد استدلوا على ذلك بما يأتي:

1-

قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً

} الآية، وهذا الجنين إن كان من قوم مؤمنين، أو كان أحد أبويه مؤمنا، فهو محكوم بإيمانه تبعا، يرثه ورثته المؤمنون ولا يرث الكافر منه شيئا، وإن كان من أهل الذمة فهو من قوم بيننا وبينهم ميثاق، وفي قتل أي من هؤلاء الكفارة، فكذلك في قتل هذا الجنين الكفارة.

1 تقدم نص الحديث أكثر من مرة.

ص: 448

2-

ولأنه نفس مضمونة بالدية "الغرة" فوجبت في قتلها الكفارة كالكبير.

الرد على أدلة الرأي الأول: وقد ردوا على ما استدل به أصحاب الرأي الأول بأن ترك النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الكفارة لا يمنع وجوبها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "في النفس مائة من الإبل" 1، فذكر الدية في مواضع ولم يذكر الكفارة

وإنما لم يذكرها لأن الآية أغنت عن ذكر الكفارة فاكتفى بها.

3-

كما ذكر الشافعية أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى بإيجاب الكفارة في قتل الجنين2.

الترجيح: والرأي الثاني هو الذي أراه راجحا؛ للأدلة التي ذكرت له، ولأن الكفارة وجبت بدلا عن تعطيل حق الله تعالى في نفس القتيل، فإن كان له في نفسه حق، وهو التنعم بالحياة، والتصرف فيما حل له تصرف الأحياء، وكان لله سبحانه فيه حق، وهو أنه كان عبدا من عباده يجب له من اسم العبودية -صغيرا كان أو كبيرا، حرا كان أو عبدا، مسلما كان أو ذميا- ما يتميز به عن البهائم والدواب، ويرتجى مع ذلك أن يكون من نسله من يعبد الله ويطيعه، فلم يخل قاتله من أن يكون فوت منه الاسم الذي ذكرنا، والمعنى الذي وصفنا، فلذلك ضمن القاتل الكفارة.

هـ- اشتراط وقوع الجناية على نفس الغير:

رأينا فيما تقدم أن الفقهاء تناولوا بالبحث الجناية إذا وقعت على نفس الغير، أما إذا وقعت من الإنسان على نفسه، فسيأتي بحث ذلك في موضعه.

1 تقدم حديث عمرو بن حزم في مبحث الدية في القتل العمد.

2 مغني المحتاج ج4، ص108.

ص: 449

ثالثا: ما يشترط في الفعل القاتل:

سبق أن بحثنا موجب القتل العمد وشبه العمد، وبينا آراء الفقهاء في إيجاب الكفارة في هذين النوعين من الجناية، ونبين هنا آراءهم في القتل الخطأ، ولما كان للفقهاء تقسيمات لهذا النوع من الجناية -كما سبق أن أوضحنا- وهي: الخطأ المحض، وما جرى مجرى الخطأ، والقتل بسبب، والأولان يعتبران من القتل بالمباشرة، وأما الأخير فيعتبر قتلا بواسطة، وليس قتلا بالمباشرة؛ لذلك رأينا الفقهاء يختلفون في إيجاب الكفارة في النوع الأخير إلى رأيين:

الرأي الأول: يرى الحنفية والزيدية والإمامية: أنه تجب الكفارة إذا تم القتل بالمباشرة كما في الخطأ المحض، وما جرى مجراه، كالنائم ينقلب على غيره، أما القتل بالتسبيب، كحفر البئر في غير ملكه فلا تجب عليه الكفارة؛ لأن الكفارة تجب بالقتل، والقتل معدوم منه حقيقة؛ لأن الحفر ليس بقتل أصلا، وإذا كان كذلك فلا يترتب عليه دية ولا كفارة ولا حرمان من الميراث؛ إلا أنه ألحق بالقتل في حق الضمان "الدية" على خلاف القياس؛ صيانة للدماء عن الهدر، فيبقى في حق وجوب الكفارة والحرمان من الميراث على الأصل1.

الرأي الثاني: يرى المالكية والشافعية والحنابلة: أنه تجب الكفارة في القتل الخطأ، سواء كان بالمباشرة أم بالتسبيب، وذلك قياسا لها على الضمان، فكما أنه يجب الضمان بكليهما، كذلك تجب الكفارة، ولأن هذا الفعل

1 راجع: بدائع الصنائع ج7، ص274، وفتح القدير ج8، ص253، والتاج المذهب ج4، ص309، والروضة البهية ج2، ص448.

ص: 450

القاتل سبب لإتلاف الآدمي، وهذا السبب تعلق به ضمانه فتعلقت به الكفارة.

وكذلك قالوا: إن القتل بسبب تجب به الكفارة وذلك كما في المكره، فإنه إذا أكره إنسانا على قتل فإن الكفارة تجب عليه من غير مباشرة، وكذلك من أمر من لا يميز بأن يقتل إنسانا فقتله، كانت على الآمر الكفارة، وكذا لو شهد اثنان زورا على إنسان بأنه قتل عمدا، فاقتص منه، فإن الشهود تلزمهم الكفارة.

الترجيح: ونرى رجحان الرأي الثاني؛ لما ذكروه من أدلة، وأيضا فإن السبب الذي أدى إلى القتل هو فعل غير مشروع قام به الجاني خطأ؛ إذ حفره في غير ملكه يشكل تعديا على حق الناس في المرور سالمين، ومن هنا فإن موقفه لا يقل عن النائم ينقلب على غيره، بل يزيد، وقد قالوافي هذه الحالة: إنه تجب الكفارة فكذلك تلك، وقد سبق أن رجحنا أنه لا فرق بين القتل مباشرة أو تسبيبا في إيجاب القصاص وسائر العقوبات المقدرة للجناية عمدا، فكذلك هنا في القتل الخطأ لا نفرق بين الحالتين فتجب الكفارة في القتل مباشرة وتسبيبا1.

المسألة الثالثة: وجوبها على كل من اشترك في القتل خطأ:

إذا اشترك جماعة في قتل شخص خطأ، فهل يلزم كل واحد منهم كفارة، أو يشتركون في كفارة واحدة؟ للفقهاء رأيان:

1 مغني المحتاج ج4، ص107، 108، والشرح الكبير للدسوقي ج4، ص216، والشرح الكبير لابن قدامة ج10، ص37.

ص: 451

الرأي الأول: يرى أكثر أهل العلم "ومنهم الحسن وعكرمة، والنخعي والحارث العكلي، والثوري، والحنفية، والمالكية، والشافعية في الأصح، والحنابلة": أنه يلزم كل واحد منهم كفارة؛ لأن الكفارة لا تتبعض، وهي من موجب قتل الآدمي، فكملت في حق كل واحد من المشتركين كالقصاص.

الرأي الثاني: يرى أبو ثور، والأوزاعي فيما حكي عنه، وعلى الصحيح في مذهب الشافعية، ورواية حكاها أبو الخطاب عن الإمام أحمد: أن على الجميع كفارة واحدة؛ وذلك لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} و"من" يتناول الواحد والجماعة، ولم يوجب النص إلا كفارة واحدة ودية واحدة، والدية لا تتعدد فكذلك الكفارة، ولأنها كفارة قتل، فلم تتعدد بتعدد القاتلين مع اتحاد المقتول، ككفارة الصيد في الحرم.

وقد أجيب عن أدلة الرأي الثاني بما يأتي:

1-

لا يصح قياس الكفارة على الدية في التبعيض؛ لأن الدية بدل عن النفس، وهي واحدة، والكفارة لتكفير القتل، وكل واحد قاتل، ولأن في الكفارة معنى العبادة، والعبادة الواجبة على الجماعة لا تتبعض، فلا تتبعض الكفارة.

2-

وأيضا فإن الكفارة هنا تخالف كفارة الصيد، فإن كفارة الصيد تجب بدلا عن الصيد؛ ولهذا تجب في أبعاضه.

وقد وضح من هذا رجحان هذا الرأي وبخاصة أن الكفارة هي لجبر ما قد يقع الإنسان فيه من تقصير، وما يترتب عليه من ذنب وإثم، وأنها وسيلة إلى إصلاح عَلاقة الإنسان بربه، ومثل ذلك يحرص عليه.

ص: 452

المسألة الرابعة: ما تؤدى به الكفارة:

قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ

} فقد نصت الآية على أن الكفارة هي تحرير رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين.

إلا أنه يبقى بعد هذا أن نتساءل عن الحكم فيما إذا لم يستطع تحرير رقبة مؤمنة، ولم يستطع صيام شهرين متتابعين؟

اختلف الفقهاء في الحكم في هذه الحالة إلى رأيين:

الرأي الأول: يرى الحنفية والمالكية، والأظهر في مذهب الشافعية، ورواية في مذهب الحنابلة، والزيدية والإمامية: أنه يثبت الصيام في ذمته، ولا يجب الإطعام كما يجب في كفارة الظهار؛ لأن الله تعالى لم يذكره، ولو وجب لذكره، ولأنه من المقادير، والمقادير لا تعرف إلا سماعا، ولأن المذكور كل الواجب؛ لوقوع الفاء في الجواب، أو لكونه كل المذكور.

الرأي الثاني: روي عن الإمام أحمد "رواية أخرى" والشافعية "في الظاهر": أنه يطعم ستين مسكينا ككفارة الظهار والفطر في رمضان، وهذا التقدير وإن لم يكن في هذه الآية التي بينت عقوبة القتل خطأ فقد ذكر ذلك في نظيره، وهوكفارتا الظهار والفطر في رمضان، فيقاس هذا عليهما.

وعلى هذا الرأي إن عجز عن الإطعام أيضا ثبت الإطعام في ذمته حتى يقدر عليه1.

الترجيح: ونرجح الأخذ بالرأي الثاني أخذا بالقياس على كفارتي الظهار والفطر في رمضان؛ لأن في الأخذ به تحقيق المعنى المقصود من شرعية الكفارة، فحيث يتعذر الإعتاق، ويتعذر الصيام، لأي سبب كان من الأسباب المعتد بها شرعا، فحينئذ إما أن تسقط هذه العقوبة، وفي هذا بعد عما قصده المشرع الحكيم من تطبيقها، وإما أن نقيسها على الكفارات الأخرى، وقد نص فيها على أنه إن لم يتمكن فإطعام ستين مسكينا، وحينئذ تنفيذ عليه العقوبة بصورة اعتد بها المشرع الحكيم في جبر جرم آخر ارتكب، خاصة وأن القول بذلك يؤدي إلى إمكان أن يتحمل غير المسلم الكفارة، على الرأي الذي رجحناه فيما تقدم؛ حيث إنه قد لا يتيسر له إعتاق رقبة مؤمنة، ولا يتأتى منه الصيام، فيمكن حينئذ أن نوجب عليه الإطعام كعقوبة مالية، حتى تصبح العقوبة واحدة بالنسبة للجميع.. ويكون من الممكن أداؤها.

1 الزيلعي ج6، ص118، والشرح الكبير للدسوقي ج4، ص254، ومغني المحتاج ج4، ص108، والشرح الكبير لابن قدامة ج10، ص41.

ص: 453