المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: حقيقة القتل الخطأ في الفقه الإسلامي - الجنايات في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون

[حسن علي الشاذلي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌المقدمات

- ‌الإفتتاحية: افتتاحية الطبعة الثانية

- ‌افتتاحية الطبعة الأولى:

- ‌التمهيد:

- ‌الجريمة والجناية في الفقه الإسلامي:

- ‌الجريمة والجناية في الفقه الوضعي:

- ‌العقوبات:

- ‌الباب الأول: جناية القتل

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: القتل العمد وعقوبته

- ‌المبحث الأول: حقيقة القتل العمد

- ‌المبحث الثاني: أركان الجريمة العمدية في الفقه الإسلامي

- ‌أولاً: أن يكوت الأعتداء واقعًا على آدمي حي

- ‌ثانيا: أن يكون المجني عليه معصوم الدم:

- ‌ثالثا: أن يكون هذا الآدمي معينا:

- ‌رابعًا: أن يكون قصد الجاني ضرب المجني عليه

- ‌خامسا: أن يكون الضرب بقصد العدوان:

- ‌سادسًا: أن يكون الجاني قد أوقع على المجني عليه فعلا قاتلا:

- ‌المبحث الثالث: آراء فقهاء القوانين في تحليل القتل العمد ورأي الفقه الإسلامي في هذه الآراء:

- ‌المبحث الرابع: عقوبة القتل العمد في الفقه الإسلامي

- ‌المطلب الأول: الجزاء الآخروي

- ‌المطلب الثاني: الجزاء الدنيوي:

- ‌المبحث الخامس: عقوبة القتل العمد في القانون:

- ‌الفصل الثاني: القتل شبه العمد وعقوبته

- ‌المبحث الأول: آراء الفقهاء في القول بشبه العمد

- ‌المبحث الثاني: أركان جريمة شبه العمد:

- ‌المبحث الثالث: عقوبة القتل شبه العمد

- ‌المطلب الأول: الجزاء الآخروي

- ‌المطلب الثاني: الجزاء الدنيوي للقتل شبه العمد:

- ‌المطلب الثالث: عقوبة الضرب المفضي إلى الموت في القانون:

- ‌المطلب الرابع: المقارنة بين العقوبتين:

- ‌الفصل الثالث: القتل الخطأ وموجبه

- ‌المبحث الأول: حقيقة القتل الخطأ في الفقه الإسلامي

- ‌المبحث الثاني: أركان الجريمة خطأ:

- ‌المبحث الثالث: عقوبة القتل الخطأ

- ‌مدخل

- ‌النوع الأول: الدية:

- ‌النوع الثاني: الكفارة:

- ‌النوع الثالث: الحرمان من الميراث:

- ‌الفهرس:

الفصل: ‌المبحث الأول: حقيقة القتل الخطأ في الفقه الإسلامي

‌الفصل الثالث: القتل الخطأ وموجبه

‌المبحث الأول: حقيقة القتل الخطأ في الفقه الإسلامي

الفصل الثالث: القتل الخطأ وموجبه:

نفرد هذا الفصل للنوع الثالث من الجريمة؛ وهو القتل خطأ، ونجعله في أربعة مباحث؛ نبين في الأول: حقيقته عند الفقهاء، وفي الثاني: أركان الجريمة الخطأ في الفقه الإسلامي، وفي الثالث: موجبه، وفي الرابع: حقيقته وموجبه في القانون مع المقارنة بالفقه الإسلامي.

المبحث الأول: حقيقة القتل الخطأ في الفقه الإسلامي:

الأصل في هذا الفصل هو قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} 1.

سبب نزول هذه الآية: لقد نزلت الآية بسبب أن عياش بن ربيعة قتل الحارث بن يزيد بن أبي أنيسة العامري لحنة2 كانت بينهما؛ إذ إنه

1 سورة النساء الآية رقم 92.

2 الحنة والإحنة: الحقد.

ص: 375

لما هاجر الحارث مسلما لقيه عياش فقتله ولم يشعر بإسلامه، فلما أخبر "بإسلامه" أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه قد كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت، ولم أشعر بإسلامه حتى قتلته، فنزلت الآية.

معنى الآية: ما ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ، فقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} ليس على النفي، وإنما هو على التحريم والنهي، ولو كانت للنفي لما وجد مؤمن قتل مؤمنا قط، فإن ما نفاه الله لا يجوز وجوده؛ كقوله تعالى:{مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} فلا يقدر العباد أن ينبتوا شجرها أبدا.

وقال قتادة: المعنى ما كان له ذلك بوجه، ثم استثنى استثناء منقطعا ليس من الأول، وهو الذي يكون فيه "إلا" بمعنى "لكن"، التقدير: ما كان له أن يقتله البتة، لكن إن قتله خطأ فعليه كذا، هذا قول سيبويه والزجاج رحمهما الله. وقيل: هواستثناء متصل؛ أي: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ولا يقتص منه إلا أن يكون خطأ فلا يقتص منه؛ ولكن فيه كذا وكذا "وفي الآية وجوه أخرى فنكتفي منها بذلك".

معنى الخطأ: الخطأ اسم من أخطا خطأ وإخطاء إذا لم يصنع عن تعمد، فالخطأ الاسم يقوم مقام الإخطاء، يقال لمن أراد شيئا ففعل غيره: أخطأ، ولمن فعل غير الصواب: أخطأ1.

ونقصد بالخطأ هنا: كل ما يصدر عن الإنسان بإرادته، فيؤدي إلى إلإضرار بإنسان أو بغيره ممن لم يرد وقوع الفعل به.

فالمخطئ أراد الفعل وقصده؛ ولكنه لم يرد وقوعه بالصفة التي وقع بها؛ نظرا لخطأ في الفعل أو في القصد أو فيهما، أو بعبارة أخرى: نظرا لحدوث ظروف أدت إلى خلل في القصد أو في التوجيه أو فيهما.

1 قال أبو عبيد: خطئ وأخطأ بمعنى، ومصدر خطئ خطأ، ومصدر أخطأ إخطاء، والخطأ والإخطاء هو ما لم يصنع عن تعمد.

ص: 376

ومن هنا فإن الخطأ لا يوصف بالخطر ولا بالإباحة، ولا بالحل ولا بالحرمة، ونوضح فيما يلي أنواع الجناية خطأ، ثم ما في معنى الخطأ.

أنواع الخطأ:

الخطأ يتنوع بتنوع أركان العمل الذي أدى إليه، وأي عمل من الأعمال يحتاج إلى أمرين:

أولهما: القصد، وهو أمر باطني؛ لأنه عمل من أعمال القلب لا يمكن معرفته إلا بالقرائن والظروف المحيطة بالعمل.

وثانيهما: فعل الجارحة، وهو ما صدر عن الإنسان من عمل -إيجابي أو سلبي- أدى إلى هذه النتيجة "الموت أو الجرح

" كالرمي والضرب ونحوهما من الأفعال، فإن اتصل الخطأ بالأول كان خطأ في القصد، وإن اتصل بالثاني كان خطأ في الفعل، وإن اتصل بهما كان خطأ فيهما:

1-

الخطأ في القصد: ومثاله أن يرمي شخصا يظنه صيدا فإذا هو آدمي، أو يظنه حربيا فإذا هو مسلم، فإن الخطأ هنا واقع في القصد؛ لأن الفعل كان موجها إلى شيء معين فأصاب هذا الشيء، ولم يحدث خطأ في التوجيه كفعل مادي بحت، ولكن الخطأ قد حدث في القصد، فإنه كان يظنه صيدا؛ أي: مباح الدم، فتبين أنه إنسان؛ أي: أنه غير مباح الدم.

فالخطأ في القصد يتحقق حينما يكون الفعل من حيث التوجيه والإصابة بعيدا عن الخطأ، أو نقول: إن الفعل الذي أدى إلى الجناية من حيث كونه عملا ماديا قد تم دون خطأ؛ ولكن الخطأ وقع في القصد والإرادة؛ فقد أراد شيئا مباحا؛ ولكن الظروف خارجة عن إرادته لم يتبين حقيقة ما وجه إليه الرمية فأصاب إنسانا لا يحل له قتله أو الاعتداء عليه.

2-

الخطأ في الفعل: ومثاله أن يرمي صيدا فيخطئ في التوجيه فيصيب آدميا كان قريبا من الصيد، فهنا الفعل كان موجها إلى غرض مباح، وهو

ص: 377

صيد حيوان أو طائر، فصدر منه خطأ في الفعل، أدى إلى اتجاه الرمية بعيدا عن هذا الغرض، فأصابت آدميا معصوم الدم.

فالخطأ في الفعل: هو أن يقصد فعلا فيصدر منه فعل آخر.

3-

الخطأ في القصد والفعل: ومثاله ما لو رمى آدميا يظنه صيدا، فأخطأ فأصاب غيره من الناس، فإن الرمية كانت موجهة إلى هدف يظنه صيدا، ولكنه كان في الحقيقة آدميا، فلو أنه أصابه لكان خطأ في القصد ولكن الرمية لم تصبه وأصابت شخصا آخر معصوم الدم، فحدث خطأ في الفعل أيضا؛ إذ إنه قصد فعلا فصدر منه فعل آخر، فتبين لنا بهذا أن الخطأ وقع في القصد وفي الفعل1.

1 ونعرض فيما يلي آراء الفقهاء في الجريمة خطأ:

أولا: مذهب الحنفية: جاء في بدائع الصنائع ج7، ص234، ص271-274: "وأما القتل الخطأ، فالخطأ قد يكون في نفس الفعل، وقد يكون في ظن الفاعل، أما الأول فنحو أن يقصد صيدا فيصيب آدميا، أو أن يقصد رجلا فيصيب غيره، فإن قصد عضوا من رجل فأصاب عضوا آخر فهذا عمد وليس بخطأ، وأما الثاني فنحو أن يرمي إلى إنسان على ظن أنه حربي أو مرتد فإذا هو مسلم

وأما الذي في معنى القتل الخطأ فنوعان: نوع هو في معناه من كل وجه، وهو أن يكون على طريق المباشرة، ونوع هو في معناه من وجه، وهو أن يكون على طريق التسبيب، أما الأول فنحو النائم ينقلب على إنسان فيقتله، فهذا القتل في معنى القتل الخطأ من كل وجه لوجوده لا عن قصد؛ لأنه مات بثقله، فترتب عليه أحكامه

وأما الثاني فنحو جناية الحافر ومن في معناه ممن يحدث شيئا في الطريق أو المسجد، وجناية السائق والقائد وجناية الناخس وجناية الحائط

".

ثانيا: مذهب المالكية: أما المالكية فقد جاء في الشرح الكبير ج4 ص215: "أن للقتل الخطأ نوعين "إذا قصد ضرب شيء معتقدا أنه غير آدمي =

ص: 378

وهذا التقسيم هو ما قرر الفقهاء بإجماع اعتباره خطأ.

= أو أنه آدمي غير محترم لكونه حربيا أو زانيا محصنا، فتبين أنه محترم فلا قصاص ولو مكافئا له وهو من الخطأ فيه الدية.. والثاني أن يقصد الضرب على وجه اللعب فهو خطأ على قول ابن القلعم.. ومثله إذا قصد به الأدب الجائز بأن كان بآلة يؤدب بها، وأما إن كان الضرب للتأديب والغضب فالمشهور أنه عمد يقتص منه".

ثالثا: مذهب الشافعية: الخطأ عندهم أنواع؛ لأنه إما ألا يقصد أصل الفعل، أو يقصده ولا يقصد الشخص، أو لا يقصدهما، مثال الأولى: ما لو صاح على صيد فاضطرب صبي كان على طرف سطح فسقط ومات، فهنا لم يقصد القتل. ومثال الثاني: ما لو رمى شجرة أو دابة فأصاب شخصا فمات، فهنا قصد الفعل ولم يقصد الشخص، ومثال الثالث: ما لو زلق فوقع على شخص فمات، فهنا لم يقصد الفعل ولا الشخص "مغني المحتاج ج4، ص4".

ويأخذ حكم القتل الخطأ القتل بسبب كحافر البئر في غير ملكه بغير إذانه بشروط:

1-

أن يستمر العدوان إلى السقوط فيها.

2-

وألا يوجد هناك مباشرة بأن رداه في البئر غير حافرها.

3-

أن يتجرد التردي للإهلاك، فلو تردى ولم يتأثر بذلك، وبقي أياما ثم مات جوعا أو عطشا فلا ضمان على الحافر.

رابعا: مذهب الحنابلة: وقد جعل الحنابلة أيضا الخطأ نوعين: خطأ في القصد؛ كأن يرمي ما يظنه صيدا فيقتل إنسانا، أو أن يقتل بدار الحرب من يظنه حربيا فيبين مسلما، وخطأ في الفعل؛ كأن يرمي صيدا فيصيب آدميا معصوما لم يقصده، أو ينقلب وهو نائم ونحو ذلك؛ كمغمى عليه على إنسان فيموت، ومن قتل بسبب كحفر بئر فإن لم يقصد الجناية فهو خطأ لعدم القصد "كشاف القناع ج3 ص240".

خامسًا: مذهب الزيدية: جعل الزيدية الجناية خطأ في حالات:

1-

ألا =

ص: 379

ب- أنواع الجنايات التي هي في معنى الخطأ:

على ضوء ما قرره الفقهاء في تكييف جناية الخطأ رأينا الجمهور منهم يلحقون بهذه الجناية بعض الجنايات التي تتقارب معها من كل وجه أو بوجه من الوجوه؛ وذلك لأن هذه الجرائم الملحقة بالخطأ تتميز بعدم وجود عنصر من عنصري الخطأ، وهو القصد، أما الفعل -وهو العنصر الثاني- فإما أن يكون موجودا ولكن وجوده كان بدون اختيار وكسب مع أنه كان بالمباشرة، أو يكون وجوده باختيار الجاني؛ ولكن لم يكن مباشرا؛ بل تسبب في قوعها، ونبين حكم كل فيما يلي:

= يقصد المجني عليه، بل قصد غيره غير متعد، كأن يرمي صيدا فيصيب رجلا، أو كان يقصد تعديا كأن يقصد زيدا فيصيب عمرًا.

2-

ألا يقصد الفاعل القتل، بل يقصد إيلامه فقط فقتل، فإنه يكون خطأ إذا كانت الجناية بما مثله لا يقتل في العادة باعتبار المجني عليه.

3-

إذا وقعت الجناية بسبب وكان متعديا في هذا السبب بأن وضع في حق عام أو في ملك الغير بغير إذنه حجرا أو نارا أو ماء أو غير ذلك "التاج المذهب ج4، ص289-290".

سادسا: مذهب الإمامية: جعل الإمامية أيضا الخطأ إما أن يكون في القصد أو في الفعل أو فيهما، ولا تخرج الأمثلة عما ذكرناه، كما جعلوا جناية النائم خطأ؛ لأنه -كما قالوا- مخطئ في فعله وقصده، وقيل: إنه يضمن الدية في ماله، والأقوى الأول "الروضة البهية ج2، ص419-422".

سابعا: مذهب الظاهرية: وكذلك جعل الظاهرية القتل الخطأ إما أن يكون الخطأ واقعا في القصد أو في الفعل أو فيهما، أو قتل وهو نائم إنسان معصوم الدم "المحلى ج10، ص343-474، وج11، ص19".

ص: 380

النوع الأول: فعل غير إرادي يؤدي إلى جناية:

إذا صدر من الشخص فعل غير إرادي فأدى إلى جناية، كما لو كان نائما أو مغمى عليه ونحو ذلك، فانقلب على شخص فقتله، فإن هذه الجناية ليست خطأ، ولكنها تأخذ حكم الخطأ، ويجري عليها ما يجري على الخطأ من أحكام.

أما أنها ليست خطأ، فلأن النائم والمغمى عليه لا يوصف فعله بالعمد والخطأ؛ لأن ذلك الوصف فرع الإرادة والقصد، والنوم حالة طبيعية تعتري الإنسان يفقد أثناءها وعيه وإحساسه وإرادته وإدراكه وقصده بصفة مؤقتة، فما يصدر منه من أفعال لا يوصف بالعمد ولا بالخطأ.

وأما أن هذه الجناية تأخذ حكم الخطأ؛ فذلك لأن هذه الجناية -وإن لم يصاحبها القصد- فقد تمت بثقل جسمه، فكان جسمه مباشرا للقتل، وكان أداة له، فكأنه مات بفعله، فكان هذا القتل في معنى القتل الخطأ، وإذا كان كذلك كان ما أورده الشرع من أحكام في الخطأ واردًا هنا دلالة.

إلا أنه يجب التأكد من أن موته قد تم من هذا الفعل، فإن حدث شك في أنه هل مات بفعله أم بسبب آخر؟ فإن الإمام ابن حزم ذكر في امرأة نامت بقرب ابنها فوُجد ميتا أنه في حالة الشك "لا دية في ذلك ولا كفارة؛ لأننا على يقين من براءتها من دمه، ثم على شك أمات من فعلها أم لا؟ والأموال محرمة إلا بيقين، والكفارة إيجاب شرع، والشرع لا يجب إلا بنص أو إجماع، فلا يحل أن تلزم غرامة ولا صياما، ولا أن تلزم عاقلتها دية بالظن الكاذب"1.

1 المحلى لابن حزم ج10، ص474.

ص: 381

النوع الثاني: القتل بسبب:

القتل بسبب: هو أن يفعل الإنسان فعلا يؤدي إلى تلف إنسان أو غيره بواسطة؛ كما لو حفر بئرا، أو أوقد نارا، أو وضع حجرا، فتلف به إنسان أو غيره1، فإن التلف لم يحدث بفعل الجاني مباشرة، وإنما حدث بسبب

1 ولما كان لكل مذهب رأيه في القتل بسبب، وشروطه الخاصة التي تبين المعيار الذي يصبح فيه القتل بسبب عمدا، أو شبه عمد، أو خطأ، فإننا نورد فيما يلي موجزا لآراء المذاهب في القتل بسبب:

أ- مذهب الحنفية: يرى الحنفية "أن القتل بسبب كحافر البئر، وواضع الحجر في غير ملكه، فيه الدية على العاقلة لا الكفارة، أما وجوب الدية به فلأنه سبب التلف وهو متعد فيه بالحفر، فجعل كالدافع الملقى فيه، فتجب فيه الدية صيانة للأنفس، فتكون على العاقلة؛ لأن القتل بهذا الطريق دون القتل بالخطأ فيكون معذورًا، فيجب على العاقلة تخفيفا عنه كما في الخطأ، بل أولى؛ لعدم القتل مباشرة؛ ولهذا لا تجب الكفارة فيه ولا يحرم من الميراث" الزيلعي ج6، ص102.

ب- مذهب المالكية: يرى المالكية "أنه إذا فعل الإنسان فعلا يؤدي إلى تلف شيء لا يقصد تلفه، كما لو حفر بئرا بقصد الإضرار بشخص معين، وإن كان ببيته فأصاب غيره، أو هلك بها شيء، ففيه الدية على العاقلة والقيمة في غيره، وكذلك الحكم لو قصد الإضرار بشخص معين.

فإن حفرها ولم يقصد ضررا فهلك بها إنسان أو غيره، إن كان بملكه أو بموات لنفعه ولو لعامة الناس لا شيء عليه، وإن حفرها بملك غيره بلا إذن أو بطريق أو بموات لا لمنفعة فالدية على العاقلة والقيمة في غيره". =

ص: 382

......................................................................

= ج- مذهب الشافعية: جاء في مغني المحتاج ج4، ص82، 83: "ويضمن شخص بحفر بئر عدوان: كحفرها بملك غيره بغير إذنه، أو بملك مشترك بغير إذن شريكه، أو في شارع ضيق أو واسع لمصلحة نفسه بغير إذن الإمام، فيضمن ما تلف فيها من آدمي حر أو غيره، لكن الآدمي يضمن بالدية إن كان حرا، أو بالقمية إن كان رقيقا، على عاقلة الحافر حيا كان أو ميتا. ويشترط أن:

1-

يستمر العدوان إلى السقوط فيها، فلو رضي المالك إبقاءها زال الضمان في الأصح، وكذا لو ملك البقعة.

2-

وألا يوجد هناك مباشرة بأن رداه في البئر غير حافرها، وإلا فالضمان على المردي لا على الحافر.

3-

وأن يتجرد التردي للإهلاك، فلو تردت بهيمة في بئر لم تتأثر بالصدمة وبقيت فيها أياما، ثم ماتت جوعا أو عطشا فلا ضمان على الحافر

"، ولا يضمن بحفر بئر في ملكه لعدم تعديه بشرط أن يعرفه أن هناك بئرا، أو كانت مكشوفة والداخل متمكن من التحرز، فأما إذا لم يعرفه والداخل أعمى فإنه يضمن

ولا يضمن بحفر بئر في موات للتملك أو الارتفاق "لعدم تعديه" فإنه كالحفر في ملكه وعليه يحمل خبر مسلم البئر جرحها جبار؛ أي: غير مضمون.

د- مذهب الحنابلة: جاء في كشاف القناع ج3، ص340: "ومن قتل بسبب كحفر بئر ونصب سكين أو حجر ونحوه تعديا فلا يخلو: إما أن قصده جناية فهو شبه عمد؛ لأنه بالنظر إلى القصد كالعمد، وبالنظر إلى المباشرة خطأ، وإن لم يقصد جناية فهو خطأ لعدم قصد الجناية، وقيل: سبيله سبيل الخطأ؛ لأنه يشارك الخطأ في الإتلاف، وإنما لم يجعل خطأ لعدم القصد في الجملة

".

هـ- مذهب الزيدية: جاء في التارج المذهب ج4، ص301، 289، =

ص: 383

فعله وبواسطته؛ حيث أدى وضع الحجر مثلا إلى اصطدامه به واصطدامه به أدى إلى سقوطه، وسقوطه أدى إلى تلفه

فالفعل أدى إلى التلف بواسطة، ولم يؤد إليه مباشرة، فإذا حدث التلف بسبب هذا الفعل، فإن

= 290: "واعلم أن المسبب المضمون هو جناية ما وضع بتعد في وضعه كحجر وماء وبئر بأن يكون قد وضعه في حق عام أو ملك الغير بغير إذنه فيتعثر به متعثر، فكلما وقع بهذه الموضوعات من الجنايات فهو مضمون على عاقله الواضع غالبا، وقوله: غالبا احترازا مما جرت به العادة من وضع الحجارة والأخشاب ونحوها في حق عام أو ملك الغير أو في ملك الواضع حال العمارة لترفع قريبا فلا ضمان" ولو أمكن المجني عليه دفع السبب الذي ليس بمهلك في العادة فلم يفعل حتى هلك سقط القصاص والدية.

و مذهب الإمامية: جاء في الروضة البهية ج2، ص245:"أما القتل بسبب كما لو أجج نارا أو وضع ماء أو حفر في ملك غيره فتلف بها إنسان أو غيره، ضمن الأنفس والأموال -مع تعذر التخلص- في ماله، ولو قصد الإتلاف فهو عامد يقاد في النفس مع ضمان المال، أما لو أجج نارا في ملكه في ريح معتدلة أساكنة ولم يزد النار عن قدر الحاجة التي أضرمها لأجلها فلا ضمان؛ لأن له التصرف في ملكه كيف يشاء".

ز- مذهب الظاهرية: جاء في المحلى لابن حزم ج11، ص19: "من شق نهرا فغرق قوما، أو طرح نارا أو هدم بناء، فإن كان شقه لمنفعة أو لغير منفعة وهو لا يدري أنه لا يصيب به أحدا، فما هلك به فهو قاتل خطأ، والديات على عاقلته والكفارة عليه، لكل نفس كفارة، يضمن في كل ذلك ما تلف من المال، وهكذا القول فيمن ألقى نارا أو هدم بناء ولا فرق

وإن فعل ذلك في ملكه فلا شيء عليه" راجع المحلى ج11، ص10، 11.

ص: 384

الأمر لا يخلو من أن يكون الجاني متعديا في فعله أو غير متعد، ومن أن يكون قاصدا الجناية أو غير قاصد لها، ويتفرع عن هذا أربع صور؛ لأنه إما أن يوجد التعدي مع قصد الجناية، أو يوجد التعدي مع عدم قصدها، أو لا يوجد أي منهما، أو لا يوجد التعدي مع وجود التقصير، ونوضح آراء الفقهاء في كل صورة من هذه الصور:

الصورة الأولى: أن يوجد التعدي في الفعل مع قصد الجناية:

ولما كانت هذه الصورة التي توافر فيها التعدي في الفعل، كما توافر فيها قصد الجناية هي إحدى صور القتل العمد، وقد سبق أن فصلنا آراء الفقهاء في الجريمة العمدية التي يتم فيها إزهاق روح المقتول بواسطة أي فعل غير مباشر "القتل بسبب ص58-64" فلا داعي للإعادة.

الصورة الثانية: أن يوجد التعدي في الفعل مع عدم قصد الجناية:

وذلك كما لو حفر بئرا في غير ملكه، فتلف به إنسان أو حيوان، فإن الفاعل لذلك يعتبر متعديا؛ لأنه قد أحدث هذا الفعل في مكان لا يحق له أن يفعله فيه، فإذا لم يصاحب هذا التعدي قصد الجناية، فهل تعتبر الجريمة خطأ؟

للفقهاء آراء ثلاثة:

أولها وأشدها: هو رأي الإمامية: أنها تعتبر شبه عمد، فتجب الدية في ماله، إن كان التالف نفسا، والضمان إن كان مالا، وذلك بشرط ألا يتمكن المجني عليه من الخلاص، فإن تمكن من الخلاص مما وقع فيه، ولم يخلص نفسه لا يجب على الفاعل شيء.

ص: 385

الرأي الثاني: أنها تعتبر خطأ، وهو رأي جمهور الفقهاء -المالكية، والشافعية، ورأي عند الحنابلة، والزيدية- وإذا كانت خطأ، فيكون موجبها موجب القتل الخطأ من الكفارة والدية على العاقلة، وإنما كانت الجناية هنا خطأ؛ لأن الفاعل لم يقصد بفعله الجناية، فعدم توافر هذا القصد يجعل الجناية خطأ.

معيار التعدي: يعتبر الإنسان بفعله متعديا إذا توافر في فعله ما يأتي:

أولا: أن يكون هذا القتل قد تم في مكان لا يباح له أن يفعله فيه، وذلك كما لو كان في ملك غيره بغير إذنه، أو في ملك عام كالطريق ونحوه، وإن كان في أرض موات فلا بد أن يكون فعله لمنفعة ولو لعامة الناس، وإلا كان متعديا في فعله "وهذا رأي جمهور الفقهاء"1.

ثانيا: ألا يتعود الناس هذا الفعل في مثل هذا المكان، فلو تعود الناس فعله سقطت المسئولية عن فاعله، ولم يضمن ما تلف بسبب فعله من نفس أو مال "كمال صرح الشافعية والزيدية".

ثالثا: أن تظل صفة التعدي مصاحبة للفعل إلى حين التلف، فلو رضي المالك بإبقاء الفعل، أو ملك الفاعل البقعة زال الضمان "كما صرح الشافعية والحنفية".

رابعا: أن يتصل السبب بالنتيجة؛ بحيث لا يقطع هذا الاتصال أمر آخر يحدث النتيجة؛ كما لو ألقى إنسان شخصا في هذه الحفرة، فإن العقوبة تقع على الملقِي دون الحافر.

وكذا لو تمكن الواقع في الحفرة من الخلاص ولم يخلص نفسه، فإن هذا

1 ذكر ابن قدامة في الشرح الكبير ج9، ص366:"أنه إن حفرها في أرض موات فلا ضمان عليه؛ لأنه غير متعد بحفرها".

ص: 386

التمكن يقطع الصلة بين السبب والنتيجة، ويصبح قاتلا لنفسه، وليس على الحافر شيء "وهذا ما صرح به الحنفية والشافعية والحنابلة والزيدية".

وكذا لو كان الوقوع غير مؤثر؛ ولكنه بقي في الحفرة أياما ثم مات جوعا أو عطشا، فلا ضمان على الحافر "كما صرح الحنفية والشافعية".

وكذا لو قصد المجني عليه إيقاع نفسه فيها انتفت المسئولية وسقط الضمان؛ لأنه يعتبر هو القاتل لنفسه.

الرأي الثالث: أن هذه الجناية تجري مجرى الخطأ وليست خطأ -وهو رأي الحنفية، ورأي بعض الحنابلة- وذلك لأن الخطأ والقتل بسبب يختلفان في بعض الوجوه ويتفقان في بعضها؛ فإنهما يختلفان في:

1-

أن الفعل الذي أدى إلى الجناية كان فعلا مباحا في ذاته، سواء كان الخطأ في الفعل أو في القصد أو فيهما، أما الفعل الذي أدى إليها في "القتل بسبب" فإنه غير مباح؛ لأنه قام به في مكان لا يحق له أن يفعله فيه، فهو متعد بفعله.

2-

أن الفاعل في القتل الخطأ متهم؛ لاحتمال أنه قصد القتل في الباطن، وأما في القتل بسبب فإنه ليس بقاتل ولا متهم؛ وذلك لأن شبهة التهمة في القتل الخطأ قائمة؛ لأن ادعاء الخطأ مسألة تحتمل القبول والرفض، والبحث والاجتهاد في تعريف حقيقة الفعل الذي أدى إلى القتل أهو خطأ أم عمد؟ لأن النوايا مسألة خفية يتعرف عليها بالمظاهر الخارجية. أما القتل بسبب فإن شبهة التهمة فيه بعيدة؛ لأن حافر البئر لا علم له بأن هذا الشخص سيمر من هذا المكان، وأنه إذا مر سيقع في هذه الحفرة، ولا ينتبه إلى وجودها في طريقه، أما إذا كان يعلم بذلك فإن القصد الجنائي يكون موجودا، وهذه هي الصورة الأولى.

ص: 387

والذي يتفقان فيه: هو أن الفاعل في كل من الخطأ والقتل بسبب لم يقصد الجناية بالفعل الذي أدى إليها.

ولما كان بينهما هذا الاختلاف والاتفاق قالوا: إن هذه الجناية ليست خطأ؛ وإنما تجري مجرى الخطأ؛ فأوجبوا فيها الدية على العاقلة، ولم يوجبوا فيها كفارة ولا حرمانا من الميراث، كما سيأتي إيضاحه تفصيلا في موجب الجناية خطأ.

وقد وافقوا على الشروط التي وضعها أصحاب الرأي الثاني لاعتبار هذه الجناية خطأ، فإذا اختل شرط منها انتفت المسئولية، وسقط الضمان1.

الصورة الثالثة: ألا يوجد التعدي في الفعل، وألا يوجد قصد الجناية، وذلك كما لو حفر البئر في ملكه، فمر إنسان أو حيوان فوقع فيها، فإن المالك له الحق في الانتفاع بملكه كيفما شاء، سواء حفر أم بنى في حدود المشروع، فإذا عمل ذلك فإن فعله لا يوصف بالتعدي؛ وإنما الذي يوصف بالتعدي هو ذلك الذي اقتحم عليه ملكه وسار فيه فتردى في البئر أو عطب في الأحجار التي وضعها المالك فيه.. فعنصر التعدي هنا غير موجود، وكذلك في صورتنا، فإن صورتنا هذه لا بد أن يثبت أن قصد الجناية غير موجود، فإذا كان كذلك فإن الفقهاء قد اتفقوا على نفي المسئولية عن الحافر أو واضع الأحجار وما شابه ذلك من الأفعال، وإذا انتفت المسئولية فإنه لا يكون عليه ضمان لا للأنفس ولا للأموال.

الصورة الرابعة: انعدام التعدي في الفعل مع وجود التقصير:

وقد لا يكون التعدي مصاحبا للفعل كما لو حفر بئرا في ملكه، ولكن

1 فتح القدير ج8، ص331-335، 336، 337.

ص: 388

وجد تقصير من الفاعل أدى إلى الجناية، ففي هذه الحالة يكون التقصير أساسا لنشوء المسئولية، وإذا وجدت المسئولية وجب الضمان.

فقد صرح الشافعية بأنه لو حفر شخص بئرا واستدعى إلى المنزل شخصا، لا بد وأن يمر في هذا المكان، ولم يعلمه بذلك، أو كان أعمى، فتردى فيها، فإنه يضمن1.

كما جاء في الشرح الكبير لابن قدامة "الحنبلي" ج9، ص591:"فإن حفر إنسان في ملكه بئرا فوقع فيها إنسان أو دابة فهلك به، وكان الداخل بغير إذنه، فلا ضمان على الحافر؛ لأنه لا عدوان منه، وإن دخل بإذنه، والبئر بينة مكشوفة، والداخل بصير يبصرها، فلا ضمان أيضا؛ لأن الواقع هو الذي أهلك نفسه، فأشبه ما لو قدم إليه سيفا فقتل به نفسه، وإن كان الداخل أعمى، أو كانت البئر في ظلمة لا يبصرها الداخل، أو غطى رأسها، فلم يعلم الداخل بها حتى وقع فيها فعليه ضمانه".

وبهذا قال شريح والشعبي والنخعي وحماد ومالك، وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي.

1 مغني المحتاج ج4، ص83.

ص: 389