المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: آراء فقهاء القوانين في تحليل القتل العمد ورأي الفقه الإسلامي في هذه الآراء: - الجنايات في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون

[حسن علي الشاذلي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌المقدمات

- ‌الإفتتاحية: افتتاحية الطبعة الثانية

- ‌افتتاحية الطبعة الأولى:

- ‌التمهيد:

- ‌الجريمة والجناية في الفقه الإسلامي:

- ‌الجريمة والجناية في الفقه الوضعي:

- ‌العقوبات:

- ‌الباب الأول: جناية القتل

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: القتل العمد وعقوبته

- ‌المبحث الأول: حقيقة القتل العمد

- ‌المبحث الثاني: أركان الجريمة العمدية في الفقه الإسلامي

- ‌أولاً: أن يكوت الأعتداء واقعًا على آدمي حي

- ‌ثانيا: أن يكون المجني عليه معصوم الدم:

- ‌ثالثا: أن يكون هذا الآدمي معينا:

- ‌رابعًا: أن يكون قصد الجاني ضرب المجني عليه

- ‌خامسا: أن يكون الضرب بقصد العدوان:

- ‌سادسًا: أن يكون الجاني قد أوقع على المجني عليه فعلا قاتلا:

- ‌المبحث الثالث: آراء فقهاء القوانين في تحليل القتل العمد ورأي الفقه الإسلامي في هذه الآراء:

- ‌المبحث الرابع: عقوبة القتل العمد في الفقه الإسلامي

- ‌المطلب الأول: الجزاء الآخروي

- ‌المطلب الثاني: الجزاء الدنيوي:

- ‌المبحث الخامس: عقوبة القتل العمد في القانون:

- ‌الفصل الثاني: القتل شبه العمد وعقوبته

- ‌المبحث الأول: آراء الفقهاء في القول بشبه العمد

- ‌المبحث الثاني: أركان جريمة شبه العمد:

- ‌المبحث الثالث: عقوبة القتل شبه العمد

- ‌المطلب الأول: الجزاء الآخروي

- ‌المطلب الثاني: الجزاء الدنيوي للقتل شبه العمد:

- ‌المطلب الثالث: عقوبة الضرب المفضي إلى الموت في القانون:

- ‌المطلب الرابع: المقارنة بين العقوبتين:

- ‌الفصل الثالث: القتل الخطأ وموجبه

- ‌المبحث الأول: حقيقة القتل الخطأ في الفقه الإسلامي

- ‌المبحث الثاني: أركان الجريمة خطأ:

- ‌المبحث الثالث: عقوبة القتل الخطأ

- ‌مدخل

- ‌النوع الأول: الدية:

- ‌النوع الثاني: الكفارة:

- ‌النوع الثالث: الحرمان من الميراث:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌المبحث الثالث: آراء فقهاء القوانين في تحليل القتل العمد ورأي الفقه الإسلامي في هذه الآراء:

‌المبحث الثالث: آراء فقهاء القوانين في تحليل القتل العمد ورأي الفقه الإسلامي في هذه الآراء:

نعرض بإيجاز تعريف القتل عمدا عند فقهاء القانون، وأركان هذا النوع من القتل1، ونبين أثناء هذا العرض رأي الفقه الإسلامي على ضوء التحليل التفصيلي الذي أوردناه في المبحثين الأول والثاني من هذا الفصل.

تعريف القتل العمد عند فقهاء القانون:

لقد أغفل المشرع المصري تعريف القتل العمد؛ ولكنه نص على عقوبته فقال في المادة "230" ع: "كل من قتل نفسا عمدا مع سبق الإصرار والترصد يعاقب بالإعدام"، وفعل مثل هذا المشرع العراقي مادة 212 ع: "كل من قتل نفسا قصدا مع سبق الإصرار على ذلك يعاقب بالإعدام

"، والمشرعي الليبي مادة 386ع: "كل من قتل نفسا عمدا مع سبق الإصرار على ذلك أو الترصد يعاقب بالإعدام"، والمشرع السوري في المادة 353ع.

ولكن فقهاء القانون عرفوا القتل عمدا بأنه: "القتل المقترن بنية إعدام المجني عليه"، ثم بينوا أركان هذه الجريمة.

1 راجع شرح قانون العقوبات للأستاذ أحمد أمين ص306، وجرائم الاعتداء على الأشخاص للدكتور رءوف عبيد ص14، وتعليقات على قانون العقوبات للأستاذ سيد البغال ص481.

ص: 112

أركان القتل العمد:

جعل فقهاء القانون أركان جريمة العمد ثلاثة:

الأول: أن يكون المجني عليه إنسانا على قيد الحياة.

الثاني: أن يقع القتل بفعل من الجاني من شأنه إحداث الموت.

الثالث: أن يكون الجاني قد قصد إحداث الموت.

الركن الأول: أن يكون المجني عليه إنسانا على قيد الحياة.

وهذا أمر بدهي؛ لأنه لا يتصور القتل إلا إذا كان المجني عليه حيا عند ارتكاب جريمة القتل، فمن أطلق عيارًا ناريًّا على ميت بنية قتله لا يعد قاتلا ولا شارعا في قتله لاستحالة الجريمة.

وقد سبق أن أوضحنا رأي الفقه الإسلامي في ذلك1، وبهذا لا يخرج ما قرره فقهاء القانون عما قرره فقهاء الفقه الإسلامي.

الجناية على الجنين في بطن أمه:

إذا أعدم شخص جنينا في بطن أمه فإنه لا يعد قاتلا بالمعنى المقصود هنا؛ لأن قتله يكون جريمة قائمة بذاتها، وهي جريمة إسقاط الحمل، ويعاقب عليها القانون بعقاب آخر غير عقاب القتل العمد "م260-264ع".

وقد سبق أن بينا2 أيضا أن الجناية على الجنين في الفقه الإسلامي لها عقوبة خاصة غير عقوبة القتل عمدا عند جمهور الفقهاء، وهذا يدل على أن الجناية عليه تختلف عن الجناية على إنسان مولود موجود على ظهر الأرض حيا.

1 راجع ص80.

2 سيأتي بحث هذا النوع من الجريمة.

ص: 113

كما نص شراح القانون على أنه "يعد الاعتداء على الحياة قتلا معاقبا عليه بالمادة 230ع. م مهما كانت جنسية المجني عليه، أو نوعه أو سنه أو حالته الصحية، فلا يقبل من الجاني الاعتذار بأن المجني عليه كان مصابا بمرض قاتل في ذاته، ولا بأنه كان محكوما عليه بالإعدام، ويعد الطبيب قاتلا إذا أعطى مريضه جرعة من السم ليعجل بموته، ويخلصه من أسقام وأوجاع كانت ستؤدي به إلى الوفاة حتما"1.

والفقه الإسلامي يوافق على ذلك في جملته، غير أنه بالنسبة لبعض الأشخاص ذوي الجرائم الخطرة على المجتمع الإسلامي لا يعتبر الفقهاء الجناية عليهم موجبة للقصاص؛ لأن دمهم مستحق، وحياتهم مهدرة، وهؤلاء هم:

الحربيون، وهم الكفار المحاربون لدار الإسلام، والبغاة، وهم الخارجون على طاعة الإمام، والزاني المحصن، والمرتد عن دينه.

وقد سبق أن أوضحنا أن دماء هؤلاء غير معصومة، وبينا النصوص التي أباحت دمهم؛ حماية للدولة من عبث العابثين وإفساد المفسدين، إلا أن الذي له حق الاستيفاء هو الإمام، فإن قتل شخص واحدا من هؤلاء عزر لافتياته على الإمام، وتجاوزه الحد، كما بينا.

أما من استحق القصاص فإن دمه مباح في حق ولي الدم فقط، أما في حق غيره فهو معصوم الدم، فإن قتله شخص غير ولي الدم اقتص منه، وقد بينا هذا آنفا2.

وإن قتله ولي الدم عزر لافتياته على حق الإمام في الاستيفاء.

1 راجع شرح ق. ع للأستاذ أحمد أمين ص307.

2 راجع الركن الثاني من أركان الجريمة العمدية عند الفقهاء.

ص: 114

الركن الثاني: فعل القتل:

الجريمة تستدعي وجود فعل من الجاني من شأنه إحداث الموت، ولا يهم بعد هذا نوع الوسيلة التي استخدمها الجاني لإحداث الموت، كما لا يشترط أن يكون القتل حاصلا بيد الجاني مباشرة، كما لو ضربه بسلاح أو بجسم ثقيل، أو بضربة في مقتل، أو بالخنق، بل يكفي أن يكون الجاني قد أعد وسائل الموت وهيأ أسبابه، حتى ولو بقي الموت بعد ذلك معلقا على حكم الظروف، فيعد قاتلا من يضع للمجني عليه في طعامه مواد قاتلة، ومن يسلط على المجني عليه تيارا من غاز الكربون، ومن يحفر لآخر حفرة في طريقه، ومن يقطع جسرا يعلم أن المجني عليه سيعبره، ومن يرمي غيره في البحر، قاصدا بكل ذلك قتله إذا وقع الموت فعلا1.

وإنما يشترط فقط أن يكون الفعل في ذاته من شأنه إحداث الموت، وأن يكون بين الفعل والموت الحادث رابطة السببية، فإذا لم يكن من شأن الفعل إحداث الموت كان فعل الجاني من قبيل الجرائم المستحيلة ولا عقاب عليه، بل ولا محل لاعتباره شروعا في قتل؛ لأن الشروع لا يعاقب عليه "على الأقل عند أصحاب نظرية الجريمة المستحيلة" إلا إذا كان الفعل من شأنه إحداث الجريمة المقصودة إذا تم التنفيذ، فالذي يصوب سلاحا ناريا فارغا لا يمكن أن يرتكب جريمة القتل، ولا يعاقب على فعله باعتباره شروعا، كذلك لا يعد قاتلا من يستخدم السحر والتعازيم بنية إحداث القتل؛ لأن هذه الوسائل ليس من شأنها في نظر العلم أن تؤدي إلى الموت، ولو مات المجني عليه عقب ذلك مصادفة واتفاقا، بل ولا يعد الجاني في هذه الحالة شارعا في قتل؛ وذلك لأن الجريمة تكون تصورية أو وهمية (Put Atif) لا وجود لها إلا في مخيلة مرتكبها دون أن يحس من عداه بعنصرها المادي المكون لها، والذي لا خطر منه على المجني عليه ولا ضرر.

1 راجع شرح قانون العقوبات للأستاذ أحمد أمين ص308.

ص: 115

وتحديد رابطة السببية التي يشترط وجودها بين فعل الجاني وحادث القتل اختلف فيه شراح القانون في فرنسا وإنجلترا وألمانيا ومصر

، والرأي السائد في مصر وفي فرنسا يميل إلى مساءلة الجاني على نتائج فعله ولو كانت غير مباشرة، وما دامت تلتئم والسير العادي للأمور، وبعبارة أخرى: أنه إذا تداخلت عوامل أجنبية عن فعل الجاني في تحقيق النتيجة التي يعاقب عليها القانون؛ فإنها لا تنقطع علاقة السببية بين فعله والنتيجة إلا إذا كانت شاذة غير متوقعة، ولا تلتئم مع السير العادي لها.

ومن أمثلة العوامل المألوفة التي لا تقطع علاقة السببية مرض المجني عليه أو شيخوخته إو إهماله في العلاج إهمالا عاديا، أو خطأ الجراح خطأ عاديا فيه، ومن أمثلة العوامل الشاذة التي تقطع -على العكس مما تقدم- رابطة السببية بين فعل الجاني ووفاة المجني عليه: إهمال المجني عليه إهمالا فاحشا في حق نفسه، أو امتناعه عن العلاج دون عذر مقبول، أو عدم امتثاله لأمر الطبيب بملازمة الفراش، أو خطأ الجراح خطأ جسيما في معالجته أو وفاته من اصطدام عربة الإسعاف أثناء نقلها إياه، أو من شبوب حريق بالمستشفى الذي نقل إليه، أو من إصابته بمرض معد، أو من اعتداء لاحق عليه غير الاعتداء الأول1.

موقف الفقه الإسلامي مما قرره شراح القانون:

لقد أوضحنا فيما تقدم2 أن الفقهاء يقسمون فعل القتل باعتبار تأثيره تأثيرا مباشرا في إحداث النتيجة أو تأثيره بواسطة إلى قسمين: القتل مباشرة والقتل بسبب، وبينا آراءهم في كل قسم منهما وفي الوسائل المستخدمة، ورجحنا أن كلا منهما مساوٍ للآخرة في الحكم كما هو رأي جمهور الفقهاء.

1 جرائم الاعتداء على الأشخاص للدكتور رءوف عبيد ص36، 37.

2 راجع ص79.

ص: 116

ويمكننا بالمقارنة بين الفقهين أن نقول: إن شراح القانون لم يخرجوا عما نص عليه فقهاء الفقه الإسلامي، فقد قرروا:

1-

أن القتل مباشرة كالقتل بسبب، كل منهما يعتبر قتلا عمدا إذا توافرت في الجريمة الأركان الأخرى، ذلك ما قرره شراح القانون.

2-

أن الوسائل المستخدمة في القتل كلها متساوية ما دامت تقتل عادة، وهذا ما قاله شراح القانون.

3-

أنه لا بد من قيام رابطة السببية بين الفعل والنتيجة، فأما إن كان القتل مباشرة، فقد صرح الفقهاء جميعا بأنه لا بد من اتصال الفعل بالنتيجة -وهي الموت- ولا عبرة في هذه الحالة بطول المدة أو قصرها ما دام تأثير الفعل مستمرا لم ينقطع ببرء أو بفعل آخر يجعل بالنتيجة، فإذا جرحه جرحا فاستمر زمانا ومتألما منه مدة -طالت أم قصرت- حتى مات، كان قاتلا عمدا إذ لم تحدث له علة أخرى غير الجرح؛ لأن العمد لا يختلف مع اتحاد الآلة والفعل بسرعة الإفضاء إلى النتيجة أو إبطائه، ولأن في البدن مقاتل خفية، وهذا له سراية فأشبه الجرح الكبير1، وكذلك لا عبرة بجسامة الفعل أو ضآلته ما دام مثله يقتل هذا الشخص الذي وقع عليه الفعل عادة، فلو ضرب إنسان ضعيفا بيده فقتله، وكانت هذه الضربة لا تقتل الصحيح كان قتلا عمدا، كما نقلنا آنفا عن الشافعية والحنابلة والإمامية2، بل إن الحنابلة صرحوا بعدم سماع دعوى الجاني أنه كان لا يعلم أن هنا الشخص مريض.

1 كما صرح بذلك الحنابلة والإمامية ص26-36، وأيضا نص على ذلك الشافعية فإنهم قد اعتبروا من القتل عمدا ما لو غرز إبرة "مثلا" في مقتل أو غيره وتألم حتى مات. حاشية البرماوي ص380.

2 راجع ص61، 64، 73.

ص: 117

أما إن كان القتل بسبب فقد بينا أن الفقهاء قد اشترطوا ألا يفصل بين الفعل والنتيجة سبب آخر يصح إضافة الحكم إليه؛ كي يكون القتل عمدا موجبا للقصاص، وقد وضحنا بالأمثلة الأفعال التي يمكن أن تقطع الرابطة بين الفعل والنتيجة، والتي لا تقطع1.

وهذا ما نص عليه شراح القانون.

4-

أن يكون الفعل من الأفعال التي تقتل عادة، وقد وضح الفقهاء أنه إذا لم يكن الفعل مما يقتل غالبا وعادة فإنه لا يكون عمدا، وإنما يكون شبه عمد إن كان مما يقتل نادرًا، ومصادفة قدر إن كان لا يعقل كونه قاتلا لا غالبا ولا نادرًا، كما لو ضربه بشيء صغير جدا كالضرب بالقلم أو الإصبع في غير مقتل ونحوه، أو مسه بشيء كبير -مما يقتل غالبا- مسا، ولم يضربه به2.

وما قرره الفقهاء في هذا الشأن لم يخرج عنه شراح القانون إلا في اعتبار السحر عند بعض الفقهاء من الأفعال التي تؤثر في إحداث القتل كما صرح الشافعي والحنابلة فيما تقدم3، ومسألة السحر للعلماء فيها رأيان4:

1 راجع ص11.

2 راجع الفصل الثالث من هذا الباب، الخاص بجريمة شبه العمد، فقد وضحنا فيه أنواع الآلات المستخدمة في القتل وحكم كل نوع منها.

3 راجع ص60، 67.

4 للعلماء رأيان في السحر؛ أحدهما: أن للسحر حقيقة، وأنه تقتدر به النفوس البشرية على التأثير في عالم العناصر، إما بغير معين أو بمعين من الأمور السماوية، وإلى هذا ذهب جمهور من علماء أهل السنة.

الثاني: أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو خداع وتمويه وتخيل، وإلى هذا ذهب المعتزلة وبعض أهل السنة ومنهم أبو جعفر الاستبرابادي من الشافعية، وأبو بكر الرازي من الحنفية، وابن حزم الظاهري، وطائفة من العلماء لمعرفة أدلة الطرفين. يراجع القرطبي ج2، ص46، وأحكام القرآن للجصاص ج1، ص46 ط. أ.

ص: 118

رأي يرى أن له تأثيرا ماديا، ورأي آخر لا يرى السحر إلا خداعا وتمويها وليست له حقيقة، وعلى الرأي الأول إذا تعمد الساحر قتل شخص بسحره، فقد قيل: يقتل حدا؛ لأنه مفسد في الأرض، وقيل: يقتل قصاصا1.

ولكن علينا أن نتساءل بعد ذلك: لو أن شخصا ممن يدعون السحر أثر في إنسان ضعيف الإرادة وهيأ له من الأمور، وجسم له من الخيالات ما يفزعه ويقلقه ويجعله في حالة ذعر دائم حتى قضى عليه، ألا يكون مثل هذا العمل مسئولا عنه صاحبه مسئولية تستوجب معاقبته؟ لا شك أنه مسئول، وما الفرق بين هذا وبين ما نص عليه شراح القانون -أثناء عرضهم لبعض وسائل القتل- أنه يعتبر قاتلا عمدا إذا ألقى نبأ مؤلما بغتة على شيخ مريض بقصد قتله2، أو وضع طفلا صغيرا في حالة ذعر للقضاء عليه؟ لافرق بينهما؛ لأن حالة المجني عليه في كل هذه الصور تسمح بتأثير هذا العمل فيه تأثيرا يحدث هلاكه، إلا أنه يلزمنا أن نثبت العمل المادي الذي قام به الجاني إزاء المجني عليه، وما إذا كان هذا العمل مما يقتل مثل هذا الشخص غالبا، كما إذا كان مريضا بمرض لا يحتمل معه القلق والاضطراب النفسي الذي أحاطه به هذا الساحر! فإذا ثبت هذا كان مسئولا عن عمله مسئولية تستوجب عقابه.

1 راجع كشاف القناع للحنابلة ج3، ص336.

2 راجع جرائم الاعتداء على الأشخاص للدكتور رءوف عبيد ص15.

ص: 119

القتل بالترك:

يختلف شراح القانون في الجريمة التي ترتكب بالترك أو بالامتناع عن القيام بعمل، كما لو امتنعت الأم عمدا عن إرضاع طفلها قاصدة قتله:

الرأي الأول: يذهب فريق من شراح القانون إلى عدم إمكان ارتكاب الجرائم بالترك؛ وذلك لأن الترك عدم، والعدم لا ينشئ إلا العدم، فلا يكن أن يبنى موجود على معدوم، أي أنه لا يمكن أن يكون العدم سببا لنتيجة إيجابية، فالمسئولية والعقاب لا محل لهما في هذه الحالة لانعدام رابطة السببية بين الترك والجريمة الواقعية.

مقارنة هذا الرأي بالفقه الإسلامي:

هذا الرأي يكاد يقترب من رأي الإمام أبي حنيفة في الجريمة بالترك -كما سبق أن أوضحنا1- من حيث إسقاط عقوبة القتل العمد، وهي القصاص فقط؛ لأن القتل تم بسبب آخر غير الترك، فلا يكون الترك قتلا عمدا، ولكن الإمام يجعل العقوبة في مثل ذلك هي التعزير -وهي عقوبة يقدرها القاضي المجتهد بما يناسب الجرم والمرتكب- فضلا عن أنه آثم وله عقابه الأخروي، ومن هنا يفترق هذا الرأي عن رأي الإمام.

والرأي الثاني: يرى شراح القوانين في إنجلترا وألمانيا والكثيرون في فرنسا وبلجيكا أن القتل بالامتناع يعاقب عليه كالقتل بفعل إيجابي سواء بسواء؛ وذلك لأن الترك نفسه يصلح سببا للجريمة؛ لأن الفعل والترك كلاهما من صور الإرادة الإنسانية العاملة، غير أنهم يشترطون لمساءلة الجاني

1 راجع رأي الإمام تفصيلا ص65.

ص: 120

في هذه الحالة أن يكون على الممتنع التزام قانوني أو تعاقدي بالتدخل لإنقاذ المجني عليه، أي أنه يجب أن يكون مكلفا بالعمل بادئ ذي بدء، وأن يكون ما يقع منه من الامتناع أو الترك مخالفا لواجب يقضي به القانون أو اتفاق خاص، فالذي يحبس شخصا بغير حق ويمنع عنه الطعام والشراب قاصدا قتله يعاقب على القتل إذا مات السجين جوعا، وكذلك الأم التي تمتنع عمدا عن تغذية ابنها إلى أن يموت جوعا تعد قاتلة وتعاقب بعقوبة القتل عمدا، والممرضة التي تمتنع عمدا عن العناية بمريضها إلى أن يموت تعتبر قاتلة عمدا، وهكذا.

فالقاتل بالامتناع يعد قاتلا عمدا طالما توافر لديه تصد القتل، ويعد قاتلا بإهمال إذا انتفى ذلك القصد.

أما إذا كان التارك أو الممتنع غير مكلف بالعمل قانونا أو بمقتضى اتفاق، ولا سيما إذا كان العمل يقتضي تضحية أو بذلا من جانب الممتنع، فإنه لا يكون في مثل هذه الحالة محلا للمسئولية والعقاب؛ كالشخص الذي يرى غريقا مشرفا على الهلاك، أو إنسانا تحيط به النار، أو إنسانا مشرفا على الموت جوعا، ولم يتقدم لمعونته، لا يصح اعتباره قاتلا ولو أراد حدوث ذلك؛ لأن القانون لا يمكن أن يفرض على الناس الشجاعة أو الإحسان.

كذلك يكون يكون الحكم ولو لم يقتض العمل تضحية ولا بذلا، كمن يرى منزل جاره يحترق ولا يناوله سلما ليهبط عليه إلى الأرض، ولا يعد قاتلا، ولا يعاقب ولو كان راغبا في احتراق جاره لعداوة بينهما.

وقد رجح الأستاذ أحمد أمين -ومعه كثير من شراح القانون في مصر- هذا الاتجاه غير أنه قيده بشرط أن يكون الشخص الذي وقع منه الامتناع أو الترك هو المحدث الأول لأسباب القتل، أي أن يكون الأمر الذي تسبب

ص: 121

عنه الموت منسوبا إليه وصادرا عن إرادته، أما إذا كان غير صادر عن إرادته، وكل ما ينسب إليه هو امتناعه عن تدارك أمر أو حالة لم يكن له دخل في حلولها فلا محل للمساءلة والعقاب، فالخفير الذي يمتنع عن مساعدة شخص يقتله لصوص على مرأى منه لا يعاقب ولو كان مريدا للنتيجة؛ لكن الواجب معاقبة عامل الإشارات "المحولجي" الذي يمتنع عمدا عن تحويل خط السكة الحديدية قاصدا بذلك إحداث الموت، فينشأ عن امتناعه تصادم يؤدي بحياة المسافرين1.

مقارنة هذا الرأي بالفقه الإسلامي:

لقد سبق أن أوضحنا تفصيلا رأي جمهور الفقهاء في الجريمة بالترك، وبينا مساواتها للجريمة بعمل إيجابي في العقوبة، وبينا الحكم إذا كان الترك يمثل امتناعا عن الوفاء بحق أوجبه الشرع أو أوجبه العقد، أو تقضي به المروءة، كما بينا الفرق بين نظرة الشريعة ونظرة القوانين، فيرجع إليه2.

الركن الثالث: القصد الجنائي؛ وهو وجود نية القتل عند الجاني:

يجعل شراح القانون في مصر من أركان الجريمة عمدا نية القتل عند الجاني؛ إذ إنه بدون هذه النية يختلط القتل العمد مع الضرب المفضي إلى الموت، أو الشروع فيه مع الضرب المفضي إلى عاهة مستديمة، ويكون القصد الجنائي متوافرا ما دام للفاعل قد ارتكب الفعل بنية إحداث الموت لغيره عالما بأن هذا الفعل مميت.

ويستوي في هذا كون القصد محددا، كما لو نوى إزهاق روح شخص

1 راجع شرح قانون العقوبات للأستاذ أحمد أمين ص314.

2 راجع ص105.

ص: 122

معين بالذات، أو غير محدد؛ كإرهابي يلقي قنبلة على قطار قاصدًا قتل من يقتل من راكبيه، أو كون الفعل قد حدث بينة الإضرار به، أو يقصد إراحة القتيل من آلامه، ففي الحالتين يكون القتل عمدا، ولو وقع برضا المجني عليه.

ولا عبرة بالباعث على الجناية، وهو المصلحة التي يبغي الجاني تحقيقها من وراء جنايته، أو الشعور الذي يدفعه إليه؛ إذ يستوي في هذا أن يكون الباعث راقيًا كقتل المجني عليه إنقاذا له من داء قتال، أو كان خبيثا كالطمع في ماله أو الثأر منه، ففي الحالتين يكون القتل عمدا غير أن أثر الباعث إنما يظهر في كونه داعيا من دواعي تخفيف العقوبة أو تشديدها حسب حقيقة هذا الباعث.

إثبات قصد القتل عند شراح القانون:

يقول شراح القانون: إن قصد القتل حالة ذهنية لا تثبت عادة بشهادة الشهود، وإنما تستنتج من القرائن، وبخاصة من الوسيلة المستعملة وكيفية استعمالها ومكان إصابة المجني عليه، وظروف الاعتداء ونفسية الجاني وعلاقته بالمجني عليه ونوع الباعث، إلى غير ذلك من الاعتبارات التي يخضع تقديرها لسلطة قاضي الموضوع، وله فيها القول الفصل دون رفض من محكمة النقض إلا في الحدود العامة التي تراقب فيها المسائل الموضوعية، ومن أحكام القضاء في صدد استنتاج قصد القتل: أن استعمال أداة قاتلة ليس بشرط، فقد يثبت قصد القتل رغم استعمال أداة غير قاتلة بطبيعتها كعصا مثلا، إذا استعملت بطريقة تقطع بوجوده كما إذا كرر الجاني الضربات على الرأس حتى تهشمت.

وقد يستفاد قصد القتل لدى الجاني، ولو لم يستعمل سلاحا ما، إذا

ص: 123

ارتكب القتل بطريق الخنق أو الضغط باليد أو الرجل على جسم المجني عليه، ولا يشترط أن تكون الإصابة في مقتل ما دام من الثابت أن الوفاة ترجع إلى الإصابات التي أحدثها الجاني متعمدا1.

مقارنة هذا الرأي بما يراه الفقه الإسلامي:

إذا تتبعنا آراء فقهاء الفقه الإسلامي في كون القصد الجنائي "وهو وجود نية القتل عند الجاني" ركنا من أركان القتل عمدا، نجد أنهم يفرقون بين أمرين رئيسين: أن يقصد وقوع الضرر بالمجني عليه ظلما وعدوانا، أو يقصد التأديب أو اللعب، وفي كل إما أن يستعمل آلة تؤدي إلى القتل غالبا، أو نادرا، ونوضح آراء الفقهاء في كل حالة:

قصد الضرر بآلة تقتل غالبا:

إذا قصد الجاني إيقاع الضرر بالمجني عليه بآلة تقتل غالبا، فإن للفقهاء رأيين في اشتراط قصد القتل:

الرأي الأول: هو رأي جمهور الفقهاء2 أنه لا يشترط عند استعمال آلة تقتل قطعا أو غالبا وجود نية القتل لكي يكون القتل عمدا، بل يكفي فقط مع هذا وجود قصد الضرب عدوانا، سواء قصد القتل أم لم يقصده.

1 الجرائم على الأشخاص الدكتور رءوف عبيد ص36، وراجع شرح قانون العقوبات للأستاذ سيد البغال ص484.

2 تقدم شرح آراء الفقهاء تفصيلا في اشتراط قصد الضرب عدوانا.

ص: 124

ولا يحتاج إثبات الجريمة عمدا في هذه الحالة إلى البحث عن نية القاتل، هل قصد القتل أم لم يقصده؟ لأن قصد الضرب بآلة كهذه يكون دليلا واضحا وظاهرا على قصد القتل، ومثل هذا الدليل يغنينا عن البحث عن نيته؛ لأنها أمر باطني يصعب الوصول إليه، وإذا كان كذلك كانت القرينة الظاهرة والواضحة -وهي استعمال آلة تقتل قطعا أو غالبا- كافية في إثبات القتل عمدا.

وهذا يقربنا من القول بأن الفقه الإسلامي يرى أنه ما دامت النتيجة "وهي القتل" غالبة الوقوع بقرينة استعمال الآلة التي تقتل غالبا، فحينئذ يكون الجاني قاتلا عمدا، ولا يقبل منه الاعتذار بأنه لم يكن يريد القتل أولم يكن يتوقعه؛ لأنه يكون من واجبه حينئذ أن يتوقع هذه النتيجة، فإذا قصر في ذلك، فلا يمنع تقصيره من تحمله النتيجة التي وقعت كما لو كان قد أرادها فعلا.

وهذا ما فسر به شراح القانون نظرية القصد الاحتمالي.

وهذا الرأي وإن كان لا يشترط مع وجود الآلة القاتلة عادة التعرف على وجود قصد القتل، وإنما يكتفى بوجود قصد الضرر بالمجني عليه، فإنه بذلك يضع حدا للجرائم التي ترتكب بمثل هذه الآلات؛ لأنها لا يقصد بها عادة غير إيقاع الموت بالشخص، ومن هنا اكتفى الفقهاء بالنظر إلى حقيقة الآلة المستعملة في القتل دون التصريح باشتراط القتل؛ إذ إن نوع الآلة المستخدمة كشف عن قصده وإرادته.

والقول بهذا ليس تسرعا في سفك دم آخر، ولكنه حماية لأرواح كثيرة قد تزهق بمثل هذه الآلات مع ادعاء عدم قصد القتل، وصدق الله تعالى إذ يقول:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} فإن الحياة ستكتب لكثيرين

ص: 125

من أفراد المجتمع بنبذ مثل هذه الجرائم التي تتم بآلات قاتلة غالبا، والبعد عنها خوفا من عقوبة القصاص، ويقرب من هذا الرأي القانون الإنجليزي؛ لأن هذا القانون يأخذ بنظرية القصد الاحتمالي ولا يشترط في القتل العمد "MuRpeR" توفر إرادة القتل عند القاتل؛ بل يعتبر محدث القتل قاتلا عمدا متى كان يعلم، أو كان في استطاعته أن يعلم أن فعله يمكن أن يترتب عليه الموت، بغض النظر عما إذا كان قد أراد هذه النتيجة أو لم يردها في الواقع.

وبهذا الرأي أخذ قانون العقوبات السوداني إذا جاء بالمادة "227" منه ما يأتي: "القتل الجنائي يكون قتلا عمدا إذا حصل الفعل الذي تسبب عنه الموت بقصد تسبب الموت، أو إذا علم فاعل الفعل، أو كان له داع أن يعلم أن الموت ربما يكون النتيجة المحتملة للفعل، أو لأي ضرر جسدي كان القصد أن يسببه الفعل"1.

الرأي الثاني:

"وهو رأي الكاساني من الحنفية، والماوردي من الشافعية، وأبي يعلى من الحنابلة" يرى أنه لا بد أن يكون الجاني قد قصد القتل بما يقتل غالبا حتى يكون القتل عمدا، فإن لم يقصد القتل لا تكون الجريمة عمدا.

وهذا الرأي أخذ به شراح القانون في مصر؛ حيث قالوا بضرورة وجود نية القتل عند الجاني، فإذا لم توجد هذه النية، لا يكون القتل عمدا، وإنما يكون القتل شبه عمد، أو ضربا أفضى إلى

1 راجع شرح قانون العقوبات للأستاذ أحمد أمين ص319.

ص: 126

الموت عند شراح القانون، وإن كان القانون يأخذ في بعض الجرائم بالنظرية الأولى؛ ولكن هذا على سبيل الاستثناء وبنص صريح.

قصد الضرر بآلة تؤدي إلى القتل نادرًا:

أما إذا استعمل الجاني آلة لا تؤدي إلى القتل عادة كعصا صغيرة أو حجر صغير، فإن القرينة الظاهرة والواضحة وضوحا تاما أنه لم يكن يريد القتل؛ لأن مثل هذه الآلة لا تستعمل عادة لإحداث القتل، فالقرينة الظاهرة التي تثبت وجود نية القتل غير متوفرة.

ولذلك اختلف الفقهاء في تكييف الجناية التي تتم بمثل هذه الآلة هل هي عمد أو شبه عمد؟ وإذا كانت عمدا فهل يشترط فيها وجود قصد القتل أم لا؟ إلى ثلاثة آراء:

الرأي الأول: "هو رأي المالكية والظاهرية والإباضية" أن القتل بمثل هذه الآلة يكون عمدا إذا قصد ضربه عدوانا، سواء قصد القتل أو لم يقصده، فلا يشترطون قصد القتل لكي تكون الجريمة عمدا، سواء كانت الآلة مما يقتل غالبا أو نادرًا.

ولعل هذا الرأي مبني على سد الذارئع؛ حتى لا ينتشر بين الناس الاعتداء والقتل بمثل هذه الأفعال التي لا تؤدي إلى القتل إلا نادرًا، ما دام الجاني سيفلت من القصاص إذا قتل بمثل ذلك.

الرأي الثاني: "وهو رأي الزيدية والإمامية" أنه إذا قتل الجاني المجني عليه بآلة تقتل مثله نادرًا، فإنه لا يكون القتل عمدا إلا إذا اقترن ذلك بقصد القتل.

ص: 127

وذلك لأن هذه الآلة نادرا ما تقتل المجني عليه، فإذا ترتب عليها القتل كان لا بد من توافر دليل آخر يفيد أنه قصد القتل بها؛ لأن مثلها يتقاصر عن إثبات القتل عمدا.

الرأي الثالث: "وهو الحنفية والشافعية والحنابلة" يرى هؤلاء الفقهاء أن الجاني إذا ارتكب بمثل هذه الآلة جنايته تكون شبه عمد، ولا عبرة بقصد القتل أو عدمه؛ لأن هذه الآلة نادرا ما تؤدي إلى القتل، وبمثلها يتقاصر معنى العمدية ولا يتكامل، ومن ثم تكون الجناية شبه عمد، وأيضا فإن استعمال مثل هذه الآلة يورث شبهة في إثبات قصد القتل والحدود تدرأ بالشبهات، والقصاص كذلك.

غير أنه إذا اقترن استعمال هذه الآلة ظروف آخرى جعلتها تكشف عن قصد الجاني قتل المجني عليه، فإن الجناية تكون في هذه الحالة عمدا.

ومن هذه الظروف ما لو كرر الضرب بالعصا الصغيرة، أو وضعها في مقتل كعين أو أذن أو فرج، وبشرط ألا يشتد الألم منها ويبقى إلى الموت، وألا يجرحه بها ثم يسري الجرح حتى الموت.

وكذا يعتبر عمدا إذا كان المجني عليه مريضا أو صغيرا لا يحتمل مثل هذه الآلة، أو كان الجو حارا أو باردا مما يعين على الهلاك بمثلها -كما سبق أن أوضحنا هذا تفصيلا1- وبهذا يتقارب الرأي الثاني والثالث؛ لأن توافر قصد القتل غالبا ما يكون بمثل هذه القرائن التي ذكرت.

1 راجع المبحث "سادسا" من أركان الجريمة العمد في الفقه الإسلامي.

ص: 128

قصد التأديب بآلة تقتل غالبا أو نادرا:

سبق أن بينا آراء الفقهاء تفصيلا في التأديب الذي يؤدي إلى القتل1، وقلنا: إنه إن تم بآلة تستخدم عادة في التأديب كان القتل شبه عمد عند جمهور الفقهاء، بشرط ألا يتجاوز حدود المألوف في التأديب، أما إذا تجاوز ذلك كما لو كرر الضربات، أو وضع هذه الآلة في مقتل، فإن القتل حينئذ يكون عمدا، وإن تم التأديب بآلة تقتل قطعا أو غالبا كان قتلا عمدا؛ لأن استعمال هذه الآلة قرينة ظاهرة على إرادته القتل تنفي الادعاء بأنه لم يرد القتل. وسبق أن ذكرنا أن رأيا في الفقه الإسلامي يشترط مع استعمال الآلة القاتلة قطعا أو غالبا توافر قصد القتل2.

الحيدة في الهدف والخطأ في الشخصية:

والحيدة في الهدف يفسرها شراح القانون بأن يعمد الجاني إلى قتل زيد من الناس، فيخطئه ويصيب بكرا الذي يقف إلى جواره.

وأما الخطأ في شخصية المجني عليه، فهو أن يعمد الجاني إلى قتل زيد فيخطئ في شخصيته ويصيب بكرا باعتبار أنه هو المقصود بالقتل؛ نظرا إلى حالة الظلام أو للتشابه بينهما.

والصورة الأولى تفترض وجود شخصين أمام الجاني، وأما الثانية فتفترض وجود شخص واحد فقط.

وإجماع الفقه والقضاء3 على أن الحيدة عن الهدف والخطأ في

1 راجع ص92.

2 راجع ص77.

3 الجرائم على الأشخاص للدكتور رءوف عبيد ص30.

ص: 129

الشخصية أمران لا تأثير لهما على مسئولية الجاني بوصفه قاتلا للشخص الذي أصابه الفعل إذا مات، أو شارعا في قتله إذا نجا من الموت؛ وذلك لأن هذا الخطأ في صورتيه لا ينفي توافر جميع أركان القتل العمد: من فعل ومحل وقصد جنائي، ولا أهمية بعد ذلك في نظر القانون لأن يكون القتيل يدعى بكرا من الناس أو زيدا، ودون حاجة إلا الاستعانة بنظرية القصد الاحتمالي.

مقارنة هذا الرأي بما يراه الفقه الإسلامي:

وقد بينا في البند "ثالثا"1 من أركان الجريمة العمدية في الفقه الإسلامي أن من أركان هذه الجريمة أن يقصد إنسانا معينا، وهو رأي جمهور الفقهاء، خلافا للمالكية في القتل مباشرة، وبعض الشافعية وبعض الحنابلة، الذين يرون أنها تكون عمدا؛ لأن الشخص الجاني قد قصد قتل آدمي معصوم الدم، ولا يهم بعد هذا أن يكون المراد بالحنابلة عمرا؛ ولكنه أخطأ وأصاب خالدا، سواء كان هذه لظلام لم يتبين منه المراد قتله أو لخطأ في التوجيه.

ويجب أن يكون في اعتبارنا أن الفقه الإسلامي حين يقضي بأن هذه الجريمة يست عمدا، فإن معنى هذا سقوط القصاص؛ ولكن تجب الدية في القتل شبه العمد والخطأ، وكذلك الكفارة كما سيأتي إيضاحه تفصيلا فيما بعد، فضلا عن العقاب الأخروي والتعزير.

1 راجع ص86.

ص: 130

الباعث على الجناية:

أما الباعث على الجناية هو المصلحة التي يبغي الجاني تحقيقها من وراء جنايته، أو الشعور الذي يدفعه إليها، فإنا نبين هنا مرتبة الباعث في العملية الإرادية التي تبدأ بالعلم وتنتهي بالعمل، ثم أثر هذا الباعث على الأعمال جميعها من طاعات، أو مباحات، أو معاص، وأخيرًا نبين أثر الباعث على العقوبات.

أ- مرتبة الباعث في العملية الإرادية:

وأقصد بالعملية الإرادية الحالة العقلية أو القلبية السابقة والمصاحبة للتعبير عن إرادة الإنسان بأي مظهر من مظاهر هذا التعبير: قول أو فعل، حركة أو سكون، فالعملية الإرادية عملية باطنية لا تنكشف حقيقتها إلا إذا تجسمت في صورة محسوسة ملموسة، ولا تناط الأحكام الشرعية إلا بالأمور الظاهرة المنضبطة، ومن ثم لم يعاقب من هم بسيئة ولم يفعلها، بل كتبت له حسنة؛ جزاء نزوعه عن الشر وعدم إقدامه عليه.

والنية والإرادة والقصد عبارات متواردة على معنى واحد، وهو حالة وصفة للقلب، يكتنفها أمران: علم وعمل، العلم يقدمه؛ لأنه أصله وشرطه، والعمل يتبعه؛ لأنه ثمرته وفرعه؛ وذلك لأن كل عمل -أعني كل حركة وسكون- اختياري، فإنه لا يتم إلا بثلاثة أمور: علم، وإرادة، وقدرة؛ لأنه لا يريد الإنسان ما لا يعلمه، فلا بد وأن يعلم، ولا يعمل ما لم يرد، فلا بد من إرادة، ومعنى الإرادة: انبعاث القلب إلى ما يراه موافقا للغرض إما في الحال أو في المآل، فقد خلق الإنسان بحيث يوافقه بعض الأمور، ويلائم غرضه، ويخالفه بعض الأمور، فيحتاج إلى جلب الملائم الموافق إلى نفسه، ودفع الضار المنافي عن نفسه، فافتقر بالضرورة إلى معرفة وإدراك

ص: 131

الشيء المضر والنافع حتى يجلب هذا ويهرب هذا

فخلق الله الهداية والمعرفة وجعل لها أسبابا، وهي الحواس الظاهرة والباطنة.

فلو أبصر الإنسان الغذاء، وعرف أنه موافق له، فلا يكفيه ذلك للتناول ما لم يكن فيه ميل ورغبة فيه، وشهوة له، باعثة عليه؛ إذ المريض يرى الغذاء ويعلم أنه موافق، ولا يمكنه التناول لعدم الرغبة والميل، ولفقد المداعية المحركة إليه فخلق الله تعالى الميل والرغبة والإرادة -وأعني به نزوعا في نفسه إليه وتوجها في قلبه إليه- ثم ذلك لا يكفيه، فكم من مشاهد طعاما راغب فيه مريد تناوله عاجز عنه لكونه زمنا عاجزا، فخلقت له القدرة والأعضاء المتحركة حتى يتم به التناول، لا يتحرك إلا بالقدرة، والقدرة تنتظر الداعية الباعثة، والداعية تنتظر العلم والمعرفة، أو الظن والاعتقاد، وهو أن يقوي في نفسه كون الشيء موافقا له، فإذا جزمت المعرفة بأن الشيء موافق ولا بد وأن يفعل، وسلمت عن معارضة باعث آخر صارف عنه انبعثت الإرادة وتحقق الميل، فإذا انبعثت الإرادة وانتهضت القدرة لتحريك الأعضاء، فالقدرة خادمة الإرادة، والإرادة تابعة لحكم الاعتقاد والمعرفة.

فالنية عبارة عن الصفة المتوسطة، وهي الإرادة وانبعاث النفس بحكم الرغبة والميل إلى ما هو موافق للغرض، إما في الحال وإما في المال.

فالمحرك الأول هو الغرض المطلوب، وهو الباعث، والغرض الباعث هو المقصد المنوي، والانبعاث هو القصد والنية، وانتهاض القدرة لخدمة الإرادة بتحريك الأعضاء هو العمل، أو بعبارة أخرى: الباعث هو الغرض المطلوب تحقيقه أو المقصد المنوي، والانبعاث هو القصد والنية بعد جزم المعرفة بأن الشيء موافق ولا بد وأن يفعل، والعمل وهو انتهاض القدرة لخدمة الإرادة بتحريك الأعضاء، والعمل يقترن به الحساب.

ص: 132

ب- أقسام الأعمال وأثر النية فيها:

إن الأعمال وإن انقسمت أقساما كثيرة من فعل وقول وحركة وسكون وجلب ودفع وفكر وذكر، وغير ذلك مما لا يتصور إحصاؤه واستقصاؤه، فهي ثلاثة أقسام: طاعات ومعاص ومباحات؛ أما القسم الأول وهو المعاصي: وهي لا تتغير عن موضعها بالنية، فلا ينبغي أن يفهم الجاهل ذلك من عموم قوله عليه السلام:"إنما الأعمال بالنيات"، فيظن أن المعصية تنقلب طاعة بالنية كالذي يغتاب إنسانا مراعاة لقلب غيره، أو يطعم فقيرا من مال غيره، أو يبني مدرسة أو مسجدا أو رباطا بمال حرام وقصده الخير فهذا كله جهل، والنية لا تؤثر في إخراجه عن كونه ظلما وعدوانا ومعصية؛ بل قصده الخير بالشر على خلاف مقتضى الشرع شر آخر، فإن عرفه فهو معاند للشرع، وإن جهله فهو عاص بجهله؛ إذ "طلب العلم فريضة على كل مسلم"، والخيرات إنما يعرف كونها خيرات بالشرع، فيكف يمكن أن يكون الشر خيرا!! هيهات!!

القسم الثاني: الطاعات، وهي مرتبطة بالنيات في أصل صحتها، وفي تضاعف فضلها، أما الأصل فهي أن ينوي بها طاعة الله لا غير، فإن نوى الرياء صارت معصية، وأما تضاعف الفضل فبكثرة النيات الحسنة، فإن الطاعة الواحدة يمكن أن ينوي بها خيرات كثيرة، فيكون له بكل نية ثواب.

القسم الثالث: المباحات وما من شيء من المباحات إلا ويحتمل نية أو نيات يصير بها من محاسن القربات.. هذا في مباح محض لا يشوبه كراهة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "حلالها حساب وحرامها عقاب"1

1 إحياء علوم الدين للغزالي ج4، ص461 وما بعدها.

ص: 133

ج- أثر الباعث على الجناية:

لا أثر للباعث في إسقاط القصاص الواجب في التمثل العمد أو تحفيفه في الفقه الإسلامي، فإذا وقع القتل عدوانا وظلما على الوجه الذي بيناه كان الباعث عليه راقيا، كالطبيب الذي يشفق على مريض يعرف أنه ميت حتما ويريد ألا يطيل فترة آلامه فيقتله، أو كان الباعث خبيثا "كالذي يقتل غيره" حقدا وكرها أو عداوة وغضبا.. كلا الاثنين يعتبر قاتلا عمدا ما دامت شروط هذا القتل قد توافرت فيه.

وكذلك لا أثر له في الحدود؛ لأنها عقوبة مقدرة شرعا، ويجب تطبيقها كما وجبت عند استيفاء شروطها، ولا يملك قاض أو غيره أن يخففها أو يسقطها إلا بما فتحه المشرع من أبواب يتحقق فيها ذلك، وليس من بينها الباعث على ارتكابها.

ويمكن أن يعتد بالباعث والغاية في عقوبة التعزير؛ لأنها عقوبة ترك تقديرها للإمام على ضوء حالة الجاني، وظروف الجناية، والباعث على ارتكابها، وما تحققه العقوبة من ردع وزجر، سواء وجب التعزير في جناية لها حد مقرر لم يستوف شروطه، أو في جناية على النفس عمدا في حالة سقوط القصاص بسب عفو أو غيره.

فتقدير هذه العقوبة يمكن أن يؤثر فيه الباعث على الجناية كما وكيفا، بخلاف العقوبات المحددة من قبل الشرع.

ومسلك الفقه الإسلامي في هذا الاتجاه هو مسلك فريد؛ حيث إنه

ص: 134

جعل بعض الجرائم الخطرة على المجتمع غير خاضعة للتغيير أو التبديل، أوالزيادة أو النقصان لرقي باعث أو خبثه؛ حفظا لمقومات حياتهم، وتحقيقا لمصالحهم، ومن حفظ دين أو نفس أو مال أو عرض أو عقل، كما جعل بعض الجرائم غير الخطرة على المجتمع قابلة للتأثر بالباعث على ارتكاب الجريمة، زيادة أو نقصانا؛ لأن آثارها على المجتمع أخف وطأة وأقل تأثيرا.

أما القوانين الوضعية فبعضها يجعل البواعث من الظروف القضائية، فيجيز للقاضي أن يقدر العقوبة الملائمة من بين الحدين الأعلى والأدنى المنصوص عليهما للعقوبة، وله في كثير من الأحوال أن يختار إحدى العقوبتين، فيقدر كمها طبقا لما يرى أن الجاني يستحقه، مراعيا في تقديره ظروف الجريمة والمجرم والبواعث التي دفعت لارتكابها، فيخفف العقوبة إذا رأى الجاني يستحق التخفيف، ويغلظها إذا رآه يستحق التغليظ، وبهذا يكون للباعث أثره العملي على العقوبة، وهذه هي طريقة القانون الفرنسي والقانون المصري.

وهناك بعض القوانين التي تجعل البواعث من الأعذار القانونية كالقانون الإيطالي واليوناني والإسباني، فتجعل من الباعث ظرفا مخففا أو مشددا للعقوبة، ويلزم القاضي مراعاة هذا الباعث عند تقدير العقوبة، وهذه القوانين وإن كانت تعترف بأن للباعث أثرا قانونيا على العقوبة إلا أنها من الوجهة العملية لا تصل إلى أكثر من النتائج التي تصل إليها القوانين التي لا تعترف بالباعث من الوجهة النظرية؛ لأن القاضي لا يستطيع عملا أن يتخلى دائما عن تقدير العقوبة، سواء اعتبر الشارع البواعث أو لم يعتبرها.

وكل ما يعيب هذه الاتجاهات القانونية أنها سوت بين جميع الجرائم،

ص: 135

فكلها خاضعة لاعتبار الباعث إما من الناحية العملية أو الناحية القانونية، أو من ناحية تكييف الجريمة.. ويترتب على هذه الاتجاهات ضياع المصلحة العامة وإهدار الأمن.. أما الفقه الإسلامي فقد أغلق هذا الباب في الجرائم الخطرة، وفتحه في الجرائم غير الخطرة، وجعل تطبيقه منوطا بالمصلحة، فما تقتضيه المصلحة العامة يجب على القاضي أن يقرره كما وكيفا، فالقاضي له حرية الاختيار في ذلك، إلا أنه ملزم بما يحقق مصالح الناس، ويدفع الشرور عنهم.

ص: 136