الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: الجزاء الدنيوي:
لقد وضعت الشريعة الإسلامية عقوبة دنيوية توقع على القاتل عمدا، منها ما هو بدني، وهو القصاص أو التعزير، ومنها ما هو مالي، وهو الدية في حالة سقوط القصاص والكفارة عند بعض الفقهاء والحرمان من الميراث، ونتناول كل نوع منها في مبحث مستقل، سواء كانت الجناية من الإنسان على نفسه أو على غيره، إلا أن مبحث القصاص لا يكون إلا في قاتل غيره.
النوع الأول: القصاص:
تعريف القصاص:
القصاص لغة: مأخوذ من قص أثره: أي تتبعه، ومنه قوله تعالى:{فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا} 1، وهذا المعنى يتحقق في القصاص؛ لأن المجني عليه -أو ولي الدم- يتبع الجاني حتى يقتص منه، وقيل: مأخوذ من القص بمعنى القطع، يقال: قص شعره: أي قطعه، وهذا المعنى يلائم القصاص أيضا؛ لأن المجني عليه -أو ولي الدم- يتبع الجاني حتى يقتله أو يجرحه -كما فعل- وفي كل قطع، كما أن القصاص ينبئ عن المساواة؛ لأن في كلا المعنيين اللغويين توجد المساواة.
1 الآية 64 من سورة الكهف.
والقصاص اصطلاحا: هو أن يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه، فإن قتل قتل، وإن جرح جرح1، إذا توافرت الشروط التي وضعها الفقه الإسلامي لذلك.
مباحث القصاص:
نضع مباحث هذا النوع من العقوبة في سبعة مقاصد:
المقصد الأول: الأدلة التي ثبت بها القصاص في القتل العمد.
المقصد الثاني: عقوبة القتل العمد، هل هي القصاص عينا، أم القصاص أو الدية، ويكون ولي الدم بالخيار بينهما.
المقصد الثالث: العفو وأثره.
المقصد الرابع: شروط استيفاء القصاص.
المقصد الخامس: استيفاء القصاص "من له حق المطالبة به، طريقة الاستيفاء".
المقصد السادس: الظروف المبيحة أو المخففة للعقوبة في الفقه الإسلامي.
المقصد السابع: الظروف المشددة للعقوبة في الفقه الإسلامي.
المقصد الأول: الأدلة التي ثبت بها القصاص في القتل العمد:
لقد ثبتت عقوبة القصاص بأدلة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والقياس:
1 ويقال للقصاص: القود بفتحتين؛ لأنهم يقودون الجاني بقيد أو غيره لاستيفاء القصاص.
ووجه الاستدلال بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} -مع أن ظاهر الآية يوجب القصاص أينما وجد القتل، سواء كان عمدا أم خطأ- أن الله تعالى ذكر في آية أخرى أن موجب القتل الخطأ الكفارة والدية، قال تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} 3 الآية، فتعين أن يكون القصاص المذكور في الآية فيما هو ضد الخطأ، وهو العمد.
2-
السنة:
ويضاف إلى هذا أن السنة قيدت إطلاق الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"العمد قود" أي: موجبة القود، وهو حديث مشهور تلقته الأمة بالقبول، ووجه الاستدلال به "كما بينه الحنفية بناء على رأيهم في موجب القتل العمد" أن الألف وللام في قوله:"العمد" للجنس؛ إذ
1 الآية رقم 45 من سورة المائدة.
2 الآيتان 178، 179 من سورة البقرة.
3 الآية 92 من سورة النساء.
لا معهود ينصرف إليه، ففي الحديث تنصيص على أن حكم جنس العمد القود، قال صاحب الكفاية: لا يقال إن قوله صلى الله عليه وسلم: "العمد قود" لايوجب التقييد؛ لأنه تخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه؛ لأنا نقول: لو لم يوجب هذا الخبر تقييد الآية لم يكن القود موجب العمد فقط، فلا يكون لذكر لفظ العمد في الحديث فائدة.
القياس:
الجناية تتكامل بالعمد، وكلما تكاملت الجناية كانت حكمة الزجر عليها أكمل، وحكمة الزجر تكون أكمل بالعقوبة المتناهية، والعقوبة المتناهية هي القصاص، فكان القصاص موجب القتل العمد، وأيضا لأن العقوبة المتناهية لا تشرع إلا عند تكامل الجناية، وتكاملها هنا لا يكون إلا بالعمد.
المقصد الثاني: عقوبة القتل العمد:
للفقهاء في موجب القتل العمد رأيان:
أحدهما: يرى أن موجبه القصاص عينا، ويترتب على ذلك أن لا يكون لولي الدم أن يلزم الجاني الدية جبرا عنه، وإنما له أن يقتص، أو يعفو مجانا.
ثانيهما: يرى أن موجب القتل العمد أحد شيئين: القصاص أو الدية، فيكون للولي أن يقتص -إن شاء- أو يأخذ الدية ولو لم يرض الجاني، ونوضح أدلة كل فيما يأتي:
أدلة الرأي الأول:
استدل القائلون بأن موجب القتل العمد القصاص عينا "وهم الحنيفية والمالكية، وأحد قولي الشافعي1، والإمامية، وهو قول إبراهيم النخعي وابن شبرمة، وأبي الزناد، وسفيان الثوري، والحسن بن حي" بالكتاب الكريم والسنة الشريفة والقياس:
أما الكتاب: فإن الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} نصت على أن الواجب بالقتل القصاص، ولم تذكر الدية، وإذا تعين هذا موجبا للقتل العمد لا يمكن العدول عنه إلى غيره؛ لئلا تلزم الزيادة على النص بالرأي.
وأما قوله تعالى في هذه الآية: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} فقد فسروه بما يأتي:
قال أبو حنيفة: إن معنى "عفي" بذل، والعفو في اللغة البذل؛ ولهذا قال الله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ} أي: ما سهل2، فكأنه قال: من بذل له من القاتل شيء من الدية فليقبل ما بذل له، وليتبع بالمعروف، وليؤد إليه القاتل بإحسان، والأمر هنا للندب لا للوجوب، فندب الله تعالى لولي الدم أن يأخذ المال إذا سهل ذلك من جهة القاتل، وأخبر أنه تخفيف منه ورحمة، كما قال ذلك عقب ذكر القصاص في سورة المائدة:{فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} 3 فندب جل شأنه فيها إلى رحمة العفو والصدقة، وكذلك ندب فيما ذكر في هذه الآية إلى قبول الدية
1 مغني المحتاج ج4، ص48.
2 جاء في مختار الصحاح: {خُذِ الْعَفْوَ} أي: خذ الميسور من أخلاق الرجال ولا تستقصي عليهم، قال: ويقال: أعطاه عفو ماله يعني: أعطاه بغير مسألة.
3 الآية رقم 45 من سورة المائدة.
إذا بذلها الجاني بإعطاء الدية، ثم أمر الولي بالاتباع وأمر الجاني بالأداء بالإحسان.
ويدل أيضا على أن الأمر هنا للندب أن المعروف والإحسان يدلان على التفضيل لا الوجوب كما تقتضيه عبارة النص؛ لأن الوجوب يقتضي العقاب على الترك، والمعروف والإحسان لا يقتضيان العقاب على الترك، بدليل قوله تعالى:{ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} .
وقد فسره بذلك الإمام مالك فقال: معنى "عفي" يسر -بالبناء للمفعول فيهما- لا على بابها في العفو، والأخ يراد به القاتل والشيء هو الدية، أي: أن الولي إذا جنح إلى العفو عن القصاص على أخذ الدية، فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه، فمرة تيسر، ومرة لا تيسر1.
أي أن الجاني مخير في أن يقبل دفع الدية لولي الدم مقابل إسقاط القصاص عنه، أو لا يقبل، ولا يكون لولي الدم حينئذ إلا القصاص أو العفو مجانا.
واستدلوا أيضا بقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} 2، وقوله:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} 3، فقالوا: ليس مثل القتل إلا القتل، فلا مدخل للدية هاهنا إلا برضاهما معا.
كما استدلوا بقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} 4، قالوا: فلم يذكر الله عز وجل إلا القتل فقط.
1 القرطبي ج2، ص254.
2 سورة النحل الآية 136.
3 سورة البقرة الآية 194.
4 سورة الإسراء الآية 32.
وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: "العمد قود".
أي: أن جنس القتل العمد موجبه القود عينا؛ وذلك لأن الألف واللام في "العمد" للجنس؛ إذ لا معهود ينصرف إليه حتى يمكن أن تكون للعهد.
ففي الحديث تنصيص على أن حكم الجنس العمد القصاص، وليس فيه ذكر للدية، فمن عدل عنه إلى غيره زاد عن النص بالرأي، وذلك لا يجوز.
وقد أورد هذا الحديث صاحب مغني المحتاج على متن المنهاج ج4، ص48 بلفظ:"من قتل عمدا فهو قود" رواه أبو داود والنسائي وغيرهم بإسناد صحيح، وهو يدل أيضا على أن موجب القتل العمد القصاص عينا؛ لأن ما بعد الفاء يدل على أنه كل الموجب، وإلا لذكر الرسول صلى الله عليه وسلم معه الدية.
كما احتجوا بما روي عن أنس أن الربيع1 عمته كثرت ثنية جارية، فطلبوا إليها العفو، فأبوا، فعرضوا الأرش، فأبوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا إلا القصاص، فامر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله، أتكسر ثنية الربيع؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أنس، كتاب الله القصاص" فرضي القوم، فعفوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره"، رواه البخاري والخمسة إلا الترمذي2.
ووجه الاستدلال: أنه لما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص قال: "كتاب الله القصاص"، ولم يخير المجني عليه بين القصاص
1 بنت النضر.
2 نيل الأوطار ج7، ص23، 24.
والدية، فثبت بذلك أن الذي يجب بكتاب الله وسنة رسوله في العمد القصاص عينا1.
وعن عمر بن الخطاب قال: لا يمنع السلطان ولي الدم أن يعفو إن شاء، أو يأخذ العقل إن اصطلحوا عليه، ولا يمنعه أن يقتل إن أبَى إلا القتل بعد أن يحق له القتل في العمد.
كما استدل الإمامية بما روي عن الصادق "ع" قال: "من قتل مؤمنا متعمدا قيد به إلا أن يرضى أولياء المقتول أن يقبلوا الدية، فإن رضوا بالدية وأحب ذلك القاتل فالدية"2.
القياس:
إنا القود بدل شيء متلف، فتعين أن يكون بدله من جنسه كسائر المتلفات، وجنس المتلف هنا هو القياس، والدية أو الأرش بدل عند سقوط القصاص بعفو أو غيره، كموت الجاني3.
أدلة الرأي الثاني:
قال الحنابلة، وبعض الشافعية، والظاهرية والزيدية والإباضية "وهو المروي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء والحسن، ورواه أشهب عن مالك، وبه قال الليث والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور": إن ولي المقتول بالخيار إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية وإن لم يرض القاتل، أي: أن
1 القرطبي ج5، ص253.
2 الروضة البهية ج2، ص414.
3 مغني المحتاج ج4، ص48.
موجب العمد أحد شيئين القصاص أو الدية، والخيار في ذلك لولي الدم، وليس عفو ولي الدم عن القصاص وسكوته عن ذكر الدية مسقطا للدية، بل هي واجبة للولي وإن لم يذكرها، إلا أن يعفو عن الدية أيضا، ويجوز لولي الدم والقاتل أن يصطلحا على ما يرضيهما في مقابل إسقاط القود، فهذا فقط الذي يشترط فيه رضاهما، وقد استدلوا بما يأتي1:
1-
بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية، فقد روي عن ابن عباس في تفسيرها قوله: كان في بني إسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدية، فقال الله تعالى لهذه الأمة:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} الآية، {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} قال: فالعفو أن يقبل في العمد الدية، والاتباع بالمعروف: يتبع الطالب بمعروف، ويؤدى إليه المطلوب بإحسان، {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} فيما كتب على من كان قبلكم. رواه البخاري والنسائي والدارقطني.
فقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} "من" يراد بها القاتل، و"عفي" تتضمن شخصا يعفو عن القصاص، وهو ولي الدم، و"أخيه" هالشخص المقتلو، و"شيء" هو الدم الذي يعفي عنه، ويرجع إلى أخذ الدية، وهذا قول قتادة أيضا، وجماعة من العلماء، والعفو في هذا القول على بابه الذي هو "الترك".
والمعنى أن القاتل إذا عفا عنه ولي المقتول عن دم مقتوله، وأسقط القصاص، فإنه يأخذ الدية، ويتبع بالمعروف، ويؤدي إليه القاتل بإحسان.
1 راجع: القرطبي ج5، 253، نيل الأوطار ج7، ص8، المحلى لابن حزم ج10، ص260، المغني لابن قدامة ج9، ص232، مغني المحتاج ج4، ص48، شرح النيل ج15، ص95.
وأما عدم ذكر الدية في الآية فإن هذا لا يستلزم عدم الذكر مطلقا، فإن الدية قد ذكرت في الأحاديث.
وأيضا فإن تقدير الآية: "فمن اقتص فالحر بالحر
…
ومن عفي لهمن أخيه شيء فالدية"، ويدل على هذا تفسير ابن عباس المذكور آنفا. وظاهر الحديث أيضا أن الولي إذا عفا عن القصاص لم تسقط الدية، بل يجب على القاتل تسليمها.
2-
ومن السنة: ما روي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يفتدي وإما أن يقتل" رواه الجماعة، ولكن لفظ الترمذي:"إما أن يعفو وإما أن يقتل".
وما روي عن أبي شريح الخزاعي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أصيب بدم أو خبل -والخبل الجراح- فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: إما أن يقتص، أو يأخذ العقل، أو يعفو، فإن أراد رابعة فخذوا1 على يديه" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
وعن وائل بن حجر قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جيء بقاتل في عنقه النسعة، فقال صلى الله عليه وسلم لولي المقتول:"أتعفو؟ " قال: لا، قال:"أتأخذ الدية؟ " قال: لا، قال:"أفتقتل؟ " قال: نعم. فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الخيار لولي المقتول في العفو أو الدية أو القود دون أن يستشير القاتل أو يلتفت إلى رضاه.
1 أي: أنه إذا أراد زيادة على القصاص أو الدية أو العفو فامنعوه، ومن ذلك قوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . نيل الأطار ج7، ص7، 8.
3-
ويؤيد هذا ما روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب في امرأة قتلت رجلا: "إن أحب الأولياء أن يعفوا عفوا، وإن أحبوا أن يقتلوا قتلوا، وإن أحبوا أن يأخذوا الدية أخذوها وأعطوا امرأته ميراثها من الدية".
وعن معمر عن قتادة قال: كان يجبر القاتل على إعطاء الدية، فإن اتفقوا على ثلاث ديات فهو جائز، إنما اشتروا به صاحبهم، وهو قول سعيد بن المسيب، ومحمد بن سيرين، والأوزاعي، والشافعي، وأبي ثور، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبي سليمان، وأصحابهم، وجمهور أصحاب الحديث1.
الرد على أصحاب الرأي الأول:
قد أخذ أصحاب الرأي الأول بما قلنا به فيما إذا عفا واحد من الأولياء فأكثر دون الآخرين، فقالوا: إن الدية واجبة للباقين، أحب القاتل أم كره.
وكذلك عندهم إذا بطل القود بأي وجه من الوجوه؛ كالأب إذا قتل ابنه2 أو نحو ذلك، وجبت الدية، فأي فرق بين امتناع القود بهذا الوجه وبين امتناعه بعفو الولي؟
وأما احتجاجهم بقوله تعالى: {فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ، وقوله:{فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ، فإن هذا الاحتجاج حق، وأيضا قوله تعالى:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
1 المحلى لابن حزم ج10، ص361.
2 عند من يقول بذلك، وسيأتي تفصيل الحكم فيه.
"إما أن يقاد وإما أن يودي" أي: يدفع الدية -حكم زائد على تلك الآيات، وأحكام الله عز وجل وأحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها حق، يضم بعضها إلى بعض، فيجب القصاص بتلك، وتجب الدية بهذه، ولا تنافي.
وأما قوله عز وجل: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} فحق، وبه نقول: إذا اختار ولي الدم القصاص، فليقتل قاتل وليه، ولا يحل له أن يسرف فيقتل غير قاتله، وليس هاهنا ذكر للدية التي قد ورد حكمها في نص آخر.
الترجيح:
والذي يظهر لنا أن الرأي الثاني هو الرأي الراجح، وذلك لما يأتي:
1-
أن الآية بناء على تفسير العفو بمعنى الترك تؤيد هذا الرأي، ويكون استعمال اللفظ هنا على بابه، فإن معنى "عفي" لغة ترك، ووقد فسرها بذلك ابن عباس وجمهور من الفقهاء، فلا داعي إلى ترك المعنى الحقيقي للفظ ما دامت الأحاديث تقرر هذا المعنى.
2-
أن الأحاديث أثبتت أن الواجب بالعمد أحد الأمرين القصاص أو الدية، وقد ذكرنا طائفة منها، وإذا ثبت ذلك كان لزاما علينا الأخذ به.
وقد روى الربيع عن الشافعي، قال: أخبرني أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابي قال: حدثني ابن أبي ذئب عن المقبري1 عن أبي شريح الكعبي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إن أحب أخذ للعقل، وإن أحب فله القود".
1 المقبري: بضم الميم وسكون القاف، وضم الباء، وكسر الراء.
فقال أبو حنيفة: فقلت لابن أبي ذئب: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث؟ فضرب صدري، وصاح علي صياحا كثيرًا، ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: أتأخذ به! نعم آخذ به، وذلك الفرض علي، وعلى من سمعه، إن الله عز وجل ثناؤه اختار محمدًا صلى الله عليه وسلم من الناس فهداهم به، وعلى يديه، واختار لهم ما اختار له وعلى لسانه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين، لا مخرج لمسلم من ذلك، قال: وما سكت عني حتى تمنيت أن يسكت1.
3-
وأيضا فإنه من طريق النظر والمصلحة: أن الدية إنما لزمت القاتل بغير رضاه؛ لأنه من المفروض عليه أن يحيي نفسه ويحرم عليه أن يهلكها، قال الله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ، وقال:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، وقد أتيحت له فرصة النجاة بنفسه، فيجب عليه أن يقبلها، وهذا الوجوب يمليه الشرع والعقل.
1 القرطبي ج2، ص353.
المقصد الثالث: العفو عن القصاص أو المصالحة عليه:
لما كان العفو عن القصاص فيه حقن للدماء، وإحياء للنفوس، وتطبيق لقوله تعالى:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} 1، فتحت الشريعة الإسلامية باب العفو، وجعلته في يد صاحب الحق في استيفاء القصاص من الجاني، وهو ولي الدم. وقد أجمع العلماء على إجازته، وأنه أفضل من القصاص، غير أنهم اختلفوا في الآثار التي تترتب عليه في بعض الصور، ونوضح فيما يلي: ركنه وشرائطه، وأدلة مشروعيته، وحكم العفو مجانا، أو مع السكوت، وحكم المصالحة على إسقاط القصاص بمقابل.
أ- أما ركن العفو، فهو أن يقول العافي: عفوت أو أسقطت أو أبرأت وما يجري هذا المجرى.
وأما شرائط الركن، فمنها أن يكون العفو من صاحب الحق؛ لأنه إسقاط للحق، وإسقاط الحق ولا حق محال، فلايصح العفو من الأجنبي لعدم الحق، ومنها أن يكون العافي بالغا عاقلا، فلا يصح العفو من الصبي والمجنون، وإن كان الحق ثابتا لهما؛ لأن العفو من التصرفات المضرة المحضة فلا يملكانه كالطلاق والعتاق والهبة
…
ب- أدلة مشروعية العفو عن القصاص وأفضليته:
استدل الفقهاء على إجازة العفو عن القصاص، وعلى أنه أفضل من القصاص بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى في سياق آية القصاص2: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ
1 سورة فصلت الآية رقم 34.
2 سورة البقرة الآية 178.
رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} ، فقد أجازت الآية العفو وجعلته تخفيفا ورحمة من الله للناس.
وقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} 1 أي: من تصدق بالقصاص، أو عفا عنه، فإن العفو يكون كفارة للجاني بعفو صاحب الحق عنه، وكفارة للعافي؛ لأنه قد تصدق به عليه.
وأما السنة: فمنها ما روي عن أنس بن مالك قال: "ما رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر فيه القصاص إلا أمر فيه بالعفو" رواه الخمسة إلا الترمذي، وعن أبي الدراداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجل يصاب بشيء في جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة وحط عنه خطيئة" رواه ابن ماجه والترمذي2، ومنها حديث أنس بن النضر في قصة "الربيع بنت النضر" حين كسرت ثنية جارية، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فعفا القوم، وقد تقدم نصه3.
وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء على جواز العفو ولم يختلفوا في مشروعيته.
ج- العفو مجانا:
أجمع العلماء على جواز العفو مجانا، ولم يختلفوا في ذلك، وإنما وقع
1 سورة المائدة الآية رقم 45.
2 راجع نيل الأوطار ج7، ص29.
3 راجع ص146.
الخلاف فيما هو الأولى للمظلوم: هل الأولى العفو عن ظالمه أو الترك؟ فريق من العلماء رجح الأول، وفريق رجح الثاني.
ووجه ترجيح الأول: أن الله تعالى لا يندب عباده إلى العفو إلا ولهم فيه مصلحة راجحة على مصلحة الانتصاف من الظالم، فالعافي له من الأجر بعفو عن ظالمه فوق ما يستحقه من العوض عن تلك المظلمة من أخذ أجر ووضع وزر لو لم يعف عن ظالمه.
ومن رجح الثاني قال: إنا لا نعلم هل عوض المظلمة أنفع للمظلوم، أم أجر العفو؟ ومع التردد في ذلك لا يكون هناك طريق إلى القطع بأولية العفو، فيكون الترك هو الراجح.
والراجح عندي هو الرأي الأول؛ لأن عدم الجزم بأولية العفو يقابله أنه لا جزم بأولية الترك أيضا، ثم الدليل قائم على أولوية العفو؛ لأن الترغيب من الشارع الحكيم في شيء يستلزم رجحانه1، ويؤيد هذا الأحاديث -المذكورة آنفا- التي جعلت موجب العفو رفع درجات العافي وحط خطيئته.
وما ورد من أن الله يزيده به عزا، فقد روي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله بها عزا" رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه2.
1 نيل الأوطار ج7، ص30.
2 وما رواه عبد الرحمن بن عوف من قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث والذي نفس محمد بيده إن كنت لحالفا عليهن: لا ينقص مال من صدقة فتصدقوا، ولا يعفو عبد عن مظلمة يبتغي بها وجه الله عز وجل إلا زاده الله بها عزا يوم القيامة، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر" رواه أحمد.
5-
العفو المقترن بسكوت ولي الدم عن المطالبة بعوض:
إذا صدر العفو من ولي الدم عن الجاني دون أن يقترن عفوه بمقابل من مال أو غيره، فإن الفقهاء قد اختلفوا فيما يجب في هذه الحالة، واختلافهم هنا هو فرع اختلافهم الذي قررناه آنفا، وهو هل موجب القتل العمد القصاص عينا، أم أن ولي الدم مخير بين القصاص والدية؟ فمن قال بالثاني قال بوجوب الدية إذا صدر العفو دون أن يقترن بمقابل؛ لأن الواجب أحد الشيئين، فإذا أسقط أحدهما وجب الآخر دون الحاجة إلى بيان، ومن قال بالأول أسقط القصاص عن الجاني في هذه الحالة، وليس لولي الدم شيء آخر؛ لأن موجب العمد القصاص عينا، وقد أسقطه، فلا شيء له بعد ذلك؛ إلا أن هناك حالات يترتب عليها الدية بعد العفو عن القصاص، ونورد هذا التفصيل فيما يأتي من مذهب الحنفية الآخذين بهذا الرأي.
آثار العفو المطلق عند القائلين بوجوب القصاص عينا:
فصل الكاساني الحنفي في بدائعه هذه الآثار تفصيلا دقيقا فقال: وأما حكم العفو، فالعفو في الأصل لا يخلو إما أن يكون من الولي، ،إما أن يكون من المجروح، فإن كان من الولي لا يخلو أن يكون منه بعد الموت، أو قبل الموت بعد الجرح، فإن كان بعد الموت فإما أن يكون الولي واحدا وإما أن يكون أكثر.
فإن كان الوالي واحدا بأن كان القاتل والمقتول واحدا فعفا عن القاتل، وكان هذا العفو بعد الموت سقط القصاص.. ولا ينقلب إلى مال عند من قال بأن الواجب القصاص عينا.
وأما إذا كان ولي الدم اثنين أو أكثر فعفا أحدهما سقط القصاص عن
القاتل؛ لأنه سقط نصيب العافي بالعفو، فيسقط نصيب الآخر ضرورة أنه لا يتجزأ؛ إذ القصاص قصاص واحد، فلا يتصور استيفاء بعضه دون بعض، وينقلب نصيب الآخر مالا بإجماع الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم؛ فإنه روي عن عمر وعبد الله بن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أنهم أوجبوا في عفو بعض الأولياء الذين لم يعفوا نصيبهم من الدية، وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولم ينقل أنه أنكر أحد منهم فيكون إجماعا1.
وقيل: إن قوله تبارك وتعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} نزلت في دم بين شركاء يعفو أحدهم عن القاتل، فللآخرين أن يتبعوه بالمعروف في نصيبهم؛ لأنه قال سبحانه وتعالى:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ، وهذا العفو عن بعض الحق، ويكون نصيب الآخر، وهو نصف الدية في مال القاتل؛ لأن القتل عمد، إلا أنه تعذر استيفاء القصاص لما ذكرنا، والعاقلة لا تعقل العمد.
أما إذا كان لكل واحد منهما قصاص كامل قبل القاتل، بأن قتل واحد رجلين فعفا أحدهما عن القاتل لا يسقط قصاص الآخر؛ لأن كل واحد منها استحق عليه قصاصا كاملا، ولا استحالة له في ذلك؛ لأن القتل ليس تفويت الحياة ليقال: إن الحياة الواحدة لا يتصور تفويتها من اثنين، بل هو اسم لفعل مؤثر في فوات الحياة عادة، وهذا يتصور من كل واحد منهما في محل واحد على الكمال، فعفو أحدهما عن حقه وهو القصاص لا يؤثر في حق
1 وسيأتي أن بعض الفقهاء قد خالف في هذا الحكم، فجعل القصاص حقا لكل واحد من أولياء الدم، وسنوضحه بمشيئة الله تعالى في القصد الخامس. راجع: بدائع الصنائع ج7، ص247-248، والدسوفي على الشرح الكبير ج4، ص261، ومواهب الجليل ج6، ص254، والمغني لابن قدامة ج، 3، ص465، والمحلى لابن حزم ج10، ص484.
صاحبه، بخلاف القصاص الواحد المشترك1.
وأما إذا عفا الولي عن القاتل بعد الجرح وقبل الموت، فالقياس ألا يصح عفوه؛ لأن العفو عن القتل يستدعي وجود القتل، والفعل لا يصير قتلا إلا بفوات الحياة عن المحل، ولم تفت الحياة عن المحل حتى الآن، فالعفو لم يصادف محله، وإذا لم يصادف العفو محله لا يصح.
وفي الاستحسان يصح عفوه، وللاستحسان وجهان؛ أحدهما: أن الجرح متى اتصلت به السراية تبين أنه وقع قتلا من حين وجوده، فكان عفوا عن حق ثابت، والعفو عن الحق الثابت يصح، فكذا هذا؛ ولهذا لو كان الجرح خطأ فكفر بعد الجرح قبل الموت، ثم مات، جاز التكفير، والثاني: أن القتل إن لم يوجد للحال فقد وجد سبب وجوده، وهو الجرح المفضي إلى فوات الحياة، والسبب المفضي إلى الشيء يقام مقام ذلك الشيء في أصول الشرع؛ كالنوم مع الحدث، والنكاح مع الوطء، وغير ذلك؛ لأنه إذا وجد سبب وجود القتل كان العفو تعجيل الحكم بعد وجود سببه، وأنه جائز كالتفكير بعد الجرح قبل الموت في قتل الخطأ.
عفو المجروح قبل موته:
وأما إن عفا المجني عليه عن الجاني بعد الجرح وقبل الموت ثم مات، فللفقهاء في حكم ذلك رأيان:
أحدهما: قال الحنفية والمالكية والحنابلة والأوزاعي وطاوس والحسن وقتادة وهو أحد قولي الشافعي2: يسقط القصاص ولا شيء لأولياء
1 بدائع الصنائع ج7، ص248.
2 المراجع: بداية المجتهد لابن رشد ج2، ص395، والمغني لابن قدامة ج9، ص472، والمحلى لابن حزم ج10، ص486-489.
الدم بعد ذلك، وقد استدلوا على ذلك بالكتاب والسنة والإجماع والاستحسان:
أما الكتاب فقد قال تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} وقال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} 1.
وكل هذه الآيات تفيد أن للمجني عليه أن يعفو عن الجاني، وإذا ثبت ذلك له وجب أن يكون للعفو أثره، وأثره هو سقوط القصاص، ولا شيء لولي الدم بعد ذلك.
وأما السنة فقد روي عن قتادة أن عروة بن مسعود الثقفي دعا قومه إلى الله ورسوله، فرماه رجل منهم بسهم، فمات، فعفا عنه، فدفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاز عفوه، وقال:"هو كصاحب ياسين"3.
وعن عمران بن ظبيان عن عدي بن ثابت قال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من تصدق بدم فما دونه كان كفارة له من يوم ولد إلى يوم تصدق به"، فقد دل الحديثان على جواز عفو المجني عليه دلالة ظاهرة.
وقالوا أيضا: إنه قد أجاز ذلك ابن عمر والصحابة متوافرون، ولم يعرف له مخالف.
1 سورة الشورى الآية رقم 40.
2 سورة النحل الآية رقم 126.
3 هو حبيب النجار، فإنه حينما دعا قومه إلى الإيمان بالله تعالى رجموه بالحجارة، وفيه قال الله تعالى:{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} الآية 20 من سورة يس.
كما قالوا: إن الذي عفا هو المجني عليه، فهو أولى بنفسه، ولأن من بعده يكون نائبا عنه في المطالبة بدمه أو ديته، فكيف يقبل من نائبه ولا يقبل منه؟!!
كما قال الحنفية: إن القياس يقضي بألا يصح عفو المجني عليه، ولكن الاستحسان يقضي بصحته، ووجه القياس والاستحسان ما بيناه آنفا.
الرأي الثاني: قال أبو ثور وداود وهو قول الشافعي بالعراق: لا يلزم عفوه وللأولياء القصاص أو العفو، واستدلوا على ذلك بالكتاب والسنة والقياس:
أما الكتاب فقد قال تعالى في القتل خطأ: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} 1، وقال جل شأنه في القتل العمد:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} 2.
ويبين ابن حزم وجه الاستدلال فيقول: فصح أن الدية في الخطأ فرض أن تسلم إلى أهله، فإذ ذلك كذلك فحرام على المقتول أن يبطل تسليمها إلى من أمر الله تعالى بتسليمها إليهم، وحرام على كل أحد أن ينفذ حكم المقتول في إبطال تسليم الدية إلى أهله، فهذا بيان لا إشكال فيه3.
وصح بنص كلام الله تعالى -في الآية الثانية- وحكمه الذي لا يرد أن الله تعالى جعل لولي المقتول سلطانا، وجعل إليه القود، وحرم عليه أن يسرف
1 سورة النساء الآية رقم 92.
2 سورة الإسراء الآية رقم 33.
3 المحلى ج10، ص489-492.
في القتل فمن الباطل المتيقن أن يجوز للمقتول حكم في إبطال السلطان الذي جعله الله تعالى لوليه، ومن الباطل البحت إنفاذ حكم المقتول فيما يخالف حكم الله تعالى.
وأما السنة فقد سبق أن بينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الخيار لأهل المقتول في القود أو الدية أو العفو1، وهذا يثبت أيضا أنه لا يصلح للمقتول أن يبطل الخيار الذي جعله الله ورسوله لأهله بعد موته.
ثم قال ابن حزم: ولم يأتِ قط نص من الله تعالى ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم على أن للمقتول سلطانا في القود في نفسه، ولا أن له خيارا في دية أو قود، وبهذا يكون قوله تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} إنما هو فيما جنى عليه فيما دون النفس، وفيما عفا عنه من جعل الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم العفو إليه، وهم الأهل بعد موت المقتول.
وبرهان آخر: أن الدية عوض عن القود بلا شك في العمد، وعوض عن النفس في الخطأ بيقين، ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن المقتول ما دام حيا فليس له الحق في القود، فإذ لا حق له في ذلك فلا عفو له ولا أمر فيما لا حق له فيه، وكذلك من لم تذهب نفسه بعد؛ لأن الدية في الخطأ عوض عنها، فلم يجب له بعد شيء، فلا حق له فيما لم يجب بعد.
أما قوله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} فإنه جاء بعد قوله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ، وهذا كله كلام مبتدأ بعد تمام قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ
1 راجع نص الحديث ص155.
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، فإنما جاء النص على الصدقة بالجروح لا النفس1.
وأما قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} فذلك إنما هو فيما دون النفس، لا في النفس؛ لأن المخاطب فيها بأن يعاقب بمثل ما عوقب به هو الشخص الذي عوقب نفسه، وليس في الآية جواز العفو عن النفس أصلا، وإنما فيها جواز العفو عن أن يعاقب بمثل ما عوقب به فقط.
وأما قوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} فهي عامة يدخل فيها العفو عن النفس وما دونها وعفو المجني عليه وعفو الولي أيضا.
وأما حديث عروة بن مسعود "ض" فإنما قام يدعو قومه إلى الإسلام وهم كفار حربيون، فرموه فقتلوه، ولا خلاف بين أحد من الأمة في أنه لا قود على قاتله إذا أسلم ولا دية.
وأما حديث عدي بن ثابت فضعيف، وكذا ما روي عن ابن عمر2.
القياس: ويستدل لهذا الرأي أيضا بالقياس وقد بينا آنفا وجهه3.
ويضاف إلى ما تقدم أنه من ناحية النظر إلى أولياء الدم وتحقيق المصلحة لهم، فإن القول بأن عفو المجني عليه لا يسقط حقهم في القصاص أو الدية يهدئ من ثائرتهم ويطفئ ثأر العداوة التي تتأجج بعد موت المجني عليه بين أسرة الجاني وبينهم، فضلا عن أن ولي الدم قد يتأثر بموت المجني عليه الذي
1 المحلى لابن حزم ج10، ص487.
2 نفس المرجع.
3 ص161.
أن يرعاه وينفق عليه وحينئذ فصيرورة الأمر إليه في اختيار القصاص أو الدية أو العفو يعطيه فرصة يتمكن خلالها من موازنة أموره واختيار ما يناسبه.
هـ- المصالحة على الدم:
أجاز الفقهاء أن يصطلح القاتل وأولياء المقتول عن القصاص على مال أخذه في مقابل دم وليه، فإذا اصطلحا سقط القصاص ووجب المال المسمى مالا، قليلا أو كثيرا زائدا على مقدار الدية1؛ لقوله تعالى:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} .
قال ابن عباس والحسن والضحاك ومجاهد: نزلت الآية في الصلح، وهو موافق للام، فإن عفا إذا استعمل باللام كان معناه البدل، أي: فمن أعطى من جهة أخيه المقتول شيئا من المال بطريق الصلح فاتباع بالمعروف، أي: فمن أعطى -وهو ولي القتل- مطالبة ببدل الصلح عن مجاملة وحسن معاملة؟؟؟ 1، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين: إن شاءوا قادوا وإن شاءوا أخذوا الدية"، وقد فسروه بأن أخذ المال إنما يكون برضا القاتل، ولأنه حق ثابت للورثة يجري فيه الإسقاط عفوا، وكذا تعويضا لاشتماله على إحسان الأولياء وإحياء القاتل، فيجوز بالتراضي القليل والكثير فيه سواء؛ لأنه ليس فيه نص مقدر فيفوض إلى اصطلاحهما الخلع وغيره.
1 العناية هامش فتح القدير ج8، ص275، الزيلعي ج6، ص112. وراجع للمالكية الشرح الكبير ج4، ص240.
المقصد الرابع: شرط استفياء القصاص:
بعد أن تبينا حقيقة القتل العمد الموجب للقصاص في الفقه الإسلامي نوضح فيما يلي آراء الفقهاء1 في الشروط التي يلزم توافراها في الجاني والمجني عليه لاستفياء القصاص من الجاني، مقدمين الشروط التي اتفقوا عليها على الشروط المختلف فيها، ومرجحين ما تقضي الأدلة برجحانه:
1 آراء الفقهاء في شروط استيفاء القصاص:
لقد تناول الفقهاء هذه الشروط، ونظرا لاختلافهم في بعضها نورد فيما يلي رأي كل مذهب على حدة:
أ- مذهب الحنفية:
اشترط الحنفية لاستيفاء القصاص من الجاني شروطا بعضها يرجع إلى الجاني، وبعضها يرجع إلى المجني عليه.
ما يشترط في القاتل: يشترط من الجاني أمران:
أحدهما: التكليف، ومعناه أن يكون القاتل بالغا عاقلا، فإن كان صبيا أمجنونا لا يجب القصاص منه؛ لأن القصاص عقوبة وهما ليسا من أهل العقوبة؛ لأن العقوبة لا تجب إلا بالجناية وفعلهما لا يوصف بالجناية لعدم القصد الصحيح، ولأن العمد يترتب على العلم، والعلم لا يكون إلا بالعقل والمجنون عديم العقل، والصبي قاصر العقل، فأنَّى يتحقق منهما القصد؟!! =
.......................................................................
= فصار في جنايته كالنائم، أي: أن جناية كل منهما تكون خطأ، وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه جعل دية المجنون على عاقلته، وقال: عمده وخطؤه سواء، ولأن الصبي مظنة المرحمة، وقد استحق العاقل القاتل خطأ التخفيف حتى وجبت الدية على العاقلة، والصبي -وهو أعذر- أولى بهذا التخفيف.
الثاني: أن يكون القاتل مختارا اختيار الإيثار، فالمكره على القتل لا يتوفر لديه هذا الاختيار، فإذا أكره شخص على قتل آخر، فإن كان الإكراه تاما فلا قصاص عليه عند أبي حنيفة ومحمد؛ ولكن يعزر ويجب القصاص على المكره، وقال زفر: يجب القصاص على المكرَه دون المكرِه.
وأما ذكورة القاتل وحريته وإسلامه، فليس من شرائط وجوب القصاص عند الحنفية.
ما يشترط في المقتول:
يشترط في المجني عليه ثلاثة أمور:
أحدها: ألا يكون جزء القاتل، فإذا قتل الأب ابنه لا قصاص عليه، كذلك الجد أب الأب وأب الأم وإن علا، وكذلك إذا قتل الرجل ولد ولده وإن سفلوا، وكذا الأم إذا قتلت ولدها، أو أم الأم أو أم الأب إذا قتلت ولد ولدها، والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: $"لا يقاد الوالد بولده"، واسم الوالد والولد يتناول كل والد وإن علا، وكل ولد وإن سفل، ولو كان في ورثة المقتول ولد للقاتل أو ولد ولده فلا قصاص؛ لأنه تعذر إيجاب القصاص للولد في نصيبه، فلا يمكن إيجاب القصاص للباقين؛ لأنه لا يتجزأ، وتجب الدية للكل. =
.....................................................................
= ويقتل الولد بوالده لعمومات الأدلة المثبتة للقصاص في القتل العمد من غير فصل، إلا أنه خص منها الوالد بالنص الخاص، فبقي الولد داخلا تحت العموم.
الثاني: ألا يكون المقتول ملكا للقاتل، ولا له فيه شبهة الملك، فلا يقتل المولى بعبده؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يقاد الوالد بولده، ولا السيد بعبده"، وكذا إذا كان يملك بعضه، ثم قتله، لا قصاص عليه؛ لأنه لا يمكن استفياء بعض القصاص دون بعض؛ لأنه غير متجزئ، وكذا إذا كان له فيه شبهة الملك كالمكاتب إذا قتل عبدا من كسبه؛ لأن للمكاتب شبهة الملك في اكتسابه، والشبهة في باب القصاص ملحقة بالحقيقة.
الثالث: أن يكون معصوم الدم مطلقا، فلا يقتل مسلم ولا ذمي بالكافر الحربي ولا بالمرتد؛ لعدم العصمة أصلا ورأسا، لا بالحربي المستأمن في ظاهر الرواية؛ لأن عصمته لم تثبت مطلقة بل مؤقتة إلى غاية مقامه في دار الإسلام؛ لأن المستأمن من أهل دار الحرب، وإنما دخل دار الإسلام لا لقصد الإقامة بل لعارض حاجة يدفعها ثم يعود إلى وطنه الأصلي، فكانت في عصمته شبهة العدم، وروي عن أبي يوسف أنه يقتل المسلم والذمي بالمستأمن قصاصا؛ لقيام العصمة ووجودها قبل القتل.
ولا تشترط المساواة بين الجاني والمجني عليه في غير العصمة عند الحنفية، فلا يشترط أن يكون المقتول مثل القاتل في كمال الذات، وهو سلامة الأعضاء، ولا أن يكون مثله في الشرف والفضيلة فيقتل سليم الأطراف بمقطوعها وبالأشل، ويقتل العالم بالجاهل، والشريف بالوضيع، والعاقل بالمجنون، والبالغ بالصبي، والذكر بالأنثى، والحر بالعبد، والمسلم بالذمي، وتقتل الجماعة بالواحد قصاصا، والواحد بالجماعة قصاصا اكتفاء، ولا يجب مع القود شيء من المال.
"فتح القدير ج8، ص259، 323، وبدائع الصنائع ج7، ص234". =
........................................................................
= ب- المالكية:
حدد المالكية الشروط التي يلزم توافرها في كل من الجاني والمجني عليه لإيجاب القصاص من الجاني فيما يأتي:
ما يشترط في الجاني:
يشترط في الجاني ثلاثة شروط:
أحدها: التكليف: أي أن يكون الجاني بالغا عاقلا، فإن كان الجاني صبيا أو مجنونا فلا يقتص منهما؛ لأن عمدهما وخطأهما سواء؛ لأنه لا عمد للمجنون؛ ولذا لو كان يفيق أحيانا، وجنى حال إفاقته اقتص منه حال إفاقته، فإن جن بعد الجناية انتظرت إفاقته، فإن لم يفق فالدية في ماله.
والسكران بحلال حكمه حكم المجنون، وإن سكر بحرام كان كالبالغ العاقل.
وسواء كان الجاني المكلف ذكرا أو أنثى، حرا أو رقيقا، مسلما أو كافرًا.
الثاني: أن يكون الجاني معصوم الدم، والعصمة تكون بالإسلام أو عقد الأمان من السلطان أو غيره، ويشمل ذلك عقد الذمة.
أي: أنه يشترط أن يكون الجاني غير حربي، مسلما كان أم ذميا؛ لأن الحربي لا يقتل قصاصا، بل يهدر دمه؛ ولذا لو أسلم أو دخل دار الإسلام بأمان لم يقتل.
الثالث: المكافأة: أي أنه يجب ألا يكون أزيد من المجني عليه بإسلام أو حرية، أو بعبارة أخرى: أن يكون الجاني مماثلا للمجني عليه أو أنقص منه. =
........................................................................
= وتطبيقا لذلك: يقتل الحر المسلم بمثله، والعبد بالعبد إذا كانا متساويين في الدين أو كان المقتول مسلما والقاتل ذميا، ولا تشترط المماثلة في الذكورة والأنوثة، فتقتل الأنثى بالأنثى، وبالذكر المماثل لها -إسلاما وحرية- وعكسه، ويقتل العبد بالحر والذمي بالمسلم ولو رقيقا؛ لأن خيرية الدين أفضل من الحرية، ولا يقتل المسلم بالذمي.
ويشترط أن يكون الجاني متصفا بهذه الصفات حين القتل:
ما يشترط في المجني عليه: يشترط في المجني عليه أمران:
أولهما: العصمة وقت التلف، خرج الحربي والمرتد، فلا قصاص على قاتلهما لعدم العصمة.
ثانيهما: المكافأة للجاني، أو الزيادة عليه، فإذا كان المجني عليه أنقص من الجاني لم يقتص من الجاني، فلا يقتل حر مسلم برقيق مثلا.
"الشرح الكبير للدسوقي ج4، ص237، والشرح الصغير ج2، ص353، والخرشي ج 5، ص245".
ج- الشافعية:
حدد الشافعية الشروط التي يلزم توافرها في الجاني والمجني عليه لإيجاب القصاص ونوضحها فيها يلي:
ما اشترط في الجاني: يشترط في الجاني ثلاثة أمور:
أحدها: التكليف: أي البلوغ والعقل، فإذا كان القاتل صبيا أو مجنونا فلا قصاص عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: $"رفع القلم عن =
...................................................................
= ثلاثة: عن النائم حتى يستقيط، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق".
ومحله في المجنون أن يكون الجنون مطبقا، أما الجنون المتقطع فينظر إن كانت الجناية في زمن إفاقته، فهو كالعاقل الذي لا جنون به، وإن كانت في زمن جنونه فهو كالمجنون الذي لا إفاقة له.
ويستثنى من شرط العقل جناية السكران المتعدي بسكره على الغير، فإن المذهب يقضي بوجوب القصاص عليه في هذه الحالة؛ لأنه مكلف، ولئلا يؤدي عدم وجوبه عليه إلى ترك القصاص؛ لأن من رام القتل لا يعجز أن يسكر حتى يقتص منه، وألحق به من تعدى بشرب دواء مزل للعقل؛ أما غير المتعدي فهو كالمعتوه فلا قصاص عليه.
الثاني: مكافأة القاتل للقتيل، وهي أن يكون مساويا له لا يفضله بإسلام أو أمان أو حرية أو سيادة، وتعتبر المساواة في ذلك حال الجناية.
الثالث: ألا يكون أصلا للمقتول، فإن كان أصلا له لا يقتل به.
فلا يقتل والد بولده وإن سفل لخبر البيهقي: "لا يقاد للابن من أبيه" لرعاية حرمته، ولأنه كان سببا في وجوده فلا يكون سببا في عدمه، والوالد شمل الأب والأم والأجداد والجدات وإن علوا من قبل الأم والأب جميعا؛ لأن الحكم يتعلق بالولادة فاستوى فيه من ذكر كالنفقة، ويقتل الولد بوالديه وإن علوا، بل أولى، وتقتل المحارم بعضهم ببعض.
ما يشترط في المجني عليه: يشترط فيه أمران:
أحدهما: أن يكون المجني عليه معصوما؛ والعصمة تكون بالإسلام =
.....................................................................
= أو الأمان، أما الإسلام فلقوله صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها".
كما تكون بالأمان: بعقد ذمة أو عهد أمان مجرد؛ لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} الآية 29 من سورة التوبة.
وقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} الآية 6 من سورة التوبة.
الثاني: ألا يكون صائلا ولا قاطع طريق لا يندفع شره إلا بالقتل، فإن كان كذلك كان دمه غير معصوم في تلك الحالة وإن كان مسلما.
وبناء على ما تقدم لا يقتل مسلم بذمي، ولا ذمي بمرتد، ولا حر بمن فيه رق وإن قل.
"مغني المحتاج ج4، ص18، وحاشية البرماوي".
د- الحنابلة:
يشترط لاستيفاء القصاص عند الحنابلة ما يأتي:
يشترط في الجاني أن يكون مكلفا؛ لأن القصاص عقوبة، وغير المكلف ليس محلا لها، فأما الصبي والمجنون وكل زائل العقل بسبب يعذر فيه كالنائم والمغمى عليه والسكران كرها فلا قصاص عليهم؛ لأن التكليف من شروطه وهو معدوم، قال صلى الله عليه وسلم:"رفع القلم عن ثلاثة" الحديث تقدم نصه، ولأن القصاص عقوبة مغلظة، فلم تجب على الصبي =
.....................................................................
= وزائل العقل كالحدود، ولأنه ليس لهم قصد صحيح فهم كالقاتل خطأ.
وأما من زال عقله بسبب لا يعذر فيه كمن سكر طوعا فإنه إذا قتل اقتص منه؛ لأن الصحابة أوجبوا عليه حد القذف، وإذا وجب الحد فالقصاص المتمحض حق آدمي أولى؛ لأن عدم إيجاب القصاص منه يفضي إلى أن يكون عصيانه سببا لإسقاط العقوبة عنه!!
ويشترط في المجني عليه ثلاثة شروط:
الأول: أن يكون المقتول معصوما؛ لأن القصاص إنما شرع حفظا للدماء المعصومة، وزجرا عن إتلاف البنية المطلوب بقاؤها، وذلك معدوم في غير المعصوم، فلا يجب قصاص ولا دية ولا كفارة بقتل حربي؛ لأنه مباح الدم على الإطلاق؛ لقوله تعالى:{اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} .
وكذلك لا يجب قصاص ولا دية ولا كفارة بقتل زان محصن؛ لأنه مباح الدم، متحتم قتله فلم يضمن كالحربي.
وكذلك لا يجب ذلك بقتل محارب -قاطع طريق- تحتم قتله، بأن قتل وأخذ المال، ولأنه مباح الدم.
ويعزر قاتل هؤلاء لافتياته على الإمام، والقاتل معصوم الدم لغير مستحق دمه؛ لأنه لا سبب فيه يباح به لغير ولي مقتوله.
الثاني: أن يكون المجني عليه مكافئا للجاني، وهو أن يساويه في الدين والحرية أو الرق؛ لأن المجني عليه إذا لم يكافئ الجاني كان أخذه به أخذا لأكثر من الحق، فلا يفضل القاتل المقتول بإسلام أو حرية أو ملك، =
.......................................................................
= الثالث: ألا يكون المقتول من ذرية القاتل، فلا يقتل والد -أبا كان أو أما- وإن علا بولده وإن سفل من ولد البنين أو البنات؛ لحديث ابن عباس مرفوعا:"لا يقتل والد بوالده" رواه ابن ماجه والترمذي من رواية إسماعيل بن مسلم المكي، ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه من رواية حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال ابن عبد البر: هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق، يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد، حتى يكون الإسناد في مثله مع شهرته تكلفا.
وقال عليه الصلاة والسلام: "أنت ومالك لأبيك"، فمقتضى هذه الإضافة تمكينه إياه، فإذا لم تثبت حقيقة الملكية أثبتت الإضافة شبهة في إسقاط القصاص؛ لأنه يدرأ بالشبهات، ولأنه كان سببا في إيجاده فلا يكون سببا في إعدامه، وتؤخذ من حرية المقتول كما تجب على الأجنبي لعموم أدلتها، ولا تأثير لاختلاف الدين ولا اختلاف الحرية كاتفاقهما.
"المغني والشرح الكبير ج9، ص35، 356، 371، وكشاف القناع ج3، ص345".
هـ- شروط استيفاء القصاص عند الزيدية:
يشترط لاستفياء القصاص من الجاني أمران:
أحدهما: أن يكون الجاني مكلفا فلا قصاص فيما جناه الصبي أو المجنون أو المغمى عليه، أو النائم، وأما السكران فيقتص منه، ولا يعتبر أن يكون المقتص منه مكلفا حال القصاص كحال الجناية، بل يقتص منه ولو كان حال القصاص زائل العقل. =
........................................................................
= الثاني: المكافأة للمقتول في الدين والحرية، وذلك بأن يكون القاتل مساويا للمقتول أو أقل منه في ذلك، فإن كان أفضل منه فلا قصاص، فلا يقتل مسلم بكافر، ويقتل الكافر بالكافر وإن اختلفت العلة، ولا يقتل حر بعبد، ولا يقتل حر ذمي بعبد مسلم، والعكس؛ لأن في كل منهما مزية تمنع القصاص، ولا يقتل الذمي بمرتد، ويقتل المرتد بالذمي.
ويشترط في المجني عليه ألا يكون المقتول أو ولي الدم فرعا للقاتل، فلا يجب القصاص لفرع من النسب على أصل له، فلا يقتل أب ولا جد وإن علا، ولا أم ولا جدة وإن علت، بفرع لهم إن سفل، وأما الفرع من الزنا فيثبت له القصاص على الأب وأصوله من جهة الزنا.
وكذلك لا يقتل الولد أمه بأبيه ونحوه، فإذا قتلت المرأة زوجها أو ابن ابنها أو أخاه أو عمه، وولاية لقصاص أو بعضه إلى ابنها لم يكن لولدها أن يقتلها بأصله، وهو أبوه ونحوه، وهو أخوه وابنه وعمه، وكذلك لا يقتص من الأطراف، وكذلك لا يجوز لأب المقتول أن يقتل أم المقتول التي قتلت ولدها، فإذا قتلت الأم ولدها لم يكن لأبيه أن يقتلها به ونحوه.
وضابطه: أنه إذا كان المقتول أو ولي الدم فرعا، فلا يجب القود نحو أن تقتل الأم ابن ابنها بعد أن مات ابنها، فليس للأب أن يقتل الأم بابن ابنها وإن سفل.
وحيث لا قصاص على الأصل في نفس ولا طرف تجب عليه الدية ونحوها من أروش الأطراف والجراحات، أو قيمة العبد؛ إذ لا موجب لسقوطها ويلزم الأصل فقط مع الدية الكفارة للقتل؛ لأن عمده خطأ؛ لأنه صلى =
...................................................................
= الله عليه وسلم أوجبها على الأصل مع الدية، أما قاتل العبد والكافر فلا كفارة عليهما، كما لا كفارة في قتل العمد.
"التاج المذهب ج4، ص261".
و شروط استفياء القصاص عند الإمامية:
يشترط لاستفياء القصاص عند الإمامية خمسة شروط، نوردها كما وردت بكتبهم:
أولا: التساوي في الحرية أو الرق:
فيقتل الحر بالحر، سواء كان القاتل ناقص الأطراف، عادم الحواس، والمقتول صحيح الأطراف أم العكس لعموم الآية، سواء تساويا في العلم والشرف والغنى والفقر والصحة والمرض، والقوة والضعف والكبر والصغر أو تافوتا، حتى وإن أشرف المريض على الهلاك أو كان الطفل مولودا في الحال.
ويقتل الحر بالحرة مع رد وليها عليه نصف ديته؛ لأن ديته ضعف ديتها، وبالخنثى مع رد ربع الدية، والخنثى بالمرأة مع رد الربع عليه كذلك.
وتقتل الحرة بالحرة ولا رد إجماعا، وتقتل الحرة بالحر ولا يرد أولياؤها على الحر شيئا "على الأقوى" لعموم النفس وخصوص صحيحتي الحلبي وعبد الله بن سنان عن الصادق "ع" الدالتين على ذلك صريحا وأن الجاني لا يجني على أكثر من نفسه.
ويقتل العبد بالحر والحرة، وبالعبد وبالأمة، وتقتل الأمة بالحر والحرة وبالعبد والأمة مطلقا. =
.....................................................................
= ولا يقتل الحر بالعبد إجماعا؛ عملا بظاهر الآية وصحيحة الحلبى وغيره عن الصادق "ع": "لا يقتل الحر بالعبد"، ورواه العامة عن النبي صلى الله عليه وسلم وادعى في الخلاف إجماع الصحابة عليه.
ولو قتل المولى عبده كفر كفارة القتل وعزر، ولا يلزمه شيء غير ذلك على الأقوى، وقيل: تجب الصدقة بقيمته، وقيل: إن اعتاد ذلك قتل كما لو اعتاد قتل غير مملوكه.
الشرط الثاني: التساوي في الدين:
فلا يقتل مسلم بكافر -حربيا كان الكافر أم ذميا أم معاهدا- ولكن يعزر القاتل بقتل الذمي والمعاهد لتحريم قتلهما، يغرم دية الذمي.
وقيل: إن اعتاد قتل أهل الذمة اقتص منه بعد رد فاضل ديته، ومستند هذا القول مع الإجماع المذكور رواية إسماعيل بن الفضيل عن الصادق "ع" قال: سألته عن دماء اليهود والنصارى والمجوس هل عليهم على من قتلهم شيء إذا غشوا المسلمين وأظهروا لهم العداوة؟ قال: لا، إلا أن يكون معتادا لقتلهم. قال: وسألته عن المسلم هل يقتل بأهل الذمة وأهل الكتاب إذا قتلهم؟ قال: لا، إلا أن يكون معتادا لذلك لا يدع قتلهم، فيقتل وهو صاغر وأنه مفسد في الأرض بارتكاب قتل من حرم الله قتله.
الثالث: انتفاء الأبوة:
فلا يقتل الوالد وإن علا بابنه وإن نزل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: $"لا يقاد لابن من أبيه". والبنت كالابن إجماعا، أو بطريق الأولى. =
......................................................................
= ويعزر الوالد بقتل الولد، ويكفر، وتجب الدية لغيره من الورثة.
ويقتل باقي الأقارب بعضهم ببعض كالولد بوالده وهو شامل للأنثى، والأم بابنها، والأجداد من قبلها، وإن كانت لأب، والجدات مطلقا والأخوة والأعمام والأخوال وغيرهم.
ولافرق في الوالد بين المساوي لولده في الدين والحرية والمخالف، فلا يقتل الأب الكافر بولده المسلم، ولا الأب العبد بولده الحر للعموم، ولأن المانع شرف الأبوة.
نعم لا يقتل الولد المسلم بالأب الكافر، ولا الحر بالعبد لعدم التكافؤ.
الرابع: كمال العقل فيهما، فلا يقتل المجنون بعاقل ولا مجنون، سواء كان الجنون دائما أم أدوارا، إذا قتل حال جنونه، والدية ثابتة على عاقلته لعدم قصده القتل، فيكون كخطأ العاقل، ولصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر "ع" قال: كان أمير المؤمنين "ع" يجعل جناية المعتوه على عاقلته خطأ كان أو عمدًا.
وكما يعتبر العقل في طرف القاتل كذا يعتبر في طرف المقتول، فلو قتل العاقل مجنونا لم يقتل به، بل الدية إن كان القتل عمدا أو شبهه وإلا فعلى العاقلة.
نعم لو صال المجنون عليه لم يمكنه دفعه إلا بقتله فهدر.
ولا يقتل الصبي ببالغ ولا صبي، بل تثبت الدية على عاقلته بجعل عمده خطأ محضا إلى أن يبلغ وإن ميز لصحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله "ع" قال: عمد الصبي وخطؤه واحد، وعنه أن عليا "ع" كان يقول: عمد الصبيان خطأ تحمله العاقلة. واعتبر في التحرير مع البلوغ الرشد ليس بواضح. =
..................................................................
= ويقتل البالغ بالصبي على أصح القولين لعموم "النفس بالنفس"، وأوجب أبو الصلاح في قتل البالغ الدية كالمجنون؛ لاشتراكهما في نقصان العقل، ويضعف بأن المجنون خرج بدليل خارج، وإلا كانت الآية متناولة له، بخلاف الصبي مع أن الفرق بينهما متحقق.
ولو قتل العاقل -من يثبت عليه بقتله القصاص- ثم جن أي العاقل القاتل اقتص منه، ولو حالة الجنون؛ لثبوت الحق في ذمته عاقلا فيستصحب كغيره من الحقوق.
الخامس: أن يكون المقتول محقون الدم -أي غير مباح القتل شرعا- فمن أباح الشرع قتله لزنا أو لواط أو كفر لم يقتل به قاتله وإن كان بغير إذن الإمام؛ لأنه مباح الدم في الجملة، وإن توقفت المباشرة على إذن الحاكم فيأثم بدونه خاصة.
ولو قتل غير الولي من وجب عليه قصاص قتل به؛ لأنه محقوق الدم بالنسبة إلى غيره.
"الروضة البهية ج2، ص401".
ز- شروط استيفاء القصاص عند الظاهرية:
أولا: أن يكون الجاني مكلفا -أي بالغا عاقلا- فلا قصاص على مجنون فيما أصاب في جنونه، ولا على من لم يبلغ، ولا على سكران فيما أصاب في سكره المخرج من عقله، وليس على واحد منهم دية ولا ضمان، وهؤلاء كالبهائم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث
…
" الحديث.
ثانيا: المكافأة بين الجاني والمجني عليه في الإسلام، فإن قتل مسلم عاقل بالغ ذميا أو مستأمنا عمدا أو خطأ فلا قصاص عليه ولا دية ولا كفارة؛ ولكن يؤدب في العمد خاصة، ويسجن حتى يتوب كفا لضرره؛ لأن قوله تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} جاءت في قتل المؤمن خاصة، ولا ذكر في هذه الآية لذمي أصلا ولا لمستأمن؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يقتل مؤمن بكافر".
"المحلى ج10، ص344، 347".
الشروط التي اتفقوا عليها:
لقد اتفق الفقهاء على اشتراط ثلاثة شروط لاستيفاء القصاص، بعضها في الجاني، وبعضها في المجني عليه، فإن لم تتوافر هذه الشروط سقط القصاص إما لا إلى بدل، أو إلى بدل عن القصاص؛ كالدية والتعزير، ونذكر هذه الشروط هنا بإيجاز؛ لأننا سنتناول بحثها تفصيلا في المقصد السادس من هذا النوع "الخاص بالظروف المبيحة أو المخففة لعقوبة القتل العمد في الفقه الإسلامي".
الشرط الأول: أن يكون الجاني مكلفا، فإن كان صبيا أو مجنونا فلا يجب القصاص منه؛ لأن القصاص عقوبة، وهما ليسا من أهل العقوبة؛ لأن العقوبة لا تجب إلا بالجناية، وفعلهما لا يوصف بالجناية لعدم القصد الصحيح، ولأن العمد يترتب على العلم، والعلم لا يكون إلا بالعقل، والمجنون عديم العقل، والصبي قاصر العقل، فأنَّى يتحقق منهما القصد فصار في جنايته كالنائم؛ أي: أن جناية كل منهما تكون خطأ عند جمهور الفقهاء "على ما يأتي بيانه" فقد روي عن علي رضي الله عنه أنه جعل دية المجنون على عاقلته، وقال: عمده وخطؤه سواء، ولأن الصبي مظنة الرحمة، وقد استحق العاقل القاتل خطأ التخفيف حتى وجبت الدية على العاقلة، والصبي -وهو أعذر- أولى بهذا التخفيف.
الشرط الثاني: أن يكون الصبي المجني عليه معصوم الدم، وعصمة الدم إما أن تكون بالإسلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" رواه مسلم، أو تكون بدار الإسلام، والإقامة بدار الإسلام لغير المسلمين إما أن تكون بعقد ذمة أو عقد أمان، فإن كانت بعقد ذمة، فالأصل فيه قوله جل شأنه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ
صَاغِرُونَ} 1 فقد جعلت الآية الكريمة نهاية القتال قبولهم إعطاء الجزية، فإذا قبلوها فقد عصموا دماءهم وأموالهم، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة:"فإن هم أبوا -أي الإسلام- فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك، فاقبل منهم وكف عنهم" رواه مسلم. وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: إنما قبلوا عقد الذمة لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا.
وإن كانت العصمة بعقد أمان، فالأصل فيه قوله تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} 2 فقد أباحت الآية للمسلمين السماح لغير المسلمين بدخول دار الإسلام لتحقيق غرض مشروع، ثم أمرت بأن يحافظ على المستأمن خلال فترة إقامته؛ حتى يصل إلى وطنه الذي جاء منه آمنا، فلا يباح الاعتداء على نفسه ولا على ماله ولا على عرضه، وقال صلى الله عليه وسلم:"المسلمون تتكافأ دماؤهم، هم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم".
فإن كان المجني عليه غير معصوم كما لو حربيا، أو مرتدا، أو زانيا محصنا، أو مستحقا القصاص في حق ولي الدم، فإن دمه هدر؛ لأنه مستحق للقتل، وقدسبق أن بينا الأدلة التي أهدر بها دم هؤلاء3.
وكذلك إن كان الجاني غير معصوم الدم، فإن قتله لا يكون قصاصا؛ لأن دمه مهدر، إما لكونه محاربا أو مرتدا أو زانيا محصنا.
الشرط الثالث: ألا يكون المجني عليه صائلا على الجاني، فإذا كان الجاني في حالة دفاع عن النفس أو العرض أو المال فإنه لا يكون مسئولا عما
1 الآية 29 من سورة التوبة.
2 الآية 6 من نفس السورة.
3 راجع ص52.
أحدثه بمن أراد الاعتداء عليه ما دام لم يتجاوز الحد، وسيأتي تفصيل ذلك في الظروف المبيحة.
"الشروط المختلف فيها":
لما كان القصاص هو المساواة، فقد اختلف الفقهاء في اشتراط المكافأة بين الجاني والمجني عليه؛ بمعنى أن يكون الجاني مساويا للمقتول أو أقل منه في الإسلام، أو الحرية، أو الذكورة، وكذلك في العدد -كجماعة تقتل واحدا، أو واحد يقتل جماعة- أما إن كان الجاني أفضل فيسقط القصاص، وتجب الدية، ولما كانت دراسة هذه الأمور من الأهمية بمكان، فإننا نتناولها بالبحث -مع الترجيح- فيما يلي:
أولا: اشتراط المكافأة في الدين:
لا خلاف أنه إذا قتل مسلم مسلما أو ذمي ذميا قتل به، وكذلك إذا قتل واحد من هؤلاء مسلما قتل به، أما إذا قتل مسلم ذميا أو مستأمنا، فإن الفقهاء يختلفون في قتله به، فريقا يرى أنه لا يقتل به، وفريقا يرى قتله به، ونوضح ما استند إليه كل فريق.
الرأي الأول: لا يقتل المسلم بالذمي والمستأمن:
قال جمهور الفقهاء "المالكية، الشافعية، الحنابلة، الزيدية، الإمامية، الظاهرية، الإباضية"1 وهو قول عمر بن عبد العزيز، وعطاء، والحسن، وعكرمة، والزهري، وابن شبرمة، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وابن المنذر: لا يقتص من المسلم إذا قتل ذميا أو مستأمنا، وقد استدلوا بالسنة والقياس.
1 شرح النيل ج15، ص118.
أما السنة: فقد روي عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم شيء من الوحي ما ليس في القرآن؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر، رواه أحمد والبخاري والنسائي وأبو داود والترمذي.
فقد نهى عليه الصلاة والسلام عن أن يقتل مسلم بكافر، وهو بعمومه يشمل كل كافر ذميا كان أم مستأمنا.
وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" رواه أحمد والنسائي وأبو داود وأخرجه الحاكم وصححه.
وجه الاستدلال: أن الحديث ينهى عن قتل المؤمن بالكافر كالحديث المتقدم، وأما جملة:"ولا ذو عهد في عهده" فإنها جملة مستأنفة وردت لمجرد النهي عن قتل المعاهد؛ أي: أن الحديث احتوى على عدة أحكام "المكافأة بين دماء المؤمنين، يصح عقد الذمة من أدناهم، عدم قتل المسلم بالكافر، عدم قتل المعاهد خلال مدة عهده".
وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه: أن مسلما قتل رجلا من أهل الذمة، فرفع إلى عثمان، فلم يقتله، وغلظ عليه الدية. قال ابن حزم: هذا غاية في الصحة، فلا يصح عن أحد من الصحابة شيء غير هذا إلا ما رويناه عن عمر أنه كتب في مثل ذلك أن يقاد به، ثم ألحقه كتابا فقال: لا تقتلوه، ولكن اعتقلوه1.
1 نيل الأوطار ج7، ص9.
وأما القياس: فقد قالوا: إن القصاص يعتمد المساواة بين الجاني والمجني عليه وقت الجناية، ولا مساواة بين المسلم والذمي في هذا؛ لأن الكافر ناقص بكفره، والمسلم كامل بإيمانه، فلا يقتل المسلم به.
وأيضا الذمي كافر، والكفر مبيح لدمه؛ لقوله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} 1 فقد أمر الله تعالى بقتالهم دفعا لفتنة الكفر، وهذا يدل على إباحة دمهم، فكون الذمي كافرا يورث شبهة الإباحة، والشبهة تسقط الحد، وبالأولى تسقط القصاص.
الرأي الثاني: يقتل المسلم بالذمي:
يرى الحنفية والشعبي والنخعي: أنه يقتل المسلم بالذمي، وقد استدلوا على ذلك بالكتاب والسنة والقياس.
أما الكتاب: فعموم قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} يوجب قتل المسلم بالذمي.
وأما السنة: فقد استدلوا أيضا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "العمد قود"، وبحديث علي رضي الله عنه -المذكور أنفا- وفيه:"ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده".
ووجه الاستدلال بهذا الحديث: أن قوله عليه الصلاة والسلام: "ولا ذو عهد في عهده"، معطوف على قوله:"مؤمن" فيكون التقدير: ولا ذو عهد في عهده بكافر، كما في المعطوف عليه.
فالمراد بالكافر المذكور في المعطوف هو الحربي فقط، بدليل جعله
1 الآية 192 من سورة البقرة.
مقابلا للمعاهد؛ لأن المعاهد يقتل بمن كان معاهدا مثله من الذميين إجماعا.
فيلزم أن يقيد الكافر في المعطوف عليه بالحربي كما قيد في المعطوف؛ لأن الصفة بعد متعدد ترجع إلى الجميع اتفاقا، فيكون التقدير: لا يقتل مؤمن بكافر حربي ولا ذو عهد في عهده بكافر حربي.
قال الطحاوي: ولو كانت فيه دلالة على نفي قتل المسلم بالذمي لكان وجه الكلام أن يقول: "ولا ذي عهد في عهده" وإلا لكان لحنا، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يلحن، فلما لم يكن كذلك علمنا أن ذا العهد هو المعني بالقصاص، فصار التقدير: لا يقتل مؤمن ولا ذو عهد في عهده بكافر، قال: ومثله في القرآن الكريم: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} فإن التقدير: اللائي يئسن من المحيض واللائي لم يحضن1.
وقال الطحاوي أيضا: ولا يصح حمله على الجملة المستأنفة -كما فهم أصحاب الرأي الأول- لأن سياق الحديث فيما يتعلق بالدماء التي يسقط بعضها ببعض؛ لأن في بعض طرقه: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم"، ولأن جعله كلاما تاما في نفسه يؤدي إلى ألا يقتل ذو عهد مدة عهده حتى وإن قتل مسلما، وليس هذا بصحيح بالإجماع، فيقدر: ولا ذو عهد في عهده بكافر، على طريقة قوله تعالى:{آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} .
فالحديث يدل بمنطوقه على أن المسلم لا يقتل بالكافر الحربي، وكذلك لا يقتل ذو العهد بالكافر الحربي، ويدل بمفهومه على أن المسلم يقتل بالذمي2.
1 الآية 4 من سورة الطلاق ويراجع فتح الباري ج12، ص212، ط أولى.
2 نيل الأوطار للشوكاني ج7، ص8 وما بعدها.
فإن قيل: ما كيفية قتل المسلم بالحربي حتى صح نفيه بالحديث وقتلهم واجب؟
فالجواب من جهتين: إحداهما: أنه إذا دخل مسلم دار الحرب بأمان فقتل كافرا حربيا، فقتله حرام، ولكن لا يقتص منه. والثانية: أن يقتل المسلم من لا يحل قتله من أهل دار الحرب كالنساء والصبيان فقتهلم حرام، ولكن لا يقتص منه أيضا، وبهذا يظهر أن للنص على ذلك في الحديث فائدة ظاهرة.
كما استدلوا بما أخرجه الطبراني أن عليا أُتي برجل من المسلمين قتل رجلا من أهل الذمة، فقامت عليه البينة، فأمر بقتله، فجاء أخوه فقال: إني قد عفوت، قال: فلعلهم هددوك، وفرقوك، وقرعوك1، قال: لا، ولكن قتله لا يرد علي أخي، وعرضوا لي، ورضيت، قال: أنت أعلم، من كان له ذمتنا فدمه كدمنا، وديته كديتنا2.
وهذا الأثر واضح في دلالته على عصمة دماء أهل الذمة، وأنه إذ قتل مسلم واحدا منهم قتل به.
كما استدلوا بما روى محمد بن الحسن عن إبراهيم -رحمهما الله- أن رجلا من المسلمين قتل رجلا من أهل الذمة، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"أنا أحق من وفى بذمته"، ثم أمر به فقتل.
ورد عليهم بأن مدار هذا الحديث على ابن البيلماني، وهو ضعيف، قال صالح بن محمد الحافظ رحمه الله: ابن البيلماني حديثه منكر، روى عنه ربيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بمعاهد، وهو مرسل منكر، وقال الدارقطني:
1 فرقوك: مأخوذ من الفَرَق -بفتحتين- الخوف، وقرعوك: أي عنفوك، وشددوا عليك.
2 نيل الأوطار ج7، ص11.
ابن البيلماني لا يقوم به حجة إذا وصل فيكف إذا أرسل1.
وقد أجابوا عن ذلك بأن الطعن بالإرسال والطعن المبهم من أئمة الحديث غير مقبول كما عرف في الأصول2.
كما استدلوا بالقياس فقالوا: إن المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، والنفس أعظم حرمة من المال، فإذا قتله المسلم اقتص منه.
وأيضا فإن القصاص يعتمد المساواة في العصمة، وهي ثابتة؛ نظرا إلى التكليف؛ لأنه مخاطب عن الشافعية، أو دار الإسلام، عند الحنفية فيثبت القصاص.
1 الحديث المرسل: هو ما سقط منه الصحابي بأن رفعه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم صريحا أو كناية، وقيل غير ذلك، واختلفوا في الاحتجاج به؛ فذهب مالك وأحمد في المشهور عنه وأبو حنيفة وأتباعهم من الفقهاء والأصوليين والمحدثين إلى الاحتجاج به في الأحكام وغيرها، وذهب أكثر أهل الحديث إلى أن المرسل ضعيف، نعم إذا اعتضد المرسل بمسند يجيء من وجه آخر صحيح أو حسن أو ضعيف أو بمرسل آخر أرسله من روى عن غير شيوخ راوي المرسل الأول بحيث يظن عدم اتحادهما، فهو حجة مقبولة عند الجميع، كما إذا اعتضد بموافقة قول بعض الصحابة أو بفتوى عوام أهل العلم، ويعتضد أيضا بالقياس وفعل الصحابي وعمل أهل العصر، وكل ما اعتضد به المرسل فهو دال على صحة مخرجه فيحتج به، لا يحتج بما لم يعتضد، والحديث المنكر هو الذي لا يعرف متنه من غير جهة راويه.
2 العناية هامش فتح القدير ج8، ص256، وراجع فتح الباري ج12، ص213.
وأما قولهم: إن مطلق الكفر مبيح للقتل، فغير مسلم؛ لأن المبيح كافر المحارب، قال الله تعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية1، فقد جعل الله تعالى إقرارهم بالجزية منهيا لقتالهم فإذا أعطوها عصموا دماءهم إلا بحقها، كما وضح هذا قوله صلى الله عليه وسلم:"فإن أجابوك -أي قبلوا إعطاء الجزية- فاقبل منهم وكف عنهم" 2، ولو كان المبيح لقتلهم مجرد الكفر لحل لنا قتل نساء الكفار المحاربين وصبيانهم وكهنتهم غير المشتركين في الحرب، أما وقد حرم الله قتل هؤلاء فإن هذا يكون دليلا على أن المبيح لقتلهم كفر المحارب لا مطلق الكفر.
وأما قولهم: إن الكفر يورث شبهة الإباحة، فإن هذا القول ينفيه القول بقتل الذمي بالذمي إجماعا، فإن في ذلك دليلا على أن كفر الذمي لا يورث الشبهة؛ إذ لو أورثها لما جرى القصاص بينهما، كما لا يجرى بين الحربيين.
الترجيح:
واستنادا إلى ما استدل به القائلون بقتل المسلم بالذمي من عموم قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، وقوله صلى الله عليه سلم:"العمد قود"، وتفسير الحديث:"ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده"، والأخبار التي ذكرناها آنفا، ثم القياس، تيضح لنا قوة هذا الرأي، ويضاف إلى ذلك أن عدم قتله به قد يؤدي إلى أن يثأر أهل المقتول من القاتل، باذلين جهدهم في إخفاء جنايتهم حتى لا يقتص منهم، كما أنه قد يؤدي إلى أن بعض الحمقى من المسلمين قد يقدمون على قتل أهل الذمة، ويؤدي هذا إلى تتابع القتلى، وهذا لا يحقق الغرض الذي شرع من أجله القصاص {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، كما أنه ينشر الفساد بين الناس
1 الآية 29 من سورة التوبة.
2 راجع نيل الأوطار ج7، ص230.
وأيضا فإن عقد الذمة هو طريق فتحه الإسلام لغير المسلمين؛ لكي يتعرفوا على سماحة الإسلام عن كثب، ويلمسوا عدالته عن قرب، ويعرفوا حقيقة هذا الدين، فإذا تحققوا من ذلك اعتنقوه، فإذا كان عقد الذمة طريقا إلى الإسلام كان القول بإيجاب القصاص على من قتل ذميا -مسلما كان القاتل أو غير مسلم- محققا لهذا الغرض تحقيقا تاما، ومبينا أن الإسلام دين العدالة، ودين الإنسانية الذي كرم الإنسان لذاته؛ لأنه بنيان الله، ولعن من هدمه، وحذر من قتله، ولقد سبق أن روينا تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم من قتل المعاهد بقوله:"من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما" رواه البخاري.
قتل المسلم بالمستأمن:
يرى جمهور الفقهاء -ومنهم الحنفية، عدا الإمام أبي يوسف- ألا يقتل المسلم بالمستأمن؛ وذلك لأن عصمة دمه لم تثبت مطلقة كما ثبتت لمن اكتسبها بعقد الذمة؛ لأن عقد الذمة عقد أبدي؛ بل ثبتت مؤقتة إلى غاية مقامه في دار الإسلام؛ لأن المستأمن من أهل دار الحرب؛ وإنما دخل دار الإسلام لا لقصد الإقامة؛ بل لعارض حاجة يدفعها ثم يعود إلى وطنه الأصلي، فيصبح محاربا كما كان، فكان في عصمته شبهة، والشبهة تسقط الحد، فكذلك القصاص.
ويرى الإمام أبو يوسف أن المسلم يقتل بالمستأمن قصاصا؛ وذلك لأنه بعقد الأمان قد اكتسب العصمة، والعصمة قائمة وموجودة وقت القتل1، فكانا متساويين في العصمة، وإذا تساويا في ذلك كان القصاص
1 بدائع الصنائع ج7، ص232.
ثانيا: التكافؤ في الحرية:
اتفق الفقهاء على أن العبد يقتل بالحر؛ لأن العبد أنقص من الحر.
أما قتل الحر بالعبد، فإنهم اختلفوا فيه إلى ثلاثة آراء: رأي يرى أنه لا يقتل به مطلقا، وآخر يرى قتله بعبد غيره دون عبده، وثالث يرى قتله به مطلقا، ولكل أدلته.
الرأي الأول: لا يقتل الحر بالعبد:
يرى جمهور الفقهاء "الشافعية والمالكية والحنابلة والزيدية والإمامية والإباضية1، وحكي في البحر عن علي وعمر وزيد بن ثابت وابن الزبير والعترة جميعا، وحكاه صاحب الكشاف عن عمر بن عبد العزيز والحسن عطاء وعكرمة" أنه لا يقتل الحر بالعبد، وقد استدلوا على ذلك بالكتاب والسنة والقياس.
أما الكتاب: فيما يفيده قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} 2 فإن تعريف المبتدأ بـ"أل" يفيد الحصر؛ أي: أن الحر لا يقتل إلا بالحر، والعبد لا يقتل إلا بالعبد، وهذا يفيد أنه لا يقتل بغير الحر. وأيضا فإن مقابلة الحر بالحر
1 جاء في شرح النيل ج15، ص75:"ولا يقتل حر بعبد، وقال بعض قومنا: يقتل، وقال بعض منهم: إن كان القتل حرابة أو غيلة قتل به وإلا فلا، والمذهب ألا يقتل حر بعبد؛ لأنه مال".
2 الآية 187 من سورة البقرة.
والعبد بالعبد مقابل الجنس بالجنس، ومن ضرورة المقابلة ألا يقتل الجنس بغير جنسه.
ولأنه تعالى قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} والقصاص هو المساواة، وقوله:{الْحُرُّ بِالْحُرِّ} تفسير للمساواة، ولا مساواة في قتل الحر بالعبد؛ لأن الحر مالك والعبد مملوك، والمالكية أمارة القدرة، والمملوكية أمارة العجز، قال الله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ
…
} الآية1، فلا مساواة بينهما، ولأن لحرية حياة والرق موت حكما بدليل أنه إذا أعتقه مولاه نسب إليه بالولاء.
وأما قوله تعالى في سورة المائدة: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} 2 فمطلق، وهذه الآية مقيدة ومبينة، والمطلق يحمل على المقيد، كما أنه آية البقرة صريحة لأمة محمد عليه الصلاة والسلام، وآية المائدة سيقت في أهل الكتاب وشريعتهم، وإن كانت شريعة من قبلنا شريعة لنا؛ لكنه وقع في شريعتنا التفسير بالزيادة والنقصان كثيرا، فيقرب أن هذا التقييد من ذلك وفيه مناسبة؛ إذ فيه تخفيف ورحمة، وشريعة هذه الأمة أخف من شرائع من قبلها، فإنه وضع عنهم الآصار التي كانت على من قبلهم3.
والقول بأن آية المائدة نسخت آية البقرة لتأخرها مردود بأنه لا تنافي بين الآيتين؛ إذ لا تعارض بين عام وخاص، ومطلق ومقيد حتى يصار إلى النسخ، ولأن آية المائدة متقدمة حكما، فإنها حكاية لما حكم الله تعالى به في التوارة، وهي متقدمة نزولا على القرآن.
1 الآية 75 من سورة النحل.
2 الآية 45 من سورة المائدة.
3 سبل السلام ج3، ص305.
وأما السنة: فقد استدلوا منها بما يأتي:
روي عن إسماعيل بن عياش عن الأوزاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رجلا قتل عبده صبرا متعمدا، فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة جلدة ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين، ولم يقده به، وأمره أن يعتق رقبة. وإسماعيل بن عياش فيه ضعف إلا أن الإمام أحمد قال: ما روي عن الشاميين صحيح، وما روي عن أهل الحجاز فليس بصحيح "والأوزاعي من الشاميين".
كما أخرج ابن أبي شيبة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن أبا بكر وعمر كانا لا يقتلان الحر بالعبد".
وأخرج البيهقي من حديث علي رضي الله عنه: "من السنة ألا يقتل حر بعبد"، وفي إسناده جابر الجعفي، ومثله عن ابن عباس، وفيه ضعف.
فهذه الأخبار جميعها تدل على أنه لا يقتل الحر بالعبد.
وأما القياس: فقد قالوا: إنه لا يقطع طرف الحر بطرف العبد عند جمهور الفقهاء1، مع أن الطرف أهون وأقل حرمة لكونه تبعًا للنفس، فلأن لا يجب القصاص في النفس -وهي أعظم حرمة- أولى، بخلاف العكس "قتل العبد بالحر"؛ لأنه تفاوت إلى نقصان فلا يمتنع، كما في المسلم والمستأمن.
1 هذا القياس لا يكون حجة إلا على من قال بألا يقطع طرف الحر بطرف العبد، فهو قياس على أمر مختلَف فيه.
وقالوا أيضا: إن الرق أثر للكفر، فيوجب شبهة الإباحة كحقيقته فصار كالمستأمن1.
وإذا سقط القصاص عن الحر القاتل للعبد وجب على من قتله قيمته بالغة ما بلغت ولو تجاوزت دية الحر.
الرأي الثاني: يقتل الحر بعبد غيره لا بعبده:
يرى الحنفية "وحكاه صاحب الكشاف عن سعيد بن المسيب والنخعي وقتادة والثوري" أنه يقتل الحر بالعبد، إلا إذا كان القاتل للعبد سيده، فإنه لايقاد به، وقد استدلوا على ذلك بالكتاب والسنة.
أما الكتاب: فقد استدلوا بعموم قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} فإن الآية اضحة الدلالة في إيجاب قتل النفس بالنفس مطلقا، حرا كان القاتل أم عبدا، ذكرا أم أثنى.
وأيضا فإن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية، يقتضي وجوب القصاص بسبب كل قتل إلا ما قام الدليل على تخصيصه من هذا الحكم.
ولا يعارض قوله تعالى في الآية: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} ، قوله في آية المائدة:{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ؛ لأن المقابلة في الأولى مقيدة، وفي هذه مطلقة فلا يحمل المطلق على المقيد.
ولا حجة لهم في الآية أيضا؛ لأن فيها أن قتل الحر بالحر، والعبد بالعبد
1 سبق بيان أن أبا يوسف من علماء الحنفية يرى عصمة دم المستأمن خلال فترة أمانه. راجع ص193.
قصاص، وهذا لا ينفي أن يكون قتل الحر بالعبد قصاصا؛ لأن التنصيص لا يدل على التخصيص، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم:"البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة". ثم البكر إذ زنى بالثيب وجب الحكم الثابت بالحديث، فدل على أنه ليس في ذكر شكل بشكل تخصيص الحكم به.
فما نصت عليه الآية ليس إلا ذكر بعض ما شمله عموم قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} على موافقه حكمه، وذلك لا يوجب تخصيص ما بقي مما لم تنص عليه، ويدل على ذلك أنه قابل "الأنثى بالأثنى والذكر بالذكر"، ولا يمنع هذا من مقابلة الذكر بالأنثى في القصاص، وكذلك لا يمنع من مقابلة العبد بالحر حتى يقتل العبد بالحر بالإجماع، فكذا العكس إذ لو منع ذلك لمنع العكس أيضا.
أيضا فإن في مقابلة الأنثى بالأنثى دليلا على جريان القصاص بين الحرة والأمة.
وفائدة مقابلة "الحر بالحر والعبد بالعبد" في الآية ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كانت المقابلة بين بني النضير وبين بني قريظة، وكانت بنو النضير أشرف، وكانوا يعدون بني قريظة على النصف منهم، فتواضعوا على أن العبد من بني النضير بمقابلة الحر من بني قريظة، والأنثى منهم بمقابلة الذكر من بني قريظة، فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم، وبيانا أن الحر بمقابلة الحر، والعبد بمقابلة العبد، والأنثى بمقابلة الأنثى من القبيلتين جميعا، فكانت اللام لتعريف العهد لا لتعريف الجنس.
أما السنة: فقد استدلوا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "العمد قود"، فهو يدل على أن موجب القتل العمد القصاص، سواء كان القاتل حرا أم عبدا، ذكرا أم أنثى، مسلما أم غير مسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم
…
" الحديث1، ويدل على أن دماء المسلمين متساوية لا فرق بين حر وعبد.
وروي عن عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "يقتل الحر بالعبد".
الرد على أدلة أصحاب الرأي الأول:
أما قولهم: إن الحر والعبد غير متساويين، فإن المساواة المعتبرة هنا هي المساواة في العصمة؛ لأن العصمة إما أن تكون بالدين أو بالدار، وهي متوافرة فيهما، فيجري القصاص بينهما حسما لمادة الفساد، وتحقيقا لمعنى الزجر، ولو اعتبرت المساواة في غير العصمة لما جرى القصاص بين الذكر والأنثى.
والقصاص يجب باعتبار أن العبد آدمي، ولم يدخل في الملك من هذا والوجه؛ بل هو مبقي على أصل الحرية من هذا الوجه؛ ولهذا يقتل العبد بالعبد، وكذا يقتل العبد بالحر، ولو كان مالا لما قتل، وكذا عجز العبد عن التصرف وبقاء أثر كفره -وهو الرق- إنما هو أمر حكمي، فلا يؤثر ذلك في سقوط العصمة ولا يورث شبهة، ولو أورث شبهة لما جرى القصاص بين العبيد بعضهم ببعض.
كما أجابوا عن القياس على عدم جريان القصاص بين طرف الحر والعبد، فقالوا: وجوب القصاص في الأطراف يعتمد المساواة في الجزء المبان بعد المساواة في العصمة؛ ولهذا لا تقطع الصحيحة بالشلاء، وفي النفس لا يشترط ذلك حتى يقتل الصحيح بالزمن وبالمفلوج، ولا مساواة بين
1 تقدم نص الحديث.
أطراف الحر والعبد إلا في العصمة، فأظهرنا أثر الرق فيها دون النفس؛ لما أن العبد من حيث النفس آدمي مكلف خلق معصوما.
عدم قتل السيد بعبده:
كما استدل أصحاب هذا الرأي على أن السيد لا يقاد بقتل عبده، بما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم:"لا يقاد مملوك من مالكه، ولا ولد من والده" أخرجه البيهقي، إلا أنه من رواية عمر بن عيسى، يذكر عن البخاري أنه منكر الحديث، كما أخرج البيهقي أيضا من حديث ابن عمرو في قصة زنباع لماجب عبده، وجدع أنفه أنه صلى الله عليه وسلم قال:"من مثل بعبده وحرق بالنار فهو حر، وهو مولى الله ورسوله"، فأعتقه صلى الله عليه وسلم ولم يقتص من سيده، إلا أن فيه المثنى بن الصباح وهو ضعيف، ورواه عن الحجاج بن أرطاة من طريق آخر لا يحتج به.
الرأي الثالث: يقتل الحر بالعبد مطلقا:
يرى النخعي والثوري وابن أبي ليلى وبعض الإباضية أنه يقتل الحر بالعبد مطلقا، سواء كان المقتول عبدا للقاتل أم عبدا لغيره، ويرى هذا الظاهرية أيضا، كما يرون أنه يقتص من الحر للعبد في كل ما يستطاع القصاص فيه من الأعضاء والجراحات1، وقد استدلوا على ذلك بالكتاب والسنة "مع مراعاة أن جميع الأدلة التي استدل بها أصحاب الرأي الثاني هي أدلة لهم عدا ما اختلفوا فيه معهم، وهو عدم قتل السيد بعبده".
أما الكتاب: فعموم قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
1 روى ابن رشد في بداية المجتهد ج2، ص398 عن الإمام مالك أنه يقتص من الأعلى الحر للأدنى العبد في النفس والجرح.
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} حيث لم تفرق الآية بين حر وعبد، ولا بين عبد لنفسه وعبد لغيره.
وأما السنة: فقد استدلوا أولا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون تتكافا دماؤهم
…
"، فإنه يدل على عدم التفرقة في الحكم بين دماء المسلمين، وكذلك عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "العمد قود" يقضي بإيجاب القصاص على من قتل عمدا دون تفرقة بين حر وعبد مملوك للغير أو مملوك للقاتل.
كما استدلوا ثانيا بما روي عن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه" رواه أحمد والأربعة وحسنه الترمذي، وهو من رواية الحسن البصري عن سمرة1. وفي رواية أبي داود والنسائي بزيادة:"ومن خصي عبده خصيناه"، وصحح الحاكم هذه الزيادة.
وقد ضعف ابن العربي هذا الحديث قائلا: "ولقد بلغت الجهالة بأقوام إلى أن قالوا: يقتل الحر بعبد نفسه. ورووا حديث سمرة، وهو حديث ضعيف، ودليلنا قوله تعالى:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} والولي هاهنا هو السيد، فكيف يجعل له سلطان على
1 قد اختلف في سماع الحسن البصري عن سمرة على ثلاثة أقوال: قال ابن معين: لم يسمع الحسن منه شيئا، وإنما هو كتاب، وقيل: سمع منه حديث العقيقة، وأثبت ابن المديني سماع الحسن من سمرة "سبل السلام ج3، ص304".
نفسه، وقد اتفق الجميع على أن السيد إذا قتل عبده خطأ أنه لا تؤخذ منه قيمته لبيت المال".
وقد رد عليه القرطبي مؤكدا صحة هذا الحديث فقال: "قلت: هذا الحديث الذي ضعفه ابن العربي وهو صحيح؛ أخرجه النسائي وأبو داود، وقال البخاري عن علي بن المديني: سماع الحسن من سمرة صحيح، وأخذ بهذا الحديث، وقال البخاري: وأنا أذهب إليه، فلو لم يصح الحديث لما ذهب إليه هذان الإمامان، وحسبك بهما"1.
الترجيح:
والذي يظهر لنا هو رجحان الرأي الأخير لما يأتي:
أولا: أن الأدلة التي استند إليها أصحاب الرأي الثاني "القائلون بالقصاص بين الحر والعبد في النفس"2 من الكتاب والسنة تؤيد عدم التفرقة بين الحر والعبد المملوك للقاتل وغير المملوك له. وحديث سمرة واضح الدلالة على إيجاب القصاص بين الحر وعبده في النفس وما دونها، وهذا الحديث يرد على قولهم: إن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال؛ لأن القياس لا يقوى على معارضة النص.
ثانيا: أن قولهم: إن الحر يساوي العبد في العصمة؛ لأنها إما أن تكون بالإسلام أو بالإقامة في دار الإسلام، وعلى كلا الأمرين وجدت العصمة في العبد، وإذا كان معصوما كان مساويا للحر، فيقتص له منه إن قتله عمدا، وهذا المعنى متحقق في العبد المملوك لقاتله، أو المملوك لغيره، فإن الرق
1 الجامع لأحكام القرآن ج2، ص249.
2 راجع ص146، 149.
أمر عارض لا يؤثر على آدميته1، وإنما يؤثر على بعض تصرفاته، فمن ناحية آدميته فهو مساو له تماما، أما الأمور العارضة فلا مدخل لها في الجنا على الآدمي؛ لأنها هدم لبنيان الله تعالى الذي لعن من يهدمه، وتوعده بالعذاب الشديد، أيا كان القاتل مسلما أم ذميا، حرا أم عبدا، ذكرا أم أنثى، أيا كان المقتول مسلما أم ذميا، حرا أم عبدا، مملوكا لقاتله أو مملوكا لغيره، ذكرا أم أنثى.
ثالثا: أن القول بعدم القصاص بين الحر والعبد يساعد على تفشي الجرائم وقتل السادة العبيد دون أن تقع عليهم عقوبة رادعة لهم وزاجرة لغيرهم عن مثل هذا العمل المحرم، وهذا يتنافى مع حكمة مشروعية القصاص؛ وهي إحياء النفوس، قال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، ومع عموم قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 2، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى".
1 فقد جاء في البدائع ردا على من يقول: إن العبد آدمي من وجه ومال من وجه:
"قلنا: لا بل آدمي من كل وجه؛ لأن الآدمي اسم لشخص على هيئة مخصوصة منسوب إلى آدم عليه الصلاة والسلام، والعبد بهذه الصفة، فكانت عصمته مثل عصمة الحر، بل فوقها، على أن نفس العبد في الجناية له لا لمولاه، بدليل أن العبد لو أقر على نفسه بالقصاص والحد يؤخذ به، ولو أقر عليه مولاه بذلك لا يؤخذ به، فكان نفس العبد في الجناية له لا للمولى، كنفس الحر للحر" ج7، ص138.
2 الآية 13 من سورة الحجرات.
ثالثا: التكافؤ في الذكورة والأنوثة:
اختلف الفقهاء في اعتبار مكافأة الجاني للمجني عليه في الذكورة والأنوثة إلى خمسة أقوال1:
الرأي الأول: قال الليث بن سعد: إذا جنى الرجل على امرأته وجبت عليه ديتها، ولم يتقص منه؛ وذلك لأن النكاح شبهة في درء القصاص عن الزوج.
ويفهم من هذا أن ما عدا جناية الزوج على زوجه يكون فيه القصاص بين الرجل والمرأة عند الليث.
ولعل الشبهة التي يراها الليث هنا مردها أن عقد النكاح قد أجاز للزوج في الحالات التي لا يجدي فيها العظة أو الهجر أن يضرب زوجه، قال تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ
…
} 2.
فالضرب مباح، ولكن النتيجة غير مباحة، ومثل هذه الجناية لا تكون عمدًا.
إلا أنه قد فات الليث بن سعد أن نوع الضرب قد حددته السنة؛ فقد روي على الرسول صلى الله عليه وسلم: "اضربوا النساء إذا عصينكم في معروف ضربا غير مبرح".
1 المراجع: القرطبي ج2، ص249، ونيل الأوطار ج7، ص16، 17، وأحكام القرآن للجصاص ج1، ص162، والتاج المذهب ج4، ص266.
2 الآية 34 من سورة النساء.
قال عطاء: قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرح؟ قال: بالسواك ونحوه1.
وقد وضح الفقهاء -كما سبق بيانه- أن الضرب للتأديب لا بد من أن يكون بآلة وضعت له عرفا وعادة، وهي لا تقتل قطعا ولا غالبا، فإن كان بآلة تقتل قطعا أو غالبا كانت الجناية عمدا موجبا القصاص، سواء أراد التأديب أو لم يرد، عند جمهور الفقهاء.
الرأي الثاني: قال الحسن وعثمان البتي: إذا قتلت امرأة رجلا قتلت به وأخذ من مالها نصف الدية، وكذلك إن أصابته بجراحة، وأما إن كان الرجل هو الذي قتل المرأة أو جرحها فعليه القود، ولا يرد عليه شيء.
وهذا القول أيضا يرده ظاهر الآيات الموجبة للقصاص اكتفاء دون زيادة، والقول به يوجب حكما زائدا على النص، وهذا لا يكون إلا بنص، ولا يوجد نص.
الرأي الثالث: قال الزيدية والإمامية والإباضية2: إذا قتل الرجل المرأة خير ولي الدم بين أن يقتص ويدفع نصف الدية لورثة الرجل، أو يعفو ويأخذ الدية؛ وذلك لما روي عن عطاء والشعبي والحسن البصري أن عليا رضي الله عنه قال في الرجل يقتل المرأة عمدا:
1 راجع القرطبي ج5، ص173.
2 جاء في شرح النيل ج15، ص73:"وإن قتل رجل امرأة قتل بعد أن يردوا لورثته نصف ديته إلا إن قتلها فتكا فإنهم يقتلونه بلا رد"، كما جاء في نص 95:"وصح القود إن قد أحدهما صاحبه".
"إن شاءوا قتلوه وأدوا نصف الدية، وإن شاءوا أخذوا نصف دية الرجل".
وأما إذا قتلت المرأة رجلا أو رجالا قتلت بهم، ولا مزيد على ذلك؛ لئلا يلزمها غرامة في مالها وبدنها، قاله الزيدية.
الرأي الرابع: قال جمهور الفقهاء: الحنفية "في جناية القتل لا الجراحات" والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وهو قول جمهور كبير من الفقهاء1: يقتص من الرجل للمرأة، ومن المرأة للرجل في النفس وما دنها، دون الرجوع بشيء، وقد استدلوا على ذلك بالكتاب والسنة وما يقارب الإجماع والقياس.
أما الكتاب: فالآيات الكريمة الموجبة للقصاص في الأنفس بين الجمع دون تفرقة بين حر وعبد، توجب القصاص أيضا في النفس وما دونهما بين الرجل والمرأة.
ومنها قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ
…
} الآية.
1 أخرج البيهقي عن أبي الزناد أنه قال: كان من أدركته من فقهاء الذين ينتهى إلى قولهم؛ منهم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وسليمان بن يسار، في مشيخة جلة من سواهم من نظرائهم أهل فقه وفضل أن المرأة تقاد من الرجا عينا بعين، وأذنا بأذن، وكل شيء من الجراح على ذلك، وإن قتلها قتل بها، ورويناه عن الزهري وغيره، وعن النخعي والشعبي وعمر بن عبد العزيز، وهو رأي ابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى
…
} الآية.
وقد ناقش الفقهاء ما يستفاد من ظاهر الآية الثانية من اعتبار الموافقة بين الجاني والمجني عليه في الحرية والذكورة والأنوثة، وبينوا أنه ليست الآية الثانية ناسخة للأولى، أو مخصصة لعمومها، أو مقيدة لإطلاقها، كما أوضحنا هذا فيما تقدم1، فلا داعي لإعادته.
وقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا
…
} الآية.
وأما السنة: فمنها ما روي عن أنس: أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ فلان أو فلان؟ حتى سمي اليهودي، فأومأت برأسها، فجيء به فاعترف، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه بين حجرين. رواه الجماعة.
فالحديث يدل على أنه يقتل الرجل بالمرأة كما هو رأي جمهور الفقهاء، وحكى ابن المنذر الإجماع عليه إلا رواية عن علي وعن الحسن وعطاء2.
وأيضا فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أنس بن النضر حينما كسرت الربيع ثنية جارية أن: "كتاب الله القصاص"3.
كما روي عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا، وكان في كتابه: "
…
إن الرجل يقتل بالمرأة
…
" رواه النسائي، وقد صححه جماعة من أئمة الحديث4
1 راجع ص147.
2 نيل الأوطار ج7، ص16، 17.
3 تقدم نص الحديث.
4 منهم الإمام أحمد والحاكم وابن حبان والبيهقي، وصححه من حيث الشهرة لا الإسناد الشافعي. وقال ابن عبد البر: "ويستغنى بشهرته عن الإسناد؛ لأنه أشبه المتواترة
…
" نيل الأوطار ج7، ص17، 57.
وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وإن قتلت -أي المرأة- فعقلها بين ورثتها، وهم يقتلون قاتلها" رواه الخمسة إلا الترمذي.
فالأحاديث تدل على أن الواجب في قتل الرجل المرأة القصاص من الرجل، ولو وجب مع القصاص مال يدفع لورثة الرجل لصرح به.
واختلف عن علي رضي الله عنه في المسألة، فروى ليث عن الحكم عن علي وعبد الله قالا:"إذا قتل الرجل المرأة متعمدا فهو بها قود". وروى عطاء والشعبي والحسن البصري أن عليا قال: "إن شاءوا قتلوه وأدا نصف الدية، وإن شاءوا أخذوا نصف دية الرجل".
وقد ناقش أبو بكر الجصاص ما روي عن علي رضي الله عنه فقال: "ما روي عن علي من القولين في ذلك مرسل؛ لأن أحدا من رواته لا يسمع من علي شيئا، ولو ثبتت الروايتان كان سبيلهما أن تتعارضا وتسقطا، فكأنه لم يرو عنه في ذلك شيء.
وما رواه الحكم عن علي في إيجاب القود دون المال أولى لموافقتها "أي هذه الرواية" لظاهر الكتاب، وهو قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، كما أن سائر الآيات الموجبة للقود ليس في شيء منها ذكر الدية، وغير جائز أن يزيد في النص إلا بالنص مثله "لأن الزيادة في النص توجب النسخ
…
".
وأما دعوى الإجماع: فالأصل فيه ما روي عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل نفرا من صنعاء بامرأة "واحدة" أقادهم
بها، قالوا: ولم يظهر خلاف من أحد من نظرائه مع استفاضة ذلك، وشهرته عنه، ومثله يكون إجماعا، وأيضا فقد حكى ابن المنذر الإجماع عليه كما ذكرنا آنفا.
وأما القياس: فإن قتل الرجل بالمرأة دون اعتبار لعدم المساواة بينهما -عند جمهور الفقهاء- في الذكورة والأنوثة يقاس على قتل العاقل بالمجنون، والرجل بالصبي1، والصحيح بالأشل، ففي المقيس عليه لم يظهر لعدم المساواة بين الجاني والمجني عليه فيما ذكرنا أثر في إيجاب القصاص من الجاني، فكذلك لا يظهر هذا الأثر في قتل الرجل بالمرأة اكتفاء، دون إيجاب بدل مالي؛ لأن "النفس بالنفس".
الرأي الخامس:
قال الحنفية "وهو قول حماد بن أبي سليمان وابن شبرمة والشعبي وإبراهيم": يقتص من الرجل للمرأة في النفس دون الرجوع بشيء، وأما فيما دون النفس فلا يقتص منه لها، وأدلتهم على إيجاب القصاص في النف فقد قالوا في تعليله: إن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال؛ لأنها خلقت وقاية للأنفس كالأموال، فالواجب أن يعتبر التفاوت المالي مانعا مطلقا من القصاص فيها؛ وذلك لأنه لا مماثلة بين طرف الذكر وطرف الأنثى للتفاوت بينهما في القيمة "الدية" بتقويم الشارع؛ إذ إن دية الرجل مختلفة عن دية
1 تقدم ص182 ذكر رأي للإمامية يقضي بأنه يشترط لاستيفاء القصاص كمال العقل في الجاني والمجني عليه، فلا يقتل عاقل بمجنون ولا بصبي على أصح القولين.
الأنثى1، والقصاص في الأطراف "عند الحنفية" لا يجري إلا بين مستوى الدية.
الترجيح:
والذي يظهر لنا مما تقدم هو رجحان الرأي الرابع الذي يقضي بإيجاب القصاص من الرجل للمرأة، ومن المرأة للرجل في النفس وما دونها دون الرجوع بشيء؛ وذلك لما يأتي:
أولا: قوة الأدلة التي استندوا إليها من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإجماع والقياس، وعدم تفريق هذ الأدلة في القصاص بين الرجل والمرأة، وبين النفس وما دونها، مما يؤثر على رأي المخالفين لهذا الرأي جميعا.
ثانيا: أن اشتراط المكافأة في الذكورة والأنوثة لاستيفاء القصاص في النفس وما دونها لا يتفق والحكمة من مشروعية القصاص التي هي حقن الدماء وحياة النفوس، كما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ
…
} لأن ترك القصاص بينهما يؤدي إلى إتلاف نفوس الإناث، لأمور أشار إليها الإمام الشوكاني:
منها: مخافة توريثهن.
ومنها: مخافة العار، لا سيما عند ظهور أدنى شيء منهن لما بقي في القلوب من حمية الجاهلية التي نشأ عنها وأد البنات.
ومنها: كونهن مستضعفات لا يخشى من رام قتلهن أن يناله من المدافعة
1 المسألة خلافية، راجع نيل الأوطار.
ما يناله من الرجال؛ لأن المرأة بطبيعتها ضعيفة التكوين، مما يسهل -غالبا- قهر الرجل لها وإيقاعه الضرر بها.
فلا شك أن الترخيص في ذلك من أعظم الذرائع المفضية إلى هلاك النفوس، ولا سيما في مواطن الأعراب المتصفين بغلظ القلوب وشدة الغيرة والأنفة اللاحقة بما عليه أهل الجاهلية1.
رابعا: المساواة في العدد:
ومن المسائل التي تبدو مخالفة لمبدأ المكافأة والمساواة بين القاتل والمقتول قتل الجماعة واحدا، وعكسه قتل الواحد جماعة، وقد اختلف الفقهاء في الحكم إذا وقعت مثل هذه الجناية، ونعرض فيما يلي آراءهم مشفوعة بأدلتها:
أ - قاتل الجماعة بالواحد:
اختلف الفقهاء في قتل الجماعة بالواحد إلى طائفتين: طائفة لا ترى قتل الجماعة بالواحد، وأخرى ترى قتلهم به.
الرأي الأول: عدم قتل الجماعة بالواحد:
يرى فريق من الفقهاء عدم قتل الجماعة بالواحد، إلا أن فريقا منهم يرى إيجاب الدية فقط، وقد حكي هذا عن الإمام أحمد في رواية، وهو قول ابن الزبير والزهري وابن سيرين وحبيب بن أبي ثابت وعبد الملك وربيعة وداود بن المنذر، وحكاه ابن أبي موسى عن ابن عباس.
ويروى عن معاذ بن جبل وابن الزبير وابن سيرين والزهري أنه يقتل واحد منهم ويؤخذ من الباقين حصصهم من الديات.
1 نيل الأوطار الشوكاني ج7، ص19.
قد استدلوا على عدم قتل الجماعة بالواحد بالكتاب والقياس:
أما الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى شرط المساواة بين القاتل والمقتول بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ
…
} وقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، والقصاص هو المساواة، ولا مساواة بين الجماعة والواحد بداهة وعقلا، فإذا قتلت جماعة واحدا لا يقتلون به؛ لما فيه من الظلم على المعتدين؛ لأن الواحد منهم مماثل للمقتول، فكيف يكون جميعهم مساوين له!!
وأيد هذا قول الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
…
} فإنه يدل على أن النفس الواحدة تقتل بالنفس الواحدة، ولا تقتل الجماعة بالواحد، وإلا لما كانت نفس بنفس، بل نفوس بنفس، وهذا يخالف النص، فلا يصح.
وأما القياس: فوجهه أن التفاوت بالأوصاف يمنع القصاص، بدليل أن الحر لا يؤخذ بالعبد1، فالتفاوت في العدد أولى بأن يمنع القصاص.
وأيضا فإن كل واحد من الجناة مكافئ المقتول، فلا تستوفى أبدال بمبدل واحد، كما لا تجب ديات لمقتول واحد.
ولم نعثر على أدلة للقائلين بقتل واحد من الجماعة فقط وأن يؤخذ من الباقين حصصهم من الدية، ولعلهم يجعلون هذا الحق لولي الدم، فهو الذي يختار من يقتص منه، ثم يأخذ من الباقين حصصهم من الدية، إلا أن هذا تحكم يحتاج إلى دليل، ولا دليل، فإن الكل قد اشتركوا في الجناية، فإما أن نوجب عليهم القصاص جميعا، أو نسقطه عنهم جميعا، والوسيلة إلى إسقاطه هي ما شرعه الله من العفو ببدل أو بغير بدل، ويكون هذا الحق بقسميه ثابتا لولي الدم ابتداء بالنسبة لجميعهم؛ لأنهم متساوون في الفعل الموجب لهذا الحكم.
1 هذا يتمشى مع رأي القائلين بعدم إيجاب القصاص من الحر للعبد، ولا يتمشى مع رأي المخالفين، كما سبق أن بينا هذا ص200.
الرأي الثاني: تقتل الجماعة بالواحد:
يرى جمهور الفقهاء "الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، والزيدية والإمامية والإباضية1، وهو المروي عن عمر وعلي والمغيرة بن شعبة وابن عباس، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وأبو سلمة وعطاء وقتادة والثوري والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور": أن الجماعة إذا قتلت واحدا قتلت به قصاصا، وقد استدلوا على ذلك بالكتاب والسنة والإجماع والقياس.
أما الكتاب: فقد نص القرآن الكريم على أن العقوبة الأخروية لقاتلي نفس واحدة عقوبة متساوية تلحقهم جميعا، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا
…
} الآية.
وقال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ
…
} الآية.
1 المراجع: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج2، ص251، وأحكام القرآن للجصاص ج1، ص169، وما بعدها، وللفقهاء تفصيلات كثيرة يمكن الرجوع إليها عند الحاجة -نظرا لأن المقام هنا لا يتسع لذكرها- في كتب المذاهب. "ومنها: فتح القدير ج8، ص278 وما بعدها، والزيلعي ج6، ص114، والاختيار ج3، ص162، والدسوقي على الشرح الكبير ج4، ص245، ومغني المحتاج على متن المنهاج ج4، ص267، 268، والروضة البهية ج2، ص115، والمحلى لابن حزم ج10، ص501، وشرح النيل ج15، ص125، وهذا بجانب ما سنذكر من مراجع أثناء عرض الموضوع".
ولا خلاف في أن هذا الوعيد لاحق بمن شارك غيره في القتل، وأن عشرة لو قتلوا رجلا عمدا لكان كل واحد منهم داخلا في الوعيد قاتلا للنفس المؤمنة، وكذلك لو قتل عشرة رجلا خطأ كان كل واحد منهم قاتلا في الحكم للنفس يلزمه من الكفارة ما يلزم المنفرد بالقتل، ولا خلاف أن ما دون النفس1 لا يجب فيه كفارة، فيثبت أن كل واحد في حكم من أتلف جميع النفس، قال تعالى:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} 2 فدلت الآية على أن النفس كالنفوس، فالجماعة إذا اجتمعت على قتل رجل فكل رجل واحد منهم في حكم القاتل للنفس؛ ولذلك قتلوا به جميعًا3.
وأيضا مثل هذا جاء في السنة الشريفة:
جاء في الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار" رواه الترمذي وقال فيه: حديث غريب. نص هذا الحديث على أن الجماعة التي تشترك في قتل شخص تشترك في العقاب الأخروي بصفة متساوية، كما لو قتله شخص واحد، وذلك دليل على أن كل واحد منهم كالقاتل لنفس واحدة.
1 أي: أنه لوكان كل واحد من العشرة مثلا متلفا لجزء من النفس لما وجبت على كل واحد منهم كفارة، ولكن وجوب الكفارة على كل واحد دليل على أن كل واحد منهم يعتبر متلفا لجميع النفس.
2 سورة المائدة الآية رقم 32.
3 أحكام القرآن الكريم للجصاص ج1، ص169، 170.
وقد روي عن الصحابة -رضوان الله عليهم- قتل الجماعة بالواحد؛ فقد روى الدارقطني في سننه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل سبعة برجل بصنعاء، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم به جميعا، كما رَوَى أيضا أن عليا -كرم الله وجهه- قتل الحرورية -جماعة من الخوارج1- بعبد الله بن خباب، فإنه توقف عن قتالهم حتى يحدثوا، فما ذبحوا عبد الله بن خباب كما تذبح الشاة، وأخبر علي بذلك قال: الله أكبر، نادوهم أن أخرجوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب، فقالوا: كلنا قتله، ثلاث مرات، فقال لأصحابه: دونكم القوم، فما لبث أن قتلهم علي وأصحابه "خرج الحديثين الدارقطني في سننه"2. وعن ابن عباس أنه قتل جماعة بواحد.
وإما الإجماع: فقد قالوا: إنه قد ثبت لنا قتل الجماعة بالواحد عن عمر وعلي رضي الله عنهما، ولم يعرف لهم في عصرهم مخالف، فكان ذلك إجماعا3.
وأما القياس فمن وجوه:
قال الحنابلة: إن القصاص من الجماعة للواحد يقاس على حد القذف؛ لأن القصاص عقوبة تجب للواحد على الواحد، فوجبت للواحد على الجماعة كحد القذف، ولا يصح قياس ذلك على الدية لوجود الفارق بينهما؛ حيث إن الدية تتبعض والقصاص لا يتبعض.
1 نسبوا إلى حروراء: موضع قريب من الكوفة؛ لأن أول مجتمعهم وتحكيمهم فيها.
2 القرطبي ج2، ص25.
3 المغني ج9، ص361-367.
وقال الحنفية: إن زهوق الروح لا يتجزأ، واشتراك الجماعة فيما لا يتجزأ يوجب التكامل في حق كل واحد منهم، فيضاف إلى كل واحد منهم متكاملا، كأنه ليس معه غيره؛ كولاية الإنكاح في باب النكاح؛ حيث تثبت هذه الولاية لكل واحد من الأولياء المتساوين في الدرجة على سبيل الكمال، فإذا تولى العقد واحد منهم كان العقد صحيحا نافذا ليس لأحد من الباقين حق الاعتراض؛ لأن الولاية حق واحد لا يتجزأ1.
ويضاف إلى ما تقدم أن القصاص لو سقط بالاشتراك لأدى هذا إلى أن يسارع مريد والقتل إلى التعاون على ارتكاب جناياتهم بالاشتراك، فيؤدي هذا إلى إسقاط حكمة مشروعية القصاص، وهي الردع والزجر الذي يمنع تفشي القتل بين الناس؛ لكي تكتب الحياة لنفوس كثيرة، ويمنع اختلال الأمن واضطرابه حتى يتذوق الناس طعم حياتهم، ويشعروا بوجودها {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} .
ومما يؤيد هذا أن الغالب في جرائم القتل أن ترتكب بالاشتراك؛ خوفا من تغلب المجني عليه على الجاني إذا كان منفردا، واحتياطا من وصول غوث قد يعرقل تنفيذ جريمتهم، وإذا كان القتل بهذه الكيفية هو الغالب فالزاجر إنما يشرع فيما يغلب وقوعه لا فيما يندر، فشرعية القصاص في هذه الحالة من باب أولى.
لقد أثار فقهاء الحنفية عدة اعتراضات على ما استدل به جمهور الفقهاء، وما استدلوا به وأجابوا عنها، ومنها:
1 المغني والشرح الكبير ج9، ص366، والاختيار شرح المختار ج3، ص162.
أنه إذا قتل جماعة واحدا، فإن القياس يقضي بألا يلزمهم القصاص؛ لأن المعتبر في القصاص المساواة؛ لما في الزيادة من الظلم على المعتدي، وفي النقصان من البخس بحق المعتدى عليه، ولا مساواة بين الجماعة والواحد، هذا شيء يعلم ببداهة العقل، فالواحد من الجماعة يكون مساويا ومماثلا للواحد المقتول، فكيف تكون الجماعة مماثلة للواحد؟!
وأيد هذا القياس قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، وذلك ينفي مقابلة النفوس بالنفس.
الجواب: أجاب الحنفية عن ذلك بقولهم: إنهم قد أخذوا بالاستحسان وزكوا العمل بالقياس في هذه المسألة بما روي عن: عمر، وعلي، وابن عباس رضي الله عنهم من قتلهم الجماعة بالواحد -كما ذكرنا آنفا- وكان الصحابة رضي الله عنهم متوافرين، ولم ينكر عليهم أحد فحل محل الإجماع.
ولقد اعترض على الأخذ بالاستحسان بأن القياس مؤيد بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، وذلك ينفي مقالة النفوس بنفس؛ فعلى ذلك يلزم من ترك هذا القياس ترك العمل بمدلول الآية المذكورة بما روي عن عمر رضي الله عنه وذلك لا يجوز؛ لأن عمر إما أن يكون منفردا في ذلك أو انضم إليه إجماع الصحابة، فإن كان منفردا في قضائه قله المذكورين آنفا، فظاهر عدم جوازه؛ لأن قول صحابي واحد وفعله لا يصلحان للمعارضة لكتاب الله تعالى، فضلا عن الرجحان عليه، وإن انضم إليه إجماع الصحابة؛ حيث كانوا متوافرين، ولم ينكر عليه أحد منهم فحل محل الإجماع -كما صرح به في العناية وغيرها- فكذلك لا يجوز؛ إذ تقرر في علم أصول الفقه أن الإجماع لا يكون ناسخا للكتاب ولا للسنة كما لا يكون القياس ناسخا لشيء منهما.
وقد أجيب عن هذا الاعتراض بأن قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، لا ينافي ما قالوا في هذه المسألة؛ إذ لا دلالة فيه على اعتبار الوحدة في النفس، بل فيه مجرد مقابلة جنس النفس بجنس النفس كما ترى، والمقصود منه الاحتراز عن أن يقتص النفس بغير النفس، كما في قوله تعالى:{وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} ونحوهما، وأما أنه هل تتحقق المماثلة المعتبرة في القصاص عند تعدد النفس في جانب القاتل أو المقتول، فإذا يستفاد ذلك من دليل آخر، ألا ترى أن العين اليمنى لا تقتص بالعين اليسرى، وكذا العكس، مع أن قوله تعالى:{وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} لا يدل عليه نظرا إلى ظاهر إطلاقه، بل إنما يستفاد ذلك من دليل آخر، فكذا هنا والدليل موجود وهو ما روي أن عمر قتل الجماعة بالواحد، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فكان إجماعا على قتل الجماعة بالواحد، فدل ذلك على عدم اعتبار المماثلة من هذه الناحية1.
كما أجاب الفقهاء أيضا عما يفهم من قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} أن الله سبحانه وتعالى شرط المساواة، ولا مساواة بين الجماعة والواحد، بأن المراد بالقصاص في الآية قتل من قتل كائنا من كان، ردا على العرب التي كانت تريد أن تقتل بمن قتل من لم يقتل، وتقتل في مقابلة الواحد مائة؛ افتخارًا واستظهارا بالجاه والمقدرة، فأمر الله سبحانه وتعالى بالعدل والمساواة، وذلك بأن يقتل من قتل2.
وبهذا التحليل الدقيق نرى رجحان ما استدل به الجمهور على قتل الجماعة بالواحد قصاصا.
1 فتح القدير ج8، ص279.
2 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج2، ص351.
أحكام أخرى تتفرع عن القول بقتل الجماعة بالواحد:
اختلف الفقهاء القائلون بقتل الجماعة بالواحد في أنه هل يجب على ولي الدم شيء إذا استوفى القصاص من الجماعة القاتلة؟ إلى ثلاثة آراء:
الرأي الأول:
قال جمهور الفقهاء "الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة": إن لولي الدم أن يقتص من الجماعة القاتلة لواحد دون أن يتبع ذلك شيء آخر؛ لأن القصاص من الجماعة كالقصاص من الواحد، وإذا سقط القصاص لأي سبب، فالواجب دية واحدة عليهم جميعا لولي الدم، مع مراعاة ما سبق أن حررناه من أن الواجب في القتل العمد هل هو القصاص عينا أو أن الواجب أحد أمرين القصاص أو الدية؟ 1 فمن قال: الواجب أحد الأمرين فعنده إذا سقط القصاص بعفو أو غيره وجبت دية واحدة؛ لأن القتل واحد، فلا يجب أكثر من دية، كما لو قتلوه خطأ2، وإن عفا ولي الدم عن بعضهم، فعلى المعفو قسطه من الدية؛ لأن الدية بدل المحل، وهو واحد، فتكون ديته واحدة، سواء أتلفه واحد أو جماعة
…
ولأن الواجب بدل المتلَف، ولا يختلف باختلاف المتلِف
…
3. أما من قال: إن موجب القتل العمد القصاص عينا، فإنه إن عفا عنهم سقط القصاص ولا شيء له، ويجوز له أن يعفو عن البعض ويصالح البعض ويقتص من البعض4.
1 راجع ص149.
2 كشاف القناع ج3، ص340.
3 الشرح الكبير لابن قدامة المقدسي ج9، ص394، ط. أ.
4 جاء في الخرشي ج4، ص225:"وإن قتل جماعة رجلا أو رجالا عمدا، أو قطعوا يدا واحدة أو أيدي، ويثبت ذلك ببينة أو اعتراف، فإن ولي الدم يجوز له أن يصالح البعض -أي بعض القاتلين أو القاطعين- ويعفو عن البعض، ويجوز له أن يصالح كلا ويعفو عن كل مجانا، وأضاف العدوي في شرحه لذلك قوله: "جاز صلح كل" أي: أو القصاص أو العفو عن البعض والقصاص عن الباقين، أو صلحه أو صلح بعض والعفو عن بعض والقصاص من بعض".
الرأي الثاني:
يرى الزيدية أنه تقتل الجماعة بالواحد إذا اجتمعوا على قتله، وكذلك تقطع أيديهم إذا قطعوا يده1، ويجب على كل واحد من القاتلين للواحد دية كاملة لورثة القتيل إن طلبت الدية، وعفا الوارث عن القصاص، أو سقط القصاص بأي وجه، وكذلك الحكم في قطع اليد يلزم كل واحد من الجانبين دية كاملة إن سقط القصاص بأي وجه، وأما في قتل الخطأ لو اشترك فيه جماعة فلا يلزمهم إلا دية واحدة لورثته؛ لأن القصاص في الخطأ ساقط من الأصل، فهي عوض عن دم المقتول.
الرأي الثالث:
يرى الإمامية قتل الجماعة بالواحد إلا أنه يلزم ولي الدم إذا اختار القصاص من الجماعة أن يرد عليهم ما فضل عن ديته، فيأخذ كل واحد من
1 وقد وضعوا لذلك شروطا في الحالتين نحيل الباحث إليها ومنها في قتل الجماعة للواحد، وأن يموت بمجموع فعلهم، ولذلك ثلاث حالات إما مباشرة أو سراية أو بالانضمام. يراجع توضيح كل حالة في التاج المذهب ج2، ص267، 268.
القتلة ما فضل من ديته عن جنايته، وله قتل البعض فيرد الباقون من الدية بحسب جنايتهم، فإن فضل للمقتولين فضل عما رده شركاؤهم قام به الولي، فلو اشترك ثلاثة في قتل واحد واختار وليه قتلهم أدى إليهم ديتين يقتسمونهما بينهم بالسوية، فيصيب كل واحد منها ثلثا الدية ويسقط ما يخصه من الجناية وهو الثلث الباقي، ولو قتل اثنين أدى الثالث ثلث الدية عوض ما يخصه من الجناية، ويضيف الولي إليه دية كاملة ليصير كل واحد من المقتولين ثلثا دية وهو فاضل ديته عن جنايته، ولأن الولي استوفى نفسين بنفس فيرد دية نفس، ولو قتل واحدا أدى الباقيان إلى ورثته ثلثي الدية، ولا شيء على الولي، ولو طلب الدية كانت عليهم بالسوية إن اتفقوا على أدائها، وإلا فالواجب تسليم نفس القاتل، هذا مع اتحاد ولي المقتول، أو اتفاق المتعدد على الفعل الواحد، ولو اختلفوا فطلب بعضهم القصاص وبعض الدية قدم مختار القصاص بعد رد نصيب طالب الدية منها، وكذا لو عفا البعض إلا أن الرد هنا على القاتل1.
ب- قتل الواحد بالجماعة:
اتفق الفقهاء على أن الواحد إذا قتل جماعة عمدا كان لأولياء القتلى الحق في أن يقتصوا منه؛ ولكنهم اختلفوا في كون القصاص منه هو كل العقوبة؛ أي: أنه ليس لأولياء القتلى شيء آخر بعد القصاص، أم أن القصاص يقع عن إحدى جرائمه، وللآخرين الديات في تركته إلى ثلاثة آراء:
الرأي الأول:
ليس لأولياء القتلى شيء سوى القصاص إذا طلبوه.
يرى الحنفية "والمالكية"2 أنه إذا قتل واحد جماعة فحضر أولياء
1 الروضة البهية ج2، ص399، ولم يذكر المذهب أدلة.
2 جاء في الخرشي ج4، ص225: إذا تعدد المقتولون واتحد القاتل فروى يحيى عن ابن القاسم: من قتل رجلين عمدا، وثبت ذلك عليه فصالح أولياء أحدهما على الدية وعفوا عن دمه، وقام أولياء الآخر بالقصاص، فلهم القصاص، فإن اقتصوا بطل الصلح ويرجع المال إلى ورثته؛ لأنه إنما صالحهم على النجاة من القتل.
المقتولين وطلبوا القصاص قتل لجماعتهم، ولا شيء لهم غير ذلك، فإن حضر واحد منهم قتل له وسقط حق الباقين، وقد استدلوا بالقياس، وذلك من وجهين:
1-
قالوا: إنه إذا اقتص من الواحد للجماعة كان كل واحد من أولياء القتلى مقتصا بوصف الكمال، فحصل التماثل والتساوي كما حصل التماثل والتساوي في قتل الجماعة بالواحد؛ إذ إنه لو لم يوجد ذلك لما وجب القصاص من الجماعة للواحد؛ لأن المثل اسم مشترك، فمن ضرورة كون أحد الشيئين مثلا للآخر أن يكون الآخر مثلا، كاسم الأخ والزوج، فوجوب القصاص من الجماعة للواحد دليل على أنها مثل له؛ إذ القصاص لا يجب في كل موضع يتعذر فيه اعتبار المماثلة -ككسر العظم- أو يتوهم فيه عدم المماثلة -كالجائفة- فإذا كانت الجماعة مماثلة للواحد، كان الواحد مماثلا للجماعة، فإذا اقتصوا منه، أو اقتص منه أحدهم، لم يكن لهم، أو للباقين شيء آخر.
2-
ولأن القصاص شرع مع المنافي، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"الآدمي بنيان الرب، معلون من هدم بنيان الرب"؛ لتحقيق الإحياء، وتحقيق الإحياء قد حصل بقتل القاتل، فاكتفى به، ولا شيء لهم غير ذلك1.
1 العناية هامش فتح القدير ج8، ص28.
الرأي الثاني:
القصاص يقع عن واحد وللباقين الديات:
قال الشافعية: إذا قتل واحد جماعة فإنه قتلهم مرتبا قتل بأولهم، وإن قتلهم دفعة قتل بواحد منهم بالقرعة، وللباقين الديات في تركته لتعذر القصاص لهم عليه، وإنما تجب القرعة في المعية عند التنازع، فإن رضوا بتقديم واحد منهم من غير قرعة جاز، ولهم الرجوع إلى القرعة قبل القصاص، ولو قتلوه كلهم دفعة واحدة أساءوا ووقع القتل موزعا عليهم، ولكل منهم ما بقي من دية مورثه، فلو كانوا ثلاثة حصل لكل منهم ثلث حقه، ويرجع بثلثي الدية والعبرة بدية المقتول لا القاتل1.
وجه قول الشافعي: أن المماثلة مشروطة في باب القصاص، ولا مماثلة بين الواحد الجماعة، فلا يجوز أن يقتل الواحد بالجماعة على طريق الاكتفاء به، فيقتل الواحد بالواحد وتجب الديات للباقين، كما لو قطع واحد يميني رجلين، فإنه لا يقطع بهما اكتفاء، بل يقطع بإحداهما وعليه أرش الآخر لمماثلتها، كذا هذا.
وأما قتل الجماعة بالواحد فقد كان ينبغي ألا تقتل الجماعة بالواحد قصاصا لعدم المساواة، إلا أنا عرفنا ذلك بإجماع الصحابة رضي الله عنهم غير معقول، أو معقولا بحكمة الزجر والردع لما يغلب من وجود القتل بصفة الاجتماع
…
فيجعل كل واحد منهم قاتلا على الكمال كأن ليس معه غيره تحقيقا للزجر، وقتل الواحد الجماعة لا يغلب وجوده بل يندر، فلم يكن
1 راجع: مغني المحتاج ج4، ص22، وحاشية الباجوري على شرح أبي القاسم، ط المعاهد الأزهرية ص20.
في معنى ما ورد الشرع به فلا يلحق به1.
ولأنه لما كان لكل واحد منهم الحق في استيفاء القصاص، فاشتراكهم في المطالبة لا يوجب تداخل حقوقهم كسائر الحقوق، فكما أن الحقوق لا تتداخل فكذلك هذا.
ويقاس أيضا على القتل خطأ، فكما وجب عليه في القتل خطأ دية كل، فكذلك يجب عليه في القتل العمد دية كل.
الرأي الثالث:
القصاص كاف عند اتفاقهم عليه، وإلا فللباقين الديات.
ويرى الحنابلة والزيدية: أنه إذا قتل واحد جماعة قتل بها اكتفاء إن اجتمع أولياء القتلى على قتله، وإن لم يجتمعوا قتل بواحد منهم والباقين دياتهم في مال القاتل، ونظرا لأن لكل مذهب تفصيلاته، فإننا نعرض الرأيين بقدر، ثم نتبع ذلك بالأدلة.
مذهب الحنابلة:
يرى الحنابلة2 أنه إذا قتل واحد اثنين -مثلا- فاتفق أولياؤهما على قتله بهما قتل بهما، وإن أراد أحدهما القود والآخر الدية، قتل لمن أراد القود، وأعطى أولياء الثاني الدية على ماله، سواء كان المختار للقود الثاني أو الأول، وسواء قتلهما دفعة واحد أو دفعتين، فإن بادر أحدهما فقتله وجب للآخر الدية في ماله أيهما كان، وإن طلب كل ولي قتله بوليه مستقلا من غير مشاركة قدم الأول؛ لأن حقه أسبق، ولأن المحل صار
1 بدائع الصنائع ج7، ص239.
2 الشرح الكبير ج9، ص405-407.
مستحقا له بالقتل الأول، فإن عفا ولي الأول فلولي الثاني قتله، وإن طالب ولي الثاني قبل طلب الأول بعث الحاكم إلى ولي الأول فأعلمه، وإن بادر الثاني فقتله أساء وسقط حق الأول إلى الدية، وإن كان ولي الأول غائبا أو صغيرا أو مجنونا انتظر، وإن عفا أولياء الجميع إلى الديات فلهم ذلك وإن قتلهم دفعة واحدة وتشاحوا في المستوفى أقرع بينهم، فقدم من تقع له القرعة لتساوي حقوقهم، وإن بادر غيره فقتله استوفى حقه، ويسقط حق الباقين إلى الدية، وإن قتلهم متفرقا وأشكل الأول، وادعى كل ولي أنه الأول، ولا بينة لهم، فأقر القاتل لأحدهم قدم بإقراره، وإن لم يقر أقرعنا بينهم لاستواء حقوقهم.
مذهب الزيدية:
أما الزيدية فيرون أن قتل الجماعة إن كان واحدا فليس لهم عليه سوى القتل، ولا شيء عليه من الديات لتعدد القتلى، وسواء كان القاتل ذكرًا أو أنثى أو خنثى أو عبدا، وسواء كان قتله للجماعة في حالة واحدة أم حالات، وليس لأولياء أحد القتلى أن يقتله قصاصا عن مقتوله قبل حضور أولياء الآخرين، فإن فعل أثم ولا شيء عليه ويلزم ديات الباقين في مال القاتل؛ ولهذا يجب على القاتل أن يحفظ نفسه حتى يجتمع أولياء دم القتلى جميعا فيقتصوا أو يوكلوا مع حضورهم؛ لأنه قد تعلق بذمته حق لورثة كل واحد ممن قتله، فلا يجوز له أن يمكن من قتل نفسه ورثة أحد القتلاء دون الآخرين، وله المدافعة ولو بالقتل إذا أراه أحد الأولياء قتله؛ لأن فعله محظور قبل حضور جميع أولياء القتلاء، فإن حضروا وطلب بعضهم القود وبعضهم الدية وجب الكل.
أما من قلع أعين جماعة فليس كالقتل لهم، فالقصاص لازم لهم في عينه يجتمعون على قلعها أو يوكلون واحدا يقتلعها، ويستحقون عليه ديات
الأعين الباقيات التي لم تستوف القصاص، تقسم بينهم على السواء، فلو اقتص أحدهم بالعين دون الآخرين استحق الآخرون الديات دون المقتص، والفرق بين النفس والأطراف أن النفس لا يمكن تبعيضها، وسائر الأطراف يمكن تبعيضها1.
الأدلة:
لقد استدل الحنابلة بالسنة والقياس، كما ناقضوا الأدلة التي استدل بها أصحاب الرأي الأول والثاني.
أما السنة: فقد استدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "
…
فمن قتل له قتيل فأهله بين خيرتين: إن أحبوا قتلوا، وأحبوا أخذوا العقل"، فظاهر هذا الحديث أن أهل كل قتيل يستحقون ما اختاروه من القتل أو الدية، فإذا اتفقوا على القتل وجب لهم، وإن اختار بعضهم الدية وجب له بظاهر الخبر؛ فيكون هذا الحديث حجة على الحنفية والمالكية.
وأما القياس: فقد قالوا: إن الجنايتين إذا كانتا خطأ لا تتداخلان، وكذلك إذا كانت إحداهما خطأ والأخرى عمدا، فلم يتداخلا في العمد قياسا على ذلك كالجنايات على الأطراف، وقد سلم الحنفية بذلك.
وقالوا على قول الشافعية: "إن حقوقهم لا تتداخل كسائر الحقوق"، إن محل الجناية محل تعلق به حقان لا يتسع لهما معا، فإن رضي المستحقان
1 التاج المذهب ج4، ص271-372 "يراجع عند الحاجة إلى معرفة التفاصيل".
به عنهما فيكتفى به، كما لو قتل عبد عبدين خطأ فرضي بأخذه عنهما، ولأنهما رضيا بدون حقهما فجاز، كما لو رضي صاحب اليد الصحيحة بالشلاء، أو ولي الحر بالعبد.
وفارق القتل العمد ما إذا كان القتل خطأ، فإن الجناية الخطأ تجب في الذمة، والذمة تتسع لحقوق كثيرة.
كما ردوا على قول الحنفية والمالكية "بالتماثل بين قتل الجماعة بالواحد والواحد بالجماعة" بأن التماثل غير صحيح، فإن الجماعة قتلوا بالواحد؛ لئلا يؤدي الاشتراك إلى إسقاط القصاص؛ تغليظًا للقصاص، ومبالغة في الزجر، وفي مسألتنا ينعكس هذا، فإنه إذا علم أن القصاص واجب عليه بقتل واحد، وأن قتل الثاني والثالث لا يزاد به عليه حق، بادر إلى قتل من يريد قتله وفعل ما يشتهي فعله، ويصير هذا كإسقاط القصاص عنه ابتداء مع الدية.
والترجيح:
ويتضح لنا مما تقدم رجحان الرأي الثالث للأدلة التي ذكرها وهي قوية وواضحة، وأيضا فإن هذا الرأي محقق للمصلحة العامة؛ حيث يسد باب التفاني، ويحقق حكمة الإحياء، ويحقق المصلحة الخاصة؛ حيث يجبر دم القتلى الآخرين بالديات التي تدفع لأولياء القتلى إن أراد أحد منهم أخذها، أما إن اكتفوا بالقصاص فهذا حقهم، ولهم إسقاطه فرادى، فكذا إذا كانوا جماعة.
خلاصة المقصد الرابع:
بعد دراستنا لشروط استيفاء القصاص، هذه الدراسة التحليلية تبين أننا نرجح أن المكافأة المعتبرة هي المكافأة في العصمة، والعصمة تكون بالإسلام أو بدار الإسلام، فكل من اكتسب هذه العصمة مسلما كان أم ذميا، حرا أم عبدا، ذكرا أم أنثى، صغيرا أم كبيرا، عاقلا أم مجنونا، كان قتله عمدا موجبا القصاص، إلا إذا أسقط الشارع هذه العقوبة عنه بسبب صغر أو جنون -كما سيأتي إيضاحه في الظروف المبيحة أو المخففة للعقوبة في المقصد السادس من النوع الأول من العقوبة الدنيوية- وقد كان عمادنا في الترجيح رجحان الأدلة التي استند إليها القائلون بذلك.
استيفاء القصاص في الحرم:
إذا أردنا أن نعرف حكم استيفاء القصاص في الحرم، فعلينا أن نفرق بين حالتين: حالة ارتكاب الجناية داخل الحرم، وحالة ارتكابها خارجه.
الحالة الأولى: إذا اقترف الجاني جنايته في الحرم -سواء كانت على النفس أو على ما دونها- أخذ بجنايته، وأقيم عليه ما يستحقه من قتل أو غيره باتفاق أهل العلم1، فإن الله -جل شأنه- فرق بين الجاني في الحرم، والجاني في غيره إذا لجأ إليه؛ حيث أباح قتل من قاتل
1 أحكام القرآن للجصاص ج، ص25، ولكن ذكر الشوكاني في نيل الأوطار ج7، ص43: أن بعض المعتزلة قالوا: يخرج من الحرم ويقام عليه الحد.
في الحرم، ولم يبح قتل من لم يقاتل، بدلالة قوله تعالى:{وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} 1.
ويؤيد هذه التفرقة أن الجاني في الحرم هاتك لحرمته، بخلاف من جنى ثم التجأ إلى الحرم، فإنه لا يوجد منه هتك لحرمته، ولا اعتداء على قدسيته، وأيضا لو قلنا بترك الحد والقصاص على كل شخص يفعل ما يوجب ذلك في الحرم لعظم الفساد في الحرم وانتشر، وهذا يتنافى مع مكانته.
الحالة الثانية: أما إذا ارتكب الجاني جنياته خارج الحرم ثم لاذ بالحرم، فإن للفقهاء رأيين في إقامة العقوبة عليه:
الرأي الأول: قال مالك والشافعي2: يقتص منه في الحرم في النفس وما دونها3، استنادا إلى عمومات الأدلة القاضية بالقصاص؛ كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى
…
} .
1 سورة البقرة الآية رقم 191.
2 راجع الشرح الصغير ج2، ص364، ومغني المحتاج ج4، ص43.
3 وقد روى قتادة عن الحسن أنه قال: لا يمنع الحرم من أصاب فيه أو في غيره أن يقام عليه. قال: وكان الحسن يقول: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} كان هذا في الجاهلية، ولو أن رجلا حر "اقترف" كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتعرض له حتى يخرج من الحرم، فأما الإسلام فلم يزده إلا شدة، من أصاب الحد في غيره ثم لجأ إليه أقيم عليه الحد، إلا أن هذه الرواية عارضتها رواية أخرى؛ فقد روى هشام عن الحسن وعطاء قالا: إذا أصاب حدا في غير الحرم، ثم لجأ إلى الحرم، أخرج عن الحرم، حتى يقام عليه. وعن مجاهد مثله، وهذا يحتمل أنه يريد بإخراجه اضطراره إلى الخروج بترك مجالسته وإيوائه ومبايعته ومشاراته. وقد روي ذلك عن عطاء مفسرا. أحكام القرآن للجصاص ج2، ص25.
وقوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
…
} وقوله: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} حيث إن هذه الأدلة بعمومها تفيد استيفاء القصاص في النفس وما دونها في كل زمان ومكان، وخصوصا ما روي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر1، فلما نزعه جاءه رجل، فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة2، قال:"اقتلوه" متفق عليه3.
فالرسول عليه الصلاة والسلام قد أمر بقتله وهو في داخل الحرم، فدل ذلك على جواز إقامة الحد والقصاص فيه، سواء كان الجاني قد ارتكب جنايته داخل الحرم أم خارجه ثم لجأ إليه.
الرأي الثاني:
قال جمع من الفقهاء الحنفية والحنابلة، وروي عن ابن عباس وابن عمر، وعبيد الله بن عمير، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاوس، والشعبي، والعترة: لا يقتص ممن جنى خارج الحرم، ثم لاذ بالحرم؛ ولكن لا يبايع ولا يؤاكل، ولا يجالس، ولا يؤوى، حتى يضطر إلى الخروج عن الحرم، فإذا خرج أقيم عليه الحد والقصاص، وقد استدلوا على ذلك بالكتاب والسنة.
1 المغفر: على وزن المبضع؛ هو: زرد ينسج على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة.
2 ابن خطل رجل من بني تميم بن غالب قتله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان قد ارتد عن الإسلام، وقتل مسلما كان يخدمه، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويسبه، وكان له قينتان "رقيقتان" تغنيان بهجاء المسلمين.
3 نيل الأوطار ج7، ص40-43.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا} 1 يقتضي أن من دخل الحرم كان آمنا على نفسه، سواء جنى قبل دخوله الحرم، أو جنى بعد دخوله، فالآية تأمرنا -وإن كانت في صورة الخبر- بتأمين من دخل الحرم، وحظر دمه، والنهي عن قتله، وذلك إذا كان دمه مستحقا بفعل فعله استوجب قتله، وإلا لما كان لتخصيصه بالحرم فائدة؛ لأننا مأمورون بتأمين جميع من يحمل رعوية الدولة الإسلامية في الحرم وغيره من ظلم أو قتل غير مستحق.
إلا أن الدلالة قد قامت من اتفاق أهل العلم على أنه إذا قتل في الحرم قتل، استنادا إلى ما ذكرنا آنفا من الأدلة2.
وأما السنة: فقد وردت عدة أحاديث: منها ما روي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرام، حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة" متفق عليه.
ومنها ما روي عن عبد الله بن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
1 سورة آل عمران، الآية رقم 57.
2 ذكر أبو بكر الجصاص أن نظير هذه الآية قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} سورة العنكبوت الآية رقم 67، وقوله:{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا} سورة القصص الآية رقم 57، وقوله:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} سورة البقرة الآية رقم 125، إلا أنه قد عبر جل شأنه تارة بالبيت وتارة بالحرم "فدل على أن الحرم في حكم البيت في باب الأمن، ومنع قتل من لجأ إليه".
"إن أعدى1 الناس على الله عز وجل من قتل في الحرم، أو قتل غير قاتله، أو قتل بذحول2 الجاهلية" رواه أحمد3.
وظاهر الأحاديث يقتضي حظر قتل اللاجئ إلى الحرم مطلقا، إلا أن الجاني في الحرم خارج باتفاق العلماء.
وأما أنه لا يبايع ولا يشارى ولا يجالس، فلما روي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يسكن مكة سافك دم، ولا آكل ربا، ولا مشاء بنميمة"، وهذا يدل على أن القاتل إذا دخل الحرم لم يؤو، ولم يجالس، ولم يبايع، ولم يشار، ولم يطعم، ولم يسق، حتى يخرج، وروى طاوس عن ابن عباس قال:"إذا دخل القاتل الحرم لم يجالس ولم يبايع، ولم يؤو، واتبعه طالبه يقول له: اتق الله في دم فلان واخرج من الحرم".
وأما جنايته على ما دون النفس، فإنه يؤخذ بها مطلقا، سواء كانت الجناية في الحرم أو خارجه ثم لجأ إليه، وهذا باتفاق العلماء4؛ لأنه لو كان عليه دين فلجأ إلى الحرم حبس به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لي
1 أعدى: أي أشدهم في التعدي على الله، وفي رواية:"إن أعتى الناس" أي: أشدهم تجبرا.
2 الذحول: جمع ذحل، وهو الثأر والعداوة، والمراد هنا: طلب من كان له دم في الجاهلية بعد دخوله في الإسلام.
3 وفي الباب أحاديث عن أبي هريرة وعن أبي شريح الخزاعي وغيرهما، أوردها الشوكاني في نيل الأوطار ج7، ص40، 41.
4 أحكام القرآن للجصاص ج2، ص26.
الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته"، والحبس في الدين عقوبة، وهي عقوبة فيما دون النفس، فكل حق وجب فيما دون النفس يؤخذ به وإن لجأ إلى الحرم، قياسا على الحبس في الدين.
الترجيح:
والرأي الثاني أرجح؛ لقوة الأدلة التي استندوا إليها، ووضوحها في إفادة الحكم، أما ما استند إليه أصحاب الرأي الأول من "أن عمومات الآيات قاضية بالقصاص في كل مكان وزمان"، فقد أجيب عنه بجوابين:
أولهما: أن الآيات ليس فيها ما يدل على عمومها لكل مكان وكل زمان؛ لعدم التصريح بهما.
وثانيهما: أننا لو سلمنا بعمومها لذلك فهي مخصصة بالأحاديث التي ذكرناها؛ لأنها قاضية بمنع ذلك في مكان خاص، وهذه الأحاديث متأخرة، فإنها في حجة الوداع بعد شرعية الحدود.
كما أجابوا عن حديث أنس بأنه لا يصلح للاستدلال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ابن خطل في الساعة التي أحل الله له فيها القتال بمكة، وقد أخبرنا بأنها لا تحل لأحد قبله، ولا لأحد بعده، وأخبرنا بأن حرمتها قد عادت بعد تلك الساعة كما كانت.
وأيضا فإن هذا الرأي فيه تكريم لهذا المكان المقدس، وتنزيه عن أن يكون مكانا لتنفيذ العقوبات على الجرائم التي ارتكبت خارجه، وميزة أخرى له يمتاز بها عن غيره من الأماكن، وهذا الرأي
لا يؤدي إلى إسقاط عقوبة عن جان؛ لأن عدم تقديم مقومات الحياة إليه من مأكل ومشرب ومأوى، وعدم التعامل معه وعدم مخالطته، كل هذا يدفعه ويضطره إلى أن يخرج من الحرم، وإلا فإن الموت في هذه الحالة يكون نهاية له، إلا أنه موت مضاف سببه إليه، فيكون قاتلا لنفسه، وعقوبته الأخروية التخليد في النار -كما سبق أن بينا- أما إذا خرج فقد يعفو عنه ولي الدم، وإن قتله قصاصا يرجى أن يكون ذلك جبرا لذنبه.
المقصد الخامس: استيفاء القصاص:
ونتناول في هذا المقصد ثلاثة موضوعات: من له حق استيفاء القصاص، فإذن الإمام بالاستيفاء، ثم كيفية القصاص.
الفرع الأول: مَن له حق استيفاء القصاص:
اتفق الفقهاء على أنه إذا كانت الجناية على ما دون النفس، فإن المستحق القصاص يكون هو المجني عليه؛ لأنه هو صاحب الحق، ولا يتصور أن يكون الحق لغير صاحب الحق.
وأما إن كانت الجناية على النفس، فإننا إذا تتبعنا آراء الفقهاء وجدنا أن الولي الذي يكون له حق استفياء القصاص أولا هو القريب -على اختلاف في حقيقته- فمولى العتاقة فمولى الموالاة -على اختلاف بينهم في القول بإعطائهما هذا الحق- ثم الإمام أن لم يوجد أحد ممن يستحق هذه الولاية ممن ذكرنا، ونبين هنا آراءهم في سبب الاستحقاق الأول "القرابة" لأهميته وأصالته، وندع هذه المقارنة بالنسبة لباقي الأسباب؛ نظرا لأن مولى العتاقة ومولى الموالاة مما لا يكاد يوجد الآن، ولاتفاقهم على أنه إن لم يوجد مستحق كان هذا الحق للإمام أو نائبه.
آراء الفقهاء في إثبات هذه الولاية للأقارب:
للفقهاء خمسة آراء في نوع القرابة التي تثبت بها هذه الولاية:
الرأي الأول: يرى الحنفية والشافعية والحنابلة والزيدية1: أن ولاية
1 نورد فيما يأتي آراء فقهاء الحنفية والحنابلة بإيجاز نظرا لأهمية تحليلاتهم:
أ- مذهب الحنفية: يرى الحنفية أن ولاية استيفاء القصاص تثبت بأسباب أربعة إن كان المقتول حرا، وإلا فبسبب واحد، فمن أسباب الحالة الأولى:
1-
الوراثة، فإن كان للمقتول وراث، فالمستحق للقصاص هو الوارث، كالمستحق للمال؛ لأنه حق ثابت، والوارث أقرب الناس إلى الميت، فيكون له.
2-
فإن لم يكن له وارث، وكان له مولى العتاقة، وهو المعتق، كان هو المستحق للقصاص؛ لأنه آخر العصبات.
3-
فإن لم يكن له ملى العتاقة وله مولى الموالاة كان المستحق للقصاص هو مولى الموالاة؛ لأنه آخر الورثة، فجاز أن يستحق القصاص كما يستحق المال.
4-
فإن لم يكن له وارث ولا مولى العتاقة ولا مولى الموالاة -كاللقيط ونحوه إذا قتل- كان المستحق للقصاص هو السلطان في قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: ليس للسلطان أن يستوفي إذا كان المقتول من أهل دار الإسلام، وله أن يأخذ الدية، وإن كان من أهل دار الحرب =
..................................................................
= ودخل دار الإسلام مسلما فله أن يستوفي القصاص وله أن يأخذ الدية.
أما إن كان المقتول عبدا فالمستحق للقصاص هو المولى؛ لأن الحق قد ثبت، وأقرب الناس إلى العبد مولاه، ثم إن كان المولى واحدا استحق كله، وإن كان جماعة استحقوه "بدائع ج7، ص242-245".
ب- مذهب الحنابلة: يرى الحنابلة أن استيفاء القصاص يكون لوارث المقتول، فإن لم يوجد وراث فالإمام، ففي الحالة الأولى يرث القصاص كل من ورث المال على قدر ميراثه فيه، حتى الزوجان وذوو الأرحام، وذلك بثلاثة شروط؛ أحدها: أن يكون مستحق القصاص مكلفا؛ لأن غير المكلف ليس أهلا للاستيفاء إلا بعد تكليفه، بدليل أنه لا يصح إقراره ولا تصرفه، فإن كان مستحق القصاص صغيرا أو مجنونا لم يجز لآخر أن يستوفيه.
والثاني: اتفاق المستحقين للقصاص على استيفائه؛ لأن الاستيفاء حق مشترك لا يمكن تبعيضه، فلم يجز لأحد التصرف فيه بغير إذن شريكه، فإن كان أحدهم غائبا انتظر قدمه وجوبا.
والثالث: أن يؤمن في الاستيفاء التعدي إلى غير الجاني؛ لقوله تعالى {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} ، وإذا أدى إلى التعدي كان فيه إسراف.
وإذا لم يوجد وارث فالإمام ولي من ولا ولي له، إن شاء اقتص وأن شاء عفا إلى دية كاملة فأكثر؛ لأنه يفعل ما يرى فيه المصلحة للمسلمين وليس له العفو مجانا، ولا على أقل من الدية؛ لأنها للمسلمين ولا مصلحة لهم في ذلك "كشاف القناع ج3، ص357-361".
استيفاء القصاص في النفس حق لمن ورث مال المقتول، ذكورا كانوا أو إناثا، ذوي قرابة نسبية أو سببية، وعللوا ذلك: بأن القصاص حق ثابت، وإذا كان حقا ثابتا فإنه يورث كما يورث المال، والوارث أقرب الناس إلى الميت، فيكون هذا الحق له.
الرأي الثاني: يرى المالكية أن استيفاء القصاص في النفس يكون للعاصب الذكر، يقدم الأقرب، فالأقرب؛ كترتيب الولاء، فيقدم الابن، فابنه، فأب، فأخ، فابن أخ، فجد، فعم، فابنه
…
، إلا الجد الأدنى، والإخوة فإنهما متساويان في القتل والعفو.
ولا يكون الاستيفاء للنساء إلا بثلاثة شروط:
1-
أن يكن وارثات فليس للعمة والخالة ونحوهما حق الاستيفاء.
2-
ولم يساوهن عاصب في الدرجة كأن لم يوجد عاصب أنزل منهن؛ كعم مع بنت أو أخت.
3-
وأن يكن عصبة لو كن ذكورًا، فلا حق للجدة من الأم، والأخت لأم والزوجة، فإن كن وارثات مع عاصب غير مساو فلهن وله القود، فمن طلبه من الفريقين أجيب له، ولا يعتبر عفوا إلا باجتماع الفريقين، أو بواحد من كل فريق، كالبنات مع الإخوة، فإن لم يكن أحد من هؤلاء كان استيفاء القصاص للمولى الأعلى ثم السلطان.
الرأي الثالث: يرى الإمامية أن حق استيفاء القصاص يكون لوارث المال مطلقا إلا الزوجين، وقد استدلوا بعموم قوله تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} 1، وقد خرج الزوجان منها بالإجماع، فيبقى الباقي، ولأن الزوجية ترتفع بالموت.
1 الآية 75 من سورة الأنفال.
وقد نقل عن ابن أبي ليلى قوله: "لكل وارث عفو إلا الزوج والزوجة، فلا عفو لهما".
الرأي الرابع: يرى ابن شبرمة والليث والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز، ورأي في مذهب الإمامية: أن حق استيفاء القصاص لا يكون للنساء مطلقا، وربما استدلوا بأن النساء لا يرثن الولاء، ولا الولاية في عقد النكاح، فكذلك لا يرثن القصاص.
الرأي الخامس: يرى الظاهرية أن هذه الولاية هي لأهل المقتول، وهم الذين يعرف المقتول بالانتماء إليهم، سواء كان ذكرا أم أنثى، ذا قرابة نسبية أو سببية؛ كالابن والابنة، والأخت والأخ، والأم، والزوج، والزوجة، وابن العم وبنت العم، والعمة، فمن أراد من هؤلاء القود فالقود واجب، ولا يلتفت إلى عفو من عفا ممن هو أقرب أو أبعد أو أكثر في العدد، فإن اتفق الورثة كلهم على العفو فلهم الدية حينئذ ويحرم الدم1.
الترجيح:
والذي نرى رجحانه هو الرأي الأول الذي يقضي بأن حق استيفاء القصاص يكون لوارث المال مطلقا -ذكرا أو أنثى- وذلك لما ذكروا من أدلة، ولما يأتي:
1-
روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله
1 المحلى لابن حزم ج10، ص482.
صلى الله عليه وسلم قضى أن يعقل عن المرأة عصبتها من كانوا، ولا يرثوا منها إلا ما فضل عن ورثتها. وإن قتلت1 فعقلها بين ورثتها وهم يقتلون قاتلها، رواه الخمسة إلا الترمذي، ووجه الاستدلال به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل لورثة المرأة أن يقتلوا قاتلها، فجعل القصاص حقا للورثة جميعا من الرجال والنساء.
2-
كما روي عن عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "وعلى المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة" رواه أبو داود والنسائي، وأراد بالمقتتلين أولياء المقتول الطالبين القود، وينحجزوا: أي ينكفوا عن القود بعفو أحدهم ولو كان امرأة، وقوله: الأول فالأول: أي الأقرب فالأقرب، ذكر الشوكاني أن أبا داود قد فسره بما ذكر2.
3-
وقد وردت آثار عن الصحابة -رضوان الله عليهم- تؤيد أن القصاص حق لجميع ورثة المال، منها ما روي عن زيد بن وهب أن عمر بن الخطاب رفع إليه رجل قتل رجلا، فجاء أولياء المقتول فأرادوا قتله، فقالت أخت المقتول -وهي امرأة القاتل: قد عفوت عن حصتي من زوجي، فقال عمر: عتق الرجل من القتل، ولم يظهر مخالف لرأيه والصحابة متوافرون.
كما روي عن إبراهيم أنه قال: عفو كل ذي سهم جائز3.
1 "قتلت" بالبناء للمجهول.
2 نيل الأوطار ج7، ص29.
3 المحلى لابن حزم ج10، ص478.
وبهذا يتضح لنا رجحان القول بأن ورثة المال هم الذين لهم حق استيفاء القصاص. وأما القول بأن الزوجين يخرجان من الولاية؛ لأن الزوجية ترتفع بالموت، فقد يرد على هذا بأن القصاص شرح لحفظ الدماء والزوج أقرب الناس إلى زوجته، وهو المتأثر بالقتل -غالبا- أكثر من غيره فاندفاعه إلى استيفاء القصاص وحرصه عليه لا يقل عن غيره من الورثة، ويرد عليه أيضا بما روي عن عمر آنفا.
وإذا ثبت هذا للزوجة، فثبوته للنساء الوارثات بسبب القرابة أولى، وقد كان ما قاله إبراهيم النخعي نصا في الموضوع، فكل ذي سهم في التركة يكون له حق استيفاء القصاص، وأيضا فإن جعل هذا الحق لجميع الأهل -أي من ينتمي إليهم المقتول- فيه إحالة إلى مجهول؛ إذ الأهل دائرتهم متسعة فقد يكونون مائة، وقد يكونون ألفا، وقد يكونون أكثر، وقد يكونون أقل، حسب ظروف كل أسرة، ومثل هذا العدد ارتباطهم بالمقتول متفاوت وشعورهم نحوه لا يتجه في طريق واحد، ومن هنا قد تضيع دماء كثيرة؛ لذلك فإن جعل هذا الحق في يد ورثة المال فيه حصر للدائرة التي تتعاطف مع المقتول، وتتصل به اتصالا وثيقا، وحسبنا أن الشارع قد أعطاها نصيبا حقوقه وأمواله بعد موته، وهذا حق من الحقوق كما أن فيه رعاية وصونا لدم المقتول عن الإهدار.
ما يشترط فيمن لهم ولاية الاستيفاء:
أثار الفقهاء عدة أمور، قال البعض باشتراطها، وآخرون بعدم اشتراطها، ومنها:
1-
اشتراط التكليف:
لما كان حق استيفاء القصاص حقا ثابتا للإنسان، حقا يورث كالحقوق المالية، فإنه ينبغي أن يثبت للورثة، الصغير منها والكبير، كما يثبت الميراث إلا أنه حق يحتاج إلى توافر أهلية الأداء الكاملة التي بها يتمكن صاحب الحق من التعبير عن إرادته في استيفاء حقه، وهو هنا القصاص أو تركه في مقابل الدية أو ما يصالح عليه، أو العفو مجانا، وأيضا فإن لمصلحة تقتضي أن يعرف القاتل مصيره، ومن هنا وجدنا خلافا فقهيا يجري في ثبوت هذا الحق للصغير والمجنون.
حكم ما إذا كان احد الورثة صغيرا أو مجنونا:
قال أبو حنيفة والمالكية والظاهرية1: إنه إذا كان أحد الورثة صغيرا أو مجنونا، فإنه لا ينتظر بلوغه أو إفاقته، وقد استدل أبو حنيفة لرأيه بأمرين؛ أولهما: أن هذا الحق يثبت لكل واحد من الورثة على سبيل الكمال؛ لأنه حق لا يتجزأ، والشركة فيما لا يتجزأ محال، كولاية النكاح. وثانيهما: ما روي أنه لما جرح ابن ملجم -لعنه الله- عليا -كرم الله وجهه- قال للحسن رضي الله عنه: إن شئت فاقتله، وإن شئت فاعف عنه، وإن
1 المحلى لابن حزم ج10، ص484.
تعفو خير لك، فقتله الحسن، وكان في ورثة علي رضي الله عنه صغار، فالإمام على خير الحسن بين القتل والعفو من غير تقييد ببلوغ الصغار، كما أن الحسن قتل ابن مجلم ولم ينتظر بلوغ الصغار، وكل ذلك كان بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولم ينقل إنكار أحد منهم عليهما، فكان إجماعا1.
وقال أبو يوسف ومحمد والشافعية والحنابلة والزيدية والإمامية: يجب أن ينتظر حتى يبلغ الصبي ويفيق المجنون، ثم يبدي رأيه في القصاص.
وقد استدلوا على ذلك بأن هذه الولاية تثبت لهم على سبيل الشركة كالمال الموروث عن المقتول، وتجري في القصاص سهام الورثة كما تجري في المال، ومن قضية الشركة أن ينتظر حتى يبلغ فيبدي رأيه، إلا أن الإمامية أضافوا إلى ذلك أنه إذا اقتضت المصلحة تعجيل القصاص يعجل لأن مصالح الطفل والمجنون منوطة بنظر الولي، ولأن التأخير ربما استلزم تفويت القصاص.
كما قال الشافعية والحنابلة: إنه إذا كان المجنون فقيرا فإنه يجوز لوليه أن يعفو على الدية، بخلاف الصبي؛ لأن للصبي غاية تنتظر وهي البلوغ، أما المجنون فإنه لا يعرف متى يفيق.
حبس الجاني أثناء انتظار بلوغ الصبي وإفاقة المجنون:
ولما كان الانتظار قد يؤدي إلى فرار الجاني، فإنهم قالوا بحبسه حتى يبلغ الصغير ويفيق المجنون، وذلك لأن في حبسه مصلحة للقاتل بتأخير
1 بدائع الصنائع ج7، ص242-245.
قتله، ومصلحة للمستحق بإيصاله إلى حقه، ولأن القاتل يستحق إتلاف نفسه وإتلاف منفعته، فإذا تعذر استيفاء للنفس لأمر عارض بقي إتلاف المنفعة سالما عن المعارض، وقد حبس معاوية هدية بن خشرم في قصاص حتى بلغ ابن القتيل، فلم ينكر ذلك عليه، وكان في عصر الصحابة.
2-
اشتراط اتفاق المستحقين جميعا على استيفاء القصاص:
يشترط لاستيفاء القصاص اتفاق جميع المستحقين على استيفائه عند جمهور الفقهاء، استنادا إلى ما روي عن عمر وعبد الله بن مسعود وابن عباس أنهم أوجبوا في عفو بعض الأولياء للذين لم يعفوا نصيبهم من الدية، وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين- ولم ينقل إنكار أحد منهم فكان إجماعا.
وقد قيل إن قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} نزلت في دم بين شركاء يعفو أحدهم عن القاتل، فللآخرين أن يتبعوه بالمعروف في نصيبهم، وقد سبق إيضاح ذلك.
وأيضا فإن حرص المشروع على إحياء الأنفس يجعلنا نرجح جانب العفو عن بعض النفس التي أراد مستحقها لها الحياة بعفوه، على جانب إرادة الولي المشارك في استيفاء القصاص، ضرورة أن القصاص لا يتجزأ؛ إذ القصاص قصاص واحد، فلا يتصور استيفاء بعضه دون بعض، وينقلب نصيب الآخر مالا تغليبا لجانب الحياة.
وقد خالف في هذا الظاهرية -كما سبق بيانه1- والإمامية في رأي مشهور
1 ويراجع رأي المالكية، وقد تقدم آنفا.
عندهم يقضي بأنه لو صالح بعض الأولياء على الدية لم يسقط القصاص عنه للباقين، وقد استدلوا على ذلك بما روي عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل قتل، وله أب وأم وابن، فقال الابن: أنا أريد أن أقتل قاتل أبي، وقال الأب: أنا أعفو، وقالت الأم: أنا آخذ الدية، قال: فليعط الابن لأم المقتول السدس من الدية، ويعطي ورثة القاتل السدس الآخر حق الأب الذي عفا وليقتله، إلا أنه روي في مذهب الإمامية روايات بسقوط القصاص في هذه الحالة وثبوت الدية، لرواية زرارة عن الباقر "ع" وهذه الروايات تتفق مع رأي جمهور الفقهاء.
حكم غيبة أحد الأولياء:
إذا كان أحد الأولياء غائبا فإن الفقهاء يختلفون في القول بانتظاره إلى فريقين:
الرأي الأول: يوجب انتظاره حتى يعود؛ إذ إنه ربما اختار العفو عن القاتل، فلا يكون قتله حيئذ مستحقا للورثة الباقين، قال بهذا جمهور الفقهاء "الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، والزيدية، والإمامية، وهو قول الليث بن سعد، وحماد بن أبي سليمان" إلا أن رأيا لبعض المالكية يفرق بين الغيبة القريبة والغيبة البعيدة؛ حيث يوجب انتظاره في الأولى دون الثانية.
الرأي الثاني: قال الظاهرية: لا ينتظر قدوم الغائب؛ لأن القول عندهم قول من دعي إلى القصاص، فللكبير وللحاضر العاقل أن يقتل ولا ينتظر بلوغ الصغير، ولا إفاقة المجنون، ولا قدوم الغائب، فإن عفا الحاضرون البالغون لم يجر ذلك على الصغير، ولا على الغائب، ولا على
المجنون، بل هم على حقهم في القود، حتى يبلغ الصغير ويفيق المجنون، فإذا كان ذلك فإن طلب أحدهم القود قضي له به، وإن اتفقوا كلهم على العفو جاز ذلك حينئذ1.
الترجيح:
وأرى أن رأي الظاهرية هنا فيه تشدد واضح على القاتل ففي حالة القصاص يأخذ برأي الحاضرين فقط، وفي حالة العفو لا يأخذ به، إلا أن المسألة يجب أن تبحث على أساس ثبوت الحق لهؤلاء، أو عدم ثبوته، فإن ثبت لهم جميعا كان من الواجب انتظارهم، وإلا لا ينتظرون؛ ولذلك ترى رجحان رأي جمهور الفقهاء، كما نرى رجحان التفريق بين الغيبة البعيدة والغيبة القريبة، فإن كانت الغيبة قريبة ينتظر الغائب وإلا فلا داعي إلى الانتظار؛ لأن ذلك قد يفوت على الحاضرين حقهم كما لو مات الجاني، وأيضا فإن الانتظار مدة طويلة يفوت الفائدة من الردع والزجر التي شرع القصاص من أجلها إحياء للنفوس، ويترك تحديد بعد الغيب وقربها إلى اجتهاد ولي الأمر؛ لأن ذلك مما يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة.
وإذا قلنا بانتظار حضور الغائب، فإن الجاني يحبس حتى يحضر، كما يحبس أن يبلغ الصبي ويفيق المجنون، كما أوضحنا آنفا.
3-
اشتراط كون القصاص مأمون التعدي:
اشتراط الفقهاء لتنفيذ القصاص أو الحد أن يكون التنفيذ مأمون
1 المحلى لابن حزم ج1، ص484.
التعدي، فإذا كان الجاني امرأة حاملا، فإن تنفيذ القصاص فيها قبل الوضع يؤدي إلى قتل جنينها؛ لذلك أجمع على أنه لا بد من إرجاء تنفيذ العقوبة حتى تضع، ويستغنى عنها ولدها، وقد استدلوا بقوله تعالى:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} وإذا أدى القصاص إلى قتل الجنين كان تعديا وإسرافا.
وبما روي عن بريدة قال: جاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله، إني قد زنيت فطهرني، وأنه ردها، فلما كان الغد، قالت: يا رسول الله، لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزا، فوالله إني لحبلى، قال:"إما لا، فاذهبي حتى تلدي"، قال: فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال:"اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه"، فلما فطمته أتته بالصبي وفي يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا رسول الله، قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، رواه مسلم وأحمد وأبو داود واللفظ لمسلم.
وبما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قتلت المرأة عمدا فلا تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملا، وحتى تكفل ولدها، وإن زنت لم ترجم حتى تضع ما في بطنها، وحتى تكفل ولدها".
الفرع الثاني: إذن الإمام بالاستيفاء:
اشترط جمهور الفقهاء إذن الإمام باستيفاء القصاص؛ وذلك لعظم وخطر هذه العقوبة، ولأن إيجاب القصاص يفتقر إلى اجتهاد؛ نظرا لاختلاف الفقهاء في شرائط وجوب القصاص واستيفائه، إلا أنهم جعلوا عقوبة من يخالف ذلك ويقتص بنفسه التعزير؛ لافتياته وتعديه على سلطة الإمام، والتعزير عقوبة يقدرها الإمام حسب اجتهاده1.
وخالف في هذا الزيدية والإمامية، فجعلوا لولي الدم أن يقتص وإن لم يحكم الحاكم فيما كان مجمعا عليه، أو ثبت بالتواتر، أو بالإقرار؛ لقوله تعالى:{فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} ، ولأنه حقه2.
إلا أن جعل هذا الحق بيد ولي الدم مباشرة يؤدي إلى انتشار القتل بين الناس؛ لأن أهل المقتول لا يفرقون بين أمر مجمع عليه أو غير مجمع عليه؛ بل إنهم سيسارعون إلى قتله دون تحقيق ومعرفة تامة بظروف الحادث.
ولقد رأينا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذون القاتل إليه، وبعد أن يوضح لهم عليه السلام الحكم، يباشرون التنفيذ، وحسبك في ذلك ما نقلناه فيما تقدم عن الربيع عمة أنس بن النضر، وما روي عن وائل بن حجر، قال: إني لقاعد مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل يقود آخر
1 راجع كشاف القناع ج3، ص311، ومغني المحتاج ج4، ص41، وللفقهاء تفصيلات يرجع إليها عند الحاجة.
2 التاج المذهب ج4، ص279، والروضة البهية ج2، ص415.
بنسعة1، فقال: يا رسول الله، هذا قتل أخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أقتلته؟ " فقال: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة، قال: نعم قتلته، قال:"كيف قتلته؟ " قال: كنت أنا وهو نحتطب من شجرة فسبني، فأغضبني، فضربته بالفأس على قرنه فقتلته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"هل لك من شيء تؤديه عن نفسه؟ " قال: ما لي مال إلا كسائي وفأسي، قال:"فترى قومك يشترونك"، قال: أنا أهون على قومي من ذاك، فرمى إليه بنسعته، وقال: دونك صاحبك
…
الحديث2.
والذي نأخذه من هذا أن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يتوجهون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالجناة لمعرفة الحكم، وبعد التحقيق كان الرسول عليه السلام يصدر حكمه ثم ينفذ الحكم، وهذا ما نأخذ به صيانة للأرواح وحفظا للأمن.
1 النسعة: هي سير تشد به الرجال، على هيئة أعنة البغال.
2 راجع نصه في نيل الأوطار ج7، ص30، ومثل ذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهودي الذي رض رأس جارية بين حجرين
…
وسيأتي نص الحديث في الجناية شبه العمد.
الفرع الثالث: كيفية استيفاء القصاص:
للفقهاء في الفعل الذي يستوفى به القصاص رأيان:
أحدهما: يرى المالكية والشافعية والظاهرية: أن القصاص لا يكون إلا بفعل مماثل للفعل الذي تم به القتل؛ لأن المماثلة معتبرة في استبقاء القصاص؛ لعموم قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} 1، وقوله تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} 2، وقوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} 3.
ولما روي في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم رض رأس يهودي بين حجرين، وكان قد قتل جارية بذلك.
وروى البيهقي مرفوعا: "من حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه"، ولأن المقصود من القصاص التشفي، وإنما يكمل التشفي إذا قتل القاتل بمثل ما قتل به، كما ردوا على حديث "النهي عن المثلة" بأنه محمول على من وجب قتله لا على وجه المكافأة؛ كمن وجب قتله حدا، أو في الحرب.
فمن قتل شخصا أو جرحه بمحدد -كسيف ونحوه- أو بمثقل -كحجر نحوه- أو ختق، أو تجويع، أو إلقاء في ماء أو نار، أو إلقاء من شاهق
…
كان لولي الدم أن يقتص بمثل هذه الطريقة إذا أراد، فإن
1 سورة النحل الآية رقم 126.
2 سورة الشورى الآية رقم 40.
3 سورة البقرة الآية رقم 194.
عدل إلى السيف كان له ذلك، رضي الجاني أو لم يرض؛ لأنه أسهل وأولى للخروج من الخلاف.
إلا أنهم استثنوا من ذلك أمورا قالوا: إن القتل فيها لا يكون إلا بالسيف، منها: إذا تمت الجريمة بفعل محرم؛ كالخمر واللواط، أو كان الفعل مما يطول في قتله؛ كالضرب بالعصا والحجر، أو كان القتل بقسامة عند المالكية1، ففي هذه الحالات يكون القتل بالسيف لا غير.
الرأي الثاني: ويرى الحنفية، والحنابلة، والزيدية، والإمامية، والإباضية2، والشعبي، والنخعي: أن القصاص لا يكون إلا بالسيف في العنق، فإن تعذر فكيفما أمكن بلا تعذيب، وقد استدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة" أخرجه الخمسة إلا البخاري، وإحسان القتل لا يحصل بضربه بغير السيف، وإنما يحسن بضرب العنق بالسيف؛ ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يأمر بضرب عنق من أراد قتله، حتى صار ذلك هو المعروف
1 مغني المحتاج ج4، ص44، والشرح الصغير ج2، ص365.
2 يراجع للإباضية شرح النيل ج15، ص264، فقد جاء فيه أن القاتل يقتل بسيف، كخنجر وموس من السلاح لا بنار أو دخان، أو سم، أو خناق، ولو قتل الجاني غيره بها، أو امتنع "أي تحصن وصعب نيله"، ثم ذكر رأيا آخر فقال:"وجوز أن يقتل الجاني بنار أو نحوها إن قتل بها لقوله صلى الله عليه وسلم: "المرء مقتول بما قتل" رواه أبو داود، أو امتنع، بل يقتل بذلك وبكل ما أمكن أن امتنع، وتعقر له دابته إن امتنع ويضرب في ثيابه جزافا إن امتنع ويهدم قصدا إليه بيت أو نحوه منع نفسه فيه وإن كان البيت ونحوه لغيره، ويغرم ذلك البيت من بيت المال، وإن لم يكن فمن بيت الهادم، ولا يغرم بيت الجاني الممتنع فيه
…
".
في أصحابه، فإذا رأوا رجلا يستحق القتل قال قائلهم: يا رسول الله، دعني أضرب عنقه، حتى قيل: إن القتل بغير ضرب العنق بالسيف مثلة، وقد ثبت النهي عن المثلة1، كما ثبت نهيه عن التعذيب بالنار بقوله:"لا يعذب بالنار إلا رب النار".
كما استدلوا بحديث النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا قود إلا بالسيف"، وقد روي هذا الحديث من طرق مختلفة2، وإن كانت لا تخلو من ضعف، إلا أن وروده من عدة طرق يقويه، كما يؤيده حديث: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة
…
".
وقد أجابوا عن حديث أنس الخاص باليهودي الذي رض رأس جارية بأنه فعل، فإنه نصه:"فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه بين حجرين"، والفعل لا يعارض ما ثبت من أقوال الرسول عليه السلام في الأمر بإحسان القتلة، والنهي عن المثلة، وحصر القود في السيف، كما أجابوا عن قوله: "من حرق حرقناه
…
" بأن البيهقي قال: في إسناده بعض من يجهل؛ وإنما قاله زياد في خطبته.
1 ففي حديث سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: "اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدورا، لا تمثلوا
…
" رواه مسلم في صحيحه.
2 رواه ابن ماجه والبزار والطحاوي والطبراني والبيهقي من هذا الطريق، وأخرجه ابن ماجه أيضا والبزار والبيهقي من حديث أبي بكرة، وأخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث أبي هريرة
…
"راجع نيل الأوطار ج7، ص2".
وإذا ثبتت هذه الأحاديث كانت مخصصة لعموم الآيات التي استدلوا بها، وخاصة وأن الاعتداء بالمثل ليس واردا في كل الأمور، ففي بعضها يقع الجزاء بغير جنس الفعل كالقذف فإن جزاءه الجلد، لا القذف مثل ما قذف به، وكذا لو شتمه بما دون القذف كان عليه التعزير، وأيضا فإنه يمكن أن تفسر مثلية الجزاء في الآيات بالمثلية في نوع العقوبة، لا في استيفائها، فإن كان الاعتداء قتلا كان الجزاء قتلا، وإن كان شجا كان الجزاء شجا. وأما كيفية تنفيذ العقوبة فيستفاد من أدلة أخرى.
ومن هذا يتضح لنا رجحان هذا الرأي، وبخاصة أننا إذا نظرنا إلى ما قاله أصحاب الرأي الأول وجدنا أنهم لم يستطيعوا القول بذلك في كل أنواع الجنايات؛ إذ اضطروا إلى إخراج بعضها من عموم ما استدلوا به دون دليل يقضي بهذا التخصيص
…
ولكن أدلة الرأي الثاني كانت واضحة، ومتفقة مع ما تحرص عليه الشريعة الإسلامية من الإبقاء على المعاني الإنسانية في تنفيذ أي عقوبة من العقوبات.
وهنا في دائرة القتل علينا أن نتساءل: ما المقصود باستيفاء القصاص؟
المقصود بالقصاص أمران:
أولهما: وهو أهمهما هو إزهاق روح الجاني كما أزهق روح المجني عليه، وإزهاق الروح يتحقق بأي وسيلة من وسائل الإزهاق، وتتساوى في هذا المعنى كل الوسائل، إلا أن الوسيلة السريعة أقرب إلى روح الشريعة، التي تدعو إلى الإحسان حتى مع الحيوان.
وثانيهما: إذاقة الجاني الألم الذي أذاقه للمجني عليه، والشعر بالألم والإحساس به أمر متفاوت، فهو يختلف من شخص إلى شخص، فالاعتداد
به في هذا المجال هو اعتداد بأمر باطني يصعب كشف حقيقته وتقدير مداه حتى تأتي المساواة في هذا المجال.
وإذا صعب ذلك كان المعنى الأول -وهو إزهاق الروح- هو المقصود باستيفاء القصاص، وإذا كان هو المقصود به فما كان من الوسائل مزهقا للروح كان محققا لهذا المعنى.
ووسائل إزهاق الروح كثيرة، وقد ورد الخبر أنه:"لا قود إلا بالسيف"، وقد تميز السيف من بين هذه الوسائل بالسرعة في الإزهاق، فهل غيره من الوسائل التي تتفق معه في هذا المعنى -أو تزيد عليه- تقاس عليه؟
لا مانع من قياس هذه الوسائل على السيف، وحينئذ يصح استيفاؤه بكل وسيلة يتحقق فيها ما يتحقق في السيف من سرعة الإزهاق بأقل ألم1.
رأي القانون:
اختلفت الدول في الوسائل التي تنفذ بها حكم الإعدام، فبعضها تنفذه عن طريق الشنق، مثل: إنجلترا، وفرنسا، والبلاد العربية2، وبعض الدول
1 أصدرت لجنة الفتوى بالأزهر رأيها في ذلك فنصت على أنه "لا مانع شرعا من استيفاء القصاص بالمقصلة والكرسي الكهربائي وغيرهما مما يفضي إلى الموت بسهولة وإسراع، ولا يتخلف الموت عنه عادة، ولا يترتب عليه تمثيل بالقاتل، ولامضاعفة تعذيبه، أما المقصلة فلأنها من قبيل السلاح المحدد، وأما الكرسي الكهربائي فلأنه لا يتخلف الموت عنه عادة مع زيادة السرعة، وعدم التمثيل بالقاتل دون أن يترتب عليه مضاعفة التعذيب".
2 فقد نصت قوانين العقوبات في الدول العربية على تنفيذ عقوبة الإعدام بالشنق، ففي مصر المادة "13" وفي العراق المادة "12" وفي سوريا المادة "43" وفي ليبيا المادة "19".
اتخذت وسائل أخرى مثل أمريكا التي تستعمل التيار الكهربائي.
وعلى ضوء ما قررناه في الفقه الإسلام يتضح لنا سمو فقهنا ومرونته، وأنه يمكن تنفيذ القصاص بالأجهزة السريعة الإزهاق، ومع هذا فالباب مفتوح للعمل بالرأي الأول في بعض صور الجنايات ذات الطابع الخاص؛ كمن تعود القتل بنوع خاص من أدوات القتل -كماحدث مع اليهودي الذي رض رأس الجارية بين الججرين- وقد قيل: إنه تعود1 القتل بهذه الوسيلة، فتعوده ذلك يدل على خطورته، وأن جناياته لم تكون في صورتها العادية، فلزم التشديد عليه، وهذا يقتضي عدم استحقاقه الإحسان المطلوب في تنفيذ القصاص فيه؛ ردعا له، وزجرا لغيره.
1 وسيأتي لنا بحث العود في القتل في الظروف المشددة للعقوبة، وهل يطبق على العائد القصاص أو الحد؟
المقصد السادس: الظروف المبيحة للقتل أو المخففة للعقوبة في الفقه الإسلامي:
قد تحيط بالجناية بعض الظروف التي تبيح القتل أو تخفف من هذه العقوبة، ونوضح فيما يلي آراء الفقهاء في ذلك مقارنة بالقانون، ثم آراءهم في توقيع عقوبة بدنية على من سقط عنه القصاص بعفو أو صلح.
الفرع الأول: الظروف المبيحة للقتل:
قد يعرِّض الإنسان المعصوم نفسه لظروف تبيح قتله، وذلك في حالة صياله على الغير، أو في حالة عدم التزامه بحدود الله تعالى واقترافه محارمه أو ترك ما أمر به. ويطلق الفقهاء على الحالة الأولى "الصيال" وعلى الثانية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونبين آراء الفقهاء في كلتا الحالتين:
دفع الصائل أو الدفاع الشرعي الخاص:
تناول الفقه الإسلامي الظروف التي قد يتعرض لها الإنسان فيخشى على نفسه أو ماله أو عرضه، أو نفس الغير أو ماله أو عرضه، من اعتداء إنسان -عاقلا كان أو مجنونا، صغيرا أو كبيرا- أو اعتداء حيوان مملوك للغير على شيء من ذلك فأجاز أو أوجب "على تفصيل سيأتي" رد الاعتداء ودفعه ولو أدى ذلك إلى قتل الصائل.
الصيال لغة: مأخوذ من: صال عليه بمعنى استطال، أو وثب
والمصاولة: المواثبة، وكذا الصيال وسؤال البعير "بالهمز من باب ظرف" إذا صار يقتل الناس ويغير عليهم.
والأصل في ذلك هو قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} .
وقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد" رواه أبو داود والترمذي وصححه.
وما روي عن أبي هريرة أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال:"فلا تعطه"، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "فقاتله"، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد"، قال: فإن قتلته؟ قال: "هو في النار" رواه البخاري ومسلم.
فهذه النصوص تدل على أن للإنسان أن يدفع من يعتدي عليه، ولو أدى دفعه إلى قتله، وأن هذا الدفاع والقتال هو أمر مشروع، مثل المدافع فيه كمثل من يجاهد في سبيل الله، فإن مات أثناء مدافعته مات شهيدا، وإن مات الصائل أثناء رده ودفعه كان مصيره مصير الظالمين في نار الحجيم.
كذلك له أن يدافع عن نفس الغير وماله عرضه، والأصل فيه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم:"إن المؤمنين يتعاونون على الفتان" أي: الشيطان، وقوله صلى الله عليه وسلم:"انصر أخاك ظالما أو مظلوما، ونصرة الظالم رده عن مظلمته".
وجوب الدفاع أو جوازه:
لا خلاف بين الفقهاء في مشروعية الدفاع عن كل ما ذكرنا، ولكن هل يجب على الإنسان هذا الدفاع بحيث يكون آثما إذا تركه؛ لأن هذا الدفاع أمر يمليه الشرع ويفرضه، أم أنه يجوز له ولا يجب عليه، فيكون من حقه المدافعة، إن شاء قام بها وإن شاء تركها؛ لأنه حق من حقوق العبد، ومن خصائص حق العبد حريته في الانتفاع به واختياره، أو بعبارة أخرى: هل مدافعة المعتدين هي من قبيل المواجبات أم قبيل الحقوق، أو من قبيل حق الله أو من قبيل حق العبد؟ وللإجابة عن ذلك يلزمنا أن نفرق بين الحالات التالية:
الحالة الأولى: حالة الدفاع عن العرض: اتفق الفقهاء على أن الدفاع عن العرض واجب يأثم تاركه، فإذا أراد رجل امرأة على نفسها، وكان واجبا عليها الدافع عن نفسها بكل ما يمكنها من ذلك، ولو أدت المدافعة إلى قتله، فإذا قتل كان دمه هدرًا، استنادا إلى ما تقدم من النصوص، وبخاصة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بقتال من يريد أخذ مال الغير ظلما، والأمر للوجوب، وإذا وجب هذا في المال الذي يجوز بذله وإباحته فدفع المرأة عن نفسها وصيانتها عن الفاحشة التي لا تباح بحال أولى، ولأن التمكين منها محرم، وفي تركها الدفاع عن نفسها نوع تمكين، فيحرم عليها ترك الدفاع.
ولقد روى الزهري عن القاسم بن محمد عن عبيد بن عمير: أن رجلا أضاف ناسا من هذيل فأراد امرأة على نفسها، فرمته بحجر فقتلته، فقال: عمر: "والله لا يودى أبدًا"1.
وكذلك يجب الدفاع عن زوجه، وما أصاب في ذلك من دم فهو هدر، لا قصاص فيه ولا دية، فقد روي أن عمر بن الخطاب بينما هو يتغدى يوما
1 أي: لا تدفع ديته.
إذ جاءه رجل يعدو، وفي يده سيف ملطخ بالدم، ووراءه قوم يعدون خلفه، فجاء حتى جلس مع عمر، فجاء الآخرون فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن هذا قتل صاحبنا، فقال له عمر: ما يقولون؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إني ضربت فخذي امرأتي فإن كان بينهما أحد فقد قتلته، فقال عمر: ما يقول؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، إنه ضرب بالسيف فوقع في وسط الرجل وفخذي المرأة، فأخذ عمر سيفه فهزه، ثم دفعه إليه، قال له: إن عادوا فعد، رواه سعيد في سننه1.
والناظر في حقيقة وجوب المدافعة هنا يجد أنها قد قارنت حق الله؛ وهو الحفاظ على الأعراض، الذي شرع من أجله "حد الزنا" وحد الزنا خالص حق الله تعالى، فتكون مدافعة المعتدي هنا هي نوع من حماية حقوق الله تعالى، وحمايتها واجب على الجميع؛ لأن ضررها يمس المجتمع كله، سواء من كان يراد الاعتداء عليه أو غيره، ولأن وسيلة الوصول إلى الاستمتاع مقررة ومحددة شرعا، فالوصول إليها من غير هذا الطريق هو هدم لشرع الله، وانتهاك لحرماته، فكان التصدي لذلك مفروضا، وترك التصدي لذلك حراما يستوجب الإثم والعقوبة2.
الحالة الثانية: الدفاع عن النفس: اختلف الفقهاء في كون الدفاع عن النفس واجبا أم جائزا إذا كان الصائل معصوم الدم.
فيرى الحنابلة والشافعية -على الأظهر- أن الدافع هنا جائز وليس بواجب؛ وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة: "اجلس في بيتك،
1 راجع المغني والشرح الكبير ج10، ص350، ومغني المحتاج ج4، ص195، والبدائع ج7.
2 المغني ج9، ص336.
فإن خفت أن يبهرك شعاع السيف فغط وجهك"، وفي لفظ: "فكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل"، ولخبر أبي داود: "كن خير ابني آدم" يعني: قابيل وهابيل "وقد تقدمت قصتهما".
وعلى ذلك اعتمد عثمان بن عفان رضي الله عنه على أحد الأقوال في ترك القتال، عندما هوجم في داره مع إمكان قتال المعتدين وردهم؛ حيث منع عبيده، وكانوا أربعمائة يوم الدار، وقال: من ألقى سلاحه فهو حر.
واشتهر ذلك في الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكر عليه أحد، ولأنه تعارضت مفسدة أن يقتل الصائل، أو أن يمكن من القتل. والتمكين من المفسدة أخف مفسدة من مباشرة المفسدة نفسها، فإذا تعارضتا سقط اعتبار المفسدة الدنيا بدفع المفسدة العليا، فكان الصبر جائزا1.
ويرى جمهور الفقهاء "الحنفية، والمالكية، والشافعية -في رأي ثان- والحنابلة2، والزيدية والإمامية" وجوب دفعه ورده، ولو أدى ذلك إلى قتله.
وقد استدلوا على وجوب ذلك بقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ
1 للإمامية تفصيل حيث قالوا: إن الدفاع عن النفس والمال والحريم جائز مع عدم ظن العطب، وواجب في الأول والأخير بحسب القدرة، ومع العجز يجب الهرب مع الإمكان.
وأما الدفاع عن المال فلا يجب إلا مع اضطراره إليه، وكذا يجوز الدفاع عن غير من ذكر مع القدرة، والأقرب وجوبه مع الضرورة وظن السلامة. الروضة البهية ج2، ص294.
2 جاء في الروض المربع ج2، ص353:"ويلزمه الدفع عن نفسه في غير فتنة وعن حرمته وحرمة غيره؛ لئلا تذهب الأنفس".
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} 1، فأمر الله بقتال الفئة الباغية، ولا بغي أشد من قصد إنسان بالقتل بغير استحقاق، فاقتضت الآية قتل من قصد قتل غيره بغير حق.
وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} فأخبر أن في إيجابه القصاص حياة لنا؛ لأن القاصد لغيره بالقتل متى علم أنه يقتص منه كف عن قتله، وهذا المعنى موجود في حال قصده لقتل غيره؛ لأن في قتله إحياء لمن لا يستحق القتل.
وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} 2 فأمر بالقتال لنفي الفتنة، ومن الفتنة قصده قتل الناس بغير حق.
ويدل على الوجوب أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذاك أضعف الإيمان" فأمر بتغيير المنكر باليد، وإذا لم يمكن تغييره إلا بقتله فعليه أن يقتله بمقتضى ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم.
ولا نعلم خلافا في أن رجلا لو شهر سيفه على رجل ليقتله بغير حق أن على المسلمين قتله، فكذلك الحكم للمقصود بالقتل.
وأما الاستدلال بقصة ابني آدم الواردة في قوله تعالى: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} فقد قال ابن عباس: معناه
1 الآية 9 من سورة الحجرات.
2 الآية 193 من سورة البقرة.
لئن بدأتني بقتل لم أبدأك به، ولم يرد: أني لا أدفعك عن نفسي إذا قصدت قتلي، فروي أنه قتل غيلة، بأن ألقى عليه صخرة وهو نائم، فشدخه بها.
ولو ثبت صحة ما روي عن الحسن ومجاهد أنه كتب عليهم -أي على آدم وبنيه- إذا أراد رجل قتله أن يتركه ولا يدفعه عن نفسه، قال أبو بكر: وجائز في العقل ورود العبادة بمثله1، فإذا ثبت هذا كان منسوخا لا محالة بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم بما ورد من الآيات والسنة واتفاق المسلمين على أن على سائر الناس دفعهم عنه، وإن أتى ذلك الدفع على نفس الصائل.
وأما حديث أبي ذر الذي فيه: "وإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف" فإنما عَنَى به ترك القتال في الفتنة وكف اليد عند الشبهة، فأما قتل من استحق القتل فمعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينفه بذلك.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "كن كخير ابني آدم" فإنما عنَى به ألا تبدأ بالقتل، وأما دفع القاتل عن نفسه فلم يمنعه.
فإن احتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس"، فقد قصر حل القتل على هؤلاء ونفاه عن غيرهم، وحينئذ فلا يجوز قتل الصائل قبل أن يقتل، فإنه يقال لهم: إن القاصد لقتل غيره ظلما داخل في هذا الخبر؛ لأنه أراد قتل غيره، فإنما قتلناه بنفس من قصد قتله لئلا يقتله، فأحيينا نفس المقصود بقتلنا للقاصد، ولو حظر قتل من قصد قتل غيره ظلما لوجب مثله في سائر المحظورات.
1 كما شرعت التوبة بقتل النفس في شريعة موسى عليه السلام، قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} الآية 54 من سورة البقرة، وقد نسخ هذا.
فإذا أراد الفاجر الزنا أو أخذ المال أمسكنا عنه حتى يفعلها، فيكون في ذلك ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واستيلاء الفجار وغلبة الفساق والظلمة.
ثم إن العقل يقضي، والنفس تلزم الإنسان إذا كان قادرا على الدفاع عن نفسه أو ماله أو عرضه أن يفعل ذلك، وتراخيه في هذا المجال فتح لأبواب الشرور، وتزكية للأشرار، فيجب أن تغلق، وإغلاقها يكون بإيجاب الدفع على المصول عليه وعلى من رأى ذلك من الناس أجمعين.
الحالة الثالثة: الدفاع عن مال نفسه: واضح من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم المتقدمة في صدر هذا المبحث الأمر بالدفاع عن المال، ومما جاء في حديث أبي هريرة المتقدم قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "فقاتله" وهو أمر، والأمر يقتضي الوجوب، ومثله ما روي عن قابوس بن أبي المخارق عن أبيه قال: قال رجل: يا رسول الله، الرجل يأتيني يريد مالي؟ قال:"ذكره الله" قال: فإن لم يذكر؟ قال: "استعن عليه من حولك من المسلمين" قال: فإن لم يكن حولي منهم؟ قال: $"فاستعن عليه السلطان" قال: فإن نأى عني السلطان؟ قال: "قاتل دون مالك حتى تمنع مالك أو تكون شهيدا في الآخرة" وهو أسلوب أمر أيضا.
وقد روى محمد عن أبي حنيفة أنه قال في اللص ينقب البيوت: يسعك قتله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون ماله فهو شهيد"، ولا يكون شهيدا إلا وهو مأمور بالقتال إن أمكنه، فقد تضمن كل ذلك إيجاب قتله إذا قدر عليه، كما ذكره الجصاص الحنفي في أحكام القرآن1.
1 أحكام القرآن للجصاص ج1، ص488.
ويرى المالكية والإمامية أنه إذا خاف بتلف المال هلاك نفسه، أو أهله أو شدة أذى، وجب عليه الدفاع عن ماله، ولو أدت المدافعة إلى قتل الصائل، فإن لم تكن هناك ضرورة إلى ذلك جاز الدفع، وأدلتهم هي نفس الأدلة التي سقناها في بداية هذا البحث من الآيات والأحاديث.
وأما الشافعية، فقد فصلوا في الحكم بين الأموال التي فيها روح والتي لا روح فيها، وبين الأموال التي تعلق بها حق الغير، والتي لم يتعلق بها هذا الحق، فأما ما فيه روح من الأموال فيجب الدفع عنه إذا قصد إتلافه -ما لم يخش على نفسه أو عرضه- لحرمة الروح، حتى لو رأى أجنبي شخصا يتلف حيوان نفسه إتلافا محرما وجب عليه دفعه على الأصح في أصل الروضة. وكذلك يجب الدفع عن الأموال التي تعلق بها حق الغير، كرهن وإجارة، وقال الغزالي: وإن كان مال محجور عليه أو وقف أو مال مودع وجب على من بيده الدفع عنه، فأما غير ذلك من الأموال فيجوز الدفع عنه ولا يجب؛ لأن هذه الأموال يجوز إباحتها للغير بخلاف الأموال التي سبق ذكرها لمكان الروح منها، أو تعلق حق الغير بها.
وأرى رجحان الرأي القاضي بوجوب الدفاع عن المال مطلقا؛ لأن الأدلة لم تفرق بين مال فيه روح ومال لا روح فيه، ولا بين مال تعلق به حق الغير ومال لم يتعلق به هذا الحق، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك واضح؛ حيث عبر في حديث أبي هريرة بصيغة الأمر بقوله:"فقاتله"، وفي الحديث الذي رواه قابوس بقوله: "قاتل دون مالك
…
"، وقوله فيما رواه أبو داود: "من قتل دون ماله فهو شهيد".
فالأدلة جميعها عامة في كل صور المال، لا فرق بين مال ومال، وأيضا فإن الأموال جميعها فيها حق لمالكها، وفيها حق للغير، وحق للمجتمع؛ إذ الأموال هي ثروة المجتمع ونتاج جهوده بالتعاون والتآزر والعمل، كل
في ميدانه، فهدمها هدم له، وصيانتها صيانة له، ومن هنا كان الدفاع عنها واجبا، كانت للإنسان أم كانت لغيره.
الصائل غير المكلف:
هذا إذا كان الصائل مكلفا، فأما إذا كان غير مكلف بأن كان صبيا أو مجنونا، أو كان حيوانا، فإنه يجب دفعه، ولو أدى إلى قتله، غير أنه يثور خلاف بين الفقهاء حول وجوب ضمانه.
فيرى الحنفية -غير أبي يوسف- أنه لا ضمان في قتل الصائل المكلف، وأما غير المكلف فإنه تجب دية الصبي والمجنون في مال القاتل؛ لأنه قتل نفسا معصومة، وكذلك تجب قيمة الدابة في ماله؛ لأنه أتلف مالا معصوما حقا للمالك؛ لأن الفعل من هذه الأشياء غير متصف بالحرمة، فلم يقع بغيا، فلا تسقط العصمة به لعدم الاختيار الصحيح، وبعبارة أخرى: إن فعل الدابة لا يصلح مسقطا للضمان، وكذا فعلهما لا يصلح مسقطا للدية، وإن كانت عصمة المجنون والصبي حقهما؛ لأن سقوط عصمتهما بفعلهما إنما يكون إذا كان هناك اختيار صحيح منهما بارتكاب الجريمة، وهما معدوما الاختيار الصحيح؛ ولهذا لا يجب القصاص عليهما إذا فعلا ما يوجبه، خلاف العاقل البالغ؛ لأن له اختيارا صحيحا، ولم يجب القصاص في قتل المجنون والصبي لوجود المبيح، وهو دفع الشر، وإذا لم يجب القصاص تجب الدية، أو بعبارة أخرى: إنهم يرون أن الضمان يتبع كون الصيال غير مصحوب بالقصد الصحيح، فإن كان مصحوبا به -كصيال المكلف- لا يكون هناك ضمان، ويقاس الضمان هنا على تضمين المضطر ما أكله من العام مملوك للغير، فإنه يباح له ذلك إنقاذا لحياته، ويضمن المال احتراما من المالك.
ويرى أبو يوسف أنه يجب الضمان في الدابة، ولا يجب في الصبي والمجنون؛ وذلك لأن فعل الصبي أو المجنون معتبر في الجملة؛ ولهذا إذا أتلفا مالا أو نفسا، وجب عليهما الضمان، أما فعل الدابة فإنه غير معتبر أصلا، حتى لا يعتبر في حق وجوب الضمان؛ لأن العجماء جبار، وكذلك فإن عصمة المجنون والصبي لحقهما، وعصمة الدابة لحق مالكها، فكان فعلهما مسقطا لعصمتهما فلا يضمنان، وتضمن الدابة.
ويرى جمهور الفقهاء "المالكية والشافعية، والحنابلة، والظاهرية، والزيدية، والإمامية، وإسحاق" أنه لا ضمان فيما يترتب على دفع الصائل من قتل أو جرح أو إتلاف سواء كان مسلما أو كافرا، عاقلا أو مجنونا، صغيرا أو كبيرا، قريبا أو أجنبيا، آدميا أو غيره، فلا قصاص ولا دية ولا كفارة ولا قيمة ولا إثم؛ لأنه مأمور بدفعه، والأمر بالدفع يتنافى مع الضمان، أو لأن المصول عليه وجب عليه -أو أجيز له- الدافع عن نفسه فكان فعله مطلوبا شرعا أو مباحا، ولا يترتب على شيء من ذلك ضمان.
وأيضا فإن غير المكلف يقاس على المكلف في عدم الضمان، ولأنه قتله لدفع شره، وإذا قتله لدفع شره كان الصائل هو القاتل لنفسه، فأشبه ما لو نصب حربة في طريقه فقذف نفسه عليها فمات بها.
وأما قولهم: إنه يقاس على المضطر إلى أكل طعام غيره في الضمان، فهو قياس مع الفارق؛ لأن الطعام لم يلجئه إلى إتلافه، ولم يصدر منه ما يزيل عصمته، كما حدث هنا في الحيوان أو غير المكلف.
ولهذا لو قتل المحرم صيدا لصياله لم يضمنه، ولو قتله لا ضطراره إلى أكله ضمنه، وأما قولهم: إن الصائل غير المكلف يجوز قتله ويضمنه؛ لأنه لا يملك إباحة نفسه، فإن المكلف لا يملك إباحة دمه، ولو قال: أبحت
دمي لم يبح، على أنه إذا صال فقد أبيح دمه بفعله، فيجب أن يسقط ضمانه كالمكلف.
الترجيح:
وأرى رجحان رأي جمهور الفقهاء؛ لأن الصيال أمر غير مشروع أوجب المشرع دفعه، وإذا كان دفع الشر واجبا، كان القائم على دفعه غير ضامن؛ لأنه يؤدي أمرا مشروعا يحفظ على المجتمع عناصره الحية الفعالة، والتفريق بين المكلف وغيره، يتنافى مع مشروعية الدفاع، ومع حقيقة ما قصد إليه المشرع من حماية الناس من الصيال
…
فيجب أن يناط الحكم بالصيال، فإذا وجد وجب دفعه ولو أدى إلى القتل أو الإتلاف أيا كان الصائل.
رأي القوانين الوضعية في جناية غير المكلف: يرى شراح هذه القوانين أنه يجوز استعمال حق الدفاع الشرعي ضد المجنون أو الطفل، ولو أن كليهما معفي من العقاب؛ لأن الدفاع الشرعي ليس عقابا يقع على المعتدي، وإنما هو دفع لعدوانه، وهذا يتفق مع ما يراه أكثر الفقهاء، كما سبق إيضاحه.
واختلف شراح القوانين فيما إذا كان هجوم الحيوان يمكن دفعه استنادا إلى حق الدفاع الشرعي، أو استنادا إلى حالة الضرورة، فرأى البعض ما يراه فقهاء الحنفية من أن الحيوان الأعجم لا يمكن اعتباره معتديا أو مرتكبا لجريمة، وأن حالة الضرورة هي التي تبيح قتل الحيوان، وبهذا يأخذ القانون المصري م"246"، ورأى البعض الآخر تطبيق نظرية الدفاع الشرعي بالنسبة للحيوان، وهو يتفق مع ما يراه جمهور الفقهاء.
الدفاع عن عرض الغير ونفسه وماله:
لا يختلف الحكم هنا عنه في دفاع الإنسان عن عرضه أو نفسه أو ماله، بل يزداد تأكيدا؛ إذ إن للإنسان الحق في الإيثار بحق نفسه دون حق غيره، وحقوق الغير هي حقوقه؛ لأن المجتمع الإسلامي يمثل خلية واحدة تتعاون في كل ما هو خير، وتدرأ كل ما هو شر عن نفسها أو غيرها، يدل على ذلك الكثير من الآيات والأحاديث، ونعرض فيما يلي موقف الفقه الإسلامي من الدفاع عن الغير:
أما الدفاع عن عرض الغير، فلا خلاف في وجوبه، كما وجب في دفاع الإنسان عن عرضه وأهله؛ لأنه لا سبيل إلى إباحته، وسواء كان الصيال على البضع، أو مقدماته -كما صرح الشافعية والإمامية- وذلك لأن مدلول كلمة:"من قتل دون أهله فهو شهيد" يشمل كل تهجم لنيل ما حرم الله تعالى عليه نيله، وقد حرم عليه البضع ومقدماته، وحسبنا في ذلك إهدار الرسول صلى الله عليه وسلم دم من تلصص بالنظر إلى حرمات الغير، فقد روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن، فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح" رواه مسلم، وعن سهل بن سعد الساعدي "ص" أن رجلا اطلع في حجر باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدري يحك بها رأسه، فلما رأه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لو أعلم أنك تنظرني لطعنت به عينك"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنما جعل الإذن من أجل النظر" رواه مسلم.
وأما الدفاع عن نفس الغير، فحكمه حكم دفاع الإنسان عن نفسه، فجمهور الفقهاء يرونه واجبا، حتى إن الشافعية الذين رأوا أن دفاع الإنسان عن نفسه جائز وليس بواجب أوجبوا -في رأي ثان لهم- الدفاع عن الغير، فجاء في مغني المحتاج:"وقيل: يجب الدفع عن غيره قطعا؛ لأن له الإيثار بحق نفسه دون حق غيره"، وبه جزم البغوي وغيره، وروي في مسند أحمد
"من أذل عنده مسلم فلم ينصره، وهو قادر أن ينصره، أذله الله على رءوس الخلائق يوم القيامة"، كما أن الحنابلة قالوا: إنه يلزم الدفع عن غيره في غير فتنة، أما في الفتنة فقد أجازوا ذلك، ومستندهم في هذا هو نفس الأدلة التي سأقوها في الدفاع عن النفس، وقد رأينا رجحان رأي من رأى وجوب الدفاع عن النفس هناك؛ لما ساقوه من أدلة، وأما الفتنة فإنما قصد بالحديث الوارد بشأنها ترك القتال في الفتنة، وكف اليد عند الشبهة، فأما من استحق القتل بصياله على نفس الغير أو حريمه أو ماله، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينفه بذلك الحديث.
وأما الدفاع عن مال الغير، فقد اختلف الفقهاء في وجبه، فيرى الحنابلة والشافعية جوازه، غير أن الغزالي أوجبه على القادر على ذلك؛ حيث قال:"مهما قدر على حفظ مال غيره من الضياع من غير أن يناله تعب في بدنه أو خسران في ماله، أو نقصان في جاهه، وجب عليه، وهو أقل درجات حقوق المسلم، وهو أولى بالإيجاب من رد السلام"، وكذلك يرى جمع من الفقهاء وجوبه -ومنهم الحنفية والمالكية- كما هو ظاهر تعميمهم الحكم، فإنهم لم يفرقوا في الحكم بين دفاع الإنسان عن عرضه ونفسه وماله، أو عرض الغير ونفسه وماله، فأوجبه الحنفية والمالكية -وكذا الإمامية- عند الضرورة.
ويرى الزيدية أن دفعه واجب، وقتله جائز إذا لم يندفع بغيره؛ لعموم قوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآية 194 من سورة البقرة، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"انصر أخاك ظالما أو مظلوما"، والصائل ظالم فيمنع من ظلمه، وذلك نصره.
وجاء في تبيين الحقائق عن محمد عن أبي حنيفة في رجل شهر على المسلمين سيفا، قال: حق على المسلمين أن يقتلوه، ولا شيء عليهم؛ وذلك لأنه لما شهر عليهم السيف وقصد قتلهم صار حربا عليهم، فكان كالباغي فبطلت عصمة
دمه للمحاربة، قال تعالى:{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} الآية، فجاز للمسلمين الذين شهر عليهم السف أن يقتلوه، وفي قوله:"عليهم أن يقتلوه" إشارة إلى أنه وجب عليهم أن يقتلوه دفعا للشر عن أنفسهم؛ لأن دفع الشر واجب، وجاز لغيرهم أن يعينوهم على ذلك حتى يدفعوا الشر عنهم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:"انصر أخاك ظالما أو مظلوما" يعني: إذا كان ظالما تمنعه من الظلم، وإذا كان مظلوما تمنع الظلم عنه1.
وأيد هذا ما جاء في رد المحتار من أنه يجب دفع الضرر، فإن لم يندفع إلا بالقتل قتله.
تكييف القوانين الوضعية للدفاع الشرعي: اختلف تكييف القوانين الوضعية للدفاع الشرعي باختلاف الأزمنة، فقديما كانوا يرون أنه حق مستمد من القانون الطبيعي، لا القانون الوضعي، وفي العصور الوسطى اعتبر الدفاع حالة لا تمنع من العقوبة؛ ولكنها تؤهل للعفو عن العقوبة.
وفي القرن الثامن عشر فسر الدفاع بأنه حالة ضرورة تبيح للمرء أن يدافع عن نفسه بنفسه، وتنشأ الضرورة من عدم وجود حماية حاضرة من الهيئة الاجتماعية.
وفي القرن التاسع عشر كيف الدفاع بأنه حالة من حالات الإكراه؛ لأن الخطر المحدق بالمدافع يجعله عديم الاختيار، ولأن الجاني يندفع بغريزته للمحافظة على حياته، وقد أخذ على هذا التكييف بأنه لا يعلل الدفاع عن الغير ولا عن المال، وأنه يؤدي إلى تبرير الدفاع عند استعمال الحق أو أداء الواجب.
1 الخرشي ج5، ص352، والتاج المذهب ج4، ص315، وتبيين الحقائق ج6، ص110، ورد المحتار ج5، ص481.
وأحدث الآراء اليوم في القوانين الوضعية أن الدفاع استعمال لحق إباحة القانون الوضعي، بل أداء لواجب؛ لأن من حق كل إنسان -بل ومن واجبه- أن يُعنَى بالمحافظة على حياته، وأن يدافع عن نفسه وأهله وماله، فضلا عن أن الجماعة لا مصلحة لها في العقاب، والناظر في هذا التطور القانوني يجد أنه في نهاية مطافه قد انتهى في القرن العشرين إلى ما بدأت به الشريعة الإسلامية في القرن السابع، فالدفاع يكيف في الشريعة بأنه واجب في جميع الحالات -على رأي الجمهور- وواجب في أكثرها حق في بعضها -على رأي بعض الفقهاء- وهو يكيف اليوم في القوانين الوضعية بأنه حق إن لم يكن واجبا1.
شروط دفع الصائل:
تناول الفقهاء بالبحث ما يلزم من شروط لاعتبار المصول عليه في حالة دفاع شرعي نبينها فيما يلي:
أولا: أن يكون هناك اعتداء واقع فعلا، أو متوقع الحدوث، فإذا كان الفعل مشروعا في ذاته لم يبح دفعه، كالأفعال الصادرة بإذن الإمام أو نائبه، وتنفيذ الأحكام في المجرمين، وكالتأديب والتهذيب أو التعليم، إذا تم بما يصلح لذلك -كما سبق إيضاحه- وسواء حل الاعتداء بالنفس أو بالعرض أو بالمال، وسواء كان من نفس الإنسان على نفسه أو على عرضه أو على ماله، أو على نفس الغير أو عرضه أو ماله، وسواء كان صادرًا من إنسان مكلف أو غير مكلف، أو من حيوان -على نحو ما بيناه آنفا- فيصال أي من هؤلاء يبيح دمه، ويظل المصول عليه معصوم الدم ما دام الاعتداء قائمًا.
1 التشريع الجنائي الإسلامي للمرحوم عبد القادر عودة.
ولقد أوضح الفقهاء أن توقع الاعتداء كالاعتداء يعطي للمصول عليه حق الدفاع، والعبرة في ذلك هو تقدير المصول عليه المبني على أسباب معقولة، فلا يصح أن يقدم إلا مع العلم أو الظن بأنه يقصده بالاعتداء لا التوهم، فإذا تحقق ذلك أمكنه أن يبدأ متدرجا في الأساليب، حتى ولو أدى ذلك إلى قتله، أما لو اندفع الاعتداء كأن فر أو وقع في ماء أو نار أو انكسر رجله أو حال بينهما حائل من جدار أو نحوه، فإنه يعود معصوما كما كان قبل العدوان، وكذا إذا لم يكن هناك توقع للاعتداء.
ثانيا: أن يرد المصول عليه الاعتداء بأخف الأضرار، وأول هذه المراحل وأسلمها أنه إذا كان الصائل مكلفا ناشده الله ثلاثا أن يكف عن الاعتداء؛ لما رواه النسائي عن أبي هريرة:"أن يناشد صاحب المال اللص بالله تعالى -ثلاثا- قبل قتاله" تذكيرا وإنذارا؛ لكي يبتعد ويكف عن الاعتداء، فإن لم يرتدع كان للمعتدَى عليه أن يرده عن اعتدائه1، بادئا بأخف ما يمكن دفعه به، فإن أمكن دفعه بكلام أو استغاثة بالناس حرم الدفع بالضرب، وإن أمكن بيد حرم بسوط، وإن بسوط حرم بعصا، وإن أمكن بجرح حرم قطع عضو، وإن بقطع حرم القتل؛ لأن ذلك أبيح للضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، فلا ضرورة في الأثقل مع إمكان تحصيل المقصود بالأسهل، فإذا خالف المصول عليه وعدل إلى رتبة أعلى مع إمكان الاكتفاء بالأدنى كان ضاما لما أتلف من نفس أو دونها، ووجب القصاص إذا كان عمدا2.
1 الخرشي ج5، ص354، والقرطبي ج6، ص157، والروضة البهية ج2، ص394.
2 مغني المحتاج ج4، ص156، والمغني والشرح الكبير ج19، ص353، الروض المربع ج2، ص353، الروضة البهية ج2، ص394
والمقياس في تقدير ما يندفع به الصائل من أعمال يرجع إلى ظن المدافع وتقديره المبني على أسباب معقولة.
فلو أنه لم يجد في يده إلا السلاح، وكان الصائل ممن يمكن رده بضرب السوط أو العصا، كان له استخدام السلاح.
وكذا لو التحم الصائل والمصول عليه في القتال، واشتد الأمر عن الضبط سقط اعتبار الترتيب في رده، أو كان الصائلون جماعة، فإن التحم بأحدهم نفذ الباقون كان له الرد بما يراه دافعا لشرهم، أو كان الصائل يباشر الزنا فعلا، كما حدث مع الشخص الذي قتل رجلا وجده يزني بامرأته ورفع أمره إلى عمر فأهدر دم المقتول.
فالمقياس الصحيح للتدرج في دفع الصائل يرجع إلى تقدير المصول عليه المبني على أسباب معقولة يراعي فيه نوع الجناية التي قصدها أو باشرها الصائل.
كما تناول الفقهاء بالبحث رد العدوان بهرب المصول عليه إلا ما يحميه من الاعتداء، فيرى بعض الفقهاء وجوبه وتحريم القتال، كما وجب عليه الأكل في المخمصة، ولأنه مأمور بتخليص نفسه بالأهون فالأهون، والهرب أخف أسهل من غيره، فلا يعدل إلى الأشد، فإذا لجأ إلى الأشد كان ضامنا، فيقتص منه، وقال البغوي: تجب الدية، وسواء كان المقصود نفسه أو ماله أو عرضه ما دام يمكنه إنقاذ المال والعرض معه ومنع العدوان عليهما، وإلا لم يجب ويلزمه أن يثبت ويدافع.
ويرى بعض الفقهاء أنه لا يجب عليه الهرب؛ لأن إقامته في هذا الموضع
حق له، وجائزة، فلا يكلف الانصراف إلى مكان آخر، أو لأنه دفع عن نفسه، والدفع عن النفس عند من يقول بجوازه وعدم وجوبه -على خلاف ما رجحناه- يقتضي ألا يلزم الهرب.
والرأي الذي أرى رجحانه هنا هو أنه إذا كان المصول عليه غير قادر على الدفع، ويخشى على نفسه أو عرضه أو ماله، ويتيقن من نجاة نفسه أو عرضه أو ماله بواسطة الهرب، حينئذ يلزمه الهرب.
أما إذا كان قادرا على الدفع، فإنه يلزمه الدفع، ولا يجوز له أن يهرب درءا للعدوان وتقليصا للإجرام، وكذلك الحكم إذا لم يتيقن نجاته بالهرب أو نجاة عرضه أو ماله، فإنه حينئذ يجب عليه الدفع بكل ما أوتي؛ إذ إن الأحاديث الواردة في هذا الباب كلها أمرت بالمدافعة ورد الاعتداء:"فقاتله" و "قاتل دون مالك"، وقياسه على الجهاد يلزمه الثبات؛ لأن المجاهد يجب عليه ألا يفر إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة، أو متيقنا أن ترك القتال أكثر تحقيقا للمصلحة العامة.
ثالثا: أن يتم دفع الصائل حال قيام الاعتداء أو توقعه، أما إذا لم يكن هناك اعتداء أو توقع اعتداء فإنه لا يكون هناك سبب يبيح له الاعتداء عليه؛ إذ هو معصوم الدم لم يوجد ما يؤثر في عصمته.
وكذلك إذا ارتدع الصائل وعدل عن اعتدائه عادت إليه عصمة دمه فور حدوث ذلك، ولا يحل للمصول عليه الاعتداء عليه، فإن فعل كان مسئولا عن فعله مسئولية كاملة، فإن قتله اقتص منه، ولأنه لما اندفع اعتداؤه وشره لم تعد هناك حاجة ولا ضرورة إلى قتله، فعادت عصمته، فإذا قتله قتل نفسا معصومة ظلما فيقتص منه.
ويعتبر اعتداء الصائل قائما إذا استولى على مال أو غيره وولى به هربا؛ حيث يكون للمصول عليه استرداده، ويعتبر في حالة دفاع إلى أن يتم له ذلك؛ لقول عليه الصلاة والسلام:"قاتل دون مالك" أي: لأجل مالك، فله المقاتلة حتى استرداد المال؛ لأن له أن يمنعه من أجل ماله بالقتل ابتداء، فكذا له أن يسترده بالقتل انتهاء إذا لم يقدر على أخذه منه إلا به.
ولو علم أنه لو صاح به يطرح ماله ويلقيه فلم يفعل ذلك وقتله مع ذلك يجب القصاص عليه؛ لأنه قتله بغير حق، وهو بمنزلة المغصوب منه إذا قتل الغاصب حيث يجب عليه القصاص؛ لأنه يقدر على دفعه بالاستعانة بالمسلمين والقاضي، فلا تسقط عصمته1.
رابعًا: أن يثبت المصول عليه أنه كان في حالة دفاع شرعي عن النفس أو المال أو العرض، كأن يأتي ببينة على أنه قبله أو أصابه دفعا عن نفسه أو عرضه أو أنه دخل منزله يكابره على ماله فلم يقدر على دفعه إلا بذلك، فإن لم يثبت ذلك لزمه القصاص، وسواء وجد في دار القاتل أو في غيرها، أو وجد معه سلاح أو لم يوجد؛ لما روي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عمن وجد مع امرأته رجلا فقتله، فقال: إن لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته، ولأن الأصل عدم ما يدعيه فلا يثبت بمجرد الدعوى، وإن اعترف ولي الدم بذلك فلا قصاص عليه ولا دية.
ولما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يوما يتغدى إذ جاء رجل يعدو وفي يده سيف ملطخ بالدم، ووراءه قوم يعدون خلفه، فجاء حتى جلس مع عمر، فجاء الآخرون فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن هذا قتل صاحبنا، فقال له عمر: ما يقولون؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إني ضربت فخذي امرأتي فإن كان بينهما أحد فقد قتلته، فقال عمر: ما يقول؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، إنه ضرب
1 رد المحتار ج5، ص482، وتبيين الحقائق ج6، ص111.
بالسيف فوقع في وسط الرجل وفخذي المرأة، فأخذ عمر سيفه فهزه، ثم دفعه إليه، وقال: إن عادوا فعد، رواه سعيد في سننه.
وكذلك إذا قامت القرائن على صدق مدعاه كأن دخل عليه منزله شاهرا سلاحه مقبلا عليه يريد نفسه أو أهله أو ماله.
وكما نحتاج إلى البينة في إثبات الاعتداء نحتاج إليها أيضا في إثبات أنه كان لا يرتدع إلا بهذا النوع الأشد من الدفع.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الدفاع الشرعي العام:
المعروف هو: ما أمر الله به، أو هو كل قول وفعل وقصد حسَّنه الشرع وأمر به، والمنكر هو: ما نهى الله عنه، أو هو كل قول وفعل وقصد قبحه الشرع ونهى عنه.
مما تميزت به الشريعة الإسلامية أنها جعلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبا من واجباتها، وفرضا من فروضها؛ تنقية للمجتمع من الأدران، وإبعادا له عن مخالفة ما شرعه الله، وحماية للمجتمع من عبث العابثين، ومن تهجم المتهجمين، وتوجيها لأفراده وجماعاته إلى عمل الخير، وفعل المأمور به، وترك المنهي عنه، والالتزام بحدود الله جل شأنه وبشريعته، وقد أمر بذلك في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم:
فمن الكتاب قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الآية 104 من سورة آل عمران، وقوله جل شأنه:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} الآية 71 من سورة التوبة، وقوله:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} الآية 110 من آل عمران1.
1 الآيات في ذلك كثيرة: راجع الآيات: 13، 14 من آل عمران، و2، 78، 79 من المائدة، و41 من الحج، و114 من النساء، و9 من الحجرات.
ومن السنة: ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" رواه مسلم.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" رواه مسلم.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض ثبت بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} الآية 105 من المائدة، فقد روي عن قيس بن أبي حازم قال: سمعت أبا بكر على المنبر يقول: يأيها الناس، إني إراكم تأولون هذه الآية، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الناس إذا عمل فيهم بالمعاصي ولم يغيروا، أوشك أن يعمهم الله بعقابه"، فأخبر أبو بكر أن هذه الآية لا رخصة فيها في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه لا يضر ضلال من ضل إذا اهتدى هو بالقيام بفرض الله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وروي عن أبي أمية الشعباني قال: سألت أبا ثعلبة الخشني، فقلت: يا أبا ثعلبة، كيف تقول في هذه الآية:{عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ؟ فقال: أما والله لقد سألت بها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك نفسك، ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيه كقبض على الجمر، للعامل فيهم مثل
أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله" قال: وزادني غيره: قال: يا رسول الله، أجر خمسين منهم؟ قال: "أجر خمسين منكم". وهذا يدل على سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كانت الحال على ما ذكر؛ لأن ذكر تلك الحال تنبئ عن تعذر تغيير المنكر باليد واللسان لشيوع الفساد وغلبته على العامة، وفرض النهي عن المنكر في هذه الحال إنكاره بالقلب.
صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لا خلاف بين الفقهاء في أنه فرض، إلا أن فريقا من الفقهاء يرى أنه فرض عين، على كل أحد في نفسه أن يقوم به على قدر استطاعته، كفريضة الحج، فلا يسقط عنه لقيام غيره به، حكومة، أو جماعة، أو أفرادا، علماء أو جهالا، بل لا بد من أن يباشره كل فرد من أفراد المسلمين إذا كان قادرًا، وحينئذ تكون الآية: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
…
} قد خرجت مخرج الخصوص مجازًا، كقوله تعالى:{يَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} ومعناه ذنوبكم؛ أي: أنه يجب أن تدعو الأمة إلى هذا وتقوم به جميعها.
ويرى فريق آخر أنه فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإذا لم يقم به أحد أثم الناس جميعا كفريضة الجهاد؛ لأن "من" في قوله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} حقيقة في التبعيض، وذلك يقتضي قيام البعض به دون البعض، فدل ذلك على أنه من فروض الكفاية، وهذا هو الظاهر.
ولقد أفاض الفقهاء في بيان الشروط التي يلزم توافرها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء من حيث الآمر أو الناهي -كاشتراط التكليف، والإيمان، والقدرة، والعدالة، وإذن الإمام- أو من حيث ما يلزم توافره في المنكر -كاشتراط وجوده في حال النهي وظهوره- أو من حيث منهج دفع مقترفه.
ولما كانت الإفاضة في ذلك تنقلنا إلى مبحث "الحسبة" في الفقه الإسلامي،
وهو مبحث خاص1، وتخرجنا عن موضوعنا؛ لذلك آثرت أن أكتفي بهذا التعريف الموجز، منوها بأن منهج الدفاع هنا يجب أن يتم طبقا لما قررناه بالنسبة للصائل سواء بسواء.
والفرق بين دفع الصائل، ودفع المقترف لمنكر هو أن الأول يصدر عنه اعتداء وهجوم على النفس أو المال أو العرض، أما الثاني فإنه قد لا يكون منه هجوم على نفس الغير أو ماله أو عرضه؛ إذ يكون باقترافه أمرا لا يستدعي ذلك؛ كشرب الخمر، أو زنا بالرضا، أو إقدامه على قتل نفسه أو إهلاك ماله أو مال غيره برضا، وما إلى ذلك من الأفعال التي لا يوجد فيها صيال؛ ولكن يوجد فيها انتهاك لحرمة الشرع وتعد على حدوده.
1 راجع: إحياء علوم الغزالي ج5، ج7، وأحكام القرآن للجصاص ج2، ص34، 591، وتفسير القرطبي، والكشاف، والمنار للآية الكريمة: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ
…
} والحسبة في الأحكام السلطانية للماوردي لأبي يعلى، ولفضيلة الشيخ إبراهيم الشهاوي.
الفرع الثاني: الظروف المسقطة للقصاص أو المخففة للعقوبة:
قد تقترن الجناية بظروف طبيعية أو عارضة تجعل توافر القصد الجنائي فيها أمرا غير مقطوع به، إما لفرط الصلة وقوة الرابطة بين الجاني والمجني عليه مما يبعد هذا القصد، كما في جناية الأب على ابنه، أو لضعف في العقل أو قصور في الإدراك، طبيعيا كان كما في جناية الصبي والمجنون، أم عارضا كما في جناية السكران، أو كان عدم القصد ناشئا عن أن الجاني كان مسلوب الإرادة وقت ارتكابه الجناية بفعل قاهر كالإكراه، ولقد تأول الفقهاء هذه الظروف جميعها، وبينوا أثرها على العقوبة، ونوضح آراءهم كما نبين موقفهم من رضا المجني عليه بالجناية مع مقارنتها بالقانون.
جناية الأب على ابنه:
يتبين لنا مما ذكرناه في شروط استيفاء القصاص1 أن للفقه الإسلامي في جناية الوالد عن ولده ثلاثة آراء:
الرأي الأول: يرى الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والزيدية، والإمامية، والإباضية: أن الأب لا يقتل بابنه؛ لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقاد للوالد بالولد"2.
1 راجع ما تقدم من النصوص، كما يراجع للإباضية شرح النيل ج15، ص56.
2 رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وصححه ابن الجارود والبيهقي، وقال الترمذي: إنه مضطرب والعمل عليه عند أهل العلم
…
وقال الشافعي: طرق هذا الحديث كلها منقطعة، وقال عبد الحق: هذه الأحاديث كلها معلولة لا يصلح فيها شيء.
وأيضا فإن قوله عليه الصلاة والسلام: "أنت ومالك لأبيك" يقتضي عدم إيجاب القصاص؛ وذلك لأن مقتضى إضافة الابن إلى الأب تمكينه من ابنه، فإذا لم تثبت حقيقة الملكية ثبتت بالإضافة شبهة الملكية، الشبهة تسقط القصاص، ولأنه لما كان الأب سببا في إحياء الابن، فلا يكون الابن سببا في موته، ولا يخشى من أن القول بذلك يؤدي إلى انتشار قتل الآباء للأبناء؛ لأن ما أودعه الله تعالى في قلوبهم من فرط الشفقة والمحبة لأبنائهم يحول دون ذلك؛ لأن الوالد يحب ولده لمعنى في ذات الولد، وهو كونه ولده، غير مرتبط هذا الحب بشائبة مصلحة ظاهرة؛ إذ الابن يأخذ والأب يعطي غالبا، وكذلك يحبه لأن في حياته امتداد ذكره، وتخليد اسمه، واتصال آماله، وفي كل هذه المعاني ما يقف حائلا دون قصد القتل.
وقالوا: إن هذا الحكم يشمل الأصل وإن علا، أبا أو أما، والابن وإن نزل ابنا أو بنتا، ولم يخالف في هذا غير الإمامية والإباضية في رأي لهم؛ حيث تمسكوا بمنطوق الحديث فجعلوه قاصرا على الوالد وإن علا والابن وإن نزل، فتقتل الأم بابنها والأجداد من قبلها يقتلون مثلها، وكذلك الجدات مطلقا.
الرأي الثاني: يرى المالكية التفريق "في قتل الأب ابنه" بين أمرين؛ أولهما: أن يقصد قتله بآلة قاتلة قطعا كالسيف ونحوه، فإنه يكون قاتلا عمدا ويقتص منه؛ لأن هذا الفعل عمد حقيقة لا يحتمل غيره.
ثانيهما: أن يقتله بغير ذلك، كما لو ضربه بعصا ونحوها، فإنه لا يقتص منه؛ لأن مثل هذه الآلة موضوعة للتأديب، وقد شرع للأب أن يؤدب ابنه.
الرأي الثالث: يرى عثمان البتي أنه يقاد الوالد بالولد مطلقا؛ لعموم آيات القصاص، ومنها قول تعالى:{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} .
الترجيح: وإذا صح الحديث المروي عن عمر فإنه يكون مخصصا لعموم الآية، وهو بعمومه يدل على ألا يقتل الأب بابنه مطلقا، سواء قتله بسيف ونحوه، أو قتله بعصا ونحوها.
وقد قال ابن عبد البر في هذا الحديث: "حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق، يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد حتى يكون الإسناد في مثله مع شهرته تكلفا"، وقد قضى عمر بن الخطاب في قصة المدلجي الذي رمى ابنه بالسيف فقتله بألا يقتص منه، وألزم الأب الدية، ولم يعطه منها شيئا، وقال:"ليس لقاتل شيء" فلا يرث من الدية إجماعا، ولا من غيرها عند الجمهور، ومثل الأب الأم؛ لأن المعنى فيهما واحد، بل إن شفقة الأم وحنانها قد تفوق شفقة الأب؛ لذلك أرى رجحان الرأي الأول.
جناية الصبي:
تميز الفقه الإسلامي عن غيره من كل التشريعات والنظم بأنه قد تناول بالتحليل والدراسة حياة الإنسان منذ علوقه في بطن أمه حتى وفاته وبعد فاته، وبين ما يكون للإنسان من حقوق وما عليه من واجبات في كل مرحلة من مراحل حياته، وجعل له أهلية: أهلية وجوب -بها يكون صالحا للإلزام والالتزام، أو تحمل الحقوق وأداء الواجبات- وأهلية أداء -بها يكون صالحا لأن تصدر منه الأقوال والأفعال على وجه يعتد به شرعا- وجعل الأهلية الأولى مقرونة بالحياة أو بالذمة، وجعل الثانية مقرونة بالعقل، فإذا نضج العقل وكمل كلمت هذه الأهلية، وإذا كان ناقصا بسبب صغر أو جنون أو عته نقصت هذه الأهلية، وهذا النوع من الأهلية -وهو أهلية الأداء- هو الذي ترتبط به وتتصل به المسئولية من الأقوال، وكذا الأفعال، وبخاصة ما كان منها ضارا.
ولما كان بحثنا هنا خاصا بالجناية على النفس؛ لذلك نقصر حديثنا عن جنايته على هذا الدائرة من أفعاله، وتيسيرا لمعرفة آراء الفقهاء نقسم مراحل حياة الإنسان إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى:
هي ما دون السابعة، لقد ميز الفقهاء هذه المرحلة من غيرها؛ لأن الغالب فيها عدم التمييز، ونقصد بالتمييز أن يفهم كلام العقلاء ويحسن الإجابة عنه؛ ولذلك سمي بالصبي غير المميز؛ أي: أن الغالب في هذه المرحلة أن يكون على هذه الصفة، وإن شذ بعض أفراده؛ لأن الغالب حكم الكل، والشاذ لا حكم له، كما أن تحديدها بالسابعة قد استأنس الفقهاء فيه بقوله صلى الله عليه وسلم:"مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعا، واضربوهم إذا بلغوا عشرا". أما قبل السابعة فليس هناك أمر؛ لأن الأمر والنهي يناطان بوجود العقل،
وهو قبل السابعة يغلب عليه عدم وجود التمييز، الذي هو أول مراحل النمو العقلي، وإذا كان الأمر على هذه الصفة فإذا وقعت منه جناية على إنسان فهل توقع عليه عقوبة أو يلزمه جزاء؟
أجمع الفقهاء على أنه لا عقوبة عليه في هذه السن؛ لأن المعنى الذي شرعت من أجله العقوبة لا يتحقق في الصبي؛ لانعدام عقله أو قصوره قصورا بينا؛ ولكن هل تكون العاقلة مسئولة عن جنايته، فتدفع الدية قياسا لها على الجناية خطأ، وكما سيتضح لنا فيما بعد أن تحمل العاقلة لبعض الديات هو نوع من المواساة لأسرة المقتول، ومعاونة لهم، وتعاونا مع من وقعت منه الجناية، وقد يكون أيضا فيه نوع من المسئولية عن تعويض بعض الأضرار التي تقع ممن لا يعقلون منهم حتى يحتاطوا في تربيتهم ويبعدوهم عن موجبات الضمان، وللفقهاء رأيان في هذا:
الرأي الأول:
أن جنايته هدر، لا شيء فيها من عقوبة أو دية أو غيرهما، وهو رأي الظاهرية وربيعة1؛ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام:"رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الغلام حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق"، ولما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال:"لا قود ولا قصاص ولا حد ولا جراح ولا قتل ولا نكال على من لم يبلغ الحلم، حتى يعلم ما له في الإسلام وما عليه".
الرأي الثاني:
أن جنايته كالخطأ، تجب فيها الدية على العاقلة، كما تجب في الخطأ، وهو
1 روي عن ربيعة أنه إذا كان الصبي صغيرا جدا، فلا شيء على عاقلته إلا في ماله، وإن كان يعقل فالدية على عاقلته.
رأى جمهور الفقهاء "الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والزيدية، وهو قول الزهري وحماد بن أبي سليمان وإبراهيم النخعي وقتادة" وذلك لما روي عن علي بن أبي طالب: أن ستة صبيان تغاطوا في النهر، فغرق أحدهم، فشهد اثنان على ثلاثة، وشهد الثلاثة على الاثنين، فجعل على الاثنين ثلاثة أخماس الدية، وجعل على الثلاثة خمس الدية.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم" فإن المرفوع هنا هو الإثم والذنب1 لا الدية.
المرحلة الثانية:
وهي مرحلة الصبي المميز، وهو من بلغ السابعة ولم يصل إلى سن البلوغ، والخلاف الذي ورد في المرحلة السابقة هو بعينه ما ورد هنا، غير أن رأيا ثالثا ظهر معنا هنا، وهو ما ورد عن الشافعية أنهم قالوا:"عمد الصبي عمد إذا كان لو نوع تمييز"، وهو الأظهر في المذهب، والظاهر أنهم لا يوجبون عليه القصاص، وإنما يوجبون الدية مغلظة في ماله2.
المرحلة الثالثة:
وهي مرحلة ما بعد البلوغ، وبه تكمل المسئولية وتتم
1 المرفوع في الحديث إنما هو الإثم فقط؛ لأنه من باب خطاب التكليف، وأما الضمان فهو غير مرفوع؛ لأنه من باب خطاب الوضع، وخطاب التكليف هو الأحكام الخمسة "الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإباحة"، ويشترط فيه علم المكلف وقدرته، وخطاب الوضع، وهو الخطاب بكثير الأسباب والشروط والموانع، لا يشترط فيه علم المكلف ولا قدرته، ولا كونه من كسبه، فيضمن النائم ما أتلفه في حال نومه من الأموال في ماله، ويضمن ما أتلفه من الدماء، فإن أتلف نفسا كانت فيها الدية على عاقلته.
2 راجع: مغني المحتاج ج4، ص10، والأشباه للسيوطي ص222.
الأهلية، فقد جعل المشرع البلوغ أمارة على تكامل العقل؛ لأن الاطلاع على تكامل العقل متعذر؛ لأنه أمر خفي، فأقيم البلوغ مقامه؛ لأن البلوغ به تتكامل القوى الجسمانية، وتتم التجارب والإدراكات التي هي مراكب للقوى العقلية، ولأن البلوغ أمارة ظاهرة منضبطة يمكن أن تعلق الأحكام بها حتى تصدر على نسق واحد، ولا يضطرب التكليف؛ إذ إن للبلوغ علامات ظاهرة في الذكر والأنثى، فإذا وجدت هذه العلامات حكم ببلوغه.
وإذا لم توجد كان البلوغ بالسن، وقد اختلف الفقهاء في تقديره، فيرى جمهور الفقهاء "أبو يوسف ومحمد ابن الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والإمامية، ورأي عند المالكية" تقديره بخمس عشرة سنة؛ وذلك لأنه المعتاد الغالب، ولما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني، وعرضت عليه في السنة الثانية فأجازني، ويقصد من عرضه على الرسول صلى الله عليه وسلم تقديمه للاشتراك في القتال، وقد أجيز اشتراكه في سن الخامسة عشرة.
ويرى المالكية تقديره بثماني عشرة سنة للفتى والفتاة، ويوافقهم أبو حنيفة في الفتى ويجعله للفتاة سبع عشرة سنة لسرعة بلوغها، وقد استدلوا على ذلك بما روي عن ابن عباس في تفسيره لقوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قال: "حتى يبلغ أشده" أي: ثماني عشرة سنة1.
ولما كان البلوغ في بلادنا يغلب في سن الخامسة عشرة؛ بل يندر التأخر عن هذه السن بالنسبة للفتى، أما الفتاة فهي أسبق من ذلك بكثير؛ لذلك
1 وللمالكية خمسة أقوال، ففي رواية ثمانية عشر، وقيل: سبعة عشر، وزاد بعض شراح الرسالة ستة عشر، وروى ابن وهب خمسة عشر؛ لحديث ابن عمر. نظرية الحق للمؤلف.
أرجح رأي جمهور الفقهاء، وإذا تم لنا هذا كان بلوغ سن الخامسة عشرة هو الحد الفاصل بين مرحلة انعدام المسئولية الجنائية ومرحلة قيام هذه المسئولية، ومن ثم يعاقب البالغ بالعقوبة المقررة على الجرم الذي يقترفه.
الترجيح: وأرى أن رأي جمهور الفقهاء -الذي يقتضي بإيجاب الدية على عاقلة الصبي، سواء كان مميزا أو غير مميز- هو الراجح؛ لما ذكروه من أدلة، ولما فيه من النظر إلى كل من القاتل وأسرة المقتول، أما بالنسبة للأول فقد روعت حالة قصوره وضعفه العقلي المستدعي التخفيف عقلا وشرعا، وانعدام قصده الصحيح، ومن ثم كانت جنايته كجناية المخطئ في إيجاب الدية.
وأما بالنسبة للثاني فلأن أسرة المقتول في حاجة إلى تعويض عن دم المقتول، فكان إيجاب الدية لهذه الأسرة على عاقلة الجاني جبرا للنقص الذي أصابها، والرزء الذي حل بها، وكذلك فإن في إيجابها على العاقلة تنبيها لها وتوجيها لنظرها إلى رعاية أطفالها وصبيانها وتربيتهم التربية المناسبة حتى لا يقعوا في مثل ذلك مرة أخرى.
وأما إن كان للصبي نوع تمييز -كما قال شافعية- فإن في عقوبة التعزير كفاء، وحسبنا في ذلك ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم:"واضربوهم إذا بلغوا عشرا"، والضرب يكون بيد لا بخشبة.
ولقد نص ابن حزم الظاهري على وجوب تثقيفهم لكف أذاهم فيقول: "إلا أن من فعل هذا من الصبيان أو المجانين أو السكارى في دم أو جرح أو مال ففرض ثقافه في بيت ليكف أذاه حتى يتوب السكران ويفيق المجنون ويبلغ الصبي؛ لقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وتثقيفهم تعاون على البر والتقوى، وإهمالهم تعاون على الإثم والعدوان".
جناية المجنون:
الجنون هو اختلال القوة المميزة بين الأمور الحسنة والأمور القبيحة والمدركة للعواقب؛ بحيث يؤدي هذا الاختلال إلى منع جريان الأفعال والأقوال على نهج العقل إلا نادرًا.
والجنون يزيل أهلية الأداء؛ وذلك لأنها منوطة بالعقل والتمييز، وعقل المجنون وتمييزه مختل، فلا تثبت له هذه الأهلية بنوعيها "الناقصة والكاملة"1.
وينقسم الجنون من حيث استمراره وعدم استمراره إلى قسمين:
جنون مطبق "أي ممتد" وهو الجنون الذي يمتد بصاحبه ولا تصاحبه فترات إفاقة، وجنون غير مطبق "أو منقطع" وهو الجنون الذي لا يمتد بصاحبه، بل تتخلله فترات إفاقة وصحو ثم يعود إلى صاحبه، كما ينقسم من حيث إصابة الإنسان به قبل بلوغه عاقلا أو بعد بلوغه عاقلا إلى قسمين أيضا؛ جنون أصلي: وهو أن يبلغ مجنونا، ومثله لم يتمتع بأهلية الأداء مطلقا، وجنون طارئ: وهو أن يبلغ عاقلا ثم يجن، ومثله يكون قد تمتع بأهلية الأداء إلى أن أصيب بالجنون، وفي كل الحالات تسقط أهلية الأداء عن المجنون أثناء فترة جنونه، سواء كان جنونه مطبقا أو غير مطبق، أصليا أو طارئا، فلا يصح من المجنون حينئذ تصرف أصلا خلالها، أما إذا كان
1 أهلية الأداء الناقصة تبدأ من السابعة إلى ما قبل البلوغ عاقلا، والكاملة تبدأ من البلوغ عاقلا، ولكل نوع منها حقوق تثبت بها. راجع نظرية الحق للمؤلف ص87.
جنونه غير مطبق فأفاق في بعض الأوقات وعاد عقله إليه فإن أهلية الأداء تعود إليه خلال هذه الفترة وتصح تصرفاته؛ لأن مناط هذه الأهلية هو العقل، وقد عاد إليه فتعود إليه أهلية الأداء، والحكم بعودة عقله إليه ينبي على ما يصدر عن أهل الخبرة من الأطباء الذين يقررون ذلك، ومن ثم يمكن أن يحاسب على تصرفاته.
والمجنون في كل حالاته له أهلية وجوب؛ لأن هذه الأهلية تناط بالذمة، والإنسان بحكم إنسانيته له ذمة، فتثبت له، ومقتضى هذه الأهلية اكتساب الحقوق وتحمل الواجبات، أما تصرفاته من قول أو فعل فهي تدخل في دائرة أهلية الأداء التي بيناها آنفا.
تصرفات المجنون: يعتبر الفقه الإسلامي المجنون كالصبي غير المميز -أي: ما دون السابعة- فلا اعتداد بما يصدر عنه من أقوال، سواء كانت نافعة نفعا محضا كقبول الهبة، أو ضارة ضررا محضا كهبته للغير، أو مترددة بين النفع والضرر كالبيوع وما شاكلها.
وأما أفعاله: فإن كانت نافعة ولم يشترط الشرع فيها توافر الإرادة والاختيار صحت واستتبعت أحكامها، كما لو وضع يده على شيء مباح؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"من سبق إلى مباح فهو له"، أما ما لم يكن بهذه الصفة كقبضه الأموال الخاصة به من المدين، فإنها لا تصح، فإن هلكت هلكت على المدين، وأما إن كانت ضارة كالاعتداء على الأشخاص قتلا أو جرحا، وهذا هو موضوعنا هنا، فإن الفقهاء قد اختلفوا في جنايته كما اختلفوا في جناية الصبي غير المميز.
فيرى الظاهرية أن جنايته هدر؛ وذلك للحديث: "رفع القلم"، فلا يتبع هذه الجناية إثم لعدم العقل، ولا ضمان لانعدام التمييز والقصد والاختيار؛ إذ إنه كالعجماء "والعجماء جبار" بنص الحديث، أي جنايتها هدر1.
1 وإن كان الظاهرية قد استحسنوا أن تدفع دية المجني عليه من بيت المال، كما أوجبوا منعه من أذى الناس بوضعه في بيت ونحوه.
ومسلك الظاهرية في هذا هو ما أخذ به فقهاء القانون في مصر وفرنسا، إلا أنهما يختلفان عنهم في أنهما حملا المسئولة المدنية الشخص المكلف برعاية المجنون وملاحظته باتبار أنه أهمل في ملاحظته، وإن كانت القاعدة العامة تجعل للمسئول عن غيره الحق في أن يرجع على هذا للغير بما ضمنه بسبب فعله.
ويرى جمهورالفقهاء1 "وهم من ذكرناهم آنفا في جناية الصبي غير المميز" أن جنايته كالخطأ، ولا يقصد بقولهم:"حكمها حكم الخطأ" أنها خطأ، كما فهم بعض الكتاب المحدثين، بدليل أنهم لم يوجبوا على هؤلاء كفارة، مع أن نص القرآن يوجبها في الخطأ، وإنما هم يعطونها حكم الخطأ في إيجاب الدية على العاقلة فقط، والوجه في اعتبارها كالخطأ. إن الجناية من حيث وقوعها على المجني عليه لم تكن مقصودة ولا مرادة، ففي الخطأ لم يكن هناك قصد ولا إرادة وقوع الجناية على هذا الإنسان المعصوم مع صلاحية الجاني لأن يريد ذلك، وهنا جناية الصبي والمجنون لم يصاحبها قصد ولا إرادة وقوع الجناية على هذا الإنسان، لا لأنه لم يوجه الفعل الضار إليه؛ بل لأن إرادته وقصده غير صحيح شرعا، فهو كلا إرادة
…
، وفي الخطأ نوع من عدم التحرز وعدم الحيطة الكافية، وفي جناية هذين لا يتأتى هذا، ومن ثم فليست جنايتهما خطأ تماما، وإنما حكمها حكم الخطأ في إيجاب الدية على العاقلة2.
وإيجاب الدية هنا على العاقلة استند فيه إلى آثار عن بعض الصحابة منها
1 ولا يراد ما قاله الشافعية هنا من قولهم: إنه إذا كان له نوع تمييز فعمده عمد وخطؤه خطأ؛ لأن المجنون اصطلاحا فاقد هذا التمييز، فربما قصد به المعتوه.
2 راجع ما كتبه المرحوم عبد القادر عوده في كتابه "الجنايات" ج1، ص594.
ما روي عن علي رضي الله عنه أنه جعل عقل المجنون على عاقلته، وقال: عمده وخطؤه سواء، وما روي أن مروان كتب إلى معاوية في مجنون قتل رجلا، فكتب إلى معاوية: اعقله ولا تقد منه "أي: لا تقتص منه" وما روي عن محمد بن جعفر بن الزبير من أن "جناية المجنون على عاقلته".
ويرى بعض التابعين أن جناية المجنون في ماله، فقد روي عن سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار "على المجنون العقل"، ويرى أن مجنونا على عهد ابن الزبير دخل البيت بخنجر فطعن ابن عمه فقتله، فقضى ابن البير بأن يخلع من ماله ويدفع إلى أهل المقتول، وروي عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه أن عبد الله بن الزبير قال: جناية المجنون من ماله، والظاهر لي أن هؤلاء الفقهاء قد اعتبروا هذه الجناية كالجناية على الأموال، فإن جمهور الفقهاء يعتبرون جناية المجنون أو الصبي ولو غير مميز على الأموال موجبة للضمان في مقاله، فيدفع من مالهما كل تعويضات الأضرارا الناشئة من فعلهما؛ وذلك لأنهم يعتبرون أن سبب الضمان هو الإتلاف، فإذا وجد السبب وجد المسبب "وهو الضمان" أيا كان محدث هذا السبب، صغيرا أو كبيرا، عاقلا أو مجنونا1.
1 طبق القانون الألماني والقانون السويسري هذا المسلك الذي قرره الفقه الإسلامي في الأموال، وعبروا عنه بنظرية الخطر التي مقتضاها أن المجنون يسأل مدنيا عن تعويض الأضرار التي أحدثها من ماله الخاص، بل إن هذين القانونين يذهبان إلى مسئولية المجنون جنائيا ومدنيا إذا كان الفعل الذي أتاه من الأفعال التي يعاقب فيها على الإهمال أو عدم التبصر، كأن يكون جنونه ناشئا عن عادات سيئة كتعاطي المسكرات أو ناشئا عن فساد الأخلاق؛ وذلك لأنه يوجد في هذه الحالة خطأ أصلي يصح أن ينسب إلى الفاعل، ويكفي لتبرير مسئوليته. الموسوعة الجنائية ج3، ص629- عبد القادر عوده ج1، ص596.
إلا أنه يرد على هذا الرأي أن الجناية على النفس غير الجناية على الأموال بدليل أن الشرع خصها بأحكام معينة مغايرة في جملتها وتفصيلها ما أوجبه في الجناية على الأموال، ففي الثانية يجب مثلها، فإن لم يوجد فقيمتها، عمدا كانت الجناية أو خطأ أو شبه عمد "إذا صح هذا التقسيم في الأموال".
أما في النفس، فقد اختلف الحكم في العمد عنه في شبه العمد عنه في الخطأ، وفي الأخير أوجب كفارة، وأوجب دية محددة لا تتفاوت، بل أوجب حرمانا من الميراث كما يرى بعض الفقهاء؛ لذلك كان قياس جناية المجنون أو الصبي غير المميز على الجناية على الأموال قياس مع الفارق، فضلا عن أن هذا سيؤدي إلى استئصال كل أمواله نظرا لجسامة مقدار الدية، ويصبح عالة على الغير، وهو في حالة تحتاج إلى الإنفاق عليه؛ لذلك كان إيجاب الدية على العاقلة رعاية له، ورعاية لأسرة المجني عليه، وتحقيقا للتكافل الاجتماعي والترابط والتعاون على البر والتقوى.
جناية المعتوه:
العته هو "آفة توجب خللا في العقل، فيصير صاحبه مختلط الكلام، فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء، وبعضه كلام المجانين، وكذا سائر أموره".
ولما كان المعتوه بهذه المثابة من التردد بين العقل والجنون في أقواله وأفعاله جعل الفقهاء حكمه كحكم الصبي المميز -وهي المرحلة التي تبدأ من السابعة وتنتهي بالبلوغ عاقلا- وقد سبق أن بينا حكمه فيها1.
1 جاء في كشف الأسرار للبزدوي مجلد4 ص1394: فكما أن الجنون يشبه أول أحوال الصبا في عدم العقل يشبه العته آخر أحوال الصبا في وجود أصل العقل مع تمكن خلل فيه، فكما ألحق الجنون بأول أحوال الصغر في الأحكام ألحق العته بآخر أحوال الصبا في جميع الأحكام أيضا
…
كما جاء في الأشباه لابن نجم ص321: أحكام المعتوه أحكام الصبي العاقل فتصح =
هذا هو الرأي السائد في حكم المعتوه في الفقه الإسلامي1، وإن كان بعض الكتاب المحدثين قد ذكر أن بعض الفقهاء جعل المعتوه على درجتين: مميز غير مميز، وأن الثاني كالمجنون في الأحكام، والأول كالصبي المميز، إلا أنني أرى أن الأولى أن يميز في الاصطلاح بين الدرجتين، فغير المميز يكون مجنونا؛ لاختلال قوة التمييز عنده -وهي العقل كما سبق أن بينا- ويكون حينئذ حكمه حكم الصبي غير المميز، والمميز يكون معتوها، وحكمه يكون كحكم الصبي المميز فيما ذكرنا من الأحكام.
= العبادات منه، ولا تجب، وقيل: هو كالمجنون، وقيل: هو كالبالغ العاقل، وهو كما ترى قد حكى القولين الأخيرين بقيل مما ينبئ عن ضعفهما وقوة الرأي الأول، وقد أخذت بهذا مجلة الأحكام العدلية فنصت في المادة "955" على أن المعتوه هو الذي اختل شعوره؛ بحيث يكون فهمه قليلا، وكلامه مختلطا، وتدبيره فاسدا، كما نصت في المادة "987" على أن المعتوه في حكم الصغير المميز، أما القانون المدني المصري فقد جعل حكم الجنون والعته واحدا فنص في مادته "114" على أنه يقع باطلا تصرف المجنون والمعتوه إذا صدر التصرف بعد تسجيل قرار الحجر، أما إذا صدر قبل تسجيل قرار الحجر فلا يكون باطلا إلا إذا كانت حالة الجنون والعته شائعة وقت التعاقد، أو كان الطرف الآخر على بينة منها.
2 وقد أشار البزدوي في ص1395 إلى أنه قد وردت مسألة عن الإمام محمد بن الحسن تدل على أن حكم المعتوه حكم المجنون، ثم رد على هذا بقوله: "قلنا: المراد منه -أي من المعتوه- المجنون، فإن سياق الكلام في تلك المسألة ونظائرها يدل عليه، وقد يطلق المعتوه على المجنون؛ لأن العته يشابه الجنون.
جناية السكران:
السُّكْر هو حالة تعرض لعقل الإنسان بسبب تناوله بعض الأسباب المؤثرة في تعطيل عقله واختلال تمييزه بين الأمور الحسنة والأمور القبيحة.
والطريق المفضي إلى السكر قد يكون مباحا: كسكر المضطر إلى شرب الخمر، والسكر من الأدوية -كالبنج نحوه- وقد يكون حراما: كسكر من شرب الخمر اختيارا عالما بحرمتها.
وحكم السكران بمباح حكم المغمَى عليه والنائم في أقواله وأفعاله، وحكم جناية هذين حكم الجناية خطأ، أو ما يعبر عنه الحنفية عند تقسيمهم للجنايات بأنه "ما جرى مجرى الخطأ".
وأما السكران بمحرم فإن السكر لا ينافي الأهلية، أما أهلية الوجوب فظاهر حكمها؛ لأنها ترتبط بوجود الإنسان وذمته، وهو موجود وله ذمة، فلا أثر للسكر عليها، وأما أهلية الأداء فلأن السكر لا ينافي أهلية الخطاب؛ لقوله تعالى:{أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فهو خطاب لهم حال صحوهم بألا يقربوا الصلاة حالة السكر، فيلزم من ذلك كونهم مخاطبين بذلك حال السكر، فلا يكون السكر منافيا لتعلق الخطاب، ووجوب الانتهاء عما نهى عنه، وإذا كان السكر غير مناف لأهلية الخطاب لزمت السكران الأحكام الشرعية كلها من صلاة وصيام وغيرهما.
وبعد تقرير هذه القاعدة وجدنا أن الفقهاء يختلفون في الاعتداد بأقواله وبأفعاله الصادرة عنه أثناء سكره بمحرم، فأما أقواله فيكفي أن نشير إلى أن المالكية والشافعي في قول له وأبو الحسن الكرخي والطحاوي من
الحنفية، والزيدية، والمنقول عن عثمان رضي الله عنه يرون أن تصرفات السكران بمحرم غير صحيحة؛ لأن غفلته فوق غفلة النائم، فإن النائم يتنبه إذا نبه، والسكران لا يتنبه، فالأخير أولى بتطبيق الحكم عليه من الأول وهو النائم، وخالفهم في هذا المسلك الحنفية والشافعي في قول له والحنابلة، استنادا إلى أنه مخاطب.
وقد رجحت في كتابي "نظرية الحق" الرأي الأول، ولا أرى الإفاضة في أقوال السكران؛ لأن الذي نعنيه هنا هو أفعاله، وبخاصة جناياته.
جنايات السكران بمحرم: إذا جنى السكران جناية تستوجب القصاص أو حدا من الحدود، فيرى جمهور الفقهاء "الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والزيدية، وهو قول الزهري وربيعة" أن موجب فعله يلزمه، فيقتص منه إذا قتل، ويلزمه الحد إذا فعل ما يوجبه؛ لأن مثله لا يستحق التخفيف، وقد روي أن معاوية أقاد من السكران. قال ابن أبي الزناد: وكان القاتل محمد بن النعمان الأنصاري، والمقتول عمارة بن زيد بن ثابت.
كما روي عن علي بن أبي طالب أن سكارى تضاربوا بالسكاكين، وهم أربعة فجرح اثنان ومات اثنان، فجعل على دية الاثنين المقتولين على قبائلهما وعلى قبائل اللذين لم يموتا، وقاص الحيين من ذلك بدية جراحهما. وأن الحسن بن علي رأى أن يقيد الحيين للميتين؛ ولم ير على ذلك، وقال: لعل الميتين قتل كل واحد منهما الآخر، وبهذا يتضح أن رأي علي في جناية السكران القصاص، وأنه إنما نفاه عن الحيين لعدم ثبوت قتلهما لهما، واحتمال أن يكون كل منهما قتل الآخر، فمبدأ القصاص منهما مقرر في هذه الجناية عن علي وعن الحسن رضي الله عنهما، ولأنه لو درأ الحد أو القصاص عن السكران لأدى هذا إلى أن كل من أراد جناية سكر ثم اقترفها، وبذلك تنتشر الجرائم، فضلا عن أن مثله لا يستحق التخفيف.
ويرى الظاهرية والشافعي في قول له: أن جناية السكران هدر، ولا يلزمه موجب أفعاله؛ لعدم قصده، ولأنه يشبه المجنون في انعدام عقله، والمجنون رفع عنه القلم بنص الحديث، وقد صح عن عثمان بن عفان أن السكران لا يلزمه طلاق فصح أنه عنده بمنزلة المجنون، ثم ضعف ابن حزم ما استند إليه جمهور الفقهاء من آثار.
والذي أرجح الأخذ به هو رأي جمهور الفقهاء؛ لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى شرور كثيرة، فضلا عن أنه يزكي السكر ويفشيه؛ لأنه قد اعتد به وسيلة لإسقاط العقوبة، ولأن الصحابة أوجبوا حد القذف على السكران وحق الله فيه غالب -أو حق العبد فيه غالب على الخلاف- فيقاس عليه القصاص وغيره من الحقوق ما كان حقا لله أو حقا للعبد، وأيضا فإن القول بأنه ستجتمع عليه عقوبتان -عقوبة الشرب وعقوبة القصاص- غير وارد؛ لأن الممنوع أن تكون عقوبتان لجرم واحد، أما ارتكاب جرمين مختلفين فإنه يستوجب عقوبتين عقلا وشرعا.
الإكراه:
الإكراه هو حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه، ولا يختار مباشرته لو خلي ونفسه.
وحادثة الإكراه يعتبر فيها: معنى في المكره "الدافع"، ومعنى في المكره "الفاعل"، ومعنى في المكره عليه، ومعنى فيما أكره به.
1-
فالمعتبر في المكره "الدافع" تمكنه من إيقاع ما هدده به، فإذا لم يكن متمكنا من ذلك فإكراهه هذيان.
2-
والمعتبر في المكره "الفاعل" أن يصير خائفا على نفسه من جهة
المكره في إيقاع ما هدده به عاجلا؛ لأنه لا يصير ملجأ محمولا ومدفوعا على الفعل إلا بذلك.
3-
والمعتبر في المكره به أن يكون متلفا نفسا، أو مزمنا، أو متلفا عضوا، أو موجبا غما ينعدم الرضا باعتباره.
4-
والمعتبر فيما أكره عليه هو أن يكون المكره "الفاعل" ممتنعا عن القيام به قبل الإكراه، وذلك إما لحقه، أو لحق إنسان آخر، أو لحق الشرع، وبحسب اختلاف هذه الأحكام يختلف الحكم.
وهذا النوع يعدم الرضا، ويفسد الاختيار؛ لأنه يلجئ الإنسان ويضطره طبعا إلى فعل ما أكره عليه1.
الثاني: إكراه غير ملجئ أو ناقص، وهو أن يهدده بالحبس أو القيد أو الضرب الذي لا يخاف منه على نفسه أو على عضو من أعضائه.
وهذا النوع يعدم الرضا فقط، ولا يفسد الاختيار؛ لأنه لا يجلئ الإنسان
1 الاختيار هو: القصد إلى أمر متردد بين الوجود والعدم داخل في قدرة الفاعل بترجيح أحد جانبيه على الآخر، والاختيار إما صحيح وهو أن يكون الفاعل في قصده إلى ذلك مستبدا، وإما فاسد وهو أن يكون اختياره مبنيا على اختيار الآخر، فإذا اضطر إلى مباشرة أمر بالإكراه كان قصده في مباشرة الفعل هو دفع الإكراه حقيقة، فيصير الاختيار فاسدا، لابتنائه على اختيار الدافع "المكره" وإن لم ينعدم اختياره أصلا؛ لأنه اختار أخف الضررين.
والرضا هو: امتلاء الاختيار وبلوغه نهايته؛ بحيث يظهر أثره على الظاهر: من ظهور البشاشة في الوجه ونحوها، كما يفضي أثر الغضب على الظاهر من تقضيب الوجه وحملقة العينين واحتقان الوجه، فالرضا ضد الغضب.
ولا يضطره إلى مباشرة ما أكره عليه؛ لأن الفاعل يتمكن معه من الصبر من غير خشية على نفسه ولا على عضو من أعضائه1.
أما جمهور الفقهاء فإنهم جعلوا الإكراه كله نوعا واحدا2.
حكم الإكراه:
الإكراه بنوعيه لا يؤثر على الأهلية بنوعيها؛ لأن ذمته قائمة، وعقله كامل؛ ولكنه يؤثر على إرادة الإنسان؛ حيث يدفعه إلى القيام بتصرف لم يكن يرضي عن مباشرته ولا يختاره لو خلي ونفسه كما ذكرنا.
ولقد اختلف الفقهاء في موجب أقوال المكره وأفعاله؛ حيث انفرد الحنفية بتحليل لأثر الإكراه بنوعيه على الإرادة "الاختيار والرضا".
ونكتفي هنا بذكر أثره على الأفعال، ونحيل من أراد أثره على الأقوال إلى نظرية الحق للمؤلف.
إذا أكره شخص إنسانا على قتل غيره أو جرحه، فللفقهاء أربعة آراء:
1 وذكر البزدوي في كشفه ص1530 أن هناك نوعا ثالثا؛ وهو نوع لا يعدم الرضا، وبالضرورة لا يفسد الاختيار؛ لأن الرضا لا يستلزم صحة الاختيار، ولا العكس، وهو أن يهدده بإيقاع فعل بغيره يجلب له غما أو هما كحبس أبيه أو ولده أو زوجه، وكذا كل ذي رحم محرم منه. ثم بين أن الاستحسان يقضي أن يكون ذلك إكراها؛ لأن أثر هذا الإكراه على نفسه لا يقل عن إيقاع الفعل عليه إن لم يزد.
2 يراجع الأشباه للسيوطي ص229، فقد نقل عن النووي أنه فرق بين إكراه وإكراه بما يقارب مذهب الحنفية، وهو بحث قيم شمل كل ما يتعلق بالإكراه من أحكام.
الرأي الأول: يرى أبو حنيفة ومحمد أن الفعل لا ينسب إلى الفاعل، ولكن ينسب إلى الدافع، فيلزمه موجب الجناية، فيكون القصاص في القتل العمد عليه وليس على الفاعل.
وليس معنى هذا أن ينجو الفاعل من العقاب، فإن على الحاكم أن يوقع عليه عقوبة التعزير "كالجلد أو الحبس
…
" لأنه ارتكب أمرا لا يحل له ارتكابه، وكلاهما "الدافع والفاعل" آثم؛ لأن قتل النفس محرم، وهذه الحرمة لا تسقط بالإكراه ولا تدخلها الرخصة؛ لأن دليل الرخصة خوف الهلاك، والقاتل والمقتول سواء في الهلاك، وإذا كانا سواء لا يحل للفاعل قتل غيره ليخلص نفسه.
وقد استدل الإمام وصاحبه بعدة أدلة منها:
1-
ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عفوت عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، والعفو عن الشيء عفو عن موجبه، فكان موجب المستكره عليه معفوا بظاهر الحديث.
2-
ولأن القاتل هو الدافع من حيث المعنى؛ لأنه هو الذي أراد القتل واتخذ أسبابه، وإنما الموجود من المباشر صورة القتل فقط، فأشبه المباشر الآلة في يد الدافع؛ لأنه لم يكن يختار القتل ولا يريده لو خلي وشأنه، والقتل مما يمكن اكتسابه بآلة الغير كإتلاف المال
…
ثم يتابع تأييد رأيه فيقول: ألا ترى أنه إذا أكره الإنسان شخصا على أن يقطع يد نفسه فقطعها، فإنه يكون له أن يقتص من الذي أكرهه "الدافع" ولو كان المباشر هو القاطع حقيقة لما اقتص ممن أكرهه.
الرأي الثاني: يرى زفر من عماء الحنفية، والزيدية، والإمامية،
والظاهرية: وجوب القصاص على الفاعل دون الدافع؛ وذلك لأن القتل وجد منه حقيقة وحسا ومشاهدة، وإنكار المحسوس مكابرة، فوجب اعتبار القتل منه، دون الدافع؛ إذ الأصل اعتبار الحقيقة، ولا يجوز العدول عنها إلا بدليل، وأيضا فإنه قد ابتلي فليصبر، ولا يدفع الظلم عن نفسه بظلم غيره.
الرأي الثالث: يرى أبو يوسف أنه لا قصاص على واحد منهما؛ لأن القصاص يندرئ بالشبهات، وقد تحققت الشبهة في حق كل واحد منهما، أما الفاعل فهو محمول على القتل، وأما الدافع فلأنه لم يباشر القتل ولكنه كان سببا في قتله، وجاء القاتل تسبيبا، في مذهب الحنيفة الدية، فتجب عليه.
الرأي الرابع: يرى المالكية والشافعية والحنابلة: أنه يجب القصاص عليهما على الدافع والفاعل؛ وذلك لأن القتل اسم لفعل يفضي إلى زهوق الحياة عادة، وقد وجد في كل واحد منهما، إلا أنه حصل من الفاعل بطريق المباشرة وحصل من الدافع بطريق التسبيب1.
1 ويقصد بالمباشرة: كل فعل يؤدي إلى الهلاك بلا واسطة، كما لو قتله بيده، ويقصد بالتسبيب: كل فعل يؤدي إلى الهلاك بواسطة، كما لو حفر له حفرة فوقع فيها فأن الحفر سبب في السقوط، والسقوط هو العلة في القتل.
الترجيح:
والذي أراه راجحا هو رأي أبي حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن، وجه الترجيح أنه إذا نظرنا إلى هذه الآراء وجدنا أن الرأيين الأول والثالث يعتدان بأثر الإكراه على إرادة المباشر، فيسقطان القصاص عنه، غير أن الثالث يسقطها أيضا عن الدافع؛ لأنه قتل تسبيبا وليس قتلا مباشرة، وهذا مبني على اشتراط الحنفية أن الجناية العمد الموجبة للقصاص لا بد وأن تكون بفعل مباشر، أما الرأي الأول فإنه يوجب القصاص على المكره -بكسر الراء- وأرى رجحان هذا الرأي، للحديث الذي استدلوا به، ولأن القصد الجنائي الكامل غير موجود من المباشر؛ لأنه أصبح بالإكراه كالآلة في يد الجاني الحقيقي -وهو من أكرهه على ارتكابها- إذ الإنسان إذا انعدم رضاه وفسد اختياره بالإكراه أصبح طوع من أكرهه، فينسب الفعل في الحقيقة إلى المكره لا المباشر، وفي الصورة إلى المباشر، إلا أن مثله كمثل السكين المستعملة في القتل، وحسبنا للدلالة على أن قصده الجنائي غير متوافر أننا لو رفعنا عنه هذا المؤثر الخارجي القاهر له -وهو الإكراه- لما ارتكب هذه الجريمة، بل ولما فكر فيها ولا أرادها.. لذلك كان أهم أركان الجناية -وهو قصد إيقاع الفعل عدوانا- غير موجود، وإذا انعدم هذا القصد سقط عنه القصاص.
وينتج عن هذا التحليل أن القصاص يجب على المكره -بكسر الراء- لأن قصده القتل عمدا عدوانا موجود ومتوافر، والفعل القاتل موجود، وهو فعل من أكرهه وسلب إرادته حتى أصبح طوع أمره كالآلة في يده، وأما القول بأنه يقتص منهما فإن فيه تشددا واضحا في جانب المباشر، وإزهاقا لروح إنسان في جريمة لم يردها، ولئن قيل: إنه إنسان قد ابتلي وعليه أن يصبر حتى لو أدى صبره إلى قتله.. فإن للقهر سلطانا يهز الإرادة وينهى مراحل الصبر، ويعدم الرضا ويفسد الاختيار، فإن لم يكن
ذلك واضحا في إسقاط أهم أركان الجريمة، فلا أقل من أنه يورث شبهة، والشبهة تسقط القصاص، وكذلك فإن في القول بعدم إيجاب القصاص عليهما تخفيفا في جانب المكره -بكسر الراء- قد يؤدي إلى أن يحترف المجرمون هذه الطريقة للإفلات من القصاص، فيتفشى القتل بين الناس، وهذا ما يجب علاجه إحياء للنفوس، وكذلك فإن القول بإيجاب القصاص على المباشر لا الدافع فيه تشديد على من سلبت إرادته -وقد أوضحنا آنفا وجهه- وفيه تخفيف عن المجرم الحقيقي، وهذا المنهج تأباه العدالة.
رضا المجني عليه بالجناية:
آثار الفقهاء صورة من صور الجنايات يرتكب فيها لجاني جنايته بأمر المجني عليه، أو برضاه، كما لو كان المجني عليه يعاني من مرض خطير، أو أزمة من الأزمات دفعته إلى أن يفضل الموت على الحياة، فيطلب من إنسان أن يقتله، فإذا قتله، فهل يعتبر رضاه بالقتل ظرفا من الظروف المخففة يسقط القصاص عن الجاني، أم أن الجاني يظل مسئولا عن القتل حتى لو رضي المجني عليه بهذه الجناية؟ للفقهاء رأيان:
الرأي الأول:
قال الحنفية "غير زفر والشافعية": لا قصاص على الجاني في هذه الحالة؛ لأنه لما أذن له في قتله تمكنت في عصمة دمه شبهة الإباحة، والشبهة في باب القصاص لها حكم الحقيقة.
وإذا قيل بسقوط القصاص فهل تجب الدية على القاتل عندهم؟ الأظهر عند الشافعية أنه لا تجب، وهو رواية عن أبي حنيفة، وقول أبي يوسف ومحمد؛ لوجود الإذن بقتله؛ أي: أن دمه بناء على ذلك يكون هدرًا، ويرى
أبوحنيفة -في رواية صححها فقهاء المذهب- أنه تجب الدية في القتل لا القطع "وفي رأي عند الشافعية تجب الدية فيهما"؛ وذلك لأن القصاص قد سقط لوجود الشبهة والشبهة تمنعه؛ ولكنها لا تمنع وجوب المال، فتجب الدية.
الرأي الثاني: يرى المالكية وزفر والزيدية والظاهرية: وجوب القصاص على الجاني، ولا عبرة برضا المجني عليه؛ لأن الحق بعد الموت انتقل إلى ورثة المجني عليه، ولأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فقد روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"عل المرء السمع والطاعة فيما أحب أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة"، وعن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنما الطاعة في المعروف"، فإذا أمره بقتله أو قطع عضو منه لا يحل له أن يفعل، وإن فعل اقتص منه في النفس عندهم جميعا، وإن كانت الجناية على ما دون النفس اقتص منه عند الزيدية والظاهرية.
وإيجاب القصاص في الجميع هو الذي نراه راجحا؛ لأن أمره لا يحل ما حرم الله للحديث: "المؤمن حرام دمه وماله وعرضه"، وإذا كان الله تعالى قد شدد عقوبة قاتل نفسه، وهو حين يقتل إنما يقتل نفسه، فكيف نعتد بأمره للغير بالاعتداء عليه، وهو لا يملك من نفسه شيئا؛ ولذلك عوقب بحنايته عليها.
رأي القانون المصري في هذه الظروف المخففة:
اعتبر القانون أن الصبي والمجنون والسكر قهرًا أو جهلًا من الظروف المخففة للعقوبة، فقد نصت المادة 62 من قانون العقوبات المصري على أنه "لا عقاب على من يكون فاقد الشعور أو الاختيار في عمله وفي ارتكاب الفعل
إما لجنون أو عاهة في العقل، وإما لغيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة، أيا كان نوعها إذا أخذها قهرا عنه، أو على غير علم منه بها".
فبينت المادة أنه لا عقاب على المجنون ولا على صاحب عاهة عقلية، وأما السكران فتفرق فيه بين حالتين: حالة تناول الجاني عقاقير مخدرة قهرا عنه، أو على غير علم منه بحقيقة أمرها، وحينئذ فلا عقاب ولا مسئولية جنائية بنص المادة إذا ارتكب الجناية وقت سكره، والحالة الثانية: حالة من يتناول مادة مخدرة أو مسكرة مختارا، وعالما بحقيقة أمرها، فإنه يفهم من المادة أنه يكون مسئولا عن الجرائم التي تقع منه وهو تحت تأثيرها. فالقانون في هذه الحالة يجري عليه حكم المدرك التام الإدراك ما ينبني عليه توفر القصد الجنائي لديه، وهذا ما استقر عليه قضاء محكمة النقض في تفسيرها لهذه المادة.
ورأي القانون في رفع العقوبة البدنية عن المجنون موافق لرأي جميع الفقهاء غير أن جمهورالفقهاء جعلوا جنايته خطأ تجب فيها لدية على العاقلة خلافا للظاهرية، ولا شك أن رأي جمهور الفقهاء فيه مراعاة للطرفين الجاني وأسرة المجني عليه، للأسباب التي أوضحناها آنفا، وكذلك رأي القانون بالنسبة للسكران موافق لرأي جمهور الفقهاء؛ إذ فرقوا في الحكم بين الحالتين -كما سبق أن أوضحنا- غير أن القانون يجعل المسئولية المدنية عن الأضرار الناشئة عن عمل المجنون الإجرامي قائمة في مواجهة الشخص المسئول عن المتهم، أي المكلف برعايته، فإن لم يوجد المسئول عنه أو تعذر الحصول منه على التعويض ألزم المجنون بتعويض عادل.
وأما الصبي، فقد فرق قانون العقوبات بين أربع مراحل من حياته، وجعل لكل مرحلة حكما.
المرحلة الأولى: وهي التي تقل سنه فيها عن سبع سنوات، وفيها لا يكون مسئولا جنائيا، ولا تقام الدعوى الجنائية عليه"المادة 64".
المرحلة الثانية: التي يزيد عمره فيها عن سبع سنوات ويقل عن اثنتي عشرة سنة، وفيها إذا ارتكب جناية أو جنحة يأمر القاضي باتخاذ وسيلة من وسائل الملاحظة والتربية، كدفعه لوالده أو ولي أمره على أن يكون مسئولا عن حسن سيره في المستقبل، أو إرساله إلى مدرسة إصلاحية "المادة 65".
المرحلة الثالثة: التي يزيد سنه فيها عن اثنتي عشرة سنة ويقل عن خمس عشرة سنة، وفيها إذا راتكب جناية عقوبتها السجن أو الأشغال الشاقة المؤقتة تبدل هذه العقوبة بعقوبة الحبس مدة لا تزيد على ثلث الحد الأقصى المقرر لتلك الجريمة قانونا، وإذا ارتكب جناية عقوبتها الإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة تبدل هذه العقوبة بعقوبة الحبس مدة لا تزيد على عشر سنين "مادة 16" كما قضت المادة "67" بأنه يجوز للقاضي بدل الحكم عليه بالعقوبة التي نصت عليها المادة السابقة "66" أن يأمر القاضي باتخاذ وسيلة من وسائل الملاحظة والتربية كما أوضحته المادة "65".
المرحلة الرابعة: وهي التي يزيد عمر الجاني فيها على خمس عشرة سنة، ولم يبلغ سبع عشرة سنة كاملة، فإنه في هذه الحالة لا يحكم القاضي عليه بالإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة، وإنما يجب عليه أن يبين أولا العقوبة الواجب تطبيقها بقطع النظر عن هذا النص مع ملاحظة موجبات الرأفة إن وجدت، فإن كانت تلك العقوبة هي الإعدام، أو الأشغال الشاقة المؤبدة يحكم بالسجن مدة لا تنقص عن عشر سنين، وإن كانت الأشغال الشاقة المؤقتة يحكم بالسجن "المادة 72".
وبهذا يتبين لنا أن القانون جعل الصبي من الأعذار المخففة للعقوبة، بل إنه رفع المسئولية الجنائية عن الصبي حتى السابعة، إلا أن هذا لا يمنع
من أن تقام الدعوى المدنية بطلب التعويضات عن الأضرار الناشئة عن عمله في مواجهة الشخص المسئول عنه، فإن لم يوجد أو تعذر ذلك أمكن إلزام الصغير ذاته بتعويض عادل "م164 /2مدني".
وفي المبدأ العام يلتقي القانون مع رأي جمهور الفقهاء الذين يعتبرون جنايته كالخطأ، غير أن الفقهاء يوجبون الدية على عاقلة الصبي القاتل للأسباب والاعتبارات التي ذكرناها آنفا.
أما وجوه الملاحظة والتربية، فإن الفقه الإسلامي لا يأباها، بل إن وجوب الدية على العاقلة فيه نوع من إلزام العاقلة هذه الرعاية، وأما الحبس في المرحلة الثالثة، فهو نوع من التعزير، لا يرفضه الفقه الإسلامي إذا حقق مصلحة، وأما تخفيف عقوبة الإعدام أو الأشغال الشاقة بنوعيها على المتهم الذي زاد عمره على خمس عشرة سنة، ولم يبلغ سبع عشرة سنة "م72" أو ثمان عشرة سنة حسب التعديل الأخير الذي يبحث الآن الرجوع عنه، فإن الفقه الإسلامي يجعل الحد المسقط للقصاص هو ما دون البلوغ، وسن البلوغ يمكن لكل دولة تحديدها حسب ظروفها الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية؛ لأن سن البلوغ في المناطق الباردة غيره في المناطق الحارة، في البدو غيره في الحضر، وفي الدول المنتعشة اقتصاديا وثقافيا غيره في الدول المتخلفة، وأنسب سن للبلوغ عندنا هو الخامسة عشرة، وهو رأي جمهور الفقهاء.
وأما بالنسبة للإكراه، فقد نصت المادة "61 -ع-م" على أنه "لا عقاب على من ارتكب جريمة ألجأته إلى ارتكابها ضرورة وقاية نفسه أو غيره، من خطر جسيم على النفس على وشك الوقوع به، أو بغيره، ولم يكن لإرادته دخل في حلوله، ولا في قدرته منعه بطريقة أخرى"، وقد بين شراح القانون أن الإكراه المعنوي يدخل في حالة الضرورة
المنصوص عليها، كما بينوا أن الإكراه المعنوي يشمل عند المكره حالة الإرادة، ويذهب بقيمتها من حيث القدرة على الاختيار؛ حيث يجعله لا يختار في هذا الموقف إلا اتجاها واحدا دائما هو الإفلات من الخطر المحدق عن طريق ارتكاب الجناية؛ ولذلك كان سببا مانعا من المساءلة الجنائية للمباشر، وقد ضربوا لذلك أمثلة لم يكن من بينها حالة القتل الواقع تحت إكراه، إلا أننا نرى أنه ما دام تأثير الإكراه قد وصل إلى هذه المرحلة من التأثير على الإرادة فيجب أن يكون ظرفا مخففا للعقوبة عن المكره؛ لأنه كان كالآلة في يد المكره -كما قال أبو حنيفة ومحمد- وأن توقع عقوبة القتل العمد على المكره.
كما بين شراح القانون أن رضا المجني عليه لا يمحو الجريمة، ولا يرفع العقاب؛ لأن العقاب في المسائل الجنائية من حق المجتمع لا من حق الفرد، فمن يقتل آخر أو يجرحه يعاقب على قتله، وهذا هو حكم القانون المصري، إلا أن بعض الشرائع كالقانون الألماني تخفف العقاب في هذه الحالة.
وبهذا تبين لنا أن آراءهم لا تخرج عما قرره الفقه الإسلامي كما بينا آنفا.
الفرع الثالث: عقوبة عامة لمن سقط عنه القصاص:
تبين لنا مما تقدم أنه قد يسقط القصاص بسبب عفو المجني عليه، أو الصلح، أو كون المقتول جزء القاتل، وغير ذلك من الأسباب، فإذا سقط القصاص فهل لولي الأمر أن يوقع على الجاني عقوبة أخرى تكون حقا لله تعالى لا يجوز فيها صلح أو إبراء
…
للفقهاء ثلاثة آراء:
الرأي الأول: يرى جمهور الفقهاء "الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية، وإسحاق بن راهويه، وسائر أصحاب الحديث" أنه ليست عليه عقوبة أخرى، وقد احتجوا بأن آية القصاص:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} جعلت الموجب هو القصاص أو الدية -على الخلاف المتقدم- ولم توجب عقوبة أخرى، وقد روي عن ابن عباس أنه قال:"لا جلد ولا نفي على القاتل المعفو عنه"، وكذلك فإن حديث وائل بن حجر فيه أنه قد عفا عن القاتل وتركه، ولم ينقل أن الرسول صلى الله عليه وسلم جلده أو نفاه.
الرأي الثاني: يرى الشافعية وجوب تعزيره؛ لأنه لما سقط القصاص أصبح القتل العمد خاليا عن الزجر والردع، فأوجبوا فيه التعزير، ومقداره متروك للإمام.
الرأي الثالث: يرى المالكية "وهو قول الأوزاعي والليث" جلده مائة سوط، وحبسه سنة من غير تغريب، وقد استدلوا بقوله تعالى:{وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} فقد جمع الله تعالى بين القتل والزنا، وجعل الإثم ومضاعفة العذاب على كل منهما، والزنا عقوبته القتل رجما على المحصن، والجلد مائة والنفي سنة على غير المحصن1، فالواجب على من قتل عمدا القصاص، فإن سقط عنه
1 قال جمع من الفقهاء "منهم الشافعية والحنابلة
…
": يجلد الزاني غير المحصن مائة ويغرب عاما؛ لقوله عليه السلام: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام". وقال الإمام مالك والأوزاعي: يغرب الرجل دون المرأة خوفا من الفتنة، ولم يقل الحنفية بالتغريب؛ لأن الله تعالى قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ
…
} ولم يأمر بالتغريب.
القصاص بعفو أو صلح كان عليه جلد مائة ونفي سنة، مثل عقوبة الزنا. وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل عبده متعمدا، فجلده مائة ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين، ولم يقده به.
وأرى أن القياس في العقوبات غير مسلم على إطلاقه، وهذا يضعف رأي المالكية، وأن القول بعدم توقيع عقوبة على من سقط عنه القصاص مطلقا لا يتمشى مع حقيقة كون الاعتداء قد وقع على حق من حقوق الله؛ وهو صيانة الأنفس من الإهدار، والزجر والردع عن ارتكاب مثل هذه الأفعال، وهذا يضعف الرأي الأول، ويقوى عندي الأخذ برأي الشافعية؛ وهو وجوب توقيع عقوبة تعزيرية عليه، وهذه العقوبة أرى أن تضعها السلطة الشورية على الوجه الذي يدرأ الجريمة والمجرمين عن المجتمع، كما أرى ألا تصل إلى القتل.
المقصد السابع: الظروف المشددة للعقوبة في الفقه الإسلامي:
أوضحنا فيما تقدم عقوبة القصاص، وبينا بأي شيء تجب، وبأي شيء تسقط، وقد تبين لنا أن لولي الدم الحق في العفو أو الصلح أو الإبراء، وتلك هي مميزات حقوق العباد؛ ولكننا نبحث هنا الظروف التي تنقل عقوبة الاعتداء عمدا من دائرة حقوق العباد إلى دائرة حقوق الله تعالى؛ أي: أن يكون موجب الجناية الحد لا القصاص، والحدود لا يجرى فيها عفو ولا صلح ولا إبراء، ويكون أمر استيفائها للإمام، ولا يجوز له العفو عنها، وهذا يستدعي أن نبحث هنا -بإيجاز كبير- آية المحاربة، مبينين آراء الفقهاء في تفسيرها، وفي أركان جريمة المحاربة، وبعض الجرائم التي أدرجت فيها ثم عقوبتها، وما يسقط هذه العقوبة، وذلك لنوضح أن بعض الجرائم التي صاحبتها ظروف معينة تكون عقوبتها الحد لا القصاص، ونقارن ذلك بجرائم القتل التي جعل القانون عقوبتها الإعدام.
الفرع الأول: آية المحاربة وآراء الفقهاء في فهمها:
1 سورة المائدة الآيتان رقم "33، 34".
اختلف في سبب نزول هذه الآية1، غير أنه لا خلاف بين أهل العلم أن الآية بينت حكم المحاربين ومن يسعون في الأرض فسادا من أهل دار الإسلام، إلا أنه لما كانت محاربة الله تعالى لا يمكن أن تكون حقيقة؛ لأن
1 فقد قيل: نزلت في المرتدين، وقيل: في أهل الكتاب الناقضين للعهد، وقيل: في المشركين، وقيل: في أهل دار الإسلام المحاربين.
أ- روي عن ابن عمر والهادي أنها نزلت في العرنيين، وهم قوم من عرينة، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة -أي مرضوا من جوها- فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة، فتشربوا من ألبانها وأبوالها"، ففعلوا، فصحوا، ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم وارتدوا عن الإسلام، وساقوا ذود "إبل" رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك سنة ست من الهجرة.
وقد حكى أهل التاريخ والسير أنهم قطعوا أيدي الراعي ورجليه، وغرزوا الشوك في عينيه حتى مات، وأدخل المدينة ميتا، وكان اسمه "يسار" وكان نوبيا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم من أول النهار فأرسل في إثرهم، فما ارتفع النهار حتى جيء بهم، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفعل بهم مثل ما فعلوا بالراعي.
ب- وروي عن ابن عباس والضحاك: أنها نزلت بسبب قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين الرسول عليه الصلاة والسلام عهد، فنقضوا العهد، وقطعوا السبيل، وأفسدوا في الأرض.
ج- وفي مصنف أبي داود عن ابن عباس قال: نزلت في المشركين، فمن أخذ منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه، وهو قول عكرمة والحسن.
د- وقال مالك والشافعي وأبو ثور والحنفية والظاهرية والمؤيد بالله =
الله تعالى يستحيل محاربته؛ إذ الله تعالى لا يحارب ولا يغالب لما هو عليه من صفات الكمال، ولما وجب له من التنزيه عن الأضداد والأنداد؛ لذلك كان في قوله جل شأنه:{يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} استعارة ومجاز، يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يراد بالمحاربين الذين يخرجون ممتنعين مجاهرين بإظهار السلاح وقطع الطريق؛ وذلك لأنهم بمنزلة من حاربوا غيرهم من الناس، فسميت هذه الطائفة بالمحاربين لخروجها ممتنعة بأنفسها لمخالفة أمر الله تعالى وانتهاك الحريم وإظهار السلاح.
ثانيهما: أن يراد بالذين يحاربون الله الذين يحاربون عباد الله، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} والمعنى: يؤذون أولياء الله، أو عبيد الله، فعبر بنفسه العزيزة عن عباده إكبارًا واستعظامًا لأذيتهم، كما عبر بنفسه عن الفقراء في قوله:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} حثا على العطف، ويصح إطلاق المحاربة لله وللرسول على من عظمت جريرته، فقد روي أن عمر بن
= وحكي في البحر عن ابن عباس: أنها نزلت فيمن يخرج من المسلمين يقطع الطريق ويسعى في الأرض بالفساد.
وهذا الرأي هو الراجح؛ لأن القول بأنها نزلت في المشركين يرده قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} ، وقوله صلى الله عليه سلم:"الإسلام يَجُب ما قبله"، وقال أبو ثور: إن في الآية دليلا على أنها نزلت في غير أهل الشرك، وهو قوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وقد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فاسلموا أن دماءهم تحرم.
وأيضا القول بأنها نزلت في المرتدين قد استبعده الفقهاء؛ نظرا لأن عقوبة المرتد قد تقررت بقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه"، فعقوبة المرتد القتل، فلا يصلب ولا تقطع يده ورجله من خلاف، ولا ينفى من الأرض، كما أن توبته قبل القدرة عليه أو بعد القدرة عليه تسقط عنه عقوبة القتل.
الخطاب رأى معاذا يبكي، فقال: ما يبكيك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اليسير من الرياء شرك، من عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة"، فمن حارب مسلما ليأخذ ماله أو يعتدي على عرضه أو نفسه فهو معادٍ لعباد الله تعالى، محارب لله تعالى بهذا الفعل. وروى زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين:"أنا حرب لمن حاربتم، سلم لمن سالمتم"، فاستحق من حاربهم اسم المحارب لرسول الله، مسلما كان أم غير مسلم.
وبهذا يتضح لنا أن المحاربة لله ورسوله، يمكن أن تطلق على المجاهرين بإظهار السلاح للإرهاب أو قطع الطرق؛ كما يمكن أن تطلق على من عظمت جريرته، وإن كان مسلما، ولا مانع من إرادة المعينين؛ لأن الأصل هو الأخذ بعموم ما يدل عليه النص ما لم يرد ما يخصصه، فإذا خصت بعض الجرائم بأحكام معينة كانت خارجة من حكم هذه الآية، كما في جناية السرقة، والزنا، والقتل العمد، ويبقى ما عداها داخلا تحت حكمها.
الفرع الثاني: أركان جريمة المحاربة:
لقد أثار الفقهاء عدة أمور، اتفقوا على اعتبار بعضها ركنا في جريمة المحاربة، واختلفوا في بعضها الآخر، ونتناول بالإيضاح من هذه الأمور: قصد المحاربة، تحقق الإرهاب، مكان ارتكاب جريمة المحاربة، الباعث عليها، المجاهرة بها، وكون المحارب فردا أو جماعة، ثم نحدد من هو المحارب، متوخين في ذلك الإيجاب وعدم الدخول في التحليلات الفقيهة قصدا إلى ترك هذا إلى محله من مباحث الجنايات:
أ- قصد ارتكاب جريمة المحاربة:
نص الفقهاء على أنه لا بد من أن يقصد المحارب المحاربة والإفساد في الأرض، فقد اشترط الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والزيدية والإمامية أن يكون المرتكب لهذه الجريمة مكلفا -بالغا عاقلا- إذ التكليف أمارة القصد الصحيح الذي هو ركن أساسي في إيجاب العقوبة، فإذا لم يتوافر القصد الصحيح، كما لو كان الجاني صبيا أو مجنونا، لم تكن الجريمة جريمة محاربة، وإنما يكون حكمها حكم الجريمة خطأ، التي لم يقترن بها ظرف مشدد، وقد تقدم بيانه.
ب- تحقق الإرهاب:
كما اشترط الفقهاء في المحارب أن يكون ممتنعا ومتحصنا بما يحدث الإرهاب والفزع في نفوس من يريد الإيقاع بهم والانقضاض عليهم، سواء كان معه آلة قاتلة قطعا؛ كالسلاح ونحوه، أو كان معه آلة قاتلة غالبا؛ كحجر أو خشب أو ما شبههما1، أو كان هذا الأثر يحدث بقوته الشخصية؛ كما لو كان قوي الجسم بدرجة تمكنه من التغلب على أكثر من واحد، ولو باللكز والضرب بجميع الكف2 وما ماثل ذلك؛ وذلك لأن المشترط في هذا الباب هو إحداث الرعب في نفس الغير، بالمتعة والقدرة على التغلب
1 نسب ابن تيمية في كتابه "السياسة الشرعية" لأبي حنيفة أنه يشترط أن تتم بسلاح ونحوه، إلا أن كتب المذهب لم تصرح بمثل ذلك، بل اعتبرت جميع الآلات متساوية في إحداث هذا الأثر سلاحا كان أم غيره.
2 مغني المحتاج ج4، ص180، والتاج المذهب ج4، ص252، والمحلى لابن حزم ج11، ص307.
فكل ما يحقق هذا الغرض يؤدي إلى اعتبار الجريمة جريمة محاربة يستحق صاحبها الحد لا القصاص، أما إذا لم يكن لديه شيء من ذلك كله فإنه لا يكون محاربا بالاتفاق.
ولا يختلف في جريمة المحاربة أن يكون المحدث للإرهاب مباشرًا أم متسببا، ولقد سبق أن بينا أن جمهور الفقهاء يرون أن القتل عمدا -دون محاربة- يوجب القصاص على القاتل، سواء كان القتل بالمباشرة أو التسبيب، ولم يخالف في هذا سوى الحنفية؛ حيث فرقوا بين جريمة القتل عمدا التي تتم بالمباشرة، فيجعلونها موجبة للقصاص، وبين التي تتم بالتسبيب فيجعلونها موجبة للدية؛ ولكنهم في جريمة المحاربة لا يفرقون بين المباشر والمتسبب، كما لا يفرقون بين آلة وآلة، فسواء تمت الجناية بمباشرة الكل، أو بالتسبيب من البعض بالإعانة والأخذ، فالكل محاربون؛ لأن الجريمة تتم بالكل كما في السرقة، ولأن من عادة قطاع الطرق أن يقوم البعض بالمباشرة والبعض بالإعانة والتربص والدفع عنهم، فلو لم يلحق التسبيب بالمباشرة في سبب وجوب الحد لأدى هذا إلى انفتاح باب قطع الطريق واسنداد حكمه، وهذا قبيح؛ ولهذا ألحقوا التسبيب بالمباشرة.
وقد خالف في هذا الشافعية والإمامية؛ حيث فرقوا بين المحارب المباشر، وبين ما يعاونه بمراقبة الطريق، أو الإتيان له بما يحتاج إليه من غير أن يباشر واحد منهما المحاربة، فإنهما لا يعتبران محاربين، ويعزران، فإن باشارا كانا محاربين.
والذي نرى رجحانه هو ما قاله جمهور الفقهاء، فإن الكل متواطئ متكاتف متعاون في ارتكاب الجريمة؛ لأن هؤلاء الأعوان قد مهدوا للجاني طريق الجناية وأمنوه خلال ارتكابها، فهم شركاء.
ج- المكان الذي تتحقق فيه المحاربة:
يجب أن نفرق أولا بين جريمة تقع في دار الإسلام، وأخرى تقع في دار الحرب، أما الثانية فلا يجب فيها الحد عند بعض الفقهاء؛ لانعدام الولاية على المكان الذي ارتكبت فيه الجناية؛ لأن الذي يقيم الحد هو الإمام أو نائبه، وولايته لا تتجاوز حدود ما ولي عليه، والذي ولي عليه هو دار السلام، أما دار الحرب فلا ولاية له عليها؛ لأن سبب وجوب الحد هو ارتكاب جناية على أرض للإمام ولاية عليها، فإذا انعدمت هذه الولاية لم ينعقد سبب وجوب الحد، وإذا لم ينعقد سبب وجوبه لا يستوفي الحد في دار الإسلام لجناية ارتكبت خارجه1.
أما إذا ارتكبت جريمة المحاربة في دارالإسلام، فإنه يلزمنا أن نفرق بين ارتكابها خارج المصر، وبين ارتكابها داخل المصر، فإنه ارتكبها خارج المصر، فقد اتفق الفقهاء على اعتبار مرتكب هذه الجريمة محاربا، ويقصد بخارج المصر كون المكان نائيا لا يصل إليه الغوث بسرعة، ويكون بعيدا عن حفظة الأمن للتابعين للدولة، كما لو كان مسرح الجريمة الصحراء.
أما إن ارتكبها داخل المصر فللفقهاء رأيان في تكييف هذه الجريمة:
أحدهما: يرى أبو حنيفة ومحمد، والخرقي من الحنابلة، والثوري، وإسحاق، والزيدية: أن من يقصد قطع الطريق في المصر لا يكون محاربا؛ ذلك لأن من في المصر إذا تعرض له أحد يمكنه الاستغاثة، ويلحق به
1 قد أخذت بهذا المبدأ التشريعات الحديثة في العالم؛ لأن التشريع الجنائي من التشريعات المتعلقة بسيادة الدولة على إقليمها، وقد نص على هذا المبدأ في المادة الأولى من قانون العقوبات المصري، وهي "تسري أحكام القانون في كل من يرتكب في القطر المصري جريمة من الجرائم المنصوص عليها فيه".
الغوث غالبا، فتذهب شوكة المعتدين، ويكونون بهذا العمل مختلسين أو منتهبين، والمختلس والمنتهب ليس بقاطع طريق، فلا يجب عليه حد المحاربين.
والثاني: يرى جمهور الفقهاء "أبو يوسف، والمالكية، والشافعية، والكثير من الحنابلة والإمامية والظاهرية، والليث وأبو ثور والأوزاعي والناصر والإمام يحيى" أنه يكون محاربا، فكل من ارتكب هذه الجريمة في المصر أو في غيره، في المنازل أو في الطريق؛ فهو محارب توقع عليه عقوبة المحاربين، وقد استدلوا على ذلك بأن آية المحاربة عامة، فعمومها يتناول كل محارب، سواء كان المحارب قد باشر جريمته في المصر أو في غيره، ولأن هذه الجريمة إذا تمت في المصر كانت أعظم خطرا وأشد ضررا فكانت بذلك أولى.
ونرى رجحان هذا الرأي؛ لأن من يعتدي داخل المصر لا بد وأن يكون له من المنعة، سواء كانت بالسلاح أو الأعوان أو القوة الذاتية، مايفوق من يعتدي خارج المصر، وأن يكون له من السطوة والتأثير والتدبير ما يفوق من يبغي ذلك خارج المصر، ولأن أقدامهم على هذه الجريمة في البنيان الذي هو محل الأمن والطمأنينة، ومحل تناصر الناس وتعاونهم، يدل على شدة محاربتهم ومغالبتهم.
ويؤيد هذا أنه قد روي أن أبا حنيفة أجاب عن رأيه الذي يقضي بأن المحاربة تكون خارج المصر: بأن أهل زمانه كانوا يحملون السلاح في الأمصار، فلم تكن المحاربة ميسورة ولا ممكنة في الأمصار؛ لأن الناس جميعا جنود للمستغيث والمظلوم؛ ولكن لما ترك الناس حمل السلاح أمكن أن تقع المحاربة في داخل المصر، ومن هذا يتبين لنا أن الاختلاف إنما هو اختلاف عصر وأوان لا اختلاف حجة وبرهان.
د- الباعث على ارتكاب جريمة المحاربة:
لا يقصر الفقهاء الباعث على جناية المحاربة على غرض دون غرض من الأغراض التي تدفع الإنسان إلى اقتراف هذه الجريمة، فمن كانت بغيته أخذ المال بهذه الكيفية فهو محارب، وكذلك إذا كانت بغيته قتل نفس أو هتك عرض، أو إرهاب المواطنين وإزعاجهم1، والكل محاربون ومفسدون في الأرض يستحقون العقوبة المقررة في آية المحاربة.
هـ- المجاهرة بالمحاربة:
اختلف الفقهاء في اعتبار المجاهرة شرطا من شروط جريمة المحاربة، فقد صرح جمهور الفقهاء "الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والزيدية، والإمامية" بأنه لا بد من أن يكون المحارب مجاهرًا بمحاربته، ولعل مرد هذا الشرط هو كون المحاربة، وهي مفاعلة من الجانبين لا تتم إلا بالمجاهرة، غير أن المالكية وبعض الحنابلة لم يشترطوا هذا الشرط، فجعلوا الجرائم
1 جاء في مغني المحتاج ج4، ص180: قطع الطريق هو: البروز لأخذ مال أو لقتل أو إرعاب، مكابرة اعتمادا على الشوكة مع البعد عن الغوث، كما قال القرطبي "ج6، ص154" بشأن بيان حكم هتك العرض: إنه إذا أراد إخافة الطريق بإظهار السلاح قصدا للغلبة على الفروج، فهذا أفحش المحاربة وأقبح من أخذ الأموال، وقد دخل في معنى قوله تعالى:{وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} .
وقال الإمام مالك: المحارب عندنا من حمل على الناس في مصر أو برية وكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون ثائرة ولا ذحل ولا عداوة، القرطبي ج6، ص151، كما جاء في الموازية: "من خريج لقطع السبيل لغير مال فهو محارب كقوله: لا أدع هؤلاء يخرجون إلى الشام أو غيرها. الحطاب ج6، ص314، ويراجع المحلى لابن حزم ج11، ص308.
التي تنم بالخدعة والغش، والتي تتم سرا داخلة في المحاربة؛ وذلك لأن المحاربة فيها أشد؛ حيث يؤخذ الآمنون على غرة، وأبرز هذه الجرائم القتل غيلة، وسنذكر فيما بعد بعض الجرائم التي يدرجها بعض الفقهاء في جريمة المحاربة لخطورتها على المجتمع.
و المحارب قد يكون واحدا أو جماعة:
لم يشترط الفقهاء لتطبيق عقوبة المحاربة كون الجاني فردا أو جماعة، فما دام ترويع المواطنين وإزعاجهم قد وجد وقعت العقوبة على فاعلها، سواء كان الفاعل لذلك فردا أو جماعة.
الترجيح:
ومن هذا العرض لبعض ما أثاره الفقهاء من اشتراطات في هذه الجناية نرى رجحان أن المستحق لعقوبة المحاربة هو المكابر، المخيف للناس، المفسد في الأرض، سواء بسلاح أو بلا سلاح، ليلا أو نهارًا، في مصر أو في الصحراء، في المدن أو في القرى، في المنازل أو في غيرها، واحدا كان أو أكثر. فكل من حارب وأخاف السبيل بقتل نفس، أو أخذ مال، أو بجراحة، أو انتهاك فرج، فهو محارب عليه أو عليهم -كثروا أو قلوا- حكم المحاربين المنصوص عليه في الآية الكريمة؛ لأن الله تعالى لم يخص من هذه الوجوه شيئا {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} .
الفرع الثالث: جرائم أدرجها بعض الفقهاء في جريمة المحاربة:
حدد الفقهاء جريمة المحاربة على النهج الذي أوضحناه آنفا؛ لكننا نبرز هنا بعض الجرائم ذات الصبغة الخاصة التي قد تميزها عن جرائم المحاربة، والتي رأى بعض الفقهاء أن آية المحاربة تتناولها لشدة خطورتها على المجتمع وخالفه في هذا غيرهم، ومنها القتل غيلة، واقتران جريمة المحاربة بجريمة أخرى، وقتل الإمام، والعود في الجريمة.
القتل غيلة:
الغيلة -بكسر الغين- لغة: هي الاغتيال، يقال: قتله غيلة -بالكسر- وهو أن يخدعه فيذهب به إلى موضع فيقتله فيه.
واصطلاحا: هي أن يخدع الجاني المجني عليه بأي وسيلة من وسائل الخداع ليقتله أو يأخذ ماله أو يهتك عرضه.
ولقد ذكر الفقهاء عدة وسائل للخداع بعضها يعتمد على فعل مادي يجعل المجني عليه غير قادر على الاستعانة أو المقاومة، إما لأن الفعل قاتل بطبيعته ولا يمكن للمجني عليه أن يدركه أو يلحظه كما في السم، أو لأنه غير قاتل بطبيعته ولكنه يسهل ارتكاب الجناية، كما لو أسقاه شرابا مسكرًا ثم قتله، أو اعتمد الجاني على مهارته وثقة الغير فيه ثم اتخذ من هذا الستار منفذا لاستدراج الضحايا إلى حيث يريد من الأماكن المهيأة لجريمة القتل1. وللفقهاء فيما يوجبه القتل غيلة رأيان:
1 ونبرز فيما يلي بعض صور القتل غيلة: جاء في الخرشي ج5، ص347: ومن سقى شخصا ما يسكره لأجل أخذ ماله المحترم فهو محارب أو يشبه المحارب؛ لأنه ليس معه قطع الطريق، وكذلك من خدع صغيرًا أو كبيرا فأدخله موضعا فقتله وأخذ ماله فإنه يكون محاربا؛ لأنه أخذ منه المال على وجه يتعذر معه الغوث =
الرأي الأول: يرى جمهور الفقهاء "الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية والزيدية والإمامية" أن القتل غيلة وغيره سواء في إيجاب القصاص وصحة عفو الولي أو صلحه؛ وذلك لعموم قوله تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فأهله بين خيرتين"، لأنه قتيل في غير محاربة، فكان أمره إلى وليه كسائر القتلى.
الرأي الثاني: يرى المالكية وابن تيمية من الحنابلة أن القتل غيلة يوجب الحد لا القصاص، فلا يشترط فيه ما يشترط عندهم في القصاص، فيقتل المؤمن بالكافر، والحر بالعبد؛ لأن القاتل غيلة بمنزلة المحارب؛ لأنه خدعه وغشه ليرتكب جنايته على وجه لا يمكن معه الغوث، كما لو أسقاه سما، أو أسكره، أو استدرجه إلى مكان ملائم لتنفيذ جنايته، ففي كل هذه الحالات
= ويسمى هذا قتل غيلة، وكذلك من دخل دارًا في ليل أو نهار، أو دخل زقاقا في ليل أو نهار لأجل أخذ المال، فإن علم به فقاتل عليه حتى أخذه فهو محارب، قاله مالك.
وجاء في السياسة الشرعية لابن تيمية: "وأما إذا كان يقتل النفوس سرا لأخذ المال، مثل الذي يجلس في خان يكريه لأبناء السبيل، فإذا انفرد بقوم منهم قتلهم وأخذ أموالهم، أو يدعو إلى منزله من يستأجره لخياطة أو طب أو نحو ذلك فيقتله ويأخذ ماله، وهذا القتل يسمى غيلة، فإذا كان لأخذ المال فهل هم كالمحاربين، أو يجري عليهم حكم القود؟ فيه قولان للفقهاء: أنهم كالمحاربين؛ لأن القتل بالحيلة كالقتل مكابرة، كلاهما لا يمكن الاحتراز منه؛ بل قد يكون ضرر هذا أشد؛ لأنه لا يدري به، والثاني: أن المحارب هو المجاهر بالقتال، وأن هذا المغتال يكون أمره إلى ولي الدم، والأول أشبه بأصول الشريعة؛ بل قد يكون ضرر هذا أشد؛ لأنه لا يدري به".
وما شابهها لا يتمكن المجني عليه من الاستغاثة، فيكون الجاني محاربا أو كالمحارب..، أيضا احتجوا بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الذي قتل غيلة:"لو تمالأ عليه أهل صنعاء لأقدتهم به"، فقد نسب تنفيذ العقوبة إلى نفسه، لا إلى ولي الدم، وهذا يدل على أنه جعل عقوبتهم الحد لا القصاص.
وبهذا يتبين لنا أن المذهب المالكي ومن وافقه من الفقهاء يفرق في جريمة القتل العمد بين حالتين: حالة القتل التي تتم إثر ضغينة أو ثورة، فيجعل عقوبتها القصاص، وبين حالة القتل أو أخذ المال أو هتك العرض إذا ارتكبت هذه الجناية بحيث لا يمكن معها الغوث؛ بسبب منعة الجاني، أو بسب غش وخداع يجعل المجني عليه لا يتمكن من الغوث، ففي هذه الحالة تكون عقوبة الجريمة الحد لا القصاص، أي أن المذهب جعل هذا الظرف من الظروف المشددة للعقوبة.
ويتضح لنا من الصور التي ذكرها الفقهاء للقتل غيلة أنه قد توافر فيها قصد الجاني قتل النفس، أو هتك العرض، أو أخذ المال، وفي سبيل الوصول إلى جنايته بسهولة ويسر دبر كيفية التنفيذ؛ بحيث لا يتنبه إليه أحد، سواء كان المجني عليه أو غيره، فقدم إليه السم، أو المسكر، أو استدرجه إلى مكان ملائم لتنفيذ الجريمة، كل هذا يدل على أن الجاني مجرم عريق في إجرامه، وأنه قد فكر ودبر قبل الإقدام على جنايته، وأنه يرتكب جنايته وهو هادئ النفس، لم تثره ثائرة، ولم تدفعه إليها أحقاد أو ضغائن يمكن إدراك المجني عليه لها، بدليل أن المجني عليه تناول ما قدمه له من طعام أو شراب مسموم، أو مادة مسكرة، أو سار معه إلى حيث يريد من الأماكن وهو مطمئن إليه تمام الاطمئنان، ولو أن المجني عليه راوده شك في أن هذا الشخص كان يبغي به شرا لما طاوعه في كل ذلك.
فالجاني في هذه الصور يعتبر محاربا مفسدا في الأرض يستحق أن تطبق
عليه عقوبة المحاربين حتى يرتدع غيره ويزدجر، ويأمن الناس في غدوهم ورواحهم على أنفسهم وأموالهم1.
ب- العود في القتل:
ينظر الفقهاء إلى من يعود في جريمته نظرة أشد؛ إدراكا منهم إلى أن الجريمة أمر يتنافى والسلوك السوي للفرد؛ إذ هي بطبيعتها أمر غير مرغوب فيه، ينفر منه الفرد كما ينفر منه المجتمع، فإذا أقدم إنسان على جريمة كان ذلك دليلا على ما يعانيه من صراع نفسي وفكري وعقلي نتيجة عدم وصوله إلى ما كان يهدف إليه من أغراض مشروعة أو غير مشروعة، فتحول بسبب ذلك من دائرة السلوك السوي إلى دائرة السلوك الإجرامي، عساه يطفئ بالإجرام جذوة هذا الصراع المتقدة أو يخفف من اشتعالها، إلا أن إطفاؤها بالجريمة يلتهم ويهدد حقوق الآخرين ويقضي على حياتهم الآمنة المستقرة.
ومن ثم كان لزاما أن ينال الجاني العقاب الملائم لجريمته؛ حتى يتوب إلى رشده، ويعود إلى صوابه، ويعرف هو ومن شاكله أن له حقوقا محددة، وعليه واجبات محددة، لا يتعداها، وإلا اختل هذا الجهاز الكبير الذي نعيش في رحابه.. فإذا عاد في الإجرام مرة أخرى دل ذلك على أن الإجرام قد تأصل في نفسه، وأنه أصبح عادة وهواية، وبذلك يصبح عضوا فاسدا في المجتمع لا بد من ردعه؛ زجرا للآخرين وحماية للأمة.
1 ويراجع على ضوء هذا ما نصت عليه المادة "230" من قانون العقوبات من أن "كل من قتل نفسا عمدا مع سبق الإصرار على ذلك، أو الترصد يعاقب بالإعدام"، كما تراجع المادة "231" التي شرحت معنى الإصرار السابق، والمادة "132" التي وضحت المقصود بالترصد، ثم المادة "223" الخاصة بجعل عقوبة القتل بالسم الإعدام.
ولقد أدرك الفقهاء هذه الحقيقة فشددوا العقوبة في حالة العود إلى الجناية.. فإذا ارتكب شخص جناية قتل عمدا، وموجبها القصاص، ثم عفا عنه ولي الدم.. أو لم يكن ممن استوفوا شروط القصاص، فنجا من هذه العقوبة ثم عاد إلى القتل مرة أخرى.. فإن الفقهاء يرون في هذه الحالة أنه يكون للإمام الحق في نقل العقوبة من دائرة القصاص إلى دائرة الحد؛ أي: أنه يقتل حدا لا قصاصا؛ لأنه بالعود في الجريمة صار من الساعين في الأرض فسادا، وتلك عقوبة أمثالهم كما بينتها آية المحاربة.
فقد ذكر الحنفية في الحديث الذي ورد بشأن اليهودي الذي رض رأس الجارية بين حجرين أن النبي صلى الله عليه وسلم قتله حدا لا قصاصا؛ لأنه كان عادته قتل الصبيان، فهو من الساعين في الأرض بالفساد، وكذلك قال أبو حنيفة: إن من خنق رجلاحتى قتله كانت الدية على عاقلته، فإن خنق في المصر غير مرة قتل به؛ لأنه صار ساعيا في الأرض بالفساد، فيدفع شره بالقتل
…
وكذلك قال أبو حنيفة فيمن اعتاد اللواط -ورأيه أن عقوبته التعزير أول الأمر- يقتله الإمام محصنا كان أو غير محصن سياسة1.
وكذلك قال الإمامية: إذا اعتاد الحر قتل الأرقاء، كانوا ملكا له أم لا، أو اعتاد مسلم قتل غير المسلمين "والمذهب عندهم عدم قتل الحر بالعبد والمسلم بغير المسلم، على خلاف ما رجحنا" أنهما يقتلان، وقد اعتمدوا في هذا القول على ما ورد عن الصادق "ع" عند سؤاله عمن يتعود قتل غير المسلمين قال:"يقتل وهو صاغر، وأنه مفسد في الأرض بارتكاب قتل من حرم الله قتله"2.
1 سبل السلام ج3، ص310، والزيلعي ج6، ص106، وفتح القدير ج4، ص274.
2 الروضة البهية ج2، ص402.
العود في الجرائم:
كما جاء في الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص259 ومثلها للماوردي: أنه يجوز للأمير فيمن تكررت منه الجرائم ولم ينزجر عنها بالحدود أن يستديم حبسه إذا استضر الناس بجرائمه حتى يموت، بعد أن يقوم بقوته وكسوته من بيت المال؛ ليدفع ضرره عن الناس وإن لم يكن ذلك للقضاة.
ج- قتل الإمام:
لما كان للإمام صفتان: صفة شخصية باعتباره فردا من أفراد الدولة، وصفة اجتماعية باعتباره إمام المسلمين؛ فقد اختلف الفقهاء فيما يوجبه قتله عمدا؛ كقتلة علي وقتلة عثمان رضي الله عنهما فيرى الإمام أحمد في رواية عنه وبعض الفقهاء أن عقوبة قاتل الإمام القصاص، بناء على هذا يكون حق المطالبة باستيفاء القصاص لولي الدم
…
وفي رواية أخرى عن الإمام أحمد وهو قول بعض الفقهاء: أن قاتل الإمام يعتبر محاربًا؛ لأن في قتله فسادا، فتطبق عليه عقوبة المحاربين1، هذا ما نؤيده.
1 السياسة الشرعية لابن تيمية ص101، ولقد كان نص المادة 86 من قانون العقوبات ينص على أن وقوع القتل على الملك أوالملكة أو ولي العهد
…
معاقب عليه بالإعدام، وقد ألغيت هذا المادة بعد إسقاط الحكم الملكي، وترك عقاب هذه الجرائم إذا وقعت على رئيس الجمهورية للقواعد العامة في العقاب على الجرائم التي تقع على غيره من المواطنين.
د- اقتران جريمة المحاربة بجريمة أخرى:
اعتبر الفقه الإسلامي أن ترويع المواطنين، وإزعاجهم، وبث الرعب في نفوسهم بإظهار الشوكة والمنعة والقوة للنيل من أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، أو بخداع وغش كما قال المالكية -محاربة لله ولرسوله، فهو في حد ذاته جريمة، يستحق فاعلها العقاب، وهو النفي من الأرض، ولكن إذا اقترن بها جريمة أخرى؛ كقتل نفس بغير حق، أو أخذ مال محترم معصوم، أو هتك عرض.. ففي هذه الحالة تشدد العقوبة، وتشديدها يظهر في الاختلاف بين عقوبة القتل عمدا وعقوبة القتل حرابة، ففي الأولى القصاص، وفي الثانية القتل حدا، وبين عقوبة السارق وعقوبة المحارب الآخذ للمال، ففي الأول قطع اليد اليمنى وفي الثانية قطع اليد والرجل من خلاف، وبين عقوبة الزاني وعقوبة الزاني المحارب، ففي الأولى الرجم للمحصن والجلد لغير المحصن، وفي الثانية يقتل محصنا كان أو غير محصن، وسيأتي إيضاح آراء العلماء في عقوبة المحاربين1.
1 ولقد اعتبر قانون العقوبات المصري من الظروف المشددة لعقوبة القتل العمد اقتران جناية القتل بجناية أخرى المادة "234" سواء تقدمتها أو اقترنت بها أو تلتها جناية أخرى
…
، فجعل العقوبة حينئذ الإعدام ويستوي في هذا أن تكون الجناية المعاصرة للقتل جناية قتل مثلها أو شروعا فيه أو أن تكون من طبيعة أخرى كسرقة بإكراه "مادة 314" أو سرقة توافرت لها الظروف المشددة التي تجعلها معدودة من الجنايات "المواد: 313، 315، 316" أو من الشروع فيها، أو إسقاط امرأة حبلى بالضرب ونحوه "مادة 26" أو هتك عرض إنسان بالقوة أو بالتهديد "مادة 268".
الفرع الرابع: عقوبة جريمة المحاربة:
حددت آية المحاربة عقوبة جريمة المحاربة1 والإفساد في الأرض، ونوضح فيما يلي آراء الفقهاء في عقوبة المحارب، فمعنى النفي من الأرض، ثم أثر توبة المحارب على الجنايات التي ارتكبها، وعلى العقوبة:
أولا: آراء الفقهاء في عقوبة المحارب:
للفقهاء رأيان في العقوبة التي توقع على المحاربين والمفسدين في الأرض، وسبب الخلاف أن "أو" الواردة في الآية بين كل عقوبة والتي بعدها: هل هي للتخيير أم للترتيب؟
الرأي الأول: يرى بعض الفقهاء "الحنفية والشافعية والحنابلة، والزيدية، وعطاء الخراساني" أن عقوبة المحارب توقع عليه بقدر فعله؛ أي: أن العقوبات مرتبة حسب الجناية؛ إذ المحارب إما أن يروع الآمنين فقط، أو يأخذ مالا فقط، أو يقتل ويأخذ المال.
فإن روع الآمنين فقط نُفي من الأرض "وسيأتي بيان معنى نفيه".
وإن قتل فقط قتل حدا لا قصاصا، سواء كان المقتول مسلما أم ذميا.
وإن أخذ المال فقط قطعت يده ورجله من خلاف، يده اليمنى جزاء أخذ المال، ورجله اليسرى جزاء حرابته، سواء كان المال لمسلم أم ذمي، وقد اشترط للقطع أن يخص كل واحد منهم مقدار النصاب، وقيل: لا يشترط.
1 تقدم نص الآية.
وإن قتل وأخذ المال اختلف الفقهاء في عقوبته؛ فيرى الشافعية والحنابلة والزيدية قتله ثم صلبه، ويرى الحنفية أن الإمام مخير بين أن يقطع يده ورجله من خلاف، ثم يقتل ويصلب، وبين أن يقتل فقط، وبين أن يصلب، ويرى محمد -صاحب أبي حنيفة- أن الإمام مخير بين أن يقتل أو يصلب ولا يقطع، كما روي عن أبي يوسف والأوزاعي: أنه يصلب أولا ثم يقتل، ولا يقطع؛ لأن القتل يأتي على كل شيء، وحكي عن الشافعي قوله:"أكره أن يقتل مصلوبا لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة".
الرأي الثاني: يرى المالكية والإمامية والظاهرية، وروي عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، والحسن وعطاء بن أبي رباح، والضحاك والنخعي: أن الإمام مخير في الحكم على المحاربين بأي حكم من الأحكام التي أوجبها الله تعالى في آية المحاربة، وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا؛ وذلك لأن "أو" في الآية للتخيير، قال ابن عباس: ما كان في القرآن "أو" فصاحبه بالخيار، وقال النحاس:"إن هذا القول أشعر بظاهر الآية، فإن أهل القول الأول الذين قالوا: إن "أو" للترتيب -وإن اختلفوا- فإنك تجد أقوالهم أنهم يجمعون على المحارب حدين، فيقولون: يقتل ويصلب، ويقول بعضهم: يصلب ويقتل، ويقول بعضهم: تقطع يده ورجله وينفى
…
وليس كذلك الآية، ولا معنى "أو" في اللغة.
وأيضا فإن قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} يدل على أن الفساد في الأرض بمنزلة قتل النفس من حيث وجوب قتله، والمحاربون مفسدون في الأرض بخروجهم وامتناعهم وإخافتهم السبيل وإن لم يأخذوا مالا ولم يقتلوا.
وقد ذكر أصحاب الرأي الأول أن قتل المحارب الذي لم يقتل منفي بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس". وقد أجيب عن هذا بأنه قد روي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنا بعد إحصان، ورجل قتل رجلا فقتل به، ورجل خرج محاربا لله ولرسوله فيقتل، أو يصلب، أو ينفى من الأرض".
محل الخيار للإمام:
بين أصحاب هذا الرأي محل الخيار للإمام إذا لم يصدر من المحارب قتل، أما أن صدر منه قتل فإنه يقتل وجوبا، ولو كان الشخص المقتول كافرا، أو عبدا، أو كان للمحارب، عفا الولي أم لم يعفُ.
الخيار أساسه تحقيق المصلحة:
الخيار الذي أعطي للإمام في توقيع أي عقوبة من هذه العقوبات على المحارب ليس حقا مطلقا للإمام يرى فيه ما يرى؛ وإنما هذا الخيار مرده إلى تحقيق المصلحة العامة، فإذا كانت المصلحة تحتم توقيع إحدى العقوبات لم يكن للإمام مخالفتها، ولا توقيع غيرها، فهو خيار في أول الأمر؛ ولكنه إيجاب لإحدى العقوبات التي توجبها المصلحة في نهاية الأمر.
الترجيح:
ونرجح الأخذ بالرأي الثاني لرجحان أدلته، ولأنه يحقق المصلحة العامة؛ إذ إنه يمكن للدولة من تحديد العقوبة التي تلائم هذه الطائفة من
المفسدين طبقا للظروف المحيطة بهم في كل عصر وفي كل مكان، قتلا كانت أم صلبا، أم قطعا، أم حبسا، فقد تكون عقوبة ما تناسب مجرما في وقت معين أو مكان محدد، ولا تناسب مجرما آخر في وقت آخر أو مكان آخر؛ إذ إن الظروف الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والبيئية لها أثر بالغ في تكييف العقوبة وتحديدها؛ بحيث تحدث الأثر المقصود من شرعية العقوبة، وهو ردع المجرمين وزجر الآخرين عن ارتكاب مثل هذا العمل؛ لكي يسود الأمن، وتطمئن النفوس، كما أن عقوبة ما قد تناسب جرما ما في زمان معين أو مكان معين، ولا تناسب نفس الجرم في زمان آخر أو مكان آخر، فجعل ذلك في يد الإمام مقيدا بالمصلحة يفتح الباب لتكييف الجرم وعقوبته في كل زمان ومكان في حدود ما نصت عليه الآية الكريمة بما يحقق الحكمة من شرعية العقوبة.
ثانيا: معنى النفي من الأرض:
بينت آية المحاربة أن إحدى العقوبات التي توقع على المحاربين هي النفي من الأرض، ولقد اختلف الفقهاء في تفسيره، فيروى عن ابن عباس والحسن والزهري: أن النفي هو تشريدهم عن الأمصار والبلدان، فلا يتركون يأوون بلدا1، ويروى عن ابن عباس أيضا: أنه ينفى من بلده إلى بلد آخر كنفي الزاني، وقال مالك: ينفى من البلد الذي ارتكب في جنايته إلى بلد آخر، يحبس فيه كالزاني، وقال الحنفية2 وهو رواية عن إبراهيم
1 أما الإمامية فقد قالوا: ينفى عن بلده إلى غيرها، ويكتب لكل بلد يصل إليه بالمنع من مجالسته ومؤاكلته ومبايعته وغيرها من المعاملات إلى أن يتوب أو يموت، ويمنع من دخول دار الشرك.
2 ويقرب من هذا الشافعية حيث قالوا: للإمام أن يعزره بحبس أو غيره.
النخعي: النفي هو السجن في المكان الذي يراه الإمام؛ لأن النفي من جميع الأرض محال، وكذلك نفيه إلى دار الحرب يؤدي إلى ردته وصيرورته حربا على دار الإسلام، فيكون المراد بالنفي حبسه في البلد الذي يراه الإمام، وهو نفي أيضا؛ لأنه نفي من سَعَة الدنيا إلى ضيقها، نفي من الأرض إلا من موضع سجنه، ولقد قال بعض أهل السجون في هذا المعنى:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها
…
فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة
…
عجبنا قلنا جاء هذا من الدنيا
وقد حكى مكحول أن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أول من حبس في السجون، وقال: أحبسه حتى أعلم منه التوبة، ولا أنفيه من بلد إلى بلد فيؤذيهم، وهذا ما نرجحه.
ثالثا: أثر التوبة على العقوبة:
أعطت الشريعة الإسلامية للمحاربين والمفسدين في الأرض فرصة يتمكنون بها من الخلاص من عقوبة جريمة المحاربة، وتتمثل هذه الفرصة في توبتهم قبل القدرة عليهم، قال تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
فقد بينت الآية أن العقوبة تسقط عن المحارب إذا تاب، وكانت توبته قبل القدرة عليه؛ أي: قبل التمكن من القبض عليه، والمقصود بالتوبة رجوعه عما فعل وإقراره بخطيئته وندمه عليها وعزمه على ألا يفعل مثلها في المستقبل ورد الحقوق إلى أصحابها، فإذا كانت التوبة على هذا النحو كانت دليلا على عدول المجرم عن سلوكه الإجرامي، وتفاعله مع المجتمع الذي يعيش فيه واندماجه معه في البحث عن الرزق بالوسائل المشروعة، والوصول إلى الغايات بالطرق المباحة، خاصة وأن هذه التوبة قد تمت قبل القبض عليه،
أي: قبل أن تكون التوبة مشوبة برغبة في الخلاص من عقوبة وشيكة الوقوع والإفلات من تنفيذها؛ أي: بعد القدرة عليه، فإن تنفيذ العقوبة المقررة أصبح واجبا على الجميع، لاحقا لله تعالى لا يملك أحد إسقاطه أو العفو عنه، فإذا تاب حينئذ كانت توبته نابعة من الخوف من العقوبة، وليست نابعة من تحول في السلوك أو تعديل في مجراه؛ أي: أن الدوافع إليها ليست دوافع منبثقة عن اقتناع ذاتي بخطأ هذا المسلك الإجرامي الذي سلكه، وتعديل له بالاتجاه في الطريق الصحيح؛ ولذلك لم يجعل المشرع لهذه التوبة الحادثة بعد القبض عليه أثرا في إسقاط العقوبة؛ لأن المستثنى من العقوبة هو التائب قبل القدرة عليه، أما في غير هذه الحالة فإن الحكم باقٍ في حق الكل، والمشرع الحكيم بفتح هذا الباب يتيح للجناة فرصة العودة إلى الحياة الطبيعية بكل نعيمها واطمئنانها دون أي شائبة، والابتعاد عن التمادي في الإجرام وموالاته، وبذلك تقل الجرائم ويتوب المجرمون إلى رشدهم، إلا أن أثر هذه التوبة يظهر بالنسبة لبعض الحقوق دون بعضها الآخر.
أثر هذه التوبة على الحقوق:
عرفنا أن الحقوق باعتبار كون نفعها عاما أو خاصا قسمان رئيسيان:
حق الله تعالى: وهو ما يتعلق به النفع العام للعالم من غير اختصاص بأحد، فينسب إلى الله تعالى لعظم خطره وشمول نفعه، ويندرج تحت هذا القسم من العقوبات الحدود، ومنها حد الحرابة.
وحق العبد: وهو الذي تتعلق به مصلحة خاصة للعبد، ويندرج تحت هذا القسم القصاص وضمان الأموال، فإذا تاب المحارب قبل القدرة عليه فقد أفتى الفقهاء على إسقاط عقوبة المحاربة عنه قتلا أم صلبا أم قطعا أم حبسا؛ لأنها حق لله تعالى، وقد بين سبحانه وتعالى في الآية أن التائبين قبل القدرة عليهم مستثنون من هذه العقوبة كما قال جمهور
للفقهاء "الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والإمامية"1 أن حقوق العباد لا تؤثر التوبة في إسقاطها؛ بل يؤخذون بها، فيكون لولي الدم حق استيفاء القصاص -أو العفو- إن قتلوا أو جرحوا، وغرموا المال والدية فيما ليس فيه قصاص، ولصاحب المال أخذ عين ماله إن كان قائما، وتضمينه إن كان هالكا، وله أن يتنازل عنه، ويلاحظ في كل حالة القواعد الأساسية لاستيفاء هذا الحق، فيلاحظ مثلا في القتل كونه عمدا أو شبه عمد أو خطأ، وكون
1 وخالف في ذلك الزيدية؛ حيث قالوا: إن التوبة قبل القدرة تسقط كل الحقوق، سواء كانت لله تعالى أم لعباده، قتلا أو جرحا أو مالا "التاج المذهب ج4، ص255" وهذا ما لا نوافقهم عليه، ضمانا لحقوق الآخرين، ودرأ للجريمة، وجاء في المغني والشرح الكبير "ج10ص15" أنه إن فعل المحارب ما يوجب حدا لا يختص المحاربة كالزنا والقذف وشرب الخمر والسرقة، فذكر القاضي أنها تسقط بالتوبة؛ لأنها حدود لله تعالى، فتسقط بالتوبة كحد المحاربة إلا حد القذف، فإنه لا يسقط؛ لأنه حق آدمي، ولأن في إسقاطها ترغيبا في التوبة ويحتمل ألا تسقط؛ لأنها لا تختص المحاربة، فكانت في حقه كهي في حق غيره.
وإن أتى حدا قبل المحاربة ثم حارب وتاب قبل القدرة عليه لم يسقط الحد الأولى؛ لأن التوبة إنما يسقط بها الذنب الذي تاب منه دون غيره، وما ذكره القاضي من سقوط حدود الزنا وشرب الخمر والسرقة يحتاج إلى تفصيل؛ لأنه إن زنَى تحت قوة السلاح، فهذا أشد أنواع المحاربة، فتطبق عليه عقوبتها، فيقتل محصنا كان أو غير محصن "كما صرح المالكية والإمامية" وإن جاء تائبا قبل القدرة عليه، عاد تكييف الجناية إلى حالتها العادية، فيجلد إن كان كان غير محصن، ويرجم إن كان محصنا، وكذلك الحال في شرب الخمر، وفي السرقة، كما هو في القذف، وهو الرأي الثاني الذي ذكره ابن =
الآلة المستعملة في الجناية قاتلة قطعا أو غالبا أو نادرا، وكون الجاني مكلفا أو غير مكلف، أبا للمجني عليه أو غير أب، إلى ما فصلناه فيما تقدم في أركان الجريمة العمد، وشروط استيفاء القصاص.
وكذلك الأمر بالنسبة للجراح لا بد من التحقق من كونه عمدا أم خطأ، وكون الجرح من الجراح التي يقتص منها أو لا يقتص منها؛ أي: أن حقوق العباد يرجع في أحكامها إلى قواعدها الأساسية، كما لو لم تكن جريمة المحاربة موجودة إطلاقا، ومعنى هذا أن المشرع الحكيم قد رفع عن الجاني التائب قبل القدرة عليه الآثار المترتبة على الظروف المشددة التي أحاطت بالجريمة فنقلتها من دائرة حقوق العباد إلى دائرة حقوق الله تعالى، وبذلك عادت الجريمة إلى دائرة الجريمة العادية؛ أي: إلى مجموعة الجرائم التي منح المشرع الحكيم للعبد فيها سلطانا، وإذا عادت الجريمة إلى حالتها الأولى عدنا إلى تكييف الجناية حسب القواعد المقررة لها، فإذا تم تكييفها ترتب على ذلك منح صاحب الحق كل الحقوق التي قررها المشرع لكل من يعتدي على حقه بهذه الكيفية.
وبهذا يتبين لنا أن هذه التوبة ليست عفوا شاملا لكل آثار الجريمة؛ ولكنها عفو عن بعض آثارها، وهو الجانب الذي يتعلق به حق العامة، وليس معنى هذا أن القصاص لا يتعلق به حق العامة، بل يتعلق به، ولكن
= قدامه في مقابلة رأي القاضي، ولئن قيل: ما الفائدة حينئذ من توبته قبل القدرة عليه؟ قلنا: إن الفائدة واضحة، وهي أنه أصبح غير مطارد ولا مطلوب قضاء، وأنه ينتفع بكل ما جاء من تخفيف في إيجاب هذه الحدود، سواء من حيث إثباتها، أو من حيث مقدارها، وإن تساوت النتيجة وهي القتل، كما لو كان زانيا محصنا تحت الإكراه "فإن مثله لا يستحق التخفيف" فنرجو أن تكون توبته رافعة لإثم فعلته في الآخرة.
غلب المشرع فيه حق العبد في الأحوال العادية؛ حيث جعل له حق العفو عنه أو الصلح، أما إذا كان الجاني خطرا على المجتمع، فإنه يتغلب حينئذ حق الله، فإن قتل قتل، حتى وإن عفا عنه ولي الدم.
النوع الثاني: الدية:
عرفنا مما تقدم أن القتل العمد قد يكون موجبه القصاص أو الدية، فالدية أحد موجبي هذا النوع من القتل، وهي إحدى العقوبات الدنيوية المالية التي شرعت بدلا عن استيفاء القصاص في النفس أو ما دونها، فإذا تم القصاص فلا دية، وإذا لم يتم لسبب من الأسباب المسقطة للقصاص، كما في الظروف المخففة للعقوبة، أو عفو ولي الدم عن القصاص إلى الدية1 -كان الواجب الدية، وما كان بحث الدية يمثل قسما مستقلا في كل جناية عمدا كانت أم شبه عمد أم خطأ، وقعت الجناية على النفس أو على ما دونها، فإننا نتناول هنا بعض الجوانب التي تناسب المقام بإيجاز، فنبين حقيقة الدية فآراء العلماء فيمن يتحملها وأصنافها ومقدارها.
أولا: تعريف الدية:
الدية لغة: مصدر ودى يدي، كما في "وعد، يعد، عدة" يقال: ودى القاتل المقتول، إذا أعطى ولي الدم المال الذي هو بدل النفس، ويقال
1 راجع ص107-116، ص202-208.
للمال المدفوع: "دية" تسمية للمفعول بالمصدر، كالخلق بمعنى المخلوق، والدية اصطلاحا: اسم للضمان المالي الذي يجب بالجناية على الآدمي أو على طرف منه، وقد سمي هذا الضمان بالدية؛ لأنها تؤدي عادة إلى المجني عليه أو وليه، وقلما يرجى فيها العفو لعظم حرمة الآدمي.
ثانيا: من تجب الدية في ماله وكيفية أدائها:
لقد اتفق الفقهاء على أن دية القتل العمد تجب في مال القاتل دون سواه؛ وذلك لما روي عن ابن عباس مرفوعا قال: "لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا"، ولم يعرف له في الصحابة مخالف فيكون كالإجماع، وكذلك روي عن عمر قال: مضت السُّنة أن العاقلة لا تحمل شيئا من دية العمد إلا أن تشاء، رواه مالك، ولأن الدية بدل متلف، وبدل المتلف يجب على المتلف كقيمة المتاع، وأرش الجناية يجب على الجاني، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يجني جان إلا على نفسه"، وقال لبعض أصحابه حين رأى معه ابنه:"ولدك هذا؟ " قال: نعم، قال:"أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه"، ولأن موجب الجناية أثر فعل الجاني فيجب أن يختص الجاني بضررها كا يختص بنفعها، فإنه لو كسب شيئا كان كسبه له دون غيره، وقد ثبت حكم ذلك في الجنايات والأكساب، وإنما خولف هذا الأصل في قتل الخطأ؛ لأنه معذور، وهو من قبيل المواساة والتعاون بسبب العذر الذي صاحب الجناية -وهو الخطأ- أما القاتل عمدا فإنه غير معذور، فيلزم ألا يواسَى ولا يساعد حتى لا يؤدي هذا إلا تكرار القتل منه، وبذلك يتفشى الفساد.
كيفية أدائها: أداء الدية إما أن يكون حالا أو مؤجلا منجما أو غير منجم، وللفقهاء ثلاثة آراء:
الرأي الأول: يرى جمهور الفقهاء "الحنفية -إذا كانت عن صلح- والمالكية والشافعية والحنابلة والزيدية" أنها تجب في مال القاتل حالة، غير مؤجلة ولا منجمة؛ وذلك لأن ما وجب بالقتل
العمد كان حالا كالقصاص فإنه يجب حالا.
الرأي الثاني: يفرق الحنفية بين الدية التي تجب بالصلح فيجعلونها حالة في مال القاتل، وبين التي تجب بسقوط القصاص بشبهة، كما إذا قتل الأب ابنه عمدا، فإنها تجب في مال القاتل في ثلاث سنين، وذلك قياسا على القتل الخطأ وشبه العمد من حيث إن الدية في كل وجبت بنفس القتل، والقتل خطأ أو شبه عمد فيه الدية مؤجلة فكذلك القتل عمدا.
الرأي الثالث: يرى الإمامية أن دية العمد يجب أداؤها في سنة واحدة، ولا يجوز تأخيرها عنها بغير رضى المستحق، ولا يجب عليه المبادرة إلى أدائها قبل تمام السنة.
ونرى رجحان الرأي الأول -وهو رأي جمهور الفقهاء- لرجحان أدلته، ولأن في تنجيم الدية أو تأجيلها تخفيفها على القاتل عمدا، وهو لا يستحق مثل هذا التخفيف الذي استحقه القاتل خطأ؛ لأن القاتل خطأ واضح العذر، والقاتل شبه عمد أيضا معذور؛ لأن قصد القتل غير متكامل في شبه العمد؛ إذ إنه ضربه بما لا يقتل غالبا، فأفضى هذا الضرب إلى قتله من غير اختيار منه فأشبه الخطأ.
ثالثا: أجناس الدية ومقاديرها:
لقد وردت الآثار بأجناس من الأموال التي تدفع دية -وهي: الإبل، والذهب، والفضة، والبقر، والغنم، والملابس- ولقد اختلف الفقهاء في كون الإبل أصلا في الدية والباقي بدلا عنها، أم أن الكل أصل فيها.
أما الإبل: فقد أجمع أهل العلم على أن الإبل أصل في الدية، وأن دية الحر المسلم مائة من الإبل، وقد دل على هذا الأحاديث الواردة ومنها حديث عمرو بن حزم الذي فيه: "وإن في النفس الدية مائة من الإبل
…
" 1.
1 ونورد الحديث هنا تاما لأهميته في باب الديات: عن عمرو بن =
أما الذهب والفضة والبقر والغنم والحلل: فقد اختلف الفقهاء في كونها أصلا أو بدلا عن الأصل إلى رأيين:
الأول: قال أبو حنيفة: إن الدية من ثلاثة أجناس: الإبل والذهب والفضة، وقال الشافعي في قول له: إن الدية من الإبل بنص الحديث، ومن النقدين "الذهب والفضة" تقويما للإبل؛ إذ إن المتلفات تقوم بالنقدين وما سوى النقدين من البقر والغنم صلحا.
الرأي الثاني: يرى جمع من أهل العلم "عمر بن الخطاب، وعطاء، وطاوس، وفقهاء المدينة السبعة، والثوري وابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد، والزيدية" أن أصول الدية خمسة: الإبل والذهب والورق "الفضة" والبقر والغنم، وقد استدلوا بما ورد في كتاب عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"وإن في النفس الدية مائة من الإبل، وعلى أهل الذهب ألف دينار"، وما روي عن ابن عباس: أن رجلا من بني عدي قتل فجعل النبي -صلى
= حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا، وكان في كتابه:"إن من اعتبط -قتل بغير حق- مؤمنا قتلا عن بينة، فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول، وإن في النفس الدية مائة من الإبل، وإن في الأنف إذا أوعب جدعه الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمسة عشر من الإبل، وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي الموضحة خمس من الإبل، وإن الرجل يقتل بالمرأة، وعلى أهل الذهب ألف دينار" رواه النسائي "نيل الأوطار للشوكاني ج7، ص57".
الله عليه وسلم- ديته اثني عشر ألفا1؛ أي: من الدراهم، وهي من الفضة، وبما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من كان عقله "ديته" في البقر، على أهل البقر مائتي بقرة، ومن كان عقله في الشاء "الغنم" ألفي شاه، رواه الخمسة إلا الترمذي2، وأضاف بعض الفقهاء أن الدية في الحلل مائتا حلة؛ لما ورد في حديث عطاء بن أبي رباح بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض على أهل الحلل مائتي حلة، رواه أبو داود.
الترجيح:
والرأي الثاني أرجح؛ لأن الأحاديث صريحة في جعل الدية من عدة أجناس، طبقا لما اشتهر به أهل كل منطقة، فمن كثرت عندهم الإبل حددت الدية عليهم من جنسها، ومن كثرت عندهم البقر حددت الدية، وكذلك أهل الذهب والفضة، وهذا الرأي يساير جميع البلدان والأزمان، فكل دولة لا يمكن أن تخلو من صنف من هذه الأصناف، وعلى ضوء ذلك يمكن تحديد الدية في كل دولة بسهولة ويسر.
1 وقد نقل الشوكاني اختلاف الفقهاء في الفضة؛ فذهب الهادي والمؤيد بالله إلى أنها عشرة آلاف درهم، وذهب مالك والشافعي في قوله له: إلى أنها اثنا عشر ألف درهم، وقال زيد بن علي والناصر: أو مائتا حلة -إذا كانوا من أهل الحلل- والحلة إزار ورداء أو قميص وسراويل "راجع نيل الأوطار ج7، 58-79".
2 الدينار وهو من الذهب يزن 241 و4 جرامات، والدرهم: وهو من الفضة يزن 85 و2 جراما، على ضوء هذا يمكن تقويم الدية حسب السعر اليومي للذهب والفضة في كل دولة.
تغليظ دية العمد: لما كان مقدار الدية واحدا، سواء كان القتل عمدا أم شبه عمد أم خطأ، غير أنها في العمد تجب في مال القاتل حالة أو منجمة -على الخلاف الذي ذكرنا- إلا أن الفقهاء قد اختلفوا في تغليظ الدية في القتل العمد وشبه العمد، بالنسبة لجنس واحد من أجناس الدية وهو الإبل إلى رأيين:
الرأي الأول: يرى الحنفية والمالكية ورواية عن الإمام أحمد والزهري وربيعة وسليمان بن يسار: أنها أرباع؛ لما روى الزهري عن السائب بن يزيد قال: كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباعا: خمسا وعشرين جذعة، وخمسا وعشرين حقة، وخمسا وعشرين بنت لبون، وخمسا وعشرين بنت مخاض، وهذا ما قاله ابن مسعود أيضا.
والرأي الثاني: يرى عطاء ومحمد بن الحسن والشافعية وأحمد -في رواية عنه- وهو مروي عن عمر وزيد وأبي موسى والمغيرة: أنها أثلاث؛ لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوه، وإن شاءوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وما صولحوا عليه فهو لهم""رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب"1.
1 بنت المخاض: هي أنثى الإبل التي دخلت في السنة الثانية من عمرها، وبنت لبون: هي التي دخلت في الثالثة من عمرها، والحقة: هي التي دخلت في الرابعة، والجذعة: هي التي دخلت في الخامسة، والخلفة: الحامل.
النوع الثالث: الكفارة:
من حقوق الله تعالى الكفارة، وهي عقوبة فيها معنى العبادة، وشرعت تكفيرا للمذنب، ومحوا للجرم، وتقربا إلى الله تعالى، وهذا النوع من العقوبة بالنسبة لجريمة القتل جعله الله ماليا أولا، وهو إعتاق رقبة مؤمنة، وعتق هذه الرقبة ملائم للجريمة، ومناسب لتكفير الذنب؛ لأنه لما كان الرق موتا والحرية حياة كان إعتاق الرقبة إحياء لنفس أخرى عوضا عن النفس المقتولة، فإن لم يجد هذه الرقبة لضيق ذات اليد أو لعدم وجودها كان عليه أن يصوم شهرين متتابعين، كما نص على ذلك قوله تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} 1 إلا أنه لما كان النص قد أوجب هذه الكفارة في القتل الخطأ ولم يوجبها في القتل العمد، اختلف الفقهاء في إيجابها في القتل العمد إلا ثلاثة آراء:
الرأي الأول: يرى الشافعية والإمامية إيجاب الكفارة في القتل العمد وشبه العمد والخطأ، سواء كان القاتل مكلفا، أو صبيا، أو مجنونا، حرا أو عبدا، مسلما أو ذميا، واحدا أو جماعة، وسواء كان المقتول مسلما أو ذميا، حرا أو عبدا لنفسه أو لغيره، أو جنينا، وقد استدلوا على ذلك بالكتاب والسنة والقياس.
أما الكتاب: فبقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} .
وأما السنة: فبخبر واثلة بن الأسقع قال: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد استوجب النار بالقتل، فقال: "اعتقوا عنه رقبة يعتق الله
1 سورة النساء الآيتان رقم "92، 93" وقد تقدم نصهما.
بكل عضو منها عضوا منه من النار" "رواه أبو داود وصححه الحاكم وغيره"1، فالرسول عليه الصلاة والسلام قد أمرهم بأن يعتقوا رقبة عن هذا للقاتل الذي استحق النار بالقتل، واستحقاقه للنار لا يكون إلا بالقتل العمد، فدل هذا على إيجاب الكفارة في القتل العمد.
وأما القياس: فقالوا: إنها تجب في القتل العمد قياسا على القتل الخطأ؛ لأن الحاجة إلى التكفير في العمد أمس منها إليه في القتل الخطأ؛ لأن الكفارة لستر الذنب، والذنب في العمد أعظم، ومثل العمد القتل شبه العمد.
الرأي الثاني: يرى المالكية أن الكفارة تندب للحر المسلم إذا قتل جنينا أو قتل شخصا عمدا ولم يقتل به لعفو أو لعدم مكافأة.
الرأي الثالث: يرى الحنفية والحنابلة والزيدية والثوري وأبو ثور: أنه لا تجب الكفارة في القتل العمد، سواء كان موجبا للقصاص أو غير موجب له "خلافا للزيدية في القتل غير الموجب للقصاص"، واستدلوا بالكتاب والقياس.
أما الكتاب: فقد بين الله تعالى عقوبة القتل الخطأ بقوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ، كما بين عقوبة القتل العمد بقوله جل شأنه:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وقد خصص الإجماع عقوبة القصاص بالقتل عمدا، فلما كان كل واحد من القتيلين -في العمد والخطأ- مذكورا بعينه ومنصوصا علي حكمه لم يجز لنا أن نتعدى ما نص الله تعالى عليه فيهما؛ إذ إنه لا يجوز قياس المنصوصات بعضها على بعض، فلا يصح أن نوجب في القتل العمد كفارة قياسا على القتل الخطأ.
1 مغني المحتاج ج4، ص107.
وأما القياس: فوجهه أن الكفارة دائرة بين العبادة والعقوبة، فلا بد من أن يكون سببها أيضا دائرًا بين الحظر والإباحة؛ لتعلق العبادة بالمباح والعقوبة بالمحظور، وقتل العمد كبيرة محضة، وما كان كبيرة محضة لا يكون سببا لشيء فيه معنى العبادة، فلا تناط به، والكفارة كسائر الكبائر مثل الزنا والسرقة والربا واليمين الغموس.
الرد على أدلة الرأي الأول:
كما ردوا على أدلة الرأي الأول فقالوا: إن حديث واثلة يرد عليه بثلاثة ردود؛ أولها: أن قوله: "استجوب النار بالقتل" تأويل من الراوي؛ لأن في بعض رواياته لم يذكر أنه أوجب النار بالقتل، وثانيها: أنه لو أراد كفارة القتل لذكر رقبة مؤمنة، فلما لم يشرط لهم الإيمان في الرقبة دل على أنها ليست من كفارة القتل، وثالثها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بأن يعتقوا عنه رقبة، ولا خلاف أنه ليس عليهم عتقها عنه، وإنما الذي يعتقها هو القاتل بنفسه، وأيضا فإن عتق الغير عن القاتل لا يجزيه عن الكفارة.
وأما قولهم: إن الكفارة في العمد أوجب؛ لأنه أغلظ، فقد أجابوا عنه بأن الكفارة في الخطأ ليست مستحقة بالمأثم حتى يعتبر عظم المأثم فيها؛ لأن المخطئ غير آثم، فاعتبار المأثم في هذه الكفارة ساقط، وأيضا فإن تعين الكفارة في الشرع لدفع الذنب الأدنى -وهو الخطأ- لا يدل على تعينها لدفع الذنب الأعلى -وهو العمد- فإن سجود السهو يلزم الساهي ولا يلزم المتعمد، فلا يمكن قياس القتل العمد على القتل الخطأ.
النوع الرابع: الحرمان من الميراث:
من العقوبات التي قررتها الشريعة الإسلامية على القاتل عمدا عدوانا الحرمان من الميراث، فمن قتل شخصا حرم من ميراثه؛ لأنه بيده الآثمة قطع ما أمر الله به أن يوصل، فباعتدائه عليه قطع رابطة القرابة التي بها يستحق الميراث، إلا أنه لما كان القتل تارة يكون عمدا، وتارة يكون خطأ.. فقد اختلف الفقهاء في كون هذه الأنواع من القتل مانعة من الميراث كلها أو بعضها خلافا كبيرا، ونرى إرجاء تفصيل آرائهم إلى أن ننتهي من بيان أنواع القتل وعقوباتها، ونفرد للحرمان من الميراث مبحثا مستقلا في نهاية الفصل الثالث الخاص بالقتل خطأ، إلا أننا نشير هنا إلى أن للفقهاء رأيين في حرمان القاتل عمدا عدوانا من الميراث:
الرأي الأول: حكي عن سعيد بن المسيب وابن جبير أنهما ورثاه من تركة المجني عليه، هو رأي الخوارج، وقد استدلوا على ذلك بأن آيات المواريث بعمومها تتناول هذا القاتل فيجب العمل بها.
الرأي الثاني: يرى جمهور الفقهاء "الحنفية، المالكية، الشافعية، الحنابلة، الزيدية، الإمامية" أنه يحرم من ميراث المجني عليه، وقد استدلوا على ذلك بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس للقاتل شيء"، رواه مالك في موطئه وأحمد في مسنده.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلا فإنه لا يرثه، وإن لم يكن له وارث غيره، وإن كان والده أو ولده، فليس للقاتل ميراث" رواه أحمد في مسنده.
وقد روي أن عمر أعطى دية ابن قتادة المذحجي لأخيه دون أبيه القاتل
وكان قد حذفه بسيفه فقتله، واشتهرت القصة بين الصحابة رضي الله عنهم ولم تنكر فكان إجماعا.
ولأن الوارث ربما استعجل موت مورثه بالقتل المحظور ليأخذ أمواله، وإذا استعجل الإنسان شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه، معاملة له بنقيض مقصوده، ولأنا إذا قلنا بالتوريث مع القتل أدى هذا إلى تفشي قتل الورثة مورثيهم، وهو فساد يجب إغلاق بابه؛ لأن الله لا يحب الفساد.
وهذا الرأي هو الصحيح لصحة أدلته، قد أخذ به قانون المواريث بجمهورية مصر العربية رقم 77 لسنة 1943، وقد نص على ذلك في المادة الخامسة منه.