المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العقوبات: العقوبة لغة: هي ما وقع من جزاء على ذنب ارتكبه - الجنايات في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون

[حسن علي الشاذلي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌المقدمات

- ‌الإفتتاحية: افتتاحية الطبعة الثانية

- ‌افتتاحية الطبعة الأولى:

- ‌التمهيد:

- ‌الجريمة والجناية في الفقه الإسلامي:

- ‌الجريمة والجناية في الفقه الوضعي:

- ‌العقوبات:

- ‌الباب الأول: جناية القتل

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: القتل العمد وعقوبته

- ‌المبحث الأول: حقيقة القتل العمد

- ‌المبحث الثاني: أركان الجريمة العمدية في الفقه الإسلامي

- ‌أولاً: أن يكوت الأعتداء واقعًا على آدمي حي

- ‌ثانيا: أن يكون المجني عليه معصوم الدم:

- ‌ثالثا: أن يكون هذا الآدمي معينا:

- ‌رابعًا: أن يكون قصد الجاني ضرب المجني عليه

- ‌خامسا: أن يكون الضرب بقصد العدوان:

- ‌سادسًا: أن يكون الجاني قد أوقع على المجني عليه فعلا قاتلا:

- ‌المبحث الثالث: آراء فقهاء القوانين في تحليل القتل العمد ورأي الفقه الإسلامي في هذه الآراء:

- ‌المبحث الرابع: عقوبة القتل العمد في الفقه الإسلامي

- ‌المطلب الأول: الجزاء الآخروي

- ‌المطلب الثاني: الجزاء الدنيوي:

- ‌المبحث الخامس: عقوبة القتل العمد في القانون:

- ‌الفصل الثاني: القتل شبه العمد وعقوبته

- ‌المبحث الأول: آراء الفقهاء في القول بشبه العمد

- ‌المبحث الثاني: أركان جريمة شبه العمد:

- ‌المبحث الثالث: عقوبة القتل شبه العمد

- ‌المطلب الأول: الجزاء الآخروي

- ‌المطلب الثاني: الجزاء الدنيوي للقتل شبه العمد:

- ‌المطلب الثالث: عقوبة الضرب المفضي إلى الموت في القانون:

- ‌المطلب الرابع: المقارنة بين العقوبتين:

- ‌الفصل الثالث: القتل الخطأ وموجبه

- ‌المبحث الأول: حقيقة القتل الخطأ في الفقه الإسلامي

- ‌المبحث الثاني: أركان الجريمة خطأ:

- ‌المبحث الثالث: عقوبة القتل الخطأ

- ‌مدخل

- ‌النوع الأول: الدية:

- ‌النوع الثاني: الكفارة:

- ‌النوع الثالث: الحرمان من الميراث:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌ ‌العقوبات: العقوبة لغة: هي ما وقع من جزاء على ذنب ارتكبه

‌العقوبات:

العقوبة لغة: هي ما وقع من جزاء على ذنب ارتكبه الإنسان.

ولعل الوجه في تسميتها بهذا الاسم أنها تعقب اقتراف الإثم وتتلوه.

وقد يطلق على العقوبة أنها الجزاء، فيقال: جزى فلان فلانا بما صنع، ويجزيه جزاء، ويقال: جازاه أيضا، إلا أن الجزاء قد يكون على الخير وقد يكون على الشر، أما العقوبة فلا تكون إلا على فعل محظور.

فالعقوبة في اصطلاح الفقهاء: هي الجزاء الذي قرره الشرع لمصلحة الناس على عصيان شرعه.

وتشريع العقوبات وإقامتها أمر توجبه مصلحة الأفراد والجماعات؛ لأن جميع البشر لا يختلفون في ضرورة وجودها، القوى منهم والضعيف، السيد منهم والمسود؛ لأنها حماية لهم من انتشار الفساد، وسد لأبواب المضار، ففي تشريعها جلب للمنافع، ودفع للمضار.

فمفاسد القتل عدوانا لا يمكن حدها، ولا حصر نتائجها، من إزهاق روح؛ بل قد تتلوها أوراح، وضياع عائل ومعول، وذهاب حلقة من حلقات الفكر، أو الرأي، أو التطور المنوط بالبشر، وهدم للأمن والاستقرار.

ومفاسد الزنا من ضياع الذرية وإماتتها معنى بسبب اشتباه النسب

، ومفاسد الشرب من زوال العقل، وإفساد الأعراض، وضياع الأموال والأهل والذرية

، ومفاسد أخذ المال عدوانا ضياع لجهد العاملين، وتقويض لآمالهم في إسعاد أنفسهم وغيرهم.

ص: 29

وقبح هذه الأمور جمعيها مستقر في العقول والفطر السليمة؛ ولذا لم تبح الأنفس والأديان والأموال والأعراض وزوال العقول في ملة من الملل؛ بل الكل أجمع على تحريمها، وقرر العقوبة على من يقترف شيئا من ذلك.

وقد جاءت الشريعة الإسلامية بتقرير العقوبة على من ينتهك حرمات الله، ويتجاوز حدوده.

وحكمة تشريعها -كما ينقل الكمال بن الهمام عن بعض مشايخه- "أنها موانع قبل الفعل زواجر بعده" أي: أن العلم بشرعية العقوبة يمنع الإقدام على الفعل المحظور، وإيقاع العقوبة بعد ارتكاب المحظور "يمنع من العود إليه".

ولذلك حث الرسول صلى الله عليه وسلم على إقامتها فقال: "حد يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحًا"1.

وروي عن ابن عباس مرفوعا بلفظ: "وحد يقام في الأرض بحقه أزكى من مطر أربعين صباحا"2.

وقد سبق أن بينا أنواع العقوبات في الفقه الإسلامي، وأشرنا إلى سبب تميز بعضها عن بعض، ويجمل بنا هنا أن نبين الأسس العامة التي تقوم عليها العقوبة في الفقه الإسلامي:

1 رواه ابن ماجه والنسائي عن أبي هريرة.

2 رواه الطبراني في الأوسط، وقد تأيد ما في الحديثين بما ورد في الصحيحين من قصة المخزومية التي سرقت، وأرادوا الشفاعة لها.

ص: 30

الأسس العامة التي تقوم عليها العقوبة:

أولا: تطبيق الحدود الشرعية يحقق مصالح الناس:

تبين لنا مما سبق أن الحدود إنما شرعت لتصون للناس وتحفظ عليهم دينهم ونفوسهم وأعراضهم وعقولهم وأموالهم؛ أي: لتحفظ عليهم مقومات حياتهم، ودعائم إنسانيتهم، والركائز الأساسية لتحقيق أمنهم، واستقرار مسيرة حياتهم، وتهيئة الجو الملائم لأعمال فكرهم، وإزكاء عوامل التقدم والتطور بين أفرادهم وجماعاتهم، وكل ذلك إنما يتحقق بإبعاد شبح الجريمة والمجرمين عنهم.

فإن البشرية بطبائعها وغرائزها وشهواتها وانفاعلاتها وعواطفها -مائلة إلى قضاء الشهوة واقتناص الملذات، وتحصيل مقصودها، وكل محبب لديها من ال شرب، والزنا، والتشفي بالقتل، وأخذ مال الغير، والاستطالة على الآخرين بالسب والشتم والضرب، وبخاصة من القوي على الضعيف، ومن العالي على من دونه، فاقتضت الحكمة شرع هذه العقوبات حسما لمادة الفساد، وزجرا عن ارتكابه؛ ليبقى العالم على نظم الاستقامة، وعلى المنهج السوي؛ لأن إخلاء العالم عن إقامة الزواجر يؤدي إلى انحرافه واختلاله، وفيه من الفساد ما لا يخفى على عاقل مدرك.

وكان من الضروري أن يكون شرع هذه العقوبات من الخالق جل شأنه؛ لأنه العالم بمن خلق، الخبير لما يكتنف مخلوقه من صفات، وما يؤثر فيه من عوامل متعددة، المحيط بما يؤثر تأثيرا فعالا في مخلوقه، فيبعده عن ارتكاب ما لا يحل، واقتراف ما لا يرضى.

وإذا كانت هذه التشريعات صادرة من العليم الخبير، كانت علاجا حاسما وداء شافيا لكل نفس مريضة.

ومع ذلك فقد نبه المشرع الحكيم إلى حكمة تشريع هذه العقوبات

ص: 31

وما يعود على الخلق من منافع من تطبيقها، ففي بيان الحكمة من شرعية القصاص يقول الله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، فالقصاص في الظاهر موت للجاني؛ لكنه في الحقيقة والواقع أحياء لأنفس كثيرة بعد ذلك، ولا اعتداد بالجزء إذا ترتب عليه فساد الجسم كله.

وفي بيان الحكمة من تحريم الخمر والميسر يقوله الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} 1، وآثار العداوة والبغضاء على المجتمع لا يمكن حدها ولا حصرها؛ ولذلك سميت الخمر "أم الخبائث".

كما أن الله عز وجل بعد أن بين عقبة الزنا والقذف يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 2.

فقد بين أن من اتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر، والعقل والشرع لا يقبل أن يأمر إنسان بذلك، فيجب الابتعاد عنه.

وإذا كانت هذه الحدود الشرعية محققة لمصالح الأفراد والجماعات كان من الواجب إقامتها، حتى لا يهلك الجميع، مصداقًا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم:"مثل القائم في حدود الله، والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا" رواه البخاري والترمذي.

1 الآية 91 من سورة المائدة.

2 الآية 21 من سورة النور.

ص: 32

ثانيًا: عدالة العقوبة في التشريع الإسلامي:

لقد برزت العدالة في أجلى صورها في تقرير العقوبة، وفي تطبيقها، أما العدالة في تقرير العقوبة:

فإنك تلحظها في القصاص؛ إذ إنه يقضي بأن يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه، وذلك قمة العدالة، ومثل ذلك في إتلاف الأموال {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} .

وفي حد الزنا عدالة، فإن الزنا إهدار النطفة وهدم لبنيان الأسرة، وإخلال بالأنساب، وتقويض للروابط الاجتماعية والحقوقية، وكل ذلك هدم لنظام المجتمع الاجتماعي والتشريعي، فكان الزنا قتلا معنى، فناسب ذلك أن تكون عقوبته للمحصن الرجم؛ لأنه ما كملت نعمته كلمت عقوبته، ولغير المحصن الجلد؛ لأنه لما قصرت نعمته قصرت عقوبته، وتلك عدالة تامة.

وفي حد السرقة عدالة؛ لأن المال هو بمثابة اليد العاملة في حياتنا، وبه قوام الحياة والقدرة على النهوض بأعبائها فأخذه ظلما هو اجتثاث لهذه اليد وتلك القدرة، فكان جزاؤه من جنس العمل، وهو قطع يده، واجتثاث قدرته، وبخاصة أن السرقة قد تمت غالبا بواسطتها.

وحد الحرابة فيه عدالة؛ لأن تنوع عقوبة المحاربة يوحي بأن لكل جناية ما يقابلها من العقاب حتى إن قلنا: إن الأمر بيد الإمام أو نائبه، فالواجب أن تشتد العقوبة وتضعف تبعًا لخطورة الجناية وعدم خطورتها.

وأما عدالة التطبيق، فيكفي أن نشير هنا إلى ما روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم قالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حِب رسول صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة، فقال

ص: 33

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أسامة، أتشفع في حد من حدود الله؟! " ثم قام فاختطب، فقال:"إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"1.

فالعقوبة إذا ثبتت وجب تطبيقها على من ثبتت عليه لا فرق بين شريف وضعيف، ولا فقير وغني، ولا قريب وبعيد، الكل أمام التشريع سواء.

وصدق الله تعالى إذ يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 2، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول في حجة الوداع:"يأيها الناس، إن ربكم واحد،وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، وليس لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت اللهم فاشهد، ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب".

ثالثًا: استقرار التجريم والعقاب في الفقه الإسلامي:

من مقتضيات العدالة ودواعي الرحمة والموضوعية أن يكون التجريم والعقاب مستقرا في المجتمعات، معروفا لدى الناس جميعا لا يتغير بتغير الأماكن وتوالي الأزمان، حتى ينهج الناس في حياتهم المنهج الذي يجنبهم الوقوع فيما يستوجب العقاب، ويحولوا فكرهم وعقولهم وتدبيرهم وكل أمور حياتهم نحو الأهداف المشروعة، نحو الأرض الطيبة التي تنبت لهم أحسن الزرع وتعطي أجمل الثمار.

1 رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.

2 الآية 13 من سورة الحجرات، راجع لنا كتاب العلاقات الدولية في الإسلام ص32-42، في مبحث العدالة والمساواة في الإسلام.

ص: 34

وإذا لم يتحقق الاستقرار في تجريم الأفعال، وفي نوعية العقوبة، لترتب على ذلك اهتزاز ميزان العدالة؛ حيث يعاقب إنسان ما على جرم معين، وغدا لا يعاقب آخر بهذا الجرم نفسه، أو أن تطبق اليوم عقوبة ما على إنسان معين، وغدا تطبق على مثيله عقوبة أخف وطئا، أو أشد ثقلا وأثرا

ومثل هذا يؤدي إلى زعزعة عقول الناس واضطراب أفكارهم ومناهج حياتهم وفقدان الإيمان بفكرة التجريم والعقاب مما يجعلهم يجترئون عليها ولا يحترمون ما يصدر من أحكام في هذا السبيل

وبذلك تزكو الجريمة، وتنمو بذور الشر في المجتمع.

إن الشريعة الإسلامية كانت وستظل علاجا قويا حكيما رحيما لكل هذه الأدواء؛ إذ قامت على أساس ثابت، وهو أن كل ما جاءت به من عند الله تعالى، فهو الذي حدد الحرام وبين الحلال، وحدد ما يعاقب عليه ما لا يعاقب.

فالحق حق دائما، والباطل باطل دائما، والطيب طيب دائما، والخبيث خبيث دائما في كل مكان وفي كل زمان، وكذلك العقوبة المحددة لكل جرم لا يملك أحد تغييرها أو تبديلها بعد ثبوتها واستيفاء أركانها

كما لا يملك أحد إسقاطها إلا بما فتحه المشرع من أبواب.

وإذا كنا في تربيتنا لأبنائنا وطلابنا نوجب على المربين وحدة الكلمة وثباتها، وعدم التراجع فيما اتخذناه من قرارات في سبيل التقويم بعد دراستها ومعرفة حقيقتها، حتى يشب النشء على هذه الفضيلة فإن الأمم والشعوب أولى بهذه التربية؛ لأن بها ومنها ستنبثق فروع التربية المختلفة، وبهذا تستقر الأفكار، ويستتب الأمن، ويتحقق النظام المثالي للأمة الذي يبتغيه الإسلام.

رابعا: الواقعية والموضوعية في تقرير نوع العقوبة:

لقد جبل الإنسان على حب ذاته، وغيرته على نفسه، وخوفه من كل

ص: 35

ما يصيبه بأي مكروه، أو يعرضه لأي أذى، حتى وإن أوقع الضرر بالآخرين.. وكل عقوبة توضع من أجل ردع الجاني تتناسى هذا الجانب النفسي والطبيعي والواقعي تضل هدفها، ولا تحقق غرضها، وتعود على المجتمع بنقيض مقصدها.. وقد أثبت صدق ما نقول أن كثيرا من الدول التي قررت وقف عقوبة الإعدام عادت إليها مرة أخرى حانية الرأس أمام هذا المبدأ إثر انتشار الجرائم تحت ظل هذه العقوبة وزعزعة الأمن وإقلاق المواطنين.

ولكن الشريعة الإسلامية سجلت في هذا المجال -كغيره- عمق نظر، وواقعية متناهية فيما يصلح شأن البشر، فقررت جعل جل العقوبات بدنية، ومتجانسة مع الجرم؛ حيث يتأتَى التجانس، وسائره معه ارتفاعا وانخفاضا حتى يشعر الجاني بأن ما يصدر منه من مثالب سيعود عليه مرة أخرى، فكما اكتوى الغير بناره سيكتوي هو أيضا، وكما أضرب الغير سيقع الضرر عليه أيضا، وكما تعدى على حرمات الله، ونال من حقوقه سينال جسمه حقه من العقاب.. فإذا شعر الجاني بذلك راجع نفسه ألف مرة قبل الإقدام على جنايته، وحاسب نفسه حسابا عسيرا، وهذا ما يهدف إليه التشريع من تربية النفس وصقلها وشفافيتها، وإشعارها بأن أذى إنسان ما هو أذى للناس جميعا، وأن الرحمة والمودة لإنسان ما هي إلا رحمة ومودة للناس جميعا.

وفي قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} 1 إشارة جلية وواضحة إلى أن الجناية في نظر الشريعة الإسلامية لا تقع

1 الآية 32 من سورة المائدة.

ص: 36

على المجني عليه فقط، وإنما تقع على المجتمع كله؛ لأنها تنتهك حرمته وتهدد مسيرته، وتقلق هدوءه، وتعوق تقدمه، وإذا كان ضررها عاما فإن العلاج الناجع ليس في ترك الفلسفات والأهواء التي تعمل عملها في درء العقوبة عن المجرمين لأسباب وتعليلات لا تستند إلى دليل مما يؤدي إلى إقلاق شأن الآمنين، وإنما في مجابهة مواطن الداء بكل حزم، تأمل قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} 1.

لذلك كانت الواقعية والموضوعية والحزم في تقرير العقوبات في الفقه الإسلامي هي أكمل السبل وأتمها في تقرير نوعية العقوبة، وبهذا المسلك الحازم يبعد شبح الجريمة، وتصلح مسيرة الناس جميعًا، ويسود الأمن والاستقرار.

فقسا ليزدجروا ومن يك حازما

فليقسُ أحيانا على من يرحم

خامسا: العقوبات تكتنفها الرحمة:

قد يظن البعض أن هذه العقوبات فيها شدة على الجناة، وعدم مراعاة لظروف ضعفهم والدوافع التي أحاطت بجريمتهم.. ولكن الدارس للفقه الإسلامي يجد أن رحمة الله بخلقه أصدق وأبقى وأشمل من كل ما يُدعى ويقال، ويكفي أن نشير هنا إلى بعض الجوانب التي تتجلى فيها الرحمة:

1-

فقد وضع المشرع شروطا متعددة لإقامة الحد، بعضها في

1 الآية 2 من سورة النور.

ص: 37

الجاني، وبعضها في وسائل إثباتها في الإقرار بها، أو في الشهادة عليها، تنبثق منها آيات الرحمة، التي لا يحس بها إلا دارس هذا الفقه والعالِم به.

فلا حد على قاصري العقل؛ لصغر أو عته أو جنون.. لانعدام المعنى المقصود من شرعية العقوبة تحت ظل هذا القصور العقلي، وهو ردع الجاني عن الجناية، ولأن الجناية تعتمد القصد الصحيح وهؤلاء لا قصد لهم..

ولا حد على مَن فقد إرادته بسبب يعذر فيه.. كجهل بالحرمة أو العقوبة إذا توافرت شروطه، أو نوم، أو إغماء، أو سكر بمباح.

ولا حد على من فقد اختياره أو رضاه.. كالمكره.. ولا حد على مضطر.. ففي كل ذلك رحمة.

وفي فتح باب العفو عن القصاص إلى الدية رحمة، ففي الوقت الذي استحقت فيه النفس فتح باب كبير لنجاتها، بل إن المشرع الحكيم قد حث على الانتفاع بهذا الباب في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ} ، وقال صلى عليه وسلم:"ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله بها عزا" 1، وقال أنس:"ما رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر فيه القصاص إلا أمر فيه بالعفو"2، وقد انعقد الإجماع على مشروعيته.

1 رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه، والأحاديث في هذا الباب كثيرة. راجع: نيل الأوطار ج7 ص29.

2 رواه أبو داود وابن ماجه والنسائي وأحمد.

ص: 38

بل وفي جعل عقوبة الزنا للمحصن الرجم -لا القتل بالسيف- رحمة؛ لأن الرجم لا يصاحبه الموت فور حدوثه، وخاصة إذا لاحظنا أنه لا يكون بأحجار كبيرة.

والتنفيذ بهذا المسلك يفتح بابا واسعا لتدارك ما قد يكون من خطأ، أو كذب، وقع فيه الشهود، أو ظروف أدت إلى الإقرار، وليكون وسيلة لسبر غور نفس الشاهد، أو المقر، فعساه قد رضي الشهادة زورا، أو أقدم على الاعتراف تحت ظروف جعلته ييئس من الحياة، فشهد الشاهد أو أقر المقر بما يوجب عقوبة الزنا.

فسلك المشرع الحكيم مسلكا رائعا في الكشف عن النوايا؛ حيث أوجب أن يبدأ بالرجم الشهود وعددهم أربعة، ويشترط في كل منهم عدة شروط، سواء من حيث العدالة أو رؤية الحادثة أو ظروف الجناية، مما يتعذر حدوثه إلا في مجتمع بهيمي لا أخلاقي؛ ساعتئذ لا بد من انكشاف الحقيقة ولو من واحد منهم عند رؤية إنسان يهاجمه الموت دون وجه حق، فلو نطق بما يدرأ الحد كان تدارك النفس ممكنا، وهذا ما لا يتأتى مع تنفيذ الحد بالسيف، كما أوجب المشرع أن يبدأ القاضي أو من ينوب عنه برجم المعترف لنفس المعنى، خوفا من قصور في التحقيق، أو تهاون في تقصي الظروف المحيطة بما يثبت صحة الاعتراف، فلا تطيق نفس الحاكم الإقدام على التنفيذ إلا حيث وصلت إلى درجة التيقن باستيفاء كل سبل الإدانة، حتى يكون كل من الشاهد والقاضي مسئولا عن قتله إذا ثبت تواطؤ أو كذب أو تقصير متعمد، ومع هذا فلو ولي المحكوم عليه وهرب أثناء الرجم اعتبر ذلك رجوعا في الإقرار الصادر منه، وحينئذ لا يوالي عليه الرجم، وترفع عنه هذه العقوبة.

فقد جاء فيما رواه أبو هريرة بشأن رجم ماعز الذي أقر بالزنا أربع مرات -أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أثناء رجمه هرب، فتعقبه

ص: 39

الراجمون، فلما ذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فر حين وجد مس الحجارة ومس الموت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هلا تركتموه"، وفي رواية:"هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه"1.

وبهذا الحديث أخذ الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والعترة، والإمام مالك في رواية عنه أنه يقبل من المقر الرجوع عن إقراره ويسقط الحد عنه، مع العلم أن حد الزنا يندر أن يثبت بغير الإقرار، ولم يحدث في تاريخ الأمة الإسلامية أن ثبت الحد بغير الاعتراف.

ومن هذا يتبين لنا أن تنفيذ عقوبة الزنا بالرجم فيها رحمة؛ لأنها تتيح للمتهم فرصة النجاة من الحد، إذا ما حدث رجوع عن شهادة، أو عدول عن إقرار أثناء تنفيذ الحد، وهذا ما لا يمكن حدوثه إذا كان التنفيذ بالسيف.

وقبول توبة الجاني قبل القدرة عليه رحمة.

ودر الحدود بالشبهات رحمة.

إذن فالرحمة بالجاني في ظل تطبيق الحدود الشرعية متعددة الجوانب.

وأيضا فإن في تطبيق هذه العقوبات على الجناة رحمة بالناس جميعا؛ لأنها تنفي عن المجتمع كل خبث، وتقتل الأفكار السيئة التي تعشعش في رءوس قلة جانحة من هذه الأمة لتنمو على إثرها الأفكار الطيبة وتترعرع، وتزهو زهور التقدم والتطور.

وصدق القائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 2.

1 رواه أحمد وابن ماجه والترمذي قال: حديث حسن.

2 الآية 107 من سورة الأنبياء.

ص: 40

فالمسلك الذي سلكته الشريعة الإسلامية في العقوبات في المواءمة والتعايش والتوافق بين الرهبة والرحمة، بين الخوف والرجاء، بين رعاية المجتمع ورعاية الجاني، هو مسلك فريد يدفع الأفراد إلى الخشية والخوف من الوقوع في الجرائم، ويدفع الناس جميعا إلى الابتعاد عن ارتكاب هذه الجناية، ويحول أنظارهم إلى الاتجاه إلا ما أحل الله، وبذلك ينقي المجتمع من الأدران، وتصان الأسر والأعراض من الهوان.

سادسا: اقتران توقيع العقوبة بتطهير الذنب:

لقد تميز التشريع الإسلامي بنصه على أن استيفاء العقوبة جابر للذنب الذي ارتكب، مطهر للجاني مما ارتكبه مقرب له من ربه، ويؤيد هذا ما روي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه:"بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه"، فبايعناه على ذلك.

وفي لفظ: "فلا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق" متفق عليه.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "فعوقب به في الدنيا" أعم من أن تكون عقوبته حدا أو تعزيرا، وكذا إذا كان قصاصا -كما يرى بعض العلماء- لما روى الطبراني عن ابن مسعود أنه قال:"إذا جاء القتل محا كل شيء".

ولما رُوي عن عائشة مرفوعًا: "لا يمر القتل بذنب إلا محاه، فلولا القتل ما كفرت ذنوبه، وأي حق أعظم إليه من هذا؟ ولو كان حد القتل إنما شرع للردع فقط لم يشرع العفو عن القاتل".

ص: 41

ومن هذا يتبين لنا التفسير الواضح لما كان يحرص عليه الجناة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من التقدم إليه طواعية طالبين توقيع عقوبة ما اقترفوه من ذنوب، ومصرين على توقيعها، بالإقرار عدة مرات كما حدث مع ماعز، وكما حدث مع الأسلمي حينما قال له الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أقر بالزنا أيضا:"فما تريد مني بهذا القول؟ " قال: أريد أن تطهرني.

والربط بين توقيع العقوبة وتطهير النفس في الشريعة الإسلامية يجعل الإنسان دائما في حساب مع نفسه بعد ارتكاب جرمه. إنه إن ستر ذنبه ظل الحق معلقا به، ولا ينفع معه التخفي والتستر؛ لأنه سيأتي اليوم الذي يلقى حسابه فيه ممن لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وحسابه -جل شأنه- لا يقارن بتطبيق العقوبة في الدنيا، فلأن يلقى الله نقي الصحيفة متطهرا من ذنوبه خير له من أن يلقاه مدنسا إياها بالأعمال السيئة.

إذن فالعقوبة في ظل الشريعة الإسلامية مستوفاة إن عاجلا وإن آجلا، وإذا كانت على هذه المثابة فإنه لا تجدي محاولة الإنسان تبرئة نفسه من الجرائم بالاحتيال والتزوير والتمويه والتدبير؛ لأن المطلع والمحاسب الحقيقي لا تنفع أمامه كل هذه الأمور، فأولى به أن يترك الإجرام، وأن ينأى عن المعاصي، وساعتئذ يتحقق المعنى السامي الذي يهدف إليه التشريع؛ وهو القضاء على الجريمة، وبث الأمن والاستقرار في ربوع المجتمع.

سابعا: تدرج العقوبات بتدرج نوعية الجرائم:

لقد لاحظنا التدرج في العقوبة في الفقه الإسلامي بتدرج الجرم قوة وضعفا حسب تأثيره على مسيرة المجتمع، ومدى إخلاله بأمنه واستقراره وإعاقته لمعاني الخير.

ص: 42

أ- ففي المقام الأول:

وضع المشرع الحكيم أعلى العقوبات لأعلى الجرائم وأشدها خطرا على المجتمع.

وسمى هذه الجناية "محاربة لله ولرسوله"؛ إظهارا لبشاعتها وشدة آثارها على المجتمع.. فقال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1.

فالعقوبة المنصوص عليها في آية المحاربة هي المهيمنة على كل الجرائم التي تشكل خطورة على المجتمع، الجرائم التي تجاوزت الاعتبارات والظروف العادية، فجريمة أخذ المال خفية لها حد السرقة، وأما أخذه مكابرة وقهرا وغلبة، فيجب أن تكون له عقوبة أشد، وهي عقوبة المحاربة.

وكذلك جريمة الزنا، لها حد مقرر في حالة الاختيار، وأما إذا تمت بالقهر والغلبة والقوة، فيجب أن تكون لها عقوبة أشد، وهي عقوبة المحاربة، فيُقتل الزاني "أو الزانية" مطلقا محصنا أو غير محصن عند جمع من الفقهاء.

وكذلك من قتل عمدا عقوبته القصاص إذا رضي الأولياء؛ ولكن هذه الجريمة قد تكتنفها ظروف تدل على خطورة الجاني.. كما إذا تعود القتل بعد انتفاعه بالعفو الذي وضع رحمة به، فرد أثره للمجتمع غلظة وقسوة.. أو قتل غيلة، كما لو أسكر المجني عليه ثم قتله، أو أسقاه

1 الآية 33 من سورة المائدة.

ص: 43

سُمًّا فقتله، فقد اتخذ من غفلة المجني عليه أو ثقته به والاطمئنان إليه وسيلة للانقضاض عليه والفتك به، أو قتل شخصا له خطورته على الأمة كالإمام؛ إذ بقتله يختل صرح النظام، ويرتج بنيان الأمن وقد يودي بالأمة، ويُمكِّن أعداءها منها، في كل ذلك تطبق على الجاني آية المحاربة فيقتل حدا لا قصاصا عند بعض الفقهاء؛ ومن ثم لا عفو ولا صلح ولا إبراء.

وفي المقام الثاني:

وضع المشرع الحكيم بعد ذلك الحدود، فقدر عقوبة كل جرم ووضع الشروط اللازمة لتطبيقها، فكانت هذه الصورة هي صورة الجرائم في صورتها العادية.

وفي المقام الثالث:

وضع المشرع عقوبة التعزير؛ لتحافظ على حقوق الله وحقوق العباد التي نال منها الجاني، والتي لم تصعد لإحدى العقوبتين السابقتين؛ لعدم توافر الشروط اللازمة لتطبيق الحد، وجعل أمرها للإمام أو من ينوب عنه.

وهذه العقوبة تناولها الفقهاء بالبحث، سواء من حيث مقدارها أو من حيث الجرم الذي تطبق فيه ونوعه، وهم وإن اختلفوا في شيء من ذلك فقد آثر المشرع ترك هذا الأمر لاجتهاد الإمام أو نائبه، وأعطاه هذه السلطة لكي تعالج مشكلة الجريمة في الجرائم غير الجسيمة التي تخضع لهذه العقوبة على ضوء حالة الجاني ونوعية الجناية.

ولكن قد يكون من المفيد وضع ضوابط عامة تتناول نهاية العقوبة التعزيرية، وأرى ألا تصل إلى القتل أو إلى الحد المقرر لهذا الجرم حتى لا تتداخل العقوبات، وبخاصة وأن هذه العقوبة تقديرية، وللاجتهاد فيها مجال، ولأن يخطئ القاضي في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة.

ص: 44

وبهذا يتبين لنا أن التشريع الإسلامي جعل العقوبة متمشية ومتعادلة مع حقيقة الجرم وأثره على المجتمع، وجعل العقوبة شاملة لكل أنواع الجرائم، وبهذا المسلك القويم سد التشريع الإسلامي كل الأبواب أمام الأفراد والطوائف التي تسول لها أنفسها النيل من حقوق الله أو حقوق العباد، كما أنه فتح لها الطريق وأنار لها السبيل نحو إعمال فكرها وعقلها نحو كل ما هو خير لهذا المجتمع.

{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1.

1 الآية 153 من سورة الأنعام.

ص: 45